الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في سورة الحشر
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} (2)[الحشر: 2] أي: أتاهم بأسه وأمره، عند الجمهور، وأتاهم بذاته عند الاتحادية؛ لأنه سار فيهم بذاته، فلما غضب عليهم ظهر لهم بمظهر البأس والغضب فأهلكهم، والصواب أنه حرك عليهم جنده بخلق دواعي الجهاد في قلوبهم فأهلكوهم، وقذف في قلوبهم الرعب ما خلق فيها من الأسباب الموجبة لذلك.
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} (2)[الحشر: 2] احتج مثبتو القياس بهذه الآية، وتقريره أن الاعتبار مأمور به والقياس اعتبار، فالقياس مأمور به، أما الأولى فلهذه الآية {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} (2) [الحشر: 2] وأما الثانية: [فإن القياس عبور] بالحكم من الأصل إلى الفرع، كما أن الاعتبار عبور بالنظر من حال الحاضر إلى حال الغائب، فصح أن القياس اعتبار وثبت أن القياس مأمور به، وإن شئت قلت: القياس اعتبار، والاعتبار مأمور به، والتقرير كما سبق. وهذا أجود؛ لأنه من الشكل الأول، واعترض عليه بوجوه:
أحدها: لا نسلم أن القياس اعتبار؛ لأنه إن أريد ذلك لغة فالقياس في اللغة إنما هو التقدير نحو: قست الثوب بالذراع، أي: قدرته، وإن أريد اصطلاحا فهو في الاصطلاح:
حمل معلوم على معلوم، أو إلحاق غير المنصوص به بجامع مشترك، ولقائل أن يقول: الحلم والإلحاق هو معنى الاعتبار.
الثاني: قولكم: الاعتبار مأمور به، إن عنيتم بعض الاعتبار صارت كبرى قياسكم جزئية
فلم تنتج وهو ظاهر، وإن عنيتم أن كل اعتبار مأمور به لم نسلم هذه الكلية؛ لأن قوله-عز وجل {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} (2) [الحشر: 2] ليس بعام، بل هو مطلق لا عموم له، فلا يقتضي عموم الأمر بالاعتبار، إنما يقتضي الأمر باعتبار ما، وذلك لا يلزم منه الأمر بالقياس.
الثالث: أن سياق الآية لا يقتضي إثبات القياس؛ إذ قوله-عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} (2)[الحشر: 2] لا يناسب: فقيسوا السمسم على البر في منع التفاضل في البيع، وإذ لم يكن الكلام منتظما لم يجز نسبته إلى القرآن.
الرابع: لو دلت هذه الآية على القياس/ [417/ل]، [201 ب/م] لدل قوله-عز وجل:{قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ اِلْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} (13)[آل عمران: 13] عليه وما في معناه، وهو بعيد لتوغله في العموم، فلا يدل على القياس إلا على بعد.
الخامس: ما ذكرتموه من الدليل لو دل لكان عندنا ما يعارضه، وهو أن القياس إنما يفيد الظن، والظن لا يجوز اتباعه في أحكام الله-عز وجل-ولأنا مأمورون عند التنازع والاختلاف بالرجوع إلى الله-عز وجل-ورسوله، والقياس ليس كذلك، وقد سبقت هذه المعارضة وجوابها.
واعلم أن القياس في الفروع دليل قوي جيد، غير أن هذه الآية لا تدل عليه إلا دلالة ضعيفة من وراء وراء.
فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)[الحشر: 7] هذا عام مطرد إلا ما خص منه بنسخ أو غيره، وهو أصل كبير وقاعدته كلية في استخراج الأحكام من الكتاب بواسطة السنة، وهو مقدمة كبرى في كل قياس حكم أردنا إثباته بأن نقول: هذا الحكم آتاناه الرسول، وكل ما كان كذلك لزمنا الأخذ به، أو هذا الحكم نهانا عنه الرسول، وكل ما كان كذلك لزمنا اجتنابه، ومتى ثبتت الصغرى بالسنة أو نحوها فالكبرى ثابتة بهذه الآية، مثاله أن نقول: إفراد الإقامة، وصحة الصوم مع الأكل ناسيا، وجواز الخروج من النوافل بعد الشروع فيها-أحكام آتاناها الرسول؛ وكل ما آتاناه الرسول نحن مأمورون بالأخذ به، فهذه الأحكام نحن مأمورون بالأخذ به، وكذلك نقول: بيع الغرور وبيع الكلب والسنور نهانا عنه الرسول [وكل ما نهانا عنه الرسول] لزمنا الانتهاء عنه، فهذه البيوع يلزمنا الانتهاء عنها، وتقرير الصغرى بالأحاديث الواردة فيها، وقد اعتمد السلف على هذه القاعدة في استخراج الأحكام، فلما لعن ابن مسعود النامصة نحوها، أنكرت عليه أم يعقوب-امرأة من الأنصار- وقالت:«قد قرأت ما بين الدفتين فلم أجد لعنة من لعنت، فقال: إن كنت قرأته فقد وجدته، ألم تسمعي قول الله-عز وجل: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (7) [الحشر: 7]؟ ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعن النامصة والمتنمصة [والواشرة والمستوشرة] المغيرات لخلق الله-عز وجل-أو كما قال، ونظم قياسه هكذا: لعن هذه جاء به الرسول، وكل ما جاء به الرسول شرع الأخذ به، فلعن هذه شرع الأخذ به، وكذلك حكي عن الشافعي-رضي الله عنه-أنه جلس في المسجد/ [202 أ/م] يفتي وقال: لا تسألونني عن شيء إلا جئتكم/ [418/ل] به من كتاب الله-عز وجل؟ فقال الشافعي [: قال الله عز وجل]: {وَما آتاكُمُ} [الحشر: 7]، ثم روى بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» (1) منها الحية والعقرب، والزنبور مثلهما فيقتل ولا شيء فيه، وهذا دليل مركب من نص كتاب وسنة وقياس، وشبيه بهذا الدليل في كليته وعمومه قوله صلى الله عليه وسلم: «من
عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) إذ هو مقدمة كبرى في كل حكم أردنا إبطاله، بأن يقال: هذا الفعل أو هذا الحكم عمل ليس عليه أمر الشرع، وكل ما ليس عليه أمر الشرع فهو مردود، فهذا الفعل مردود. ومثاله الوضوء غير المنوي، والنكاح بلا ولي، وبيع الغائب والفضولي، كل واحد منها ليس عليه حكم الشرع فيكون مردودا، ويحتاج أيضا إلى تقرير الصغرى بدليلها، والكبرى ثابتة بهذا الحديث، ثم الحديث راجع إلى مادة الآية المذكورة؛ إذ معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، «ما أتيتكم فخذوه وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» كما صرح به في حديث آخر.
10] استدل به مالك على كفر الرافضة، ووجه أن {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} (8) [الحشر: 8] متعلق بقوله-عز وجل: {ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (7)[الحشر: 7] ثم قال-عز وجل {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} (8)[الحشر: 8] وعطف عليهم:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9)[الحشر: 9] وهم الأنصار، ثم عطف {وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا}
{بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (10) [الحشر:
10] بشرط أن يستغفروا لمن قبلهم من إخوانهم السابقين لهم بالإيمان، والرافضة خارجون عن الأصناف الثلاثة، فليس القوم مهاجرين ولا أنصارا ولا مستغفرين لمن سبقهم بالإيمان، بل يسبون السلف ويبغضونهم، فإذن لا حظ لهم في الفيء، وكل من لا حظ له في الفيء كافر، إذ الفيء حق المسلمين، فمن لا حق له فيه ليس بمسلم، وأجابت الشيعة [لعنهم الله] بأن (للفقراء) لو كان متعلقا بما أفاء الله لكان بدلا منه، ولو كان بدلا منه لزم صرف الفيء عن الجهات الست المنصوص عليها في المبدل منه إلى عموم الثلاث المذكورة في البدل، وهم المهاجرون والأنصار/ [202 ب/م] والتابعون لهم لا غير، وإنه باطل، إذ فيه إسقاط خصوص تلك الجهات الست فيبقي ذكرها/ [419 ل] لغوا، ولأن ظاهر الآيات يختص بقوم ماضين وهم:{لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (10)[الحشر: 8 - 10] فلا يتناول من يتجدد، ثم حاصل نظم الدليل المذكور أن المذكور أن الرافضة لا حظ لهم في الفيء، وكل من لا حظ له في الفيء كافر، والأولى ممنوعة، لأن الله-عز وجل-أضاف الفيء إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وهو يتناول الرافضة كغيرهم، فهذه الدعوى على خلاف القرآن، فلا تسمع.
والثانية: باطلة بعبيد المسلمين، إذ لاحظ لهم في الفيء وليسوا كفارا، وإذا تقرر هذا الجواب، وجب حمل قوله-عز وجل:{لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ} الآيات، على مدح مستن أنف لهذه الفرق غير متعلق بما قبله، نحو:{لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ} صفة الصدق بدليل آخر الآية، أو غيره من التأويل (1).
{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} (13)[الحشر: 13]، تدل على أن من خاف غير الله-عز وجل-فليس بفقيه بل هو جاهل؛ لأن الخوف إنما يكون من شر أو ضرر يلحق والله-عز وجل-هو خالق كل شيء، شر وخير ونفع وضرّ، لا يكون شيء من ذلك إلا بإذنه، فمن خاف معه غيره فتوحيده مدخول، وإنما يطرأ ذلك على الإنسان لنقص في توحيده أو غلبة من طبعه عليه.
{لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ} (20)[الحشر: 20] ذهب قوم إلى أن هذا يقتضي عموم نفي المساواة بين الفريقين من كل وجه، حتى أدرجه تحته أن الذمي لا يكافئ المسلم ليقتل به. وذهب آخرون إلى أنه لا يقتضي العموم، وقد انتفت المساواة بينهما في أحكام كثيرة، ولا دليل على عدم التساوي بين المسلم والذمي في القصاص حتى تندرج تحت نفي التسوية المستفاد من الآية، فيقتل المسلم بالذمي لثبوت المكافأة بينهما بدليل منفصل، وهو ما سبق في البقرة.
حاصل الأمر أن نفي التسوية في هذه الآية عام، فيتناول نفي التسوية بينهما في القصاص، أو مطلق فلا يتناول، والظاهر أنه عام؛ لأن قولنا: لا يستوي فلان وفلان، معناه: لا استواء بينهما؛ إذ الفعل يدل على المصدر، وهو الاستواء، فهو نكرة في سياق نفي فتعم، والخصم يقول: إن قولنا: لا يستوي فلان وفلان-أعم من أن يكون من كل جهة، أو من جهة خاصة، بدليل قبوله للاستفسار والتقسيم/ [203 أ/م] بأن يقال: هل هما لا يستويان مطلقا أو من بعض الجهات، وان يقال: إذا كانا لا يستويان فلا يخلو إما ألا يستويا من كل جهة أو من بعض الجهات دون بعض؟ ولو اقتضى عموم نفي المساواة بينهما لما قيل ذلك.
وقد رجع/ [420/ل] الخلاف إلى أن صيغة لا يستويان هل تقتضي عموم نفي التسوية أو نفي عموم التسوية، والفرق واضح بين عموم السلب وسلب العموم، فعموم سلب الحقيقة يمنع ثبوت شيء من أفرادها، وسلب عموم الحقيقة لا يمنع ثبوت بعض أفرادها، وقد ظهر ذلك في قوله:
قد أصبحت أم الخيار تدعي
…
عليّ ذنبا كله لم أصنع
برفع كله على عموم السلب وبنصبه على سلب العموم، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين:«كل ذلك لم يكن» (1) برفع كل لا غير على عموم السلب؛ لأنه أراد نفي
النسيان وقصر الصلاة جميعا، وقول الشاعر:
. . .
…
وما كل من وافى منى وأنا عارف
على سلب العموم، والفرق بينهما من جهة التركيب أن العموم والسلب أيهما تقدم لفظه أضفته إلى الآخر، فإن تقدم لفظ العموم على أداة السلب، فهو عموم السلب كما في الحديث، وإن تقدم لفظ السلب فهو سلب العموم كالبيت الأخير، وأما البيت الأول فيحتلهما، بناء على أن تقديره: كله لم أصنعه أو لم أصنع كله؛ فعلى الأول: هو عموم سلب الصنع، وعلى الثاني: هو سلب عموم الصنع وعلى هذا التقدير ربما ظن أن لا يستوي كذا وكذا من باب سلب العموم لتقدم حرف السلب، وليس كذلك، والفرق بينهما أن سلب العموم شرطه أن يدخل حرف السلب على لفظ عام تحته متعدد، فإذا سلب عمومه بقي الحكم في بعض أفراده، نحو: لم أضرب كل الرجال بخلاف لا يستويان؛ فطن حرف السلب دخل في المعنى على ماهية الاستواء فنفاها، الماهية من حيث هي هي لا تعدد فيها ولا اتحاد فلم يبق بعد سلبها شيء يثبت له الحكم، فلهذا قلنا: إن صيغة لا يستوي كذا وكذا، من باب عموم السلب لا سلب العموم، وهذا بحث استطردناه بديهة فلك النظر فيه.
{لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (21)[الحشر: 21] هذا خرج مخرج المبالغة في تعظيم القرآن وغفلة الكفار عنه، أي أن هذا القرآن عظيم تتصدع لسماعه الجبال، وأنتم عنه غافلون، فهو كقوله-عز وجل:{أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} (68)[ص: 68].
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} (74) / [203 ب/م]) [البقرة: 74] هذا مع إمكان خشوع الجبال وتصدعها من خشية الله-عز وجل-إذا اقترنت بها إرادة ذلك، ويشهد لذلك وقوعه {وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ اُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (143) [الأعراف: 143].
…