المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في سورة البقرة - الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌ترجمة المصنف

- ‌وصف المخطوط

- ‌مطلب في الفرق بين الخلق والكسب

- ‌وقد بقي الكلام بين الجبرية والكسبية:

- ‌مبحث العموم والخصوص

- ‌القول في الفاتحة

- ‌القول في سورة البقرة

- ‌القول في سورة آل عمران

- ‌القول في سورة النساء

- ‌القول في سورة المائدة

- ‌القول في سورة الأنعام

- ‌القول في سورة الأعراف

- ‌القول في سورة الأنفال

- ‌القول في سورة براءة

- ‌القول في سورة يونس

- ‌القول في سورة هود

- ‌القول في سورة يوسف

- ‌القول في سورة الرعد

- ‌القول في سورة إبراهيم

- ‌القول في سورة الحجر

- ‌القول في سورة النحل

- ‌القول في سورة سبحان

- ‌القول في سورة الكهف

- ‌القول في سورة مريم

- ‌القول في سورة طه

- ‌القول في سورة الأنبياء

- ‌القول في سورة الحج

- ‌القول في سورة المؤمنون

- ‌القول في سورة النور

- ‌القول في سورة الفرقان

- ‌القول في سورة الشعراء

- ‌القول في سورة النمل

- ‌القول في سورة القصص

- ‌القول في سورة العنكبوت

- ‌القول في سورة الروم

- ‌القول في سورة لقمان

- ‌القول في السورة السجدة

- ‌القول في سورة الأحزاب

- ‌القول في سورة سبأ

- ‌القول في سورة الملائكة

- ‌القول في سورة يس

- ‌القول في سورة الصافات

- ‌القول في سورة ص

- ‌القول في سورة الزمر

- ‌القول في سورة غافر

- ‌القول في سورة فصلت

- ‌القول في سورة الشورى

- ‌القول في سورة الزخرف

- ‌القول في سورة الدخان

- ‌القول في سورة الجاثية

- ‌القول في سورة الأحقاف

- ‌القول في سورة محمد

- ‌القول في سورة الفتح

- ‌القول في سورة الحجرات

- ‌القول في سورة ق

- ‌القول في سورة الذاريات

- ‌القول في سورة الطور

- ‌القول في سورة النجم

- ‌القول في سورة القمر

- ‌القول في سورة الرحمن

- ‌القول في سورة الواقعة

- ‌القول في سورة الحديد

- ‌القول في سورة المجادلة

- ‌القول في سورة الحشر

- ‌القول في سورة الممتحنة

- ‌القول في سورة الصف

- ‌القول في سورة الجمعة

- ‌القول في سورة المنافقين

- ‌القول في سورة التغابن

- ‌القول في سورة الطلاق

- ‌القول في سورة التحريم

- ‌القول في سورة الملك

- ‌القول في سورة (ن)

- ‌القول في سورة الحاقة

- ‌القول في سورة المعراج

- ‌القول في سورة نوح

- ‌القول في سورة الجن

- ‌القول في سورة المزمل

- ‌القول في سورة المدثر

- ‌القول في سورة القيامة

- ‌القول في سورة الإنسان

- ‌القول في سورة المرسلات

- ‌القول في سورة عمّ

- ‌القول في سورة النازعات

- ‌القول في سورة عبس

- ‌القول في سورة التكوير

- ‌القول في سورة الانفطار

- ‌القول في سورة المطففين

- ‌القول في سورة الانشقاق

- ‌القول في سورة البروج

- ‌القول في سورة الطارق

- ‌القول في سورة الأعلى

- ‌القول في سورة الغاشية

- ‌القول في سورة الفجر

- ‌القول في سورة البلد

- ‌القول في سورة الشمس

- ‌القول في سورة الليل

- ‌القول في سورة الضحى

- ‌القول في سورة ألم نشرح لك صدرك

- ‌القول في سورة التين

- ‌القول في سورة اقرأ

- ‌القول في سورة القدر

- ‌القول في سورة البينة

- ‌القول في سورة الزلزلة

- ‌القول في سورة العاديات

- ‌القول في سورة القارعة

- ‌القول في سورة التكاثر

- ‌القول في سورة العصر

- ‌القول في سورة الهمزة

- ‌القول في سورة الفيل

- ‌القول في سورة قريش

- ‌القول في سورة الماعون

- ‌القول في سورة الكوثر

- ‌القول في سورة الكافرين

- ‌القول في سورة النصر

- ‌القول في سورة «تبت»

- ‌القول في سورة الإخلاص

- ‌القول في المعوذتين

الفصل: ‌القول في سورة البقرة

‌القول في سورة البقرة

قوله عز وجل: {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} (3)[البقرة: 2، 3].

[16/ل] يتمسك به القدرية على عكس تمسكهم ب {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّالِّينَ} (7)[الفاتحة: 7] وهو أنه نسب التقوى والإيمان إليهم نسبة الفعل إلى الفاعل/ [8 ب/م] فاقتضى أن لا جبر.

ويجاب عنه بنحو ما سبق؛ من أنه أضيف إليهم؛ لأنه كسبهم، أو هم محل ظهوره، أو لأنه لو فوض إليهم لفعلوه، على ما سبق في قاعدته، وهذا سؤال وجواب عامان في كل فعل نسب إلى المخلوقين، فاعرفه فتكراره في كل مواطنه يصعب، وربما حادثناك به المرة بعد المرة تذكرة بهذه القاعدة.

قوله-عز وجل {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} (3)[البقرة: 3] هذه من مسائل الأرزاق والآجال، وهو تابع لباب القدر.

واحتج بها المعتزلة على أن الحرام ليس من رزق الله-عز وجل-بل العبد يرزقه نفسه.

وتقريره: أن المنفق من رزق الله عز وجل-ممدوح بهذه الآية، والمنفق من الحرام ليس بممدوح بالإجماع؛ ولأن الحرام لا يملك، فالمنفق منه فضولي في إنفاقه، والفضولي مذموم؛ ينتج أن المنفق من رزق الله ليس بمنفق من الحرام، وينعكس كليا أو جزئيا: المنفق من الحرام ليس بمنفق من رزق الله عز وجل وهو يستلزم المطلوب.

ويمكن تقريره بأبين من هذا؛ وهو أن المنفق من الحرام: إما ممدوح، وهو خلاف الإجماع، أو مذموم؛ فهو غير منفق من رزق الله-عز وجل-إذ هذا ممدوح وذاك مذموم؛ فهذا غير ذاك.

والجواب: أن المنفق من الحرام مذموم من جهة اكتساب الحرام، ممدوح من جهة الإنفاق والبذل، وحينئذ إن أردتم أنه ليس بممدوح من جهة كسب الحرام، سلمناه ولكن لا ينتج قياسكم لعدم اتحاد الأوسط فيه، وإن أردتم أنه ليس بممدوح من جهة الإنفاق، منعنا ذلك؛ فلا يتم دليلكم. وأما كونه فضوليا مذموما، فإنما ذلك من جهة تصرفه في ملك الغير بالإنفاق، لا من جهة نفس الإنفاق.

ص: 35

وحجة الجمهور على أن الحرام من رزق الله-عز وجل-كالحلال-عموم الآيات-:

{*وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} (6)[هود 6].

و{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (60)[العنكبوت: 60].

{إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (58)[الذاريات: 58].

{لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (15)[سبأ: 15] مع قضاء العادة بأنهم لم يسلموا من أكل الحرام؛ أعني: قوم سبأ، مع كثرتهم وكفرهم. ولأن الحلال لو كان شرطا في رزق الله-عز وجل-لما كانت البهائم في رزقه، إذ لا حلال في حقها ولا ملك لها.

قوله-عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (4)[البقرة: 4] هذه من مسائل الكتب، وهي تقتضي صحة الكتب المنزلة على الأنبياء لا الكتب المحرفة المبدلة؛ كالتوراة التي بأيدي اليهود، والإنجيل الذي بأيدي النصارى؛ إذ الإيمان بما ليس بصحيح لا يمدح أهله. ولم يرد الأمر قط إلا بالمنزل؛ لأنه سالم عن التحريف. / [17/ل] و {*وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (46) [العنكبوت: 46].

وتقتضي أيضا أن كلام الله-عز وجل-وكتبه المنزلة متساوية في الإيمان بها، وإن تفاوتت في الأحكام والشرائع، ويتعلق بهذا بحث وكلام يذكر بعد، إن شاء الله عز وجل.

قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (4)[البقرة: 4] يتعلق بأحكام اليوم الآخر. وهو يقتضي مدح المؤمن به، وله تفاصيل. [9 أ/م].

قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5)[البقرة: 5] هذه من مسائل القدر، يحتج به الجمهور على أن هدى المهتدين من الله؛ أي: بفضله وخلقه.

ص: 36

ويجيب القدرية بأن معنى كون الهدى من ربهم أنه بسبب إلطافه بهم وتوفيقهم، لا أنه خلقه فيهم، وهو خلاف الظاهر.

قوله-عز وجل: {خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} هو عند الجمهور بخلق الكفر فيها فتبقى كالوعاء المختوم لا يدخلها الإيمان.

وقيل: القلب جسم مجوف، ونور العقل والمعرفة ينزل عليه من الدماغ ما دام مفتوحا، فإذا طبع عليه بما شاء الله-عز وجل-امتنع نور المعرفة من الدخول فيه، فأظلم وضل.

والختم عند المعتزلة [إما بمنع] اللطف أو بتسمية العبد مختوما على قلبه. وهو بعيد جدا لا يعول على مثله.

والختم على القلب ألا يعقل فيؤمن، وعلى السمع ألا يسمع فيعقل، وعلى البصر ألا ينظر في آيات الله-عز وجل-وعجائب الملكوت فيعتبر.

قوله-عز وجل: {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ} اختلف في الأعمال طاعة ومعصية؛ هل هي علة للجزاء: ثوابا وعقابا، أو سبب لا علة موجبة؟ .

قالت المعتزلة بالأول، والجمهور بالثاني، والآية محتملة لهما؛ لأن قولك:«عذبت زيدا بكذبه، وضربته بسوء أدبه» يحتمل العلية والسببية، والفرق بينهما أن العلة موجبة لمعلولها بخلاف السبب لمسببه فهو كالأمارة عليه.

ومن هاهنا اختلف في الحج عن الغير لعذر، هل يصح أم لا؟ فمن رأى العمل علة قال:

لا يصح؛ لأن عمل زيد لا يكون علة لبراءة ذمة عمرو، أو لحصول الثواب له. ومن رآه سببا قال: يصحّ؛ لأن عمل زيد جاز أن يكون سببا لبراءة ذمة عمرو، وعلما على حصول الأجر له.

قوله-عز وجل: {يا أَيُّهَا النّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (21)[البقرة: 21]، قيل: هذا إشارة إلى حدوث العالم وقدم الصانع، وتقريره: أن هؤلاء الكفار قد سلموا أنهم مخلوقون؛ لقوله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ} (87)[الزخرف: 87] فالخالق لهم: إما أنفسهم، وهو محال؛ لما مر، أو غيرهم. وذلك الغير: إما من قبلهم من الأمم، أو غيرهم، والأول باطل؛ لأن الخالق لمن قبلهم إن كان هؤلاء المخاطبين لزم الدور، أو غيرهم من الأمم ذاهبا إلى غير النهاية لزم التسلسل.

ص: 37

والثاني: وهو أن الخالق لهم غير الأمم قبلهم-فذلك الغير: / [18/ل] إما قديم وهو المطلوب، أو حادث: فإن أثر فيه بعض مخلوقاته لزم الدور، أو مؤثر آخر لزم التسلسل.

وحاصله: أنكم ومن قبلكم مخلوقون، فلا بد لكم من خالق قديم:«فالخالق» : احتراز من التعطيل، و «القديم» احتراز من لزوم الدور والتسلسل.

فائدة:

الدور: توقف وجود الشيء على نفسه: إما بغير واسطة، أو بواسطة متحدة؛ كتوقف «أ» على «ب» و «ب» على «أ» أو متعددة، إما متناهية؛ كتوقف «أ» / [9/ب/م] على «ب» و «ب» على «ج» و «ج» على «د» ، و «د» على «هـ» ، [و «هـ» على «أ»] أو غير متناهية؛ كتوقف «هـ» على «ز» ، وتوقف «ز» على «ح» وهلم جرا، إلى غير النهاية، وهو محال.

والتسلسل: تعلق كل سبب بآخر قبله وتوقفه عليه، إلى غير النهاية، وهو محال.

وعلى حدوث العالم ووجود الصانع أسئلة يأتي منها ما اعترض لنا، إن شاء الله عز وجل.

قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (22)[البقرة: 22]، فيه تنبيه على كيفية النظر، وكيفيته تستدعي تحققه ووجوبه، وسيأتي بيانه -إن شاء الله عز وجل-وقد سبق حد النظر، وهو يفضي في وجود الصانع وحدوث العالم إلى ما سبق من الاستدلال بدليل الدور والتسلسل، وقد احتج النبي صلى الله عليه وسلم بهما، إذ قيل له حين قال:«لا عدوى» -: يا رسول الله، ما بال الإبل-تكون كالظباء فيخالطها البعير الأجرب فتجرب؟ قال:«فمن أعدى الأول؟ ! » (1) يعني: لو كان كل أجرب يستدعي أجرب يعديه لزم تسلسل الجربى، لكنه باطل بالعيان؛ إذ البعير الأول لم يستدع أجرب يعديه.

أو يقال: لو كانت العدوى لازمة، لكان البعير الأول: إما أن تعديه الإبل التي أعداها هو؛ فيلزم الدور، أو غيره فيلزم التسلسل. وانظر إلى قوله-عليه الصلاة والسلام:«فمن أعدى الأول؟ » مع قوله عز وجل: {أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ}

ص: 38

{جَدِيدٍ} (15)[ق: 15] كيف [كان] كل منهما ثلاث كلمات تضمنت دليلا عقليا عظيما أسهب في تقريره المتكلمون، وذلك دليل على تشابه الكلامين، وأنه عليه-الصلاة والسّلام-مؤيد من العلي الأعلى ما ينطق عن الهوى.

قوله-عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَاُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (23)[البقرة: 23].

هذه من مسائل النبوات، وهي تتضمن إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتقريره معجزه وهو القرآن، وتقرير الدليل: أن محمدا صلى الله عليه وسلم لو [كان كاذبا] في دعوى النبوة لأمكنكم أن تعارضوا معجزه-وهو القرآن-ولو بسورة منه، لكن لا يمكنكم معارضته؛ فيلزم أنه ليس بكاذب؛ فهو إذن صادق.

وقوله-عز وجل: {عَلى عَبْدِنا} [البقرة: 23] أي: من مثل محمد-عليه الصلاة والسلام-تنبيه على وجه صدقه؛ وهو أن صدور مثل هذا الكلام المعجز للخلق عن أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، يدل على صدقه قطعا؛ كما أن/ [20/ل] قلب العصاحية وإحياء الموتى، ممن لم يشتغل بعلم السحر ولا الطلب، يدل على صدقه.

وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} (24)[البقرة: 24] معجز معترض في هذا الاستدلال؛ لأنه إخبار عن غيب، بأنهم لا يعارضون القرآن، وكان كما قال. ولقد كان هذا مما يقوي دواعيهم على تعاطي المعارضة، فلو قدروا عليها لفعلوها، ثم لكذبوه في خبره، وقالوا: زعمت أنا لن نفعل وها نحن قد فعلنا؛ فلما لم يعارضوه مع توفر الدواعي على المعارضة، دل على العجز والإعجاز.

قوله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} (24)[البقرة: 24].

مع قوله عز وجل: {*وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (133)[آل عمران: 133].

يحتج بهما على وجود الجنة والنار في الخارج، خلافا للمعتزلة؛ إذ قالوا: إنما هما موجودتان في العلم لا في الخارج.

حجة الجمهور: هذا النص؛ إذ المعدوم لا يقال له: «أعدّ» فهو معد؛ ولأنه قد ثبت أن

ص: 39

آدم-عليه السلام-دخل الجنة ثم أخرج منها (1) وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجنة والنار ليلة الإسراء، (2) وأن أرواح الشهداء في حواصل طير في الجنة (3).

احتج الخصم بأن الحاجة إليهما إنما هي في الآخرة، فإيجادهما قبلها عبث.

وأجيب بالمنع، بل في ذلك ترغيب وترهيب كآلات العقوبة؛ كالصلابة ونحوها، يعدها السلطان ترهيبا للأشرار، وآلات الثواب والإنعام ترغيبا للأخيار.

قوله-عز وجل: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ} (25)[البقرة: 25].

يقتضي أن المعاد جسماني فيه أكل ثمار ونكاح أزواج، خلافا للفلاسفة والنصارى القائلين بأن المعاد روحاني، لا أكل فيه ولا نكاح، وإنما الثواب والعقاب هناك بالقرب من الله-عز وجل-والبعد منه، أو بالتذاذ النفس بالعقائد الحقة وتجردها عن الهيئات الطبيعية الرذيلة وتألمها بخلاف ذلك.

فالجواب: أن هذا بناء منهم على استحالة إعادة الأجسام، وسيأتي الكلام معهم فيه، إن شاء الله-عز وجل-فإذا ثبت المعاد الجسماني جاز وجود الأكل وغيره من لواحق الطبيعة، وقد أخبر به الشرع؛ فكان واجب الوقوع سمعا، ولأن أولياء الله-عز وجل تعبدوا له بترك الملاذ والشهوات، والحكمة تقتضي تعويضهم عنها بمثلها أو خير منها من جنسها، وعلى هذا كلام ربما ذكرناه بعد، إن شاء الله-عز وجل.

قوله عز وجل: {*إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ}

ص: 40

{الْفاسِقِينَ} (26)[البقرة: 26].

مع قوله عز وجل: {كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ وَما هِيَ إِلاّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ} (31)[المدثر: 31] يقتضي أنه-عز وجل يشاء إضلال بعض الخلق ويفعله، خلافا للمعتزلة، ولهم عن هذا ونحوه من كل موضع نسب الله عز وجل فيه الإضلال إلى نفسه جوابان:

أحدهما: أن هذه ظواهر سمعية؛ / [21/ل] فلا يعارض القواطع العقلية [العدلية]- زعموا-عندهم.

والثاني: أن: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (93)[النحل: 93] يحتمل أنه بمنع الإلطاف، ويحتمل أنه بمعنى أصابه ضالا؛ كما يقال: أضللت دابتي: أصبتها ضالة، وأبخلت زيدا، وأجبنته؛ أي: أصبته بخيلا جبانا.

ويحتمل أن يضله بخلق الإضلال فيه، كما زعم الجبرية. وإذا تطرق إليه التأويل واحتمال الأمرين، عاد مجملا لا حجة فيه.

والصواب أن هذه العبارة ونحوها قواطع في غالب مواقعها؛ فلا يسمع ما ذكروه من/ [10/ب/م] التأويل البعيد.

قوله عز وجل: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (28)[البقرة: 28]. أي: كنتم معدومين عدما أصليا، فأوجدكم.

وقيل: كنتم نطفا فجعلكم أحياء، ثم يميتكم الموت الطبيعي المشهور الذي يترقبه الأحياء، ثم يحييكم بالإعادة في الآخرة.

وفي هذا إشارة إلى إثبات إعادة الخلق بعد الموت، بالقياس على إبدائه بعد العدم الأصلي وأولى؛ لأن الإعادة تكون بعد وجود خارجي محقق، والإبداء إنما كان بعد عدم أصلي ليس بوجود محقق، سواء قيل: إن المعدوم شيء-على رأي المعتزلة-أو ليس بشيء، على رأي الجمهور.

وإلى هذه الأولوية أشار عز وجل بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ}

ص: 41

أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)[الروم: 27] وهذه من مسائل اليوم الآخر.

قوله-عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (29)[البقرة: 29] أي: لأجلكم ومصلحتكم، وهذا إشارة إلى تعليل خلقه ما في الأرض بمصلحتهم وحاجتهم، وفي كون أفعاله-عز وجل-وأحكامه معللة-بحث وخلاف له موضع أنسب من هذا يذكر فيه إن شاء الله عز وجل.

قوله-عز وجل: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] هذا عام لم يخص بشيء أصلا؛ لتعلق علمه عز وجل [بالمواد الثلاث: مادة] الواجب، والممكن والممتنع، بخلاف قوله-عز وجل:{يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (20)[البقرة: 20] فإنه عام مخصوص بالمحالات، والواجبات التي لا تدخل تحت المقدورية؛ كالجمع بين الضدين، وكخلق ذاته وصفاته وأشباه ذلك.

واعلم أني سهوت عن ذكر جزئيات العموم والخصوص إلى هاهنا، وأنا عائد فمستدركها من أول الفاتحة، إن شاء الله عز وجل.

فمنها: (الحمد الله) هو عام؛ أي: جنس الحمد، وكل حمد ممكن وجوده فهو مستحق لله-عز وجل-لأن النعم لما كانت كلها منه كان الحمد كله له. وهذا على عمومه، لم يخص.

ومنها: {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (2)[الفاتحة: 2] أي: رب كل شيء، كما نص عليه في موضع آخر، وهو على عمومه.

ومنها: {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4)[الفاتحة: 4] أي: المتصرف في جميع ذلك اليوم وما بعده.

ومنها: {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّالِّينَ} (7)[الفاتحة: 7] هو عام في المنعم عليهم، لم يخص.

وكذا {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّالِّينَ} (7)[الفاتحة: 7].

ص: 42

ومنها: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (2)[البقرة: 2] وصفاتهم المذكورة بعد.

ومنها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (6)[البقرة: 6] عام في الكفار، لكن المراد به خاص؛ وهم الكفار الذين سبق في علم الله- عز وجل-أنه يموتون كفارا؛ نحو:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ اِفْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} (91)[آل عمران: 91]، {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} (96) [يونس: 96] / [22/ل] ونحوه.

ودليل هذا التخصيص أنه ليس جميع الكفار الذين نزلت هذه الآية في زمانهم، انتفى إيمانهم، بل آمن بعد نزول الآية كثير منهم؛ فلهذا قلنا: إنه أريد به التخصيص؛ لئلا يخالف الخبر المخبر، اللهم إلا [11/م] أن يكون (الذين كفروا) لقوم معهودين؛ فلا يحتاج إلى التخصيص.

ومنها: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (8)[البقرة: 8] أي: ما لهم إيمان، فهو نكرة في سياق النفي فتعم، وينفي جميع أفراد الإيمان.

[فإن قيل: الإيمان] حقيقة واحدة بسيطة لا تعدد فيها حتى يلحقها العموم في النفي، بخلاف:«لا رجل» لأجل التعدد في جنسه.

قلنا: الإيمان هو التصديق، وهو كلي تتعدد جزئياته بتعدد متعلقاتها؛ فمنها تصديق بالله- عز وجل-وتصديق بملائكته، وتصديق برسله، وتصديق بكتبه، وتصديق باليوم الآخر، فقوله عز وجل:{وَمِنَ النّاسِ} [البقرة: 8] تضمن نفي كل فرد من هذه التصديقات.

ومنها: {يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ} (9)[البقرة: 9] أي: والمؤمنين، إن كانوا معهودين فلا إشكال، وإلا فهو عام في جميع المؤمنين، فيحتمل أنه لم يخص؛ لعموم مخادعة الكفار لهم، ويحتمل أنه خص بقوم لم يقصد المنافقون خداعهم؛ إما تعظيما لهم أو يأسا منهم.

ومنها: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} (14)[البقرة: 14] والقول فيها كالتي قبلها.

ص: 43

ومنها: {وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ} [البقرة: 14] يحتمل أنهم من شياطين معهودة، ويحتمل أنه عام في جميع شياطينهم من الإنس والجن أو أحدهما، ثم يحتمل أنه خص ببعض الشياطين فلم يمكنهم الخلوة به لغيبة أو مرض أو نحوه من الأسباب. ويحتمل أنه لم يخص بأحد منهم.

ومنها: {أُولئِكَ الَّذِينَ اِشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} (16)[البقرة: 16] يحتمل أن المراد بالضلالة جنس الضلال، اشتروه بجنس الهدى، عاما بعام، ويحتمل ضلالة واحدة؛ أي: فرد من أفراد جنس الضلال؛ كالتمرة الواحدة من التمر اشتروها بجنس الهدى، وهو أبلغ في غبنهم وخسارتهم؛ إذ أخذوا فردا من أفراد الضلال وأعطوا جميع أفراد الهدى؛ كمن يأخذ حجرا واحدا من أفراد الحجارة ويعطى جميع أفراد الدنانير. وهو على الأول عام جار على عمومه.

ومنها: {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ} [البقرة: 16] أي: ما حصل فيها ربح فهو عام في نفي الربح، وكذا:{وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} (16)[البقرة: 16] عام في نفي هداهم؛ أي:

وما كان لهم هدى.

ومنها: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ} (17)[البقرة: 17] عام في جميع ما حوله. ثم احتمال تخصيصه بحسب الواقع خارجا أو ذهنا، إن كان ما حوله مكشوفا ليس فيه ذو ظل يحجب الضوء عما يحاذيه، فلا تخصيص، وإلا خضّ منه ما يحاذي ذوات الظلال فيما حوله.

مثاله: لو قدر فيما حوله من الأرض شجرة لم يحصل الضوء في ظلها فيكون مخصوصا من عموم «أضاءت ما حوله» .

ومنها: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] عام في جميع نورهم؛ لأنه اسم جنس مضاف. / [23/ل].

ومنها: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} (19)[البقرة: 19] يحتمل العموم؛ لظاهر اللفظ، ويحتمل العهد؛ لأن أصله: والله محيط بهم، لكن وضع الظاهر موضع الضمير ترهيبا.

ثم الضمير في «بهم» راجع إلى «من» في قوله-عز وجل/ [11 ب/م]: {وَمِنَ}

ص: 44

النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)[البقرة: 8] وهي نكرة موصوفة لا عموم لها؛ أي: ومن الناس قوم يقولون: آمنا. وإذ لا عموم لها فلا عموم للعائد إليها، وهو الضمير في: والله [بهم محيط].

ومنها: {يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (20)[البقرة: 20].

قيل: هو خاص بالممكنات، مخصوص بما عداها من الواجب والممتنع.

والتقدير: إن الله على كل شيء ممكن قدير؛ إذ غير الممكن لا يدخل تحت القدرة.

ومنها: {يا أَيُّهَا النّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (21)[البقرة: 21].

قيل: هو عام أريد به خصوص أهل مكة.

وقيل: هو عام فيهم وفي غيرهم ممن شملته دعوة الإسلام، لكن مخصوص بمن لا تلزمه العبادة كغير المكلفين.

وقد عرض هاهنا تنبيه حسن؛ وهو أن العام قد يكون (قار) الكمية، أي: لا يلحقه زيادة ولا نقص؛ كقولنا: الوجود أو العالم ما كان منه وما يكون ممكن أو مخلوق، وقد لا يكون كذلك بأن تلحقه الزيادة والنقص؛ نحو:{يا أَيُّهَا النّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (21)[البقرة: 21] فإنه خطاب للمكلفين، وعام فيهم، ثم إنهم يزيدون بمن ينتقل إلى حال التكليف؛ كالصبي يبلغ والمجنون يفيق، وينقصون؛ كالعاقل يجن والحي يموت.

ومنها: {مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] هو عام في المخلوقين، هم والذين من قبلهم من الأمم.

ومنها: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (22)[البقرة: 22] عام في الأرض خص بالبحار ونحوها مما لا يفترشه الناس.

ومنها: {وَالسَّماءَ بِناءً} [البقرة: 22] أي: سقفا مبنيا فوقكم، مثل:{وَجَعَلْنَا}

ص: 45

السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32)[الأنبياء: 32]، و {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} (5) [الطور: 5] ثم يحتمل أنه على عمومه في السماء؛ لأن السماء مع العالم كبيت واسع فيه ناس، وهو سقف مبنى عليهم. ويحتمل أن يخص في السماء بما خرج عن سمت الأرض المسكونة منها؛ كالسماء المسامتة للربع الخراب من الأرض [لا تعلق له بأهل المعمور منها بكونه سقفا لهم ولا بناء فوقهم، وصار ذلك من السماء كالبحر الذي تعذر كونه فراشا من الأرض، وصار حقيقة الكلام: الذي جعل لكم الأرض] التي يمكنكم التصرف عليها والاستقرار فراشا، والسماء التي تسامتكم وتظلكم بناء. أو جعل الأرض التي تقلكم فراشا، والسماء التي تظلكم بناء، والبحر لا يقلنا، وما لا يسامتنا من السماء لا يظلنا؛ فلا يكون مرادا من لفظهما أو يكون مخصوصا منه.

ومنها: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَاُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (23)[البقرة: 23] أي: من الذي نزلناه، فهو عام في جميع المنزل لم يخصّ منه شيء؛ لأنه لم يؤمنوا منه بشيء.

ومنها: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} (24)[البقرة: 24] عام أريد به الخاص، وهو الناس العصاة، أو الكفار، وحجارة الكبريت، على ما ورد في التفسير.

ومنها: {أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} (24)[البقرة: 24] عام أريد به الخاص، وهو من مات على كفره، وإلا فكثير ممن كان كافرا وقت نزولها أسلم بعد ذلك، فخرج عن العموم.

ومنها: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ} (25)[البقرة: 25] هو عام فيهم أريد به/ [13 أ/م] الخاص، وهو من آمن وعمل/ [24/ل] جميع الصالحات المأمور بها إلى الموت، ولا يخفى ما فيه من التقييد.

ومنها: {إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللهُ}

ص: 46

بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الْفاسِقِينَ (26)[البقرة: 26]، {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 26] عام فيهم إن لم يرد بهم أو ببعضهم معهود.

ومنها: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} (27)[البقرة: 27] لفظها عام، فإن أريد فسادهم في كلها المجموعي من حيث هو كل فلا تخصيص، إذ من أفسد في ذراع من الأرض، صدق أنه أفسد في الأرض بهذا الاعتبار.

وإن أريد فسادهم في كلية أجزائها أي في كل جزء منها، فهو مخصوص بكل جزء منها لم يفسدوا فيه.

ومنها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (29)[البقرة: 29]، هو عام مؤكد ب (جميعا) ثم يحتمل أن يكون مخصوصا بما ليس للمخاطبين مما في الأرض كعلف البهائم ونحوه، ويحتمل إجراؤه على عمومه بأن يقال: علف البهائم ونحوه هو للمخاطبين بواسطتها؛ لأن البهائم خلقت لهم، وعلفها خلق لها، والمخلوق للمخلوق للشيء مخلوق لذلك الشيء. والعيان يشهد أن علف البهائم يصير لحما لها ولبنا، ثم يأكله الناس.

قوله عز وجل: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} (30)[البقرة: 30] هو عام فيهم لم يخص، {وَيَسْفِكُ الدِّماءَ} [البقرة: 30] يحتمل أنه لتعريف الحقيقة، أو هو مجرد جمع لا للعموم، ويحتمل أنه [عام خص] بالواقع بأن بني آدم لم يسفكوا كل دم.

ثم إن الناس اختلفوا في عصمة الملائكة؛ فأثبتها الجمهور ونفاها المعتزلة، متمسكين من هذه القصة بوجوه:

أحدها: قولهم: (أتجعل فيها) وهو استفهام إنكار، واعتراض على الله-عز وجل وهو سوء أدب.

الثاني: قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}

ص: 47

وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)[البقرة: 30] وهو غيبة لبني آدم، وقذف لهم رجما بالغيب.

الثالث: قولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ} [البقرة: 30] وهو عجب منهم بأعمالهم، ومن [منهم] على الله-عز وجل-بها، وكل هذه أفعال تنافي العصمة.

الرابع: أن إبليس وهاروت وماروت من رؤسائهم وقد علم ما كان منهم مما ينافي العصمة فمن دونهم من الملائكة أولى.

الخامس: أن البشر أفضل من الملائكة عند كثير من الناس، ثم إنهم غير معصومين، فالملائكة الذين هم مفضولون أولى.

واحتج الجمهور بوجوه:

أحدها: أن الملائكة رسل الله، لقوله-عز وجل:{الْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1)[فاطر: 1].

{اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (75)[الحج: 75]. ورسل الله-عز وجل-معصومون لقوله عز وجل: {وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ} (124)[الأنعام: 124].

الثاني: قوله-عز وجل-في وصفهم: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} (6)[التحريم: 6] وهو معنى العصمة. / [25/ل]

الثالث: أن المنافي للعصمة هو المعاصي، و [هي] إنما تصدر عن الشهوة والغضب، وهم مجردون عنهما؛ فكانوا معصومين/ [13 ب/م] عنها.

قالوا: وهذه الوجوه قواطع في عصمتهم، وما ذكره المعتزلة في نفيها ما بين ممنوع أو ظاهر لا يعارض القاطع.

ص: 48

وأقول في هذا: إن الله-عز وجل-متصرف عدل فبتصرفه ابتلى البعض بالبعض، وبعدله سلط بعض بني آدم على الملائكة فتكلموا فيهم انتصافا منهم، ثم إنه-عز وجل بين للملائكة فضل بني آدم حتى صاروا يستغفرون لهم.

قوله-عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (31)[البقرة: 31]، قيل: أسماء الملائكة فهو خاص بهم.

وقيل: أسماء الموجودات فهو عام فيها (1)، ويحتج به من يرى أن اللغات توقيفية لا اصطلاحية.

وأجيب عنه بأنه يجوز أنه علمه لغة من كان قبله، وهي في الأصل اصطلاحية، ويجوز أنه علمه ذلك بأن أقدره على الاصطلاح، وألهمه اللغات فوضعها.

وهذه المسألة من مسائل اللغات من أصول الفقه، وقد اختلف فيها فقيل: اللغات توقيف، وقيل: اصطلاح، وقيل: القدر المعرف للتخاطب توقيف، والباقي اصطلاح، وقيل غير ذلك، وهذه المسألة من رياضات الفن، لا من ضرورياته.

قولهم: {قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (32) [البقرة:

32] عام خص بالاستثناء المذكور، وفيه رد على من تأله الملائكة، إذ لو كانوا آلهة لكان علمهم كاملا عام التعلق بالأشياء.

{قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (33)[البقرة: 33] ظاهر في أن الأسماء التي علمها أسماء الملائكة، أي: أنبئ الملائكة بأسمائهم، [ويحتمل: أنبئهم بأسماء المسميات كلها. أو بأسماء] الملائكة من جملة المسميات، وبه يحصل مقصود إعجازهم.

{إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (33)[البقرة: 33] عام في كل ما غاب فيهما عن الخلق، أما الله-عز وجل-فلا يغيب عنه شيء، ولا تخصيص فيه مثل:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ}

ص: 49

{عَلِيمٌ} (3)[الحديد: 3].

واعلم أن المصحح لعلم الغيب هو كمال العلم والقدرة والإرادة، وهذا الكمال [لم يحصل إلا لله]عز وجل-فلذلك اختص بعلم الغيب وقد شرحت ذلك في موضع آخر.

قوله-عز وجل: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَاِسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} (34)[البقرة: 34] هو عام فيهم لم يخص.

{فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ} احتج به من رأى أن إبليس من الملائكة، إذ لو لم يكن منهم لما تناوله الأمر لهم، وعورض بقوله-عز وجل {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} (50) [الكهف: 50] والاستثناء منقطع، أي لكن إبليس أبى.

واحتج به أيضا من رأى الأمر المطلق يقتضي الوجوب والفورية (1)، لأن الملائكة لما قيل لهم:

{اُسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] فسجدوا على الفور سلموا من اللائمة، / [26/ل] وإبليس لما ترك السجود لحقته اللائمة، فدل على أنه ترك الواجب الفوري، وإلا لما لزمه اللوم إذ كان له أن يقول: أمرتني، ومقتضى الأمر الندب أو التراخي، فأسجد متى شئت، وقد ناظر بأشد من هذا حيث قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (76)[ص: 76]، / [13 أ/م] فلو كان له حجة من جهة الندب، أو التراخي لما تركها.

وأجاب المخالف بأن الوجوب لعله فهم من قرينة حالية أو مقالية، لم يحكها القرآن، أو من خصوصية تلك اللغة التي وقع الأمر بها، إذ العربية لم تكن حينئذ وإنما حكى القرآن بها ما وقع بغيرها، والخلاف إنما هو في الأمر المجرد عن القرائن بلغة العرب. وأما الفور فلم يفهم [من مجرد] الأمر وهو:{اُسْجُدُوا} [البقرة: 34] بل إما من قرينة، أو مقتضى تلك اللغة كما سبق، أو من قوله-عز وجل:{فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}

ص: 50

{فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} (29)[الحجر: 29] فتعقيب التسوية والنفخ بالأمر بالسجود بفاء التعقيب خصوصا بلفظ الوقوع الدال على أبلغ ما يكون من المبادرة قاطع في الفورية.

{وَقُلْنا يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ} (35)[البقرة: 35] عام فيهما.

{وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما} [البقرة: 35] عام في أمكنتها.

{وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ} (35)[البقرة: 35] خصت من عموم الجنة.

قوله-عز وجل: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} (36)[البقرة: 36] زللهما مخلوق لله عند المجبرة، ولآدم وحواء عند المعتزلة، ومكسوب لهما مخلوق لله-عز وجل عند الكسبية، وهي من مسائل القدر، وأضيف الإزلال إلى الشيطان لتسببه إليه بالوسوسة.

{فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ} عام خص بورق الجنة الذي خصفاه عليهما منها، وهو مما كانا فيه من نعيم الجنة، وهو كما قيل: متاع قليل من حبيب مفارق.

{وَقُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} (36)[البقرة: 36] عام في الهابطين المخاطبين وهم آدم وحواء وإبليس والحية والطاووس (1) فيما قيل.

{فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (38)[البقرة: 38] عام، مخصوص بمن مات على الهدى.

{فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (38)[البقرة: 38] عام، سواء بني الخوف مع لا أو رفع منونا؛ لأنه جنس لا يقبل التثنية وقع عليه النفي، بخلاف نحو: لا رجل بالرفع؛ لأنه يقبل التثنية؛ فيجوز أن يقال فيه؛ لا رجل في الدار بل رجلان أو رجال، ولا يحسن هاهنا لا خوف عليهم بل خوفان؛ وكذا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ}

ص: 51

{هُمْ فِيها خالِدُونَ} (39)[البقرة: 39] عام فيهم بشرط أن يموتوا على الكفر.

قوله-عز وجل: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ} (40)[البقرة: 40] عام فيهم [الموجودين في] عصر النبوة.

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} (40)[البقرة: 40] عام في العهد وهو ما التزموه من/ [27/ل] الإيمان والطاعة

{وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيّايَ فَاتَّقُونِ} (41)[البقرة: 41] أي بجميعه فهو عام فيه، إذا الكفر بحرف منه كالكفر بجميعه.

{مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ} أي لجميعه. فلا تناقض ولا تكاذب فيما جاء من عند الله- عز وجل-كليا ولا جزئيا؛ بل كل قضية منه موافقة لباقي قضاياه؛ لأن كلام الله عز وجل-إن كان هو العبارات المسموعة فهو غني عن الكذب فيه، وإن كان هو المعنى القائم بذاته فالكذب نقص لا يجوز قيامه بها فعلى كل حال لا كذب، ولا/ [13 ب/م] تناقض في كلامه عز وجل.

{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (42)[البقرة: 42] عام أريد به الخاص، أي: لا تخلطوا الحق الذي من عندكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم بالباطل الذي تخترعونه لتضيعوا أمره على الناس.

قوله-عز وجل: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ} (46)[البقرة: 46] أي يعلمون أو يعتقدون، وإلا فالظن المجرد لا يكفي في العقائد، والفرق بين الثلاثة أن العلم جازم لا يقبل التشكيك [كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، والظن غير جازم ويقبل التشكيك] كظن أن النية شرط في الوضوء، والاعتقاد جازم لكنه يقبل التشكيك، ولهذا ينتقل أهله عنه كالقدري يصير جبريا والمعتزلي أشعريا ونحوه.

والظن لغة الاعتقاد غير الجازم راجحا كان أو مرجوحا؛ لأنهم قالوا: الظن خلاف العلم وهو يتناول ذلك.

وفي الاصطلاح، وهو الحكم الراجح في أحد الاحتمالين، والمرجوح وهم والمساوي

ص: 52

شك (1)، وقد يستعمل الظن بمعنى العلم وفي القرآن منه مواضع هذا الموضع {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً} (53) [الكهف: 53].

و{وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} (48)[فصلت: 48]، {قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ} (24) [ص: 24] وقول الشاعر:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

سراتهم في الفارسي المرد

وقد يحتج بهذا ونحوه مثل: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (110)[الكهف: 110]، {دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (10) [يونس: 10] وأشباهه من يرى أن الله-عز وجل-يرى في الآخرة وهو مذهب الجمهور، وهي من مسائل صفات الله-عز وجل-وهو كونه مرئيا.

ووجهه أن اللقاء لغة يقتضي بإطلاقه الرؤية، وفي هذه المسألة بحث يذكر في موضعه إن شاء الله عز وجل.

قوله-سبحانه وتعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} (47)[البقرة: 47] عام أريد به الخاص، وهو عالمو زمانهم أو عام خص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها أفضل الأمم بالنص والإجماع.

{وَاِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (48)[البقرة: 48].

يحتج به المعتزلة وبنحوه مثل: {فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ} (100)[الشعراء: 100]، {فَما}

ص: 53

{تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ} (48)[المدثر: 48] / [18/ل]- {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ} (18) [غافر:

18] على أن العصاة ما لم يتوبوا في دار التكليف لا تنفعهم الشفاعة، والجمهور يخالفونهم في ذلك بما سيقع في مواضعه إن شاء الله-عز وجل-وحملوا هذه الآيات على الكفار، وعلى هذا يكون {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} [البقرة: 48] مخصوص بذوي الشفاعة في الآخرة حيث تقبل منهم وبأهل الكبائر من الموحدين حيث تقبل فيهم، أما {وَاِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (48) [البقرة: 48] أي فدية فعلى عمومه لم يخص، إذ لا فدية هناك ولو ملء الأرض ذهبا.

قوله-عز وجل: {وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (49)[البقرة: 49] عام في ذلك إلا من خص كموسى-عليه السلام-إذ سلم من الذبح، ومن عساه قتل من النساء بسبب خاص.

{وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (50)[البقرة: 50] عام إذ لم ينقل [15 أ/م] أنه سلم منهم أحد، ودل على ذلك قوله عز وجل {فَلَمّا آسَفُونا اِنْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ} (55) الزخرف: 55] فأكد.

فأما قوله-عز وجل-في فرعون {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ} [يونس: 92].

فمعناه نلقيك على نجوة من الأرض أي: موضع عال ميتا ليعتبر بك، ويحتمل أنه ننجيك من ابتلاع البحر لك كما ابتلع قومك فلم يظهر منهم أحد.

ص: 54

بعضا، إن ثبت أن جميع من عبد العجل واتخذه قتل فهو على عمومه؛ وإلا فهو مخصوص بمن سلم منهم كالسامري ونحوه.

{وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (55)[البقرة: 55] عام أريد به الخاص، وهم السبعون المختارون، لكن لما كانوا على رأي الباقين، وهم كالأئمة لهم صار صعقهم كصعق الجميع.

{ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (56)[البقرة: 56] دل على أن الصعق كان موتا حقيقيا ثم عاشوا بعده كما عاش الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وهذه من مسائل المعاد.

وقد صنف ابن أبي الدنيا أو غيره كتابا فيمن عاش بعد الموت، ذكر فيه خلقا كثيرا، وزعم قوم أن هؤلاء السبعين لم يموتوا، وإنما لحقهم صعق كصعقة موسى شبيها بالإغماء والخروج عن عالم الحس، ثم أفاقوا كما أفاق موسى، وسمي موتا بجامع الخروج عن الإحساس أو لكونه من مقدمات الموت، وأما قولهم:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فيحتج به المعتزلة على امتناع رؤيته-عز وجل-إذ لو كانت جائزة لما قوبلوا على سؤالها بالموت والصعق، ولا حجة فيه، لاحتمال أن صعقهم لم يكن عقوبة على مجرد سؤالهم الرؤية، بل على سؤالها تكذيبا وعنادا/ [29/ل] أو على سؤالها في الدنيا، وإنما وقتها الآخرة.

{وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (57)[البقرة: 57] هو إما غمام ومنّ وسلوى معهود أو عام أريد به الخاص، إذ ليس كل غمام ظلل عليهم، ولا كل منّ وسلوى أنزل عليهم، بل القدر الذي احتاجوا إليه من ذلك.

قوله-عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا اُدْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَاُدْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (58)[البقرة: 58] عام في جميع الخطايا، تمحوها التوبة والاستغفار وهو معنى قولهم:

«حطّة» ، وهو مخصوص بالشرك لا يغفر إلا بالإيمان لقوله-عز وجل:{إِنَّ اللهَ لا}

ص: 55

يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)[النساء: 48].

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} (59)[البقرة: 59] عام في أولئك الظالمين أنهم أهلكوا بالطاعون أو غيره.

{فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] عام فيما سألوه من البقول ونحوها، وتخصيصه موقوف على/ [15 ب/م] الدليل.

{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} عام أريد به الخاص، أي الذلة الكافية في خزيهم أو هو للعهد، أي الذلة المعهودة لهم.

{يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ} [البقرة: 61] عام سواء كفروا بجميعها أو ببعضها الذي هو كالكفر بجميعها.

{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} (61)[البقرة: 61] عام أريد به الخاص أو عام مخصوص بمن لم يقتلوه منهم كموسى وهارون عليهما السلام-وغيرهما.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (62) [البقرة:

62]، الآية عام لم يخص.

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (63)[البقرة: 63].

عام فيجب على كل من أوتي تكليفا من الله-عز وجل-أن يأخذ بجميعه ويعمل به كله إلا ما خصّ منه بنسخ [ونحوه، وكذلك: (واذكروا ما فيه) أي: من العهد يجب الوفاء بجميعه إلا ما خص منه بنسخ] أو عجز أو نسيان مسقط، فالصلاة مثلا عهد وأمانة عند المكلف يسقط منها القيام ونحوه بالعجز عنه، وواجباتها الثمانية عند من يراها بالنسيان والتضييق فيها سقط استحبابه بالنسخ.

ص: 56

قوله-عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} (65)[البقرة: 65] هذا أمر تكوين واقتدار، وصيغة «افعل» تأتي على نحو من عشرين وجها منها هذا، وسنشير إلى الباقي في مواضعه إن شاء الله-عز وجل وهذه تذكر في مسائل الأمر من أصول الفقه.

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} (67)[البقرة: 67] هي مطلقة لدلالتها على ماهية البقرة من غير قيد، وفيه جواز التكليف والخطاب بالمطلق، ثم قد كان في علم الله-عز وجل-تقييدها بالقيود المذكورة بعد كالصفرة وعدم الشية ونحوها، فمن ثم احتج به من رأى جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة إلى العمل خلافا لبعض الأصوليين (1)؛ لأن ذلك يوهم اعتقاد الخطأ.

وجوابه: أن ذلك وإن كان مفسدة لكن قد يتعلق به مصلحة نية الطاعة، والعزم على الامتثال وهي أرجح.

وقد يكون المجمل أجدر بحصول تلك المصلحة فلذلك جاز، والأكثرون على [أن] تأخير البيان عن وقت الخطاب وإلى وقت الحاجة/ [30/ل] جائز، وعن وقت الحاجة ممتنع وهو الأظهر. وهذه من باب المطلق والمقيد والمجمل والمبين.

{فَقُلْنا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِها} [البقرة: 73].

أي: فضربوه ببعضها فعاش. {كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73]، فيها مسائل:

الأولى: جواز الإضمار إذا اقتضاه ودل عليه الكلام؛ لأن ضرب الميت ببعضه وحياته ليس مذكورا هاهنا بل هو مقتضى الكلام ومدلوله، ومن هذا الباب {*وَإِذِ اِسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (60)

ص: 57

[البقرة: 60] أي: فضرب فانفجرت.

{أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (184)[البقرة: 184] أي: فأفطر فعليه صوم عدة.

{وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} (46)[يوسف: 45 - 46] أي: / [16 أ/م] فأرسلوه، فجاء إليه، فقال {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف: 46].

المسألة الثانية: إثبات المعاد بإحياء هذا الميت، والإخبار بإحياء الموتى.

المسألة الثالثة: جواز القياس كأنه قال: كما أحيينا هذا الميت الخاص كذلك نحيي غيره لاشتراكهما في علة الإحياء ومصححه، أما علته فالقدرة التامة، وأما مصححه فكون الإحياء ممكنا، والقياس إما لجمع على جمع، أو لمفرد على مفرد، أو لمفرد على جمع، أو لجمع على مفرد، كما في هذه المسألة إذ قاس إحياء الموتى على إحياء هذا الميت الواحد.

{فَقُلْنا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (73)[البقرة: 73] عام أريد به الخاص، أي: الآيات التي أراها بني إسرائيل.

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} (74)[البقرة: 74].

قيل: بل أشد [وهو ضعيف، وقيل: (أو) للتخيير، أي: أنتم مخيرون في أنها كالحجارة أو أشد]، اختاروا أي الحكمين شئتم، وقيل: هي للشك بالنسبة إلى من يجوز عليه، وقيل غير ذلك.

ونحوه القول في: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} (19)[البقرة: 19] وهذه من مسألة حروف المعاني في أصول الفقه.

ص: 58

قوله-عز وجل: {*أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (75)[البقرة: 75].

وكذلك: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اِسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} (6)[التوبة: 6] احتج به من ذهب إلى أن كلام الله-عز وجل-هو العبارات المسموعة بالحقيقة، إذ لا نعلم كلاما وراء ذلك، وأجاب الأشعرية بأن المراد يسمعون دليل كلام الله، لأن كلام الله-عز وجل-عندهم معنى قائم بذاته لا يفارقها كالعلم، وهذه العبارات المسموعة مخلوقة دليل عليه كالعالم حادث، وهو دليل على الصانع القديم، واحتجوا هم والمعتزلة على خلق المسموع بأنه مسموع وكل مسموع مخلوق عملا بالاستقراء في المسموعات، لكنه استقراء غير تام فلا يفيد اليقين، واحتجوا بأنه مؤلف من الحروف وكل مؤلف مخلوق، وفيه كلام يأتي بعد إن شاء الله-عز وجل.

وأصل الخلاف أن الكلام حقيقة في العبارات المسموعة، أو في المعنى القائم بالنفس، أو مشترك بينهما؟

فيه ثلاثة أقوال عن/ [31/ل] الأشعري.

فإن قيل: هو حقيقة في العبارات انبنى على أن الكلام صفة فعل أو ذات، فمن رآه صفة فعل قال: هو مخلوق كالمعتزلة، ومن رآه صفة ذات قال: هو قديم كالحنابلة، ومن رآه معنى قائما بالنفس قال: العبارات ليست بكلام بل هي دليل على الكلام وهي مخلوقة.

ومن قال: هو مشترك بينهما، قال: الذاتي قديم والنطقي مخلوق، وهذه من مسائل الصفات من أصول الدين.

{*ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ} [البقرة: 75].

وهذا ونحوه مثل: {مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاِسْمَعْ وَاُنْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً} (46)[النساء: 46] عام أريد به الخاص؛ لأنهم لم يحرفوا جميع كلم التوراة، ولا جميع ما سمعوه من كلام الله-عز وجل-على الطور، وإنما حرفوا بعضه، وهو ما لهم في

ص: 59

تحريفه: [16 ب/م] مصلحة كتخفيف التكليف الثقيل، وتغيير صفات النبي-عليه الصلاة والسلام، وهل تحريفهم لذلك تحريف تبديل أو تحريف تأويل؟ فيه قولان، والأشبه أنهم جمعوا بينهما، فبدلوا بعضا وتأولوا على غير وجهه بعضا.

{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ} (76)[يس: 76] عام لا تخصيص فيه لعموم تعلق العلم الأزلي.

{بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (81)[البقرة: 81] هو عام لم يخص؛ لأن المراد بالسيئة الكفر بدليل مقابلته بالإيمان في الآية بعدها وإحاطتها به أن يموت عليها ومن مات كافرا خلد في النار بغير تخصيص ولا مثنوية وأما {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (82)[البقرة: 82] فعام مخصوص بمن مات على ذلك، ولم يقطع عليه بالكفر طريق النجاة.

قوله-عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَاّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} (83)[البقرة: 83] هو عام في الأصناف المذكورة، مخصوص بمن لم يوجد منه ما يوجب الإساءة إليه كجناية توجب حدا، أو بغي يوجب قتالا، أو بدعة توجب هجرا، ونحوه على أن هذه الأشياء من باب التأديب له لا من باب الإساءة إليه، فاللفظ إذن على عمومه.

{وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83] عام مخصوص بمن وجد منه ما يقتضي إساءة القول له، والقول فيه كالذي قبله، وهذه الآداب قد وردت في خصوص شرعنا، وإنما يحتج بها من خطاب بني إسرائيل بها هاهنا بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا كما سيأتي بيانه إن شاء الله عز وجل.

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} [البقرة: 83] عام خص بالاستثناء بعده وهو {إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} (83)[البقرة: 83].

ص: 60

الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اِسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)[البقرة: 87] عام أريد به الخاص، وهم الرسل الذين بعده إذ جماعة من الرسل كانوا قبله كآدم ونوح وإبراهيم ونحوهم.

{وَآتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ} [البقرة: 87] يعني المعهودة التي ظهرت على يديه إذ لم يؤت كل بينة في الوجود.

{وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ} (88)[البقرة: 88] / [32/ل](الباء) هل هي للعلية أو للسببية؟ وينبني عليه أن الكفر علة اللعن المؤثرة فيه أو سبب له، وإنما المؤثر فيه إرادة الله-عز وجل-التي لا يعلل مقتضاها، وهذا من باب مسائل القدر.

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاِسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (93)[البقرة: 93]، أي حب العجل، وهو مجاز جمع بين الاستعارة والحذف، أما الاستعارة، فلأن حب العجل لما سرى في قلوبهم سريان المشروب في بدن الشارب استعار له لفظ الشرب، وأما الحذف فلأن نفس العجل لم يسر في قلوبهم، فتعين تقدير حبه، ومن المجاز {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ} (10) [البقرة: 10] أي: نفاق وشك.

{وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاُكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (72)[آل عمران: 72].

و{وَاِخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً} (24)[الإسراء 24] وهو كثير، والأكثر على وقوع المجاز في القرآن لما ذكر خلافا للظاهرية/ [17 أ/م] ونحوهم ممن أنكره وهو ضعيف، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير موضوع أول لغة أو عرفا أو اصطلاحا، والحقيقة تقابله، وهذه من مسائل المجاز في أصول الفقه.

قوله-عز وجل: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ} (95)[البقرة: 95] فيه مسألتان:

ص: 61

إحداهما: أنه تضمن معجزا نبويا وهو أنه-عليه الصلاة والسلام-أخبر اليهود بأنهم لا يتمنون الموت بعد أن تحداهم به، وقد كان يمكنهم أن يبطلوا دعواه بكلمة، وهو أن يقولوا: تمنينا الموت، فلما لم يفعلوا، دل على علمهم بصدقه، أو صارف صرفهم عن تكذيبه مع سهولته ظاهرا وتوفر الدواعي عليه.

والثانية: أن المعتزلة احتجوا على أن الله-عز وجل-لا يرى، بقوله-عز وجل لموسى:{وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ اُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (143)[الأعراف: 143] وهو نفي عام التأييد فينقض عليهم بهذه، فإن نفي تمني الموت فيها بلن، ولم يقتض التأييد لأنهم في النار سيتمنون الموت، وهذه الآية في معنى المثل المشهور: من أساء استوحش.

[قوله-عز وجل: ]{قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} (97)[البقرة: 97] الآيتين فيهما إثبات الملائكة وهم أحد أركان أصول الدين ومتعلقات الاعتقاد، وهم جواهر روحانية نورية أعطوا من قوة السراية في العالم والنفوذ في أجزائه، والتشكل بالأشكال المختلفة ما لم يعط غيرهم، وأنكرهم الفلاسفة أو بعضهم وعبروا عنهم بأنه قوى الأفلاك، وتارة بأنه عقول الأفلاك ونفوسها، إذ الأفلاك عندهم حية ناطقة لا بد لها من ذلك، ونصوص الكتب الإلهية، وإجماع الأنبياء والرسل على إثبات الملائكة [حجة عليهم، وإثباتهم مقدم على نفي الفلاسفة].

ص: 62

الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)[البقرة: 102] هو عام تخصيصه موقوف على الدليل، إذ يحتمل أن جميع الشياطين تلوا ذلك، فلا تخصيص، ويحتمل أن التالي له بعضهم، فيكون مخصوصا بمن لم يتل، أو عاما أريد به الخاص/ [33/ل]، وهو من تلا.

{يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] أما الناس فعام أريد به الخاص، إذ ليس كل الناس علموا السحر، وأما السحر فيحتمل أنه على عمومه لانضباط أبوابه، [ويحتمل أنهم لم يعلموا الناس جميع أبوابه] فيكون مخصوصا بما لم يعلموه.

{إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] يحتج به من يرى كفر الساحر بنفس تعلمه السحر، وقد اختلف فيه، والظاهر أنه إن تعلمه لينفع الناس به بأن يبطل عنهم سحر السحرة، أو ليميز بينه وبين غيره من العلوم المشتبهة به كالسيمياء والكيمياء، فلا بأس به، وقد ذهب بعضهم إلى وجوب تعلمه، لأنه لما نهى عنه، وجب اجتناب استعماله، واجتناب ما لا يعرف محال فوجب تعلمه لذلك من باب:[عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه].

ولأن المفتي قد يحتاج إلى أن يفتي في السحر والساحر، فإن لم يعرف حقيقته ربما غلط فضلّ وأضلّ، خصوصا من يكفر بالسحر، ويقتل به، فيكون/ [17 ب/م] غلطه في إراقة دم، أو حكم بكفر وهو شديد.

{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] التفريق بينهما مخلوق لله-عز وجل-مكتسب للسحرة، بدليل {وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102].

{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} (102)[البقرة: 102] احتج به من رأى أن الساحر يقتل؛ لأن الآية دلت على أنه شرى نفسه، أي: باعها بالسحر، وجعله ثمنا لها، وقد استوفي الثمن، فوجب أن يستوفى منه الثمن وهو نفسه، وقد يجاب عنه بأن المراد شروا به أنفسهم للنار في الآخرة، فلا يتعين القتل في الدنيا، ويحتمل غير ذلك.

والسحر؛ قيل: هو تمريج قوى أرضية بقوى سماوية، بحيث يحصل من بينهما قوة مؤثرة في الأجسام والأحوال، وإنما تكلمنا في السحر وإن كان أكثر أحكامه إنما تذكر في

ص: 63

الفروع لتعلق الكفر والقتل به عند بعض أهل العلم، والكفر والإيمان من باب الأسماء والأحكام في أصول الدين، والصواب إن شاء الله-عز وجل-أن الكفر إنما هو إنكار ما علم كونه من الدين ضرورة، فما لا يدخل تحت هذا الحد لا يكون كفرا، وقد يقال:

إن الكفر لما كان ضد الإيمان ثم كان الإيمان هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجب أن يكون الكفر هو التكذيب بذلك أو بعضه، اعتبارا للشيء بضده.

قوله-عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا اُنْظُرْنا وَاِسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ} (104)[البقرة: 104] قيل: كان المسلمون يقولون: يا رسول الله، راعنا. من المراعاة. فاتخذه اليهود دخلا، وجعلوا يقولون: يا محمد راعنا. من الرعونة، إلغازا عليه فنهي المسلمون عن ذلك/ [34/ل].

واحتج به على سد الذرائع، وهو مذهب مالك وأحمد، حسما لمواد الفساد الباطنة، وأجاز ذلك بعض الأئمة، وصنفوا كتبا في الحيل والذرائع، اعتبارا للصور الظاهرة، ويحتمل أن يقال: إذا رأينا صورة ظاهرة يحتمل أن تحتها ذريعة باطنة، فإن علمنا أو ظننا وجود الذريعة [الفاسدة، منعنا تلك الصورة، وإن علمنا أو ظننا انتفاء الذريعة] أجزنا، وإن ترددنا على السواء احتمل المنع احتياطا، واحتمل أن يخرج فيه الخلاف كسائر الوسائط المترددة بين الأطراف.

{* ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (106)[البقرة: 106] فيه مسألتان:

إحداهما: إثبات النسخ (1)، وقد أنكره اليهود؛ بعضهم عقلا، وبعضهم سمعا.

لنا: أن النسخ إما بيان انتهاء مدة الحكم، أو رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي، وكلاهما لا يلزم منه محال؛ فوجب القول بجوازه، ولأن الشرع للأديان كالطبيب للأبدان؛ فجاز أن ينهى اليوم عما أمره به أمس، كما يصف الطبيب اليوم للمريض ما نهاه عنه أمس، وذلك بحسب المصالح أو إرادة المكلف، وهو الشارع، ولأنه قد وقع في التوراة في عدة صور فالقول بجوازه لازم/ [18 أ/م] لهم.

ص: 64

احتجوا بوجوه:

أحدها: أن [الحكم المنسوخ] إما حسن فالنهي عنه قبيح، [أو قبيح] فابتداء شرع أقبح.

وجوابه أنه مبني على قاعدة: التحسين والتقبيح العقلي، وهي ممنوعة.

الثاني: أن النسخ يلزم منه البداء، وذلك يقتضي الجهل بعواقب الأمور، وهو على الله عز وجل-محال.

وجوابه بمنع لزوم البداء من النسخ، وإنما هو بحسب اختلاف مصالح الخلق متعلقا ذلك كله بالعلم الأزلي، [ثم إن في توراة اليهود: إن الله-عز وجل-لما أرسل الطوفان أسف وندم، وقال: ما عدت أهلك الخلق به مرة أخرى، أو كما قال. فمن يندم ويأسف كيف يمتنع عليه البداء-على قولهم].

الثالث: أن موسى-عليه السلام-نص على دوام شريعته وتأييدها ما دامت السماوات والأرض، وهو يقتضي أن لا ناسخ لها، فأحد الأمرين لازم، إما كذب خبر موسى، أو بطلان شرع من بعده.

وأجاب المسلمون عن هذا بجوابين؛

أحدهما: أن هذا من موضوعات ابن الراوندي، وضعه لليهود فتمسكوا به، وهو ضعيف؛ لأن النص عندهم موجود في التوراة، فلا حاجة لهم إلى وضع الراوندي.

الثاني: القدح في تواتر هذا الخبر بأن بختنصر لما فتح بيت المقدس حرق التوراة، وقتل اليهود حتى أفناهم؛ إلا يسيرا منهم، لا يحصل التواتر بخبره، فصار هذا الخبر آحادا لا يقبل في العلميات، وهذا قريب غير أنه ليس بشاف؛ لأنهم يدعون تواتره، وتواتر التوراة جميعها، ويمنعون ما ذكر من سبب انقطاع التواتر بأن بختنصر أسر نحو عشرة آلاف من بني إسرائيل منهم أربعة آلاف من أولاد الأنبياء مثل دانيال ونحوه، كلهم يحفظ/ [35/ل] التوراة عن ظهر قلب.

والمختار في الجواب أن في التوراة نصوصا كثيرة وردت مؤبدة، ثم تبين أن المراد بها التوقيت بمدة مقدر كقوله: إذا خربت صور لا تعمّر أبدا: ثم إنها عمّرت بعد خمسين سنة.

ومنها: إذ أخدم العبد سبع سنين أعتق فإن لم يقبل العتق استخدم أبدا، ثم أمر بعتقه بعد مدة معينة، سبعين سنة أو غيرها. وإذا جاز في هذه النصوص المؤبدة أن يراد بها التوقيت، فلم لا يجوز في نص موسى على تأييد شريعته، وإلا فما الفرق؟

ص: 65

فإن قيل: إذا جاز أن يكون نص موسى المؤبد مؤقتا حتى جاز نسخ شريعته، جاز أن يكون نص محمد صلى الله عليه وسلم على تأبيد شريعته مؤقتا؛ فيجوز نسخها بعده بغيره، والمسلمون يأبون ذلك.

قلنا: لا يلزم ذلك، والفرق بين النصين أن موسى عليه السلام-ورد كتابه التوراة بنصوص بلفظ التأييد، والمراد بها/ [18 ب/م] التوقيت بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فإن كتابه لم يرد بذلك، فلم يرد مثله في نصه، وقد استقصيت هذه المسألة بأبلغ من هذا في «مختصر الجدل» .

المسألة الثانية: احتج بالآية من يرى أن النسخ يجب أن يكون إلى بدل؛ لقوله-عز وجل: {*ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (106)[البقرة: 106] وأجيب بأن الذي هو خير منها لا يتعين أن يكون بدلا عنها، أو يكون المعنى: نأت منها [بخير أو بخير منها] غالبا لا لزوما، وقد ورد نسخ الصدقة أمام النجوى لا إلى بدل، فانتقضت به دعوى هذا القائل.

ويجوز نسخ الحكم إلى مثله وأخف منه وأثقل عند الأكثرين، كنسخ التخيير بين الصوم والفدية إلى تعيين صومه، ومنعه قوم محتجين بهذه الآية:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها} والأثقل ليس بخير، ولا مماثل: وأجيب بأنه قد يكون خيرا أو مثلا في المصلحة والأجر.

قوله-عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (107)[البقرة: 107].

عام لم يخص بشيء، وكذا تمامها {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (107) [البقرة: 107] وكذا {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} (108)[البقرة: 108].

ص: 66

بينهما، ودلالة الاقتران شبيهة بأنها من أصول الفقه من باب كيفية الاستدلال على الأحكام، واستثمارها منها.

{وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110] عام مطرد، أي لم يخص.

{وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (111)[البقرة: 111] يحتج به من يرى أن على المدعي الثاني دليلا؛ لأن دعوى هؤلاء نافية، وهي قولهم:{وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (111) / [36/ل]) [البقرة: 111]، وقد طولبوا بالدليل عليها.

وفي المسألة أقوال:

ثالثها: أن ذلك يجب في العقليات لسهولته ببيان لزوم المحال من الإثبات بخلاف النقليات، إذ لا يمكن فيها ذلك، فيكتفي مدعي النفي فيها بالاستصحاب.

{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ} (115)[البقرة: 115] قيل: جهة التقرب إليه لا يحتمل هاهنا إلا ذلك بخلاف {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} (27)[الرحمن: 27] على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل.

{وَقالُوا اِتَّخَذَ اللهُ وَلَداً} [البقرة: 116] يعني اليهود والنصارى والكفار {سُبْحانَهُ} أي تنزه عن ذلك {وَقالُوا اِتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ} (116)[البقرة: 116] يعني أن الولدية تنافي الملكية، وما في السماوات والأرض بأسره مملوك له-عز وجل، فيمتنع أن يكون شيء منها ولدا له، ويستفاد من هذا أن من ملك ولده عتق عليه بنفس الشري، وهو ملك مجازا، وقد بينا أن/ [19 أ/م] الولدية تنافي الملكية، ثم بعضهم قاس باقي ذوي الرحم المحرم على الولد، هو مذهب أحمد.

{بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (117)

[البقرة: 117] فيها مسألتان:

إحداهما: الرد على القائلين بقدم العالم من الفلاسفة وغيرهم؛ لأن بديع السماوات

ص: 67

والأرض مخترعهما بعد عدمهما، وذلك ينافي قدمهما والخلاف معهم مبني على أصلين:

أحدهما: أن الصانع عندهم فاعل بالطبع والإيجاب فلا يتأخر عنه معلوله كالنار لا يتأخر عنها الإحراق، والشمس لا يتأخر عنها الإشراق وإضاءة العالم، وعندنا: هو فاعل بالقدرة والاختيار فيفعل ما شاء متى شاء.

الأصل الثاني: أن القديم عندنا يمتنع استناده وافتقاره إلى المؤثر، وعندهم لا يمتنع ذلك إلا في القديم لذاته لا في القديم لغيره كالعالم.

المسألة الثانية: {وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (117)[البقرة: 117] احتج به من قال بخلق القرآن المسموع وقدمه.

أما الأول: فتقريره أن «كن» مركب من حرفين سابق ومسبوق، وكل ما تضمن سابقا ومسبوقا فهو حادث، وإذا ثبت حدوث «كن» أو النون منها ثبت حدوث باقي عبارات القرآن لاستواء الجميع.

وأما الثاني: فتقريره أن العالم مخلوق ب «كن» فلو كانت «كن» مخلوقة لزم الدور إن خلقت بالعالم، أو التسلسل إن خلقت بغيره وهما محالان، فوجب أنها غير مخلوقة، ثم باقي العبارات مثلها لاستوائهما.

{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} (121)[البقرة: 121] عام مطرد.

{* وَإِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} (124)[البقرة: 124] يحتج به من لا يرى إمامة الفاسق، لأن الإمامة عهد الله، وعهد الله-عز وجل-لا يناله فاسق، فالإمامة لا ينالها في الحكم فاسق، فإن نالها فاسق فإنما نالها بالحكم القدري لا بالإذن الحكمي، وهذا هو الذي حمل جماعة من خيار السلف على الخروج/ [37/ل] على أئمة عصرهم لاعتقادهم فسقهم، فخرج الحسين وابن الزبير والشعبي وجماعة من نظرائه كسعيد بن جبير متأولين هذه الآية.

ص: 68

-عليه السلام-عرض الله-عز وجل-عليه الإسلام، فقال: أسلمت، فكفاه، وقد جعله الله-عز وجل-إماما يقتدى به فقال:{وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اِجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاِعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78)[الحج: 78].

{ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (123)[النحل: 123] وربما ذهب ذاهب إلى أنه لا يدخل في الإسلام بدونهما لقوله-عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله [محمد رسول الله] الحديث (1).

{قُولُوا آمَنّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (136)[البقرة: 136] ما في/ [19/ب] جميعها بمعنى الذي عام مطرد، إذ الكفر بحرف من المنزل كالكفر بجميعه.

قوله-عز وجل: {*سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (142) [البقرة:

142] هي من صور النسخ ودليل على وقوعه، إذ حولت القبلة عن جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة.

{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ}

ص: 69

{إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} (143)[البقرة: 143] يحتج بها على الإجماع حجة، وتقرير الحجة منها أن الله-عز وجل-وصفهم بكونهم وسطا أي عدولا خيارا، والعدول الخيار لا يقولون إلا حقا، ولا يجمعون إلا على حق، ولا حجة في ذلك؛ لأن العدل قصاراه أنه لا يتعمد الكذب أما كونه لا يخطئ فلا، وإنما ذلك شأن المعصوم، وإنما يصح الاستدلال بهذه الطريقة أن لو قال:«وكذلك جعلناكم أمة معصومين» .

{وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] يستدل بها على تعليل أحكام الله-عز وجل؛ لأنه أخبر أنه إنما حول القبلة لعلة أن يعلم المتبع من المنقلب، وفي هذا بحث يأتي في موضع آخر، إن شاء الله عز وجل.

{وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} [البقرة: 143] أي: صلاتكم، سماها إيمانا بلسان الشرع، ويستدل به من أثبت الحقائق الشرعية، ومعنى ذلك أن الشرع هل وضع لنفسه أسماء هي في مدلولاتها حقائق بوضعه الأول أم لا، بل أخذ الحقائق اللغوية، فضم إليها شروطا شرعية، وذلك كالصلاة والزكاة والصيام والحج هل هي حقائق في الشرع بوضعه أو متلقاة من اللغة على ما هي فيها مزيد عليها أمور شرعية كالأفعال الخاصة في الصلاة والإمساك الخاص في الصيام.

منهم من قال بالأول؛ لأنه-عز وجل-سمى الصلاة إيمانا، وهو في اللغة التصديق، وذلك وضع شرعي، ولأن الشرع جهة مستقلة فلا بد له من حقائق يفهم بها عنه كاللغة.

ومنهم من قال بالثاني؛ لأن هذه الألفاظ في القرآن وهو عربي إنما خاطبنا بلغة العرب، فوجب القول بأنها مبقاة على وضعها لغة وإنما زيد عليها أمور شريعة لحق الشرع، ولأن القول بذلك أسهل من القول بوضع مستأنف.

وأما تسمية الصلاة إيمانا فلاشتمالها/ [38/ل] أو دلالتها عليه، وهذه من مسائل أصول الفقه.

{قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ} (144)[البقرة: 144] يحتج بها من يرى أن الله-عز وجل-في جهة السماء من وجهين:

ص: 70

أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقع تحويل القبلة، ويترقب ذلك من جهة السماء، والأحكام إنما تأتي من عند الله-عز وجل-فدل على أنه-عليه الصلاة والسلام كان يعتقد أنه-عز وجل-في جهة السماء.

الوجه الثاني: أنه-عز وجل-رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقلب نظره إلى/ [20 أ/م] السماء ينتظر الوحي من عند الله-عز وجل-ثم لم ينكر عليه، ولم يقل له: لست في السماء، فماذا تطلب من جهتها بل أقره على ذلك فصار في المسألة اعتقاد النبي عليه الصلاة والسلام، وإقرار الله-عز وجل-له على ذلك وناهيك به حجة.

وأجاب الخصم بأنا لا نسلم أنه-عليه الصلاة والسلام-كان في تقليب وجهه إلى السماء يعتقد أن الله-عز وجل-فيها، وإنما كان ينتظر الوحي من جهتها على لسان جبريل-عليه السلام-لاعتياده ذلك منه.

ولا يلزم من نزول جبريل بالوحي من جهة السماء أن يكون الله-عز وجل-فيها، وإلا للزم من صعود الملائكة بالأمر من الأرض أن يكون الله-عز وجل-فيها وأنه باطل.

{وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] عام مطرد.

{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ} (144)[البقرة: 144] فيه أنهم إنما أوتوا من قبل [العناد، لا من قبل] الخطأ في الاجتهاد، فلذلك لم يعذروا، بخلاف المخطئ في الأصول مع الاجتهاد حيث كان معذورا على رأي الجاحظ (1) والعنبري (2)، ولا يلزمهما إقامة عذر اليهود والنصارى المتوغلين في البحار وراء القطب الشمالي [ونحوهم].

وقد دل على هذا التخصيص قوله-عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (146)[البقرة: 146].

ص: 71

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (148)[البقرة: 148] عام في المكان مطرد، وهو إخبار بالبعث بعد تفرق الأجسام والأجزاء في الأماكن، وأحال به على مجرد القدرة.

قوله-عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ} (154)[البقرة: 154] فيه مسألتان:

إحداهما أنه عام في كل مقتول في سبيل الله أنه حي يرزق، وهو مطرد إلا من دل دليل خاص على أنه ليس بحي لكن لم نعلم ذلك ولم يبلغنا عن أحد.

الثانية: مفهوم الآية: أن غير المقتول في سبيل الله لا يقال له حي بل ميت، وهذا كله متجه على ما تبين في السّنّة من أن «الشهداء تجعل أرواحهم في أجواف طير خضر ترعى في الجنة» (1) / [39/ل] بخلاف غيرهم إذ لم يرد فيهم ذلك، والحياة هي تعلق النفس ببدن طبيعي تستوكره، والموت انقطاع تعلقها عن بدن طبيعي، وهاتان من قبيل مسائل المعاد واليوم الآخر، إذ أول اليوم الآخر من حين الموت، ولهذا ورد/ [20 ب/م] أن من مات فقد قامت قيامته.

{وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ} (163)[البقرة: 163] هذه دعوى وجود الصانع والوحدانية وبرهانها يليها، وهو {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاِخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (164) [البقرة: 164] ذكر سبع آيات من نظر فيها علم وجود الصانع:

الأولى: خلق السماوات والأرض.

الثانية: اختلاف الليل والنهار يأخذ أحدهما من الآخر طولا وقصرا وحرا وبردا بحسب اختلاف الفصول التابع لانتقالات الشمس في فلكها قربا وبعدا وتوسطا.

ص: 72

الثالثة: الفلك التي تجري في البحر وهي المراكب والسفن، وهي إبل البحر كما أن الإبل سفن البر.

الرابعة: المطر النازل من السماء لإحياء الأرض كيف ينزل عليها وهي قفر موحشة فإذا هي عن قرب تهتز خضرا أنيسة.

الخامسة: [الدواب المبثوثة] في الأرض على اختلاف أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها.

السادسة: تصريف الرياح وهو نقلها في الجهات من الجنوب إلى الشمال ومن الصبا إلى الدبور، وعكس ذلك لتطييب ما بين السماء والأرض ولولاها لأنتن وأوبأ، ولتسيير الفلك في البحر، ولولاها لظلت رواكد عن ظهره؛ ولتحصيل الروح للحيوان، ودفع الوخم عنه، وغير ذلك من فوائدها.

السابعة: السحاب المسخر بين السماء والأرض تحمله الرياح إلى البلاد ليمطر فيها.

فمن نظر في هذه الآيات الظاهرة والقدرة الباهرة علم قطعا أن لها صانعا قديما بما مر من دليل الدور والتسلسل، وهو أن هذه الآيات موجودة حسا، فإما أنها أوجدت نفسها وهو محال، أو أوجدها غيرها، وهو إما حادث؛ فيلزم الدور أو التسلسل، أو قديم وهو المطلوب، ثم إذا ثبت أن لها صانعا قديما ثبت أنه واحد بما سيتأتى في سورة «الفرقان» والأنبياء والمؤمنون وغيرها، إن شاء الله عز وجل.

فإن قيل: الدعوى وقعت خاصة بإثبات إله واحد، والاستدلال إنما وقع عاما على وجود الصانع فقط، فهلا طابق بينهما بأن جعل الدعوى عامة كالاستدلال، أو الاستدلال خاصا كالدعوى.

فالجواب: أن العرب كانوا على قسمين؛ معطلة ينكرون الصانع، / [40/ل] ومثبتة للصانع؛ لكنهم يشركون به. وهذه الآية وردت جوابا للمعطلة بإثبات الصانع، واستطرد فيها ذكر الوحدانية ردا على المشركين بمجرد الدعوى، وأخر الاستدلال عليهم إلى موضع آخر؛ لأنهم لم يسألوا هاهنا شيئا، بخلاف المعطلة فإنهم سألوا: من إلهنا؟ ومن صانع العالم؟ فقال: إلهكم إله واحد، واستدلوا عليه بهذه الآيات المذكورة تعلموا وجوده.

وفي قوله-عز وجل: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إشارة إلى مشروعية النظر العقلي، وأنه طريق/ [22 أ/م] إلى العلم، وإلى أن العقل آلة شريفة لشرف ما يتوصل بها إليه، وإلى شرف علم الأصول والنظر فيها بصحيح المعقول؛ لأنه-عز وجل-إنما نبه على

ص: 73

الاستدلال بهذه الآيات من يعقل لشرف العقل وأثره وتصرفه، ولم يقل: لآيات لقوم ينقلون-لما لم يكن النقل المجرد وافيا بالغرض في هذا المقام.

{وَقالَ الَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ} (167)[البقرة: 167] عام مطرد إذ لا ينفع الكافر من عمله شيء بشهادة {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} (23)[الفرقان: 23].

{يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (168)[البقرة: 168] عام مطرد {كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:

168] عام في جميع ما فيها يجوز الأكل منه، وهو مخصوص بالحرام، لا يجوز أكله بدليل قوله عز وجل:{حَلالاً طَيِّباً} [البقرة: 168] قيد المأكول بالحلال فكان تخصيصا له.

{وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} [البقرة: 168] عام مطرد إذ لا خير في شيء من خطواته، ولا بركة في شيء من متابعته {إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (169) [البقرة: 169] اختلف في «إنّما» : هل تقتضي الحصر، وهو إثبات الحكم لما بعدها، ونفيه عما عداه، أم لا؟ .

فيه أقوال؛ ثالثها أنها تقتضيه بعرف الاستعمال لا بوضع اللغة.

حجة الحصر من وجهين:

أحدهما: أنها وردت له في بعض الاستعمال، فلو كانت لغيره لزم إما الاشتراك أو المجاز وكلاهما خلاف الأصل.

الثاني: أن «إنما» مركبة من «إن» المثبتة و «ما» النافية، فأفادت إثباتا ونفيا كما قبل التركيب، وهو إثبات المذكور ونفيه عما عداه، إذ عكسه باطل باتفاق.

واعترض عليه أما على الوجه الأول، فبأنها وردت [لغير الحصر، فلو وردت] له أيضا لزم الاشتراك أو المجاز.

وأما على الثاني فلا نسلم أنها مركبة بل موضوعة وضعا أولا كذلك، سلمناه لكن لا نسلم أن «ما» فيها نافية لجواز أنها زائدة أو غيرها من أقسام «ما» سلمناه، لكن لا نسلم أنها/ [41/ل] تفيد بعد التركيب ما أفادته قبله، إذ ذلك منقوض ب «لولا» أفادت بعد

ص: 74

التركيب خلاف ما أفادته قبله.

حجة عدم الحصر: أنها وردت للحصر وغيره، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فوجب جعلها للقدر المشترك وهو الإثبات المؤكد حجة.

الثالث: أنها لما كانت للإثبات المؤكد تجوزوا بها إلى استعمالها في الحصر عرفا، فصارت للحصر بعرف الاستعمال، لا بوضع اللغة، إذ لم ينقل وضعها له، ولا دل عليه القياس.

فإذن معنى {إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (169) [البقرة:

169] على الأول: أنه لا يأمركم. الآية، وعلى الثاني إثبات أمره لهم إثباتا مؤكدا، يدل على قوة داعية منه إلى ذلك لا على معنى الحصر، لكن قد دل الدليل/ [22 ب/م] المنفصل على أن الشيطان لا يأمرهم إلا بالسوء، فالحصر في هذه القضية لازم، إما بمقتضى إنما وضعا أو عرفا أو بالدليل الخارج.

وهذه الأقوال في «إنما» إنما هي فيما إذا تجردت، أما إن اقترن بها ما يفيد حصرا أو عدمه، وجب اعتبار مقتضى القرينة، وقد يكون الحصر مطلقا، وقد يكون من وجه دون وجه، وسيأتي القول في ذلك، وفي أدوات الحصر في مواضعه، إن شاء الله عز وجل.

وهذه المسألة من باب حروف المعاني في أصول الفقه.

قوله-عز وجل: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (170)[البقرة: 170] فيه ذم التقليد، وهو اعتقاد الحكم بناء على حس الظن بمن أخذ عنه لا عن نظر وهو كذلك (1)؛ لأنه استناد إلى جهالة محضة وعدم علم، وعدم العلم لا يفيد علما لا بالعدم ولا بالوجود؛ ولأن المقلد إما أن يعلم خطأ من قلده أو إصابته، فإن علم خطأه لم يجز متابعته، وإن علم إصابته فإما بتقليد آخر فيعود الكلام فيه ويتسلسل، أو بنظر فليس حينئذ مقلدا لاستناد اعتقاده إلى نظر واستدلال، لكن قد فرضناه مقلدا هذا خلف.

واعلم أن هذه الآية وغيرها من الآيات الذامة للتقليد إنما دلت على امتناع التقليد في أحكام الأصول والمعتقدات كالتوحيد ونحوه، أما الفروع فلا، بل قد دل قوله-عز

ص: 75

وجل-: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (7)[الأنبياء: 7] على جواز التقليد فيها.

والأقوال الممكنة في التقليد أنه يجوز في الأصول والفروع ولا يجوز فيهما، ويجوز في الفروع لا في الأصول مطلقا، / [42/ل] ويجوز في الفروع وفي الأصول لمن لا يمكنه استعمال النظر فيها على وجهه إما لضعف فهمه، أو لانقطاعه بذلك عن مصالح معاشه الضرورية كالعامة ونحوهم.

{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (170)[البقرة: 170].

إشارة إلى دليل بطلان التقليد، وتقريره: أن آباءهم يجوز أن يصيبوا ويخطئوا فبتقدير أن يخطئوا لا يجوز متابعتهم، أفتتبعونهم على ذلك، وأما إصابتهم فليست متعينة، فإن علمتموها بتقليد آخر لزم تسلسل التقليدات، أو بنظر فلستم إذن مقلدين.

وخرجنا عن المسألة، وهذه المسألة من باب صفة المفتي والمستفتي من أصول الفقه.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ} (172)[البقرة: 172] أي: من حلال رزقنا ومفهومه: لا تأكلوا من حرام ما رزقناكم، وهو يقتضي أن الحلال والحرام من رزق الله-عز وجل-وهو يرزقه خلافا للمعتزلة إذ قالوا: لا يرزق الحرام، وقد سبق القول عليهم.

{إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ} (172)[البقرة: 172] هذه من أدوات/ [23/أ] الحصر، وهو تقديم المفعول نحو:{(إِيّاكَ نَعْبُدُ)} ، والله أحمد، و {(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ)} ، وإنما، وقد سبق ذكرها قريبا، والنفي المتلقي بإلا نحو ما قام إلا زيد، وما فعلوه إلا قليل، وحصر المبتدأ في الخبر الأعم أو المساوي، إذ يستحيل أن يكون الخبر أخص، فإذا قلت: كل إنسان حيوان، صح؛ لأن الخبر أعم، أو الإنسان ناطق، صح؛ لأنه مساو، والشيء ينحصر في الأعم منه، والمساوي له، ولو قلت: الحيوان إنسان أو كل حيوان إنسان لم يصح، لأن الخبر أخص، ومطابقة الأقل للأكثر محال. {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (173) [البقرة: 173].

هذا تخصيص لعموم {وَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاِتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ}

ص: 76

مُؤْمِنُونَ (88)[المائدة: 88] خص بهذه الأشياء، وبقي ما عداها من الأرزاق حلالا، بناء على أن العام بعد التخصيص حجة في الباقي إلى أن ورد نهيه عليه الصلاة والسلام عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير (1)، فحرم ذلك أيضا، وكذلك كل ما قام الدليل على تخصيصه بالتحريم من عموم الأرزاق الحلال كالجلالة (2) والهوام والمستخبثات بقوله-عز وجل:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاِتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) [الأعراف:

157] ونحو ذلك.

ثم (الميتة) عام في التحريم خص منها السمك والجراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال» (3) وكذلك ما يصيد بسهم، أو جارح فلم يدرك زكاته أو ندّ بعير ونحوه، أو تردى في بئر فرمى أو جرح فمات بشرطه/ [43/ل] والميتة في المخمصة.

كل ذلك حلال خص من عموم تحريم الميتة، والدم خص منه الكبد والطحال بالحديث وما اضطر إليه في المخمصة بما في سياق هذه الآية، وكذلك الخنزير خصّ منه ما اضطر إليه في مخمصة لم يجد غيره، {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (173) [البقرة: 173]، أي: إذا أكل من هذه المحرمات مضطرا لا إثم عليه، والمضطر من خشي على نفسه الهلاك أو مرضا أو ضعفا فاحشا يخشى منه الهلاك أو الزمانة، ونحو ذلك من الضرر الفظيع، فله أن يأكل ما يسد الرمق.

وفي تمام الشبع قولان للعلماء، ويحتمل ثالث وهو جوازه من الميتة والدم دون لحم الخنزير؛ لأنه منصوص على تحريمه مثلهما، واختص بأن نهى عنه تعبدا بمخالفة النصارى،

ص: 77

وبأن من خاصيته التخنيث وتقليل الغيرة، وكونه ممسوخا، أو على صفة الممسوخ وكذلك ما أهلّ به أي: ذبح لغير الله كالذي ذبح على النصب للأصنام ونحوها حرام لا يباح منه إلا في المخمصة راجع إلى المحرمات الأربعة يباح ذلك منها.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَاّ النّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (174)[البقرة: 174] إما لمعهود أي: النار الوافية بعذابهم التي تسعها بطونهم، أو عام أريد به الخاص، وهو ذلك.

قوله-عز وجل: {*لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَاِبْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177)[البقرة: 177].

هذه هي أركان أصول/ [23 ب/م] الدين الخمسة تارة تذكر هكذا طرفين وواسطة، فالله-عز وجل-هو المبدأ، واليوم الآخر هو المعاد، وهما الطرفان والثلاثة الأخر واسطة، وتارة تذكر على الترتيب الوجودي: الله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.

فالإيمان بالله-عز وجل-هو التصديق بوجوده وصفاته وأفعاله، فمن صفاته أنه قديم باق حيّ عالم قادر مريد متكلم سميع بصير غني، وبالجملة متصف بصفات الكمال منعوت بنعوت الجلال منزه عن [لحوق كل نقص، وعن فوات كل كمال]، ومن أفعاله العالم ففي الحقيقة لا موجود إلا الله-عز وجل-وصفاته الذاتية، / [44/ل] وأفعاله.

والإيمان بالملائكة التصديق بوجودهم، وأنهم من حيث المادة نورانيون، ومن حيث المرتبة {وَقالُوا اِتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ} (26) [الأنبياء: 26]، ومن حيث الوظيفة {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ} (20) [الأنبياء: 20]، ومن حيث الطاعة والعصمة {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} (6) [التحريم: 6] إلى غير ذلك من أوصافهم وأحكامهم. والإيمان بالكتب كالتوراة والإنجيل وصحف آدم

ص: 78

وإبراهيم ونحوها المنزلات والقرآن؛ هو التصديق بأنها حق من حق موافق بعضها لبعض لا تناقض فيها ولا اختلاف، التكليف بها حق، والعمل بها صواب، فأما القول في أنها حادثة أو قديمة، وأنها معنى نفساني أو (قول لساني)، فقد سبق، وسيأتي إن شاء الله-عز وجل شيء منه.

والإيمان بالنبيين هو التصديق بأنهم صادقون فيما بلغوا من الرسالات مؤيدون من الله عز وجل-بالحجج والبينات، سفراء بين الله-عز وجل-وخلقه، قائمون في خدمته بواجب حقه، معصومون فيما بلّغوه من الكذب، منزهون عن إتيان الفواحش والريب.

فأما كونهم أفضل من الملائكة فسيأتي إن شاء الله-عز وجل.

والإيمان باليوم الآخر هو التصديق بوقوعه، وبما سيقع فيه من الأمور الواردة في السمع، كالجنة والنار والصراط والميزان ووزن الأعمال، وأخذ الصحف باليمين والشمال، وغير ذلك مما ذكر في دواوين السّنّة، وكتاب «البعث والنشور» وكتاب «العاقبة» ، فهذه جمل أصول الدين وتفاصيلها [في الكتب]، وسنذكر منها في هذا التعليق ما تيسر مما تضمنه القرآن العزيز إن شاء الله عز وجل.

واعلم أن الدين مشتمل على الإيمان والإسلام والإحسان كما في حديث جبريل- عليه السلام-وهذه الآية تضمنت ذلك، وهو التصديق والتقوى لقوله-عز وجل-في آخرها:{أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177)[البقرة: 177] وهو خصال الولاية لقوله-عز وجل-في صفة الأولياء: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ} (63)[يونس: 63] فالتقوى مساوية للولاية، فكل متق على الحقيقة ولي، وكل ولي على الحقيقة متق.

ص: 79

انتفى فيه القصاص بأدلة تخصيصه المشهورة (1).

{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]، مفهومه/ [24 أ/م] أن لا يقتل حر بعبد وهو خاص، فيخص به عموم النفس بالنفس خلافا لأبي حنيفة، وأصل الخلاف أن المفهوم حجة عندنا، فيخص به العموم، لأن عنده {وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى} [البقرة: 178] مفهومه لا يقتل ذكر بأنثى، لكنه متروك لضعفه ولزوم المفسدة العامة منه، وللإجماع فيقتل الذكر بالأنثى، ولا شيء لورثته.

وذهب بعض العلماء إلى أنه يقتل بها، ويعطى ورثته نصف ديته؛ لأن المرأة تودى بنصف دية الرجل، هو رواية بعيدة عن أحمد، ولعل مأخذها هذا المفهوم، وهو أن الآية اقتضت أن لا يقتل بها، فلما تركناه في القتل اعتبرنا المساواة بينهما بحسب الدية حتى كأنا أخذنا بنفس المرأة نصف نفس رجل كنسبة ديتها من ديته.

{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] أي: من قتل فعفا له الولي عن القصاص، أو عن بعض الدية، فعلى الولي اتباع الجاني بالدية أو ما بقي منها بالمعروف، وعلى الجاني أداء ذلك بإحسان هذا ظاهر الكلام، وهو عام مطرد، وفي تفسيره خلاف.

{فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ} [البقرة: 178] أي: من عفا عن القصاص، ثم قتل الجاني بعد العفو عنه أو اقتص منه في طرف {فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ} (178) [البقرة: 178]، أي بالقصاص منه؛ لأنه جنى عمدا [أو أنه] أشبه الجاني ابتداء، وهذا عام خصّ منه ما إذا قتل الجاني بعد العفو عنه خطأ أو جهلا بالتحريم ونحوه من صور العذر المسقطة للقصاص؛ لقوله عز وجل:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} (5)[الأحزاب: 5] ونحوه، وقوله صلى الله عليه وسلم:«عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .

{وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (179)[البقرة: 179] هذا خبر عام، وهو بحسب السياسة الكلية الظاهرة وجاري العادة مطرد؛ لأن الإنسان إذا

ص: 80

علم أنه إذا قتل قتل كف عن القتل، فكان في كفه حياتهما جميعا وحياة من يتبعهما؛ من يدخل في نصرتهما إما بحسب أمور جزئية باطنة، فقد يكون في القصاص موت كثير مثل أن يقتص من شخص، فتأخذ العزة قوم المقتص منه فيغتالون بعض أولياء القصاص، فيظهر ذلك عليهم، فتلتحم الفتنة، فيقتل خلق كثير أو يقاد المغتالون فهذا القصاص المفروض/ [46/ل] أفضى إلى موت أكثر مما كان يفضي إليه عدم القصاص، لكن مثل هذا لا يعد تخصيصا إذ هو مفروض على خلاف جهة عموم القرآن؛ إذ هو وارد على جهة السياسة الكلية الظاهرة لا على جهة الصور الفرضية الجزئية النادرة.

أما قول العرب: القتل أنفى للقتل، فلا يرد عليه مثل هذا التخصيص؛ إذ معناه: القتل أقرب إلى نفي القتل، ولا يلزم منه أن ينفيه مطلقا في كل صورة حتى يرد للصورة المفروضة ونحوها عليه.

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (180) / [25 ب/م]) [البقرة: 180] هو عام في كل من حضره الموت ممن له مال وأقارب يوصي لهم ثم قيل: إنه نسخ بآية الميراث، وقوله- عليه الصلاة والسلام:«إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» (1) [فارتفع حكمه بالكلية.

وقيل: لم ينسخ وإنما خص بمن له ميراث، فلا وصية له] وبقي على أصل عمومه فيمن لا ميراث له من الأقارب فتجب له الوصية، وهو أشبه، ولأن التخصيص أيسر من النسخ، فكان التزامه أولى.

{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (181)[البقرة: 181] معناها فهو آثم وهو عام مخصوص بمن بدل حكم الوصية للأقارب جاهلا بتحريم التبديل أو متأولا له على أنه مندوب لا واجب أو واجب منسوخ [ونحو هؤلاء]{فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]{فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] هو عام مخصوص بمن أصلح بينهم منهما لجر نفع

ص: 81

إلى نفسه أو خادعا لبعض الورثة، أو للميت عن بعض المصالح، أو مائلا مع بعضهم لهوى ونحوه، فإن هذا إثم من الجهة التي خرج فيها عن موجب الصلح العدلي.

قوله-عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183)[البقرة: 183] أما الصيام فهو معهود خاص برمضان من سائر الصيام، وهو عام بالنسبة إلى أيامه الثلاثين أو التسع والعشرين، أما {الَّذِينَ آمَنُوا} فعام أريد به الخاص وهو أهل التكليف والخطاب، فيخرج من ليس كذلك كالصبي والمجنون وفي تناوله العبيد خلاف. ثم هو بعد ذلك مخصوص إما مطلقا كالعاقل يجن في أثناء رمضان فلا يلزمه صومه ولا قضاؤه إذا أفاق، أو لا مطلقا كالمريض والمسافر والكبير والحائض والحامل والمرضع؛ فيسقط عنهم أداؤه لا قضاؤه {كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) [البقرة: 183] [هذا يقتضي وجوب الصوم على عموم من كان قبلنا] من الأمم المتشرعة.

والظاهر أن الصيام المكتوب عليهم كان هو رمضان ويحتمل أنه صوم/ [47/ل] غيره، ثم الظاهر أن التخصيص في حقهم كان كما [كان] في حقنا لسقوط الصوم عن ذوي الأعذار منهم مطلقا أو لا مطلقا كما سبق، ويحتمل خلاف ذلك بالتغليظ عليهم ما لم يغلظ علينا؛ لأن الآصار والأغلال كان عليهم أشد.

{أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] هذا عام أريد به الخاص، وهو المريض الذي يخاف ضررا بالصوم، والمسافر سفرا يقصر في مثله الصلاة لا مطلق المريض، والمسافر دل على هذا التخصيص النظر والإجماع المعتبر.

{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قيل: معناه على الذين لا يطيقونه، وإنما حذفت لا كما حذفت في {قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ} (85) [يوسف: 85] أي: لا تفتأ، وهو ضعيف إذ الحذف لا بد عليه من دليل ولا دليل عليه هنا بخلاف «تالله تفتأ» فإن دليل حذفها فيه واضح وقيل-وهو الصحيح-: إنهم كانوا في صدر الصوم أعني أول ما فرض يخير من/ [26 أ/م] أطاقه بين أن يصوم أو يفطر ويفدي، ثم نسخ هذا التخيير

ص: 82

بتعيين الصوم على ما أطاقه وبقيت رخصة التخيير فيمن لا يطيقه أو يشق عليه، فالتقدير إذن:«وعلى الذين يطيقونه ويختارون الفطر دون فدية» .

{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184] أي: فمن تطوع بزيادة على إطعام مسكين عن إفطار كل يوم مثل أن يطعم عن كل يوم مسكينين أو مساكين، فهو خير له، كقوله-عليه الصلاة والسلام-لرجل جاء بناقة فتية، وإنما عليه ابنة مخاض أو لبون فقال:

«ذلك الذي عليك وإن زدت شيئا فهو خير لك» (1) وهذا عام في كل من أفطر، فزاد في الفدية عن إطعام مسكين، [وربما خص بمن تعلقت ضرورته أو ضرورة عياله بالزيادة على طعام مسكين] فيجب صرفها إلى جهة تلك الضرورة حتى لو خالفت فأضر بعياله أو بنفسه أثم.

{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (184)[البقرة: 184] هذا عام إذا تقديره: وصومكم خير لكم، وهو اسم جنس مضاف، وهو يتناول من خيّر بين الصوم والفطر بأصل الشرع كالصحابة قبل نسخ ذلك في حقهم.

ومن خيّر على جهة الرخصة لعذر كالمسافر ونحوه، كل هؤلاء الصوم خيّر لهم من الإفطار، وهو مخصوص بمن خشي بالصوم التلف أو بلغ به الجهد كقيس بن صرمة الأنصاري (2) حين أصبح طليحا من الصوم أي مجهودا منقطعا، أو أخل الصوم عليه ببعض مصالح الجهاد، كما روي/ [48/ل] أنه عليه الصلاة والسلام-كان في سفر فوقع الصائمون وقام المفطرون فنصبوا واستقوا وأسقوا وطبخوا فقال صلى الله عليه وسلم:«ذهب المفطرون اليوم بالأجر» (3) وقال في الصائمين في موضع آخر: «أولئك من العصاة» (4)«ليس من البر الصيام في السفر» (5).

ففي هذه الصورة ونحوها الفطر خير وأفضل تخصيصا لها من عموم {وَأَنْ تَصُومُوا}

ص: 83

{خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] بالدليل

{شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ} [البقرة: 185] يقتضي أن جميع القرآن أنزل في رمضان، وهو كذلك أنزل جميعه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا في شهر رمضان، أما نزوله إلى الأرض فنزل في رمضان وغيره.

{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] هو عام مطرد باعتبار القوة والصلاحية، أي في قوته وصلاحيته أن يهدي جميع الناس، وعام مخصوص بمن لم يهتد باعتبار الفعل، إذ كثير من الناس لم يهتد به، وإن أريد بالناس مسماهم أو ناس معهود خرج عن قبيل العام.

{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] عام فيمن شهد الشهر، أي كان فيه شاهدا أهله حاضرا غير مسافر، فخص منه المسافر بمفهومه وبما سبق، والمريض بما بعده وقبله، وباقي أهل الأعذار بالدليل، للقياس على المخصوص من العموم أو غيره.

{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] يحتج به القدرية على أن الله-عز وجل-لا يريد الكفر والمعاصي من خلقه، وإنما هم يريدونها ويخلقونها / [26 ب/م]، وتقريره أن المعاصي شر، ولا شيء من الشر بيسر، ينتج لا شيء من المعاصي، فالمعاصي عسر، والله-عز وجل-لا يريد بخلقه العسر؛ فيلزم أن المعاصي بيسر لا يريدها الله تعالى بخلقه؛ وهو المطلوب.

ويجاب عنه بوجوه:

أحدها: أن هذه الآية في سياق الصوم، فهي خاصة به بدلالة السياق، ولا تعلق لها بالعقائد، والمعنى: يريد الله بكم اليسر لا العسر في أحكام الصوم والفطر لا مطلقا.

الثاني: أنه عز وجل قال: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ} والنزاع في أنه يريد منهم المعاصي، وفرق بين أردت به، وأردت منه؛ إذ أحدهما غير الآخر.

الثالث: يحتمل أنه لا يريد بهم العسر عبادة وتكليفا، وإن أراده منهم خلقا وتقديرا.

الرابع: أن اللام في العسر، يحتمل أن لا تكون للعموم، فلا تكون كبرى قياسكم كلية، فلا تنتح، إذ يبقى هكذا: المعاصي عسر، وبعض العسر/ [49/ل] ليس بمراد الله-عز وجل.

ص: 84

{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (186)[البقرة: 186] هو عام مخصوص بما لم يشأ الله- عز وجل-إجابته بدليل:

{بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ} (41)[الأنعام 41]، ويحتمل أن يقال هو عام مطرد غير أن كل داع لا يخلو من الإجابة، إما بنفس مطلوبه، أو بدفع شر عنه عوض ذلك، أو بأن يدخر له في الآخرة مثل ذلك كما صح في الحديث، والإجابة أعم من كل واحد من هذه الثلاثة، فأيها حصل كان إجابة لدعائه.

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] هو عام مطرد في جميع الليلة، وفي أنواع الرفث من الجماع ومقدماته وما يتصل به إلى نسائكم عام خص منه الحائض والنفساء، والمحرمة، والمعتكفة، ونحوهن ممن بها مانع من الوطء حكما.

{وَكُلُوا وَاِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] عام في ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر، ويخص منه بعض ذلك لأسباب خاصة بمنع الأكل والشرب كالصلاة لا يجوز ذلك فيها.

{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} [البقرة: 187] عام مطرد في تحريم المباشرة في حال الاعتكاف.

{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (188)[البقرة: 188] عام مطرد فلا يجوز أكل مال أحد إلا بحق.

{* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاِتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (189)[البقرة: 189] هذا عام على جهة التأدب في حالة الإحرام وغيره، وخص منه إتيان البيوت من غير أبوابها، كتسور الحيطان ونحوه للضرورات والحاجات والمصالح الراجحة، ولا يكون ذلك-والحالة هذه منافيا لحسن الأدب.

ص: 85

قوله عز وجل: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (190)[البقرة: 190] هو عام يخص بما إذا اقتضت المصلحة ترك قتال المقاتل مداراة عند الضعف عنه كما في الهدنة والصلح، أو خديعة له إذ الحرب خدعة أو نحو ذلك.

{وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] عام مطرد في ترك العدوان الحقيقي.

{الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (194)[البقرة: 194] أي: من انتهك لكم حرمة، فانتهكوا له مثلها لتقتصوا منه بدليل:{فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (194)[البقرة: 194] / [27 أ/م] إذ هذا بيان للحرمات قصاص، وهو عام في جواز الاقتصاص، وخص منه في القصاص في الأطراف ما إذا خيف الحيف كالجائفة لا قصاص فيها لتعذر المماثلة، وفيما إذا قتله بمحرم [في نفسه] كتجريع للخمر واللواط لا يقتص منه بمثله لئلا يكون دفعا للظلم الحرام بمثله، ومحوا للأثر القبيح بأقبح منه، وكذا لو قتل/ [50/ل] رجل قريب رجل أو عبده أو دابته، أو زنا بامرأته أو أمته، لم يجز للمجني عليه أن يفعل بالجاني مثل ذلك بل يقتص منه ويغرمه. ويرفعه إلى من يحده، ونحو ذلك.

{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195)[البقرة: 195] عام مثل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً} (29)[النساء: 29]، وهو مخصوص بما إذا تضمن الإلقاء إلى التهلكة أجرا أو مصلحة كمن يحمل في صف العدو وحده لإعزاز الدين ونكاية الفاسقين، أو يلقى النار في مركبه ويظن السلامة في إلقاء نفسه في البحر، أو يخاطر في صعود حصن أو النزول منه لفتحه على المسلمين أو نحو ذلك.

{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195)[البقرة: 195] عام خص منه من ترجحت إساءته على إحسانه، فالظاهر أنه لا يحبه، وفيما إذا استويا نظر.

ص: 86

{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} عام في بلوغ الهدي محله، فلو كان مع المحرم هدي متعدد، فبلغ بعضه المحل دون بعض لم يحل ولم يجز له الحلق حتى يبلغ جميعه المحل، عملا بمقتضى عموم الاية.

{فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، أي فحلق فعليه فدية، وهو عام في جواز حلق المحرم رأسه للمرض والأذى، ويقاس عليه استباحة سائر محظورات الإحرام للأعذار كاللبس، وتغطية الرأس، وقصر الظفر، والتطيب ونحوه.

{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] هذا عام في كل متمتع في الحج أن يلزمه دم لما أخل به من الإحرام بالحجّ من ميقاته، وذلك بشروط التمتع.

{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] عام في كل متمتع عدم الدم أن يصوم عنه عشرة أيام ويخص بمن عدمه ثم وجده قبل الشروع في الصوم، فإنه يرجع إليه في أظهر القولين، وفي الآخر لا يرجع، ويشرع في الصوم، لدخوله تحت عموم الآية أما إن وجد الهدي بعد الشروع في الصوم فلا يلزمه الرجوع إليه قولا واحدا، وكذا {فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] عام [في] جواز إيقاعها في جميع أيامه ما بين الإحرام به إلى التحلل منه.

{ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} [البقرة: 196] هو عام في كل مكي أو من في حكمه من مجاور، أو من هو منها على دون مسافة القصر أن لا متعة لهم إذ لا خروج عليهم إلى ميقات الحج للإحرام منه حتى يجب الدم للإخلال به.

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَاِتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ} (197) / [51/ل]) [البقرة: 197] عام في النهي عن هذه الأشياء، مطرد إلا في الجدال فإنه مخصوص بما إذا/ [27 ب/م] كان لإقامة حجة أو كشف شبهة فإنه يستحب، وربما وجب خصوصا إن كان الجدال في بعض أحكام الإحرام والحج للعمل به معجلا، فإن هذا يبقى فرض كفاية على العلماء الحاضرين، وكثيرا ما يقع هذا هنالك.

ص: 87

{وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} [البقرة: 197] أي: فيجازيكم عليه، وهو عام في الأمرين علمه والجزاء عليه بدليل:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (29)[البقرة: 29]، {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} (47) [الأنبياء: 47]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (7) [الزلزلة: 7] ونحوه.

{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى} [البقرة: 197] عام مطرد إذ لا أفضل منها زادا.

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاُذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ} (198)[البقرة: 198] عام في نفي الجناح في التجارة في أيام الحج، والأفضل أن لا يفعل ليتجرد قصده للعبادة، ولا تنافي بين نفي الجناح وترك [الأفضل، ولا بين المباح وترك] المندوب.

{فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (200)[البقرة: 200].

عام مطرد في نفي الخلاف نحو {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (20)

[الشورى: 20].

{*وَاُذْكُرُوا اللهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (203)[البقرة: 203] عام في نفي الإثم في التعجل والتأخر، ولا يقتضي ذلك التسوية بينهما، فالتأخر واستكمال أيام منى الثلاث أفضل؛ لأن نفي الإثم أعم من الأفضل والمساوي فلا دلالة له عليهما، وجودا ولا عدما.

ص: 88

ذلك وما صدق عليه، أما العموم فمتعذر عادة؛ إذ لا يقدر على السعي في كل جزء من الأرض] ولا إهلاك كل حرث ونسل.

{وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ} (205)[البقرة: 205] عام مطرد في نفي محبته الفساد، وهو كل قبيح لا نفع فيه، أو كل فعل محض الضرر، أو كل فعل لم يؤذن فيه شرعا.

ويحتج المعتزلة بهذا على أن معاصي العباد ليست خلقا له؛ إذ لو خلقها لأحبها، أو لأنه لا يخلق ما لا يحب، ولأن ما لا يحبه لا يخلقه.

والجواب: أن جميع هذه العبارات منقوضة بالكفار والشياطين/ [52/ل] ونحوهم، قد خلقهم مع أنه لا يحبهم.

{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ} (207)[البقرة: 207] عام في كل عبد أنه لا بد له من شيء من رأفة الله عز وجل.

ولا ينافي ذلك تعذيب بعضهم في الدنيا بالبلايا، والمحن في الآخرة بالنار؛ لأن العموم هنا في لفظ العباد لا في لفظ رءوف، إذ هو مطلق، يصدق بالمسمى كما بيناه بشيء من الرأفة لكل عبد.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (208)[البقرة: 208] عام خص منه من لا خطاب معه، ولا تكليف عليه، وقد سبق أن مثل هذا العام يزيد وينقص.

{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (209)[البقرة: 209] أي: الإسلامية المعهودة، وإلا فكل بينة في الإمكان والقدرة لم تأت.

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (210)[البقرة: 210] عام مطرد في الملائكة يأتي/ [28/م] جميعهم يوم القيامة، وفي الأمور يرجع جميعها إلى الله-عز وجل-فلا أمر لأحد معه.

{سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ} [البقرة: 211] أي: أهل العلم منهم؛ إذ هم أهل السؤال، فهو عام أريد به الخاص.

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} (212)[البقرة: 212].

ص: 89

يحتمل اختصاصه بمن له دنيا وزينة، ويحتمل عمومه بخلق زينة مطلق الحياة الدنيا في قلب كل كافر، ولهذا كانت الدنيا جنة الكافر لزينتها عنده، وسجن المؤمن لتبغيضها إليه، كما زين الإيمان في قلب المؤمن، وكره إليه الكفر.

{وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 212] يحتمل أنه من المؤمنين المعهودين، ويحتمل أنه من المؤمنين الذين شاهدوهم حتى سخروا منهم، فيكون عاما أريد به الخاص.

{وَالَّذِينَ اِتَّقَوْا} [البقرة: 212] عام في المتقين هم فوق الكفار يوم القيامة.

{كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (213)[البقرة: 213] عام فيهم كانوا بعد نوح-عليه السلام-ملة واحدة على الكفر، ثم جاءتهم الرسل فاختلفوا فآمن بعضهم، وكفر بعض.

{فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة: 213] عام فيهم أو لأنبياء معهودين، وهم أصحاب الشرائع والكتب بدليل {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 213]، وأصحاب الكتب معدودون إذ ليس كل نبي جاء بكتاب.

{لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ} عام فيهم خص بمن لا تكليف عليه، إذ لا حكم يتعلق به من حيث هو غير مكلف، وبمن لا اختلاف بينهم إلا حاجة لهم إلى الحكم بينهم.

{فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 213] عام مطرد {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (11)[التغابن: 11].

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} (214)[البقرة: 214] يحتمل أنه عام مطرد، وأن الصحابة امتحنوا بما امتحن به جميع من قبلهم، ويحتمل أنه أريد به المعهود أو الخاص أي قوم ممن كان قبلكم امتحنتم بما امتحنوا.

{مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرّاءُ} [البقرة: 214] أي المعهود منهما أو مسماهما، وإلا

ص: 90

فجنس البأساء والضراء لم يمس قوما بعينهم أو شخصا بعينه، اللهم إلا أن يكون هذا من باب مقابلة الجمع بالجمع فيكون [معناه أن جنس من قبلكم مسهم جنس البأساء والضراء فيجوز].

{حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] يجوز أن يكون اسم جنس فيكون عاما في الرسل، ويجوز أن يكون معناه حتى يقول الرسول منهم فيكون واحدا.

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اِسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (217)[البقرة: 217] عام مطرد.

[قوله عز وجل]: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا} (221)[البقرة: 221] عام خص بالكتابيات يجوز نكاحهن مع شركهن.

وإن قلنا: إن المشركين في عرف الشرع لمن عدا أهل الكتاب من الكفار فهو عام مطرد، لا تخصيص فيه.

{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (221)[البقرة: 221] عام مطرد.

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} أي: في زمن الحيض هو عام في اعتزالهن فيما تحت الإزار، وجواز الاستمتاع بما وراء ذلك ثبت ببيان السّنّة.

{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (222)[البقرة: 222] عام مطرد، ويحتمل تخصيصه بمن تكررت توبته/ [28/ب/م] استهزاء أو لعبا، أو عن غير عزم، وبمن أكثر الطهارة إسرافا ووسواسا ونحو ذلك، فالظاهر أنه لا يحبهما مع دخولهما تحت عموم

ص: 91

التوابين والمتطهرين.

{نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (223)[البقرة: 223] عام مطرد في الأزواج وهن المراد [من النساء]، {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] اعلم أن «أنّى» تستعمل بمعنى «أين» وبمعنى «من أين» ، وبمعنى «كيف» فمن حملها هاهنا على معنى «أين» وهي عامة في المكان قال: المعنى فأتوا حرثكم أين شئتم من قبل أو دبر، وهؤلاء هم الشيعة وطائفة من أهل الحجاز، ويعزى إلى مالك، وقد شاهدناه عنه في كتاب «السر» من نسخة صحيحة متصلة الإسناد إليه، وأصحابه تارة يسلمون صحته عنه، ويدعون رجوعه، وتارة ينكرونه عنه أصلا، وينكرون صحة كتاب «السر» عنه بالأصالة ثم ينقلون من كتاب «السر» مسائل في غير هذا الباب.

والدليل على صحته عنه أن عظم مادته عن نافع عن ابن عمر، وقد نقل ذلك عنهما، أما نافع فقد روي في مسند أبي حنيفة-رحمه الله-أنه قيل له: ما لك لم تأخذ عن نافع؟ فقال: قد قصدته لاخذ عنه؛ فوجدته بين أصحابه، وهو يفتي بجواز وطء المرأة في الدبر، فتركته فلم آخذ عنه شيئا.

وأما ابن عمر فروى عبد الرزاق في تفسيره بإسناده إلى ابن عمر أنه تلا {أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ} (166)[الشعراء: 165، 166] قال يعني مثله من الذكر، قال ابن عمر: ولا ينبغي أن يقال هذا للعوام أو كما قال. / [54/ل]

ومن حملها على معنى كيف أو من أين قال: يأتيها كيف شاء مقبلة ومدبرة وقائمة ومضطجعة ومن أين شاء كذلك لكن في صمام واحد، وهو القبل.

واحتج الأولون بقوله عز وجل: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] على تفسيرهم لها بمعنى أين، وبما روي أن رجلا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أتى امرأته في دبرها، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد لذلك وجدا شديدا، فنزلت {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (223) [البقرة: 223].

قالوا: وهذا ظاهر في إقامة عذر الوطئ، وإزالة موجدة النبي صلى الله عليه وسلم ولأن هذا المكان

ص: 92

المتنازع فيه إما أن يتناوله عقد النكاح أو لا، فإن تناوله وجب القول بإباحة الوطء فيه كالقبل، وإن لم يتناوله وجب أنه إذا أضاف الطلاق إليه أن لا تطلق كما لو أضافه إلى فرج جارتها، وهو باطل، ولأن تفضيل الرجل على المرأة قد ظهر في الإرث والشهادة حتى كان إرثه ضعف إرثها، وشهادته ضعف شهادتها فجاز أن يظهر ذلك في استمتاعه بها بأن يستمتع منها بجهتين، [وتستمتع هي] منه بجهة واحدة على نسبة الضعف له والنصف لها، كالشهادة والإرث.

واحتج الآخرون بالآية على تفسيرهم لها بمعنى كيف أو من أين، وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى ذلك اللوطية الصغرى (1)، ولعن من فعلها (2)، وبأن الله-عز وجل-سماهن حرثا والحرث إنما/ [27/أ/م] يكون حيث يظهر الزرع هو هاهنا القبل الذي هو محل الولد لا الدبر الذي ليس محلا إلا لخروج النجاسة؛ ولأن الوطء فيه مؤذ، أو منجس، فكان حراما كالوطء في الحيض.

وفي المسألة من البحث أكثر من هذا اقتصرنا منه على ما ذكرنا.

{لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ} [البقرة: 225] عام مطرد، ولغو اليمين قيل: هو ما يجري على اللسان عن غير قصد نحو لا والله، وبلى والله، وقيل: هو أن يحلف على شيء يظن أنه بار صادق فيه، وهو في نفس الأمر على خلاف ظنه عن غير قصد منه للكذب.

{وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (225)[البقرة: 225] أي:

بالنيات والعزائم وهو عام مطرد.

وحديث النفس المعفو عنه لا يدخل تحت كسب القلب، حتى يخص به؛ لأن كسب القلب يراد به أمر قارّ، وهو العزيمة والنية الجازمة بخلاف حديث النفس، فإنه ليس كذلك، بل هو من باب الخطرات السيالة التي لا ثبات لها.

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] / [55/ل] عام خص منه الصبي والمجنون، ونحوهما ممن لا يصح إيلاؤه.

ص: 93

{وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ} [البقرة: 228] هذا عام أريد به الخاص، وهن المطلقات [الحوائل ذوات الأقراء]، أو نقول: هو عام مخصوص بالمطلقات الحوامل عدتهن بوضع الحمل بدليل {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ.}

{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)[البقرة: 228] أي بارتجاعهن في العدة، وهو عام مخصوص بمن راجع لا لإرادة الإصلاح، فلا تشرع له المراجعة على ظاهر الآية.

{إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً} [البقرة: 228] لكن هل هذا شرط لجواز الرجعة، أو هو شرط تأديب؟ فيه احتمال، وإذ قد ثبت أن الضمير في {وَبُعُولَتُهُنَّ} [البقرة: 228] للرجعيات فهل يقتضي ذلك تخصيص المطلقات في أول الآية بالرجعيات أم لا؟

فيه قولان للأصوليين: أظهرهما: لا يقتضيه وتكون كل جملة مستقلة بنفسها، لا ارتباط لها بالأخرى حتى كأنه قال: وبعولة الرجعيات أحق بردهن.

والثاني: أنه يقتضيه؛ لأن الضمير في {وَبُعُولَتُهُنَّ} لا يستقل بنفسه دون ظاهر يرجع إليه، وليس قبله ما يصلح مرجعا له إلا المطلقات في أول الآية، ثم الضمير خاص بالرجعيات، فمرجعه وهو للمطلقات يجب اختصاصه بالرجعيات؛ لأن الراجع والمرجوع إليه-أعني الضمير وظاهره-متحدان في المعنى، فلو اختص الضمير وعم الظاهر لزم أن يكون الواحد في المعنى عاما خاصا من جهة واحدة وأنه محال.

ويجاب عن هذا بأن الضمير في {وَبُعُولَتُهُنَّ} إما راجع [إلى النساء] لأنهن مذكورات في الكلام بالقوة وقد سبق {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (223)[البقرة: 223].

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (226)[البقرة: 226] أو أن الضمير المذكور وضع موضع الظاهر اختصارا/ [27 ب/م] كما يوضع الظاهر موضع الضمير تعظيما فكان التقدير: وبعولة [النساء: أو بعولة]

ص: 94

الرجعيات أحق بردهن، وحينئذ يستقل بنفسه ولا يرتبط بالمطلقات قبله حتى يخصصهن، وهذا بحث جيد من الطرفين، فتأمله إن شاء الله-عز وجل.

وهذه من مشهورات مسائل العموم والخصوص في أصول الفقه، ويترجمونها بما إذا تعقب ضمير خاص، هل يخصصه أم لا، ويوردون لها هذا المثال بعينه.

{وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)[البقرة: 228].

أي: من حيث هم رجال، فهو عام مطرد ونظيره {الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ} [النساء: 34] إما بالنظر إلى أشخاص الرجال والنساء، فرب امرأة لها على الرجال درجات.

{الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} (229)[البقرة: 229].

أي: إذا طلق الرجل امرأته لا يحل له أن يرجع عليها بشيء من مهرها؛ لأنها استحقته بما استحل منها، وهذا عام خص بما بعده وهو {إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما} [البقرة: 229] فيخص العموم المتقدم بما إذا خاف الزوجان في المقام على الزوجية الإثم بسوء العشرة بينهما، وتمانعهما حق الزوجية وأن لا يقيما حدود الله بينهما، ويأبى الزوج طلاقا بلا عوض، فحينئذ يجوز لهما أن يصطلحا على شيء تبذله الزوجة له، إما المهر الذي ساقه إليها أو بعضه أو غير ذلك من المال، ويطلقها افتداء لنفسها منه بذلك.

ومن الإثم بالمقام، وهذا كما قالت المرأة الأنصارية، وقد تشعث الحال بينها وبين زوجها: يا رسول الله، إني لا أنقم من فلان شيئا غير أني أكره الكفر في الإسلام. تعني أنها تخشى أن لا يقوم بينهما حدود الله فتأثم أو نحو هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أتردين عليه حديقته؟ » يعني التي كان قد ساقها إليها مهرا قالت: نعم. فقال للزوج: «يا فلان، خذ

ص: 95

الحديقة وطلقها تطليقة» (1)، ففعل وهذه القصة إما أنها سبب نزول هذه الآية، أو أنها محكوم بالآية فيها، {فَإِنْ طَلَّقَها} يعني بعد المرتين السابقتين، {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ، } هذا عام خص بالغاية بعده، وهي حتى تنكح زوجا غيره، {فَإِنْ طَلَّقَها} يعني الزوج الثاني المحلل لعودها إلى الأول، فلا جناح عليهما أي على المرأة، ومطلقها الأول ثلاثا، {أَنْ يَتَراجَعا} أي يرجعا إلى النكاح بعقد وعدد جديد، وهذا عام بما بعده وهو الشرط.

{فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 230].

أمره ونهيه في حقوق الزوجية، فالعموم المذكور مخصوص بما إذا لم يظنا إقامة الحدود بعد التراجع، فلا يجوز لهما، وحاصله أنهما إن ظنا إقامة الحدود بعد التراجع جاز وإلا فلا، فإن قيل: ما الحكمة في أنها لا تحل لمطلقها ثلاثا إلا بعد نكاح زوج ثان؟ قلنا: زجر الرجال عن الطلاق؛ لأن من علم أن زوجته إذ طلقها ثلاثا لا يقدر عليها إلا بعد/ [28 أ/م] أن ينكحها غيره، وذلك مما تأنف منه الطباع والنفوس الأبية احتملها على ما كان منها، واستبقاها فلم يطلقها خشية ما يأباه طبعه من نكاح الزوج الثاني.

فكان في اشتراط النكاح الثاني استبقاء النكاح الأول على نحو {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (179)[البقرة: 179].

إذ في القتل استبقاء الحياة، أو نقول: في النكاح نفي الطلاق، كما في القصاص نفي الجناية.

قوله عز وجل: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] عام مطرد؛ لأن من طلق المرأة طلاقا رجعيا، ثم كلما قارب انقضاء عدتها راجعها إضرارا بها وعدوانا، فقد ظلم نفسه بالإثم فيها لتعويقها عن مصلحتها وحبسها/

ص: 96

[57/ل] على ما تكره، وكذلك من راجعها وأمسكها بغير المعروف ضرارا عدوانا، والآية تحتمل الوجهين، والأشبه بالمراد الثاني.

{وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً} [البقرة: 231] عام مطرد في تحريم الاستهزاء بآيات الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ} [التوبة: 65].

{* وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (233)[البقرة: 233] هو ونظائره حجة في عدم تكليف ما لا يطاق، وآخر السورة أليق به من هاهنا، إن شاء الله-عز وجل.

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (234)[البقرة: 234] هذا عام خص منه المتوفى عنها الحامل عدتها بوضع الحمل، بدليل {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ} ولحديث سبيعة الأسلمية (1)، وذهب قوم إلى أن الحامل المتوفى عنها تعتد بأطول الأجلين من وضع الحمل وعدة الوفاة، روي ذلك عن علي وابن عباس، وأبي بن كعب، وغيرهم؛ لأن دليل العدتين صادق عليها، إذ هي متوفى عنها ومن ذوات الأحمال، والنسب مما يحتاط له، والاحتياط في اعتدادها بأطول الأجلين فكان واجبا.

ولعل هؤلاء لم يبلغهم حديث سبيعة أو لم يصح عندهم، أو نحو ذلك مما رأوه من وجوه الاجتهاد.

{فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 234]، {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا}

ص: 97

{تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (235)[البقرة: 235] عام مطرد {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ} [البقرة: 235] أي: لا تعقدوا على المعتدة هو عام خص بالغاية بعده {حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] أي تنقضي عدتها فحينئذ يجوز عقد النكاح عليها.

{يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] عام مطرد {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (29)[البقرة: 29].

{حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ} (238)[البقرة: 238] عام مطرد في المكتوبات {وَالصَّلاةِ الْوُسْطى} [البقرة: 238] عطف خاص على عام، وهي العصر على الأصح من سبعة عشر قولا (1).

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (240)[البقرة: 240] المشهور أنها نسخت بعدة أربعة أشهر وعشرا.

وحكي عن مجاهد أو غيره من أهل العلم أنها/ [28 ب/م] نسخت في الاعتداد بالحول، أما الوصية لها فلم تنسخ، فتعتد بأربعة أشهر وعشر بالآية السابقة، ويصرف لها من تركة الزوج نفقة سبعة أشهر وثلثي شهر تمام نفقة الحول بهذه الآية.

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ} [البقرة: 240] عام مطرد كنظيرها السابق.

{وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (241)[البقرة: 241] اختلف الناس فيها فمنهم من طرد عمومها وأوجب المتعة لكل مطلقة، وهو ما يعطاه من مال على الموسر قدره وعلى المقتر قدره، ويتولى تقديرها الحاكم، ومنهم من لم يجعل المتعة إلا

ص: 98

لمن طلقت قبل الدخول بها/ [58/ل] وفرض المهر لها، فيكون لفظ المطلقات إما مخصوصا عنده بمن سوى هذه المذكورة، أو عاما أريد به الخاص، وهو هذه المذكورة.

ودليل التخصيص قوله عز وجل: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (236)[البقرة: 236] وبقوله-عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً} (49)[الأحزاب: 49].

ومنهم من قال: تجب المتعة لكل مطلقة إلا لمن دخل بها، وسمى مهرها، فلا تجب لها المتعة لمفهوم قوله-عز وجل:{ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236]، فإن مفهوم هذا أن الممسوسة المفروض لها صداق لا متعة لها، ويخص بهذا المفهوم عموم {وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (241) [البقرة:

241] ولأن المتعة كالعوض عن المهر، فلو جمع بينهما كان جمعا بين العوض والمعوض منه وهذا أشبه في النظر، لأنه يتضمن العمل بالأدلة جميعها [منطوقها ومفهومها].

وهذه الأقوال الثلاثة روايات عن أحمد-رحمه الله-وجهها ما ذكرنا.

{* إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ} (243)[البقرة: 243] عام مطرد، أما قوله عز وجل:{*أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ} [البقرة: 243] فعام في جميعهم إماتة وإحياء، وكانوا ثمانية آلاف، وقيل: اثنا عشر ألفا، وقيل: ثلاثون ألفا، وهو حجة على إمكان المعاد، وبعث الأجساد، خلافا للفلاسفة والنصارى إذ قصروا المعاد على الروحاني دون الجسماني

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (245)[البقرة: 245] عام مطرد لا يتخلف أحد عن الرجوع إليه عز وجل.

ص: 99

الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (246)[البقرة: 246] عام خص بالاستثناء المذكور.

وزعمت الشيعة أن هذه الآية مثل ضربه الله-عز وجل-لأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، وأن بني إسرائيل كما تولوا عن ملكهم الذي هو منصوب نبيهم إلا قليلا منهم، كذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تولوا عن إمامهم الذي هو منصوب نبيهم إلا قليلا منهم، وليس ما ذكروه بنص فيما ادعوه ولا ظاهر.

قال: {وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (247)[البقرة: 247].

احتجت الشيعة به على أن عليا هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره: / [29 أ/م] أن بني إسرائيل لما عين لهم طالوت ملكا امتنعوا من تمليكه عليهم، معللين بفقره وخمول نسبه فقالوا:{أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ} [البقرة: 247] فأجابهم نبيهم بقوله: {إِنَّ اللهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247].

وجعل هذه الصفات سببا لاستحقاق التقدم عليهم قالوا: وهذه الصفات الثلاث كانت/ [59/ل] لعلي دون أبي بكر، أما الاصطفاء فلأن النبي صلى الله عليه وسلم اصطفى عليا بالنص عليه يوم الغدير حيث قال للناس:«ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» قالوا بلى، قال:

«فمن كنت مولاه فعلي مولاه» (1).

قالوا: وهذا بعد كل اعتراض وبعد كل سؤال وجواب قاطع في استخلاف علي عليهم، ويدل عليه حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن عليا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي» رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح، وروى أحمد أيضا في

ص: 100

كتاب فضائل علي من حديث بريدة بن الخصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عليا مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي» هكذا بكاف الخطاب، قالوا: والمفهوم من الولي هو الرئيس المطاع وهو معنى الإمام، وهذا هو المفهوم من قولنا: ولي المرأة، وولي اليتيم، أي: الرئيس المطاع عليهما النافذ تصرفه فيهما. قالوا: وهذه أخبار الآحاد، وإن كنا لا نقول بها، لكنها تلزمكم؛ لأنها حجة عندكم فنحن نوردها إلزاما لكم لا استدلالا عليكم.

وأما أبو بكر فليس منصوصا عليه باتفاق، لأن مستند بيعته عندكم الاختيار والإجماع، ولو كان منصوصا عليه لما احتيج إلى ذلك، قالوا: فهذا الاصطفاء وهو معنى النص قد ثبت لعلي دون أبي بكر، وأما البسطة في العلم فلقوله صلى الله عليه وسلم «أقضاكم علي» ، وإنما يكون أقضاهم إذا كان أعلمهم، ولأن من المشهور أنه كان له من الخوض في طلب العلم ما لم يكن لأبي بكر، بدليل أن الصدقة بين يدي [نجوى] الرسول-عليه الصلاة والسلام-لم يعمل بها أحد سوى علي، حتى كان معه عشرة دراهم هو محتاج إليها؛ فآثر تحصيل العلم على ضرورته وتصدق بها حتى استفاد من النبي صلى الله عليه وسلم-عشر مسائل، ولم يعرف مثل ذلك لغيره، وكذلك نفوذه في الفقه وسرعة أجوبته في المشكلات كالمسألة المنبرية والدينارية وغيرهما مما لم يكن لغيره يدل على أنه كان أبسط في العلم من أبي بكر وغيره.

وأما البسطة في الجسم يعني القوة والشجاعة، فلا يشك منصف أنه كان أشجع الصحابة أبي بكر وغيره، أما أولا؛ فلأن أبا بكر على ما ذكر في صفته كان شيخا ضئيلا نحيفا/ [29/م] ولو لم يكن إلا إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ضعيف/ [60/ل] في بدنه حيث قال:«رأيته ينزع بذنوب، وفي نزعه ضعف والله يغفر له (1)، وقوله: «إن تولوها أبا بكر تجدوه ضعيفا في بدنه قويا في أمر الله» -لكان كافيا في ضعف بدنه.

وأما علي فبالتواتر أنه كان عظيم الجسم، شديد القوة، عظيم المشاش، ما صارع أحدا إلا صرعه، ولا أمسك بعضد أحد إلا أخذ بنفسه، وإنما سمي حيدرة تشبيها له بالأسد في الخلقة والقوة، وكان مع ذلك شابا في عنفوان شبيبته، ولا يشك أحد أن الشاب القوي الجلد أشد وأشجع من الشيخ الضعيف النحيف.

وأما ثانيا فإن خالد بن الوليد كان هو العلم المشهور في الصحابة بالشجاعة، ثم لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم وعليا إلى اليمن أمّر عليا عليه وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم في كل أمر أقوم الناس

ص: 101

به، فلولا أن عليا أشجع من خالد لما قدمه عليه، والأشجع من الأشجع أشجع بالضرورة، فإن قال قائل: إن الشجاعة ليست بقوة البدن الظاهرة، وإنما هي بقوة القلب الباطنة، فرب شيخ ضعيف نحيف أشجع من شاب قوي جليد.

قلنا: فدعونا من هذا، فقد أجمعت العرب وأهل الأدب على أن أشجع بيت قيل قول عباس بن مرداس:

أكر على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواها

ولا خلاف أن عليا كان أقوم بهذه الصفة، وأقدم على الحروب من أبي بكر، قالوا:

ولو أبطلتم لنا كل حجة على ذلك قلنا حجة تضطرون إلى تسليمها ولا تستطيعون إبطالها، وهي أن الأصوليين إذا أرادوا إثبات الإجماع بقوله عليه الصلاة والسلام:«أمتي لا تجتمع على ضلالة» (1)، وحاولوا إثبات تواتر هذا الخبر. قالوا: تواتر تواترا معنويا حتى صار كشجاعة علي، وسخاء حاتم، فلا تراهم يضربون المثل إلا بشجاعة علي، ولو كان أبو بكر أشجع لكان أولى بضرب المثل بشجاعته، وأيضا فإنهم قرنوا شجاعة علي بسخاء حاتم، ثم لما كان حاتم أجود العرب، وجب أن يكون قرينه في ضرب المثل أشجع العرب، فهذا مما لا جواب عنه ولا خلاص منه.

قالوا: فثبت أن الصفات التي احتج بها نبي بني إسرائيل عليهم في تقديم طالوت مختصة بعليّ دون أبي بكر، فوجب أن يكون عليّ أولى بالتقديم من أبي بكر كما/ [61/ل] كان طالوت أولى بالتقديم على بني إسرائيل.

وقد ورد الأثر بأن عليا طالوت هذه الأمة، وهو إشارة إلى ما قررناه من كونه واجب التقديم عليها كما وجب تقديم طالوت.

هذا ما قررت به الشيعة إمامة عليّ من هذه الآية ومناقضته على التفصيل يطول، وربما تعذر في البعض، وإنما/ [30 أ/م] أجاب الجمهور عنه بانعقاد الإجماع بموافقة عليّ على

ص: 102

إمامة أبي بكر، فإذا سلم صاحب الحق فكلام الشيعة بعد ذلك فضول محض.

{فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ} (249)[البقرة: 249]، استروح إلى هذه ونحوها بأن قالوا: قلتنا بالنسبة إلى الجمهور لا تدل على أننا مغلوبون في الحجة، ولا على أنهم مستأثرون بالحق، إذ كم من قليل غلب كثيرا.

وأجاب الجمهور بأن قالوا: نحن السواد الأعظم فمن شذ عنا شذ في النار.

وهذه المسائل وكل مسألة يذكر الخلاف فيها بين الجمهور والشيعة فهي من مسائل الإمامة وتوابعها، وهي من قسم أصول الدين.

{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ} (251)[البقرة: 251] عام أريد به الخاص، أي: الملك على بني إسرائيل، وحكمة مخصوصة إذ من المعلوم أن داود-عليه السلام-لم يؤت جنس الملك ولا جنس الحكمة، إذ ذلك ليس إلا لله-عز وجل-الذي عم ملكه وحكمته.

{وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] هو عام مطرد في الناس وفي المسكون من الأرض، إذ المعنى لفسد حال أهل الأرض، وأرض لا ساكن بها لا يتأتى ذلك فيها.

{وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ} (251)[البقرة: 251] عام مطرد، إذ لا أحد من العالمين إلا ولله-عز وجل-عليه فضل. [قوله عز وجل]:

ص: 103

اِقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)[البقرة: 253] اعلم أن للرسل مراتب وهم درجات عند الله، وإنما ورد النهي عن التفضيل بينهم لئلا يوهم ذلك الغض من المفضول [منهم] وتنقصه، وجانبهم مصون عن مثل ذلك، وهذه من مسائل الرسل من أصول الدين نحن ذكرناها وقليلا ما تذكر.

{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ} [البقرة: 253] يحتج به من يرى القرآن وكلام الله-عز وجل -هو العبارات المسموعة، وأنه-عز وجل-يتكلم بحرف وصوت قالوا: والإشارة إلى موسى الكليم، ولولا أنه كلمه كلاما مسموعا/ [62/م] عرفا لما كانت له خصيصة على غيره إذ قد كلم الله-عز وجل-غيره وحيا وإلهاما وغير ذلك، فدل على أن لكلامه موسى خصيصة على الجميع، وليس إلا لما ذكرنا من أنه كلمه بكلام مسموع.

وأجاب الأشعرية [وسائر أهل الحق] بأن الله-عز وجل-كما ترى ذاته وليست جوهرا ولا عرضا كذلك يفهم كلامه وليس بصوت ولا حرف، وأكثر ما فيه خلاف العادة والمألوف في الشاهد وهو مشترك بين المسألتين، وهذا النائم يفهم الكلام في النوم من غير صوت ولا حرف في الخارج، ومعتمد هؤلاء أن الصوت والحرف لا يعقل إلا من جسم، والله-عز وجل-ليس بجسم، ومعتمد الآخرين أن الكلام المفهوم لا يعقل إلا/ [30 ب/م] بصوت وحرف، وربما أجاب الأولون بأن الكتابة والإشارة تفهم المراد، ولا صوت ولا حرف، وأيضا كما أن تأثيره-عز وجل-في إيجاد خلقه بلا علاج كذلك تأثيره في أسماعهم وأفهامهم بلا صوت ولا حرف ولا حركة، وكما أنه يرى بلا جارحة ولا انطباع ولا خروج شعاع، كذلك يتكلم بلا حركة [ولا صوت ولا حرف].

{وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اِقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ} (253)[البقرة: 253] يحتج به الجمهور على أن الله-عز وجل-مريد لجميع الكائنات خيرها وشرها؛ لأن اقتتال هؤلاء المشار إليهم شر، وقد أخبر أنه بإرادته، وأنه لو شاء أن لا يكون لما يكون.

والمعتزلة هاهنا يضطرون ويتلجلجون، وإلى التأويلات البعيدة جدا يلجأون؛ كقولهم:

لو شاء الله إجبارهم على ترك الاقتتال لأجبرهم عليه، فلم يقتتلوا، ولكنه تركهم واختيارهم، فلذلك اقتتلوا وهو كما تراه، وهذا هو جوابهم في كل موضع ذكرت فيه المشيئة وظاهرها عليهم يتأولون الإجبار.

ص: 104

وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ (254)[البقرة: 254] عام مطرد، ليس هناك بيع يعقد، ولا فدية تقبل (ولا خلة) أي: ولا صداقة، إذ لا صداقة ولا غيرها تنفع يومئذ من أمر الله.

حتى إن إبراهيم خليل الرحمن لا يملك لأبيه نفعا، فيؤخذ برجليه ويديه في صورة ضبعان فيلقى في النار، ويحتمل أنه مخصوص بخلة المتقين، / [63/ل] فإنها نافعة من بعضهم لبعض بالشفاعة والإيثار بالحسنات ونحو ذلك لقوله-عز وجل:{الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ الْمُتَّقِينَ} (67)[الزخرف: 67] أي: فلا عداوة بينهم فهم أصدقاء وأخلاء.

{وَلا شَفاعَةٌ} يحتج بها المعتزلة في نفي الشفاعة لمن مات غير تائب، وقد سبق.

واحتجاجهم بعمومه وعند الجمهور هو خاص بالكفار لا شفاعة لهم ولا فيهم، بخلاف المؤمنين فإنهم يشفعون ويشفع فيهم.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ} (254)[البقرة: 254] عام مطرد، وليس المراد أن مطلق الظلم محصور فيهم بل إن أعظم الظلم وهو الكفر محصور فيهم.

{اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} [البقرة: 255] عام مطرد فما من إله إلا الله.

{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} عام مطرد.

{لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255] عام مطرد، وكذا الجمل الأربع بعدها عامة مطردة إلا {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (255) [البقرة: 255] فإنه خص بالاستثناء بعده.

{لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] عام خص بالمرتد يجبر على الإسلام ونحوه من صور الإكراه بأدلتها.

{قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] أي في الإيمان والكفر تبين الحق من الباطل والرشد من الضلال، فالحق هو الإسلام والباطل ما عداه، فهو عام مخصوص، إذ ليس الرشد

ص: 105

من الغي واضحا في كل شيء، بل الأمور كلها إما أمر تبين رشده أو أمر تبين غيه، فهذان طرفان واضحان/ [31 أ/م] أو أمر اشتبه رشده بغيه، وهو واسطة بينهما فحكمها أن يستعمل فيها النظر والاستدلال، ولا بد معه من مساعدة التوفيق والهداية الربانية.

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا اِنْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)[البقرة: 256] هذه الجملة عامة مطردة.

{اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (257)[البقرة: 257] اعلم أن ولاية الله-عز وجل-لخلقه على أقسام؛ عامة وخاصة وأخص.

فالعامة؛ ولايته للمؤمنين باعتبار الإيمان يدخل فيها العدل والفاسق والمتبع والمبتدع وغيرهم، وإذ لولا توليته إياهم وعنايته بهم لما وفقهم للإيمان وأخرجهم من ظلمات الكفر والطغيان.

والخاصة؛ وهي ولاية الصالحين.

والأخص؛ ولاية المقربين.

فالآية المذكورة عامة مطردة بالاعتبار/ [64/ل] الأول لا غير.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (257)[البقرة: 257] عام بشرط الموافاة على الكفر.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} (258)[البقرة: 258] تضمنت هذه الآية مناظرة بين إبراهيم ونمروذ فلنقرها وهي في إثبات إلهية الله-عز وجل دون نمروذ، قال إبراهيم:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، } وهذا استدلال منه-عليه السلام-معناه: إنك يا نمروذ لست ربي ولا رب غيري؛ لأنك تحيي ولا تميت، والرب حقيقة هو من يحيي ويميت فأنت لست برب، وهذا قياس من الشكل الثاني.

ص: 106

قال نمروذ: {قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] وهو اعتراض على دليل إبراهيم وتقديره: لا أسلم مقدمتك الأولى بل أنا أحيي وأميت.

قال إبراهيم: {فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:

258] بعض الناس زعم أن هذا انتقال من إبراهيم عليه السلام عن تمشية الدليل الأول، واستدل به على جواز الانتقال في الجدال، واعلم أن هذا الكلام غير محرر، بل الانتقال في المناظرة على ضربين: أحدهما: يكون للعجز عن تمشية الدليل الأول، وهو انقطاع.

والثاني: يكون مع القدرة على تمشية الدليل الأول]، وهذا يسمى تنزيلا على تقدير التسليم، وهذا هو الذي استعمله إبراهيم عليه السلام؛ لأن نمرود لما قال: أنا أحيي وأميت كان هذا دعوى منه تضمنت منع دليل إبراهيم، ثم يقال: إن نمروذ بين مستند منعه بأن أخرج شخصين من السجن قد وجب عليهما القتل؛ فأطلق أحدهما، وقال: قد أحييته، وقتل الآخر، وقال: قد أمته. فرأى إبراهيم أن خصمه يغالطه بالمجاز عن الحقيقة، فانتقل إلى ما لا يقدر فيه على المغالطة، فقال: على تقدير أنك تحيي وتميت، فإن لربي فعلا آخر، به وبأمثاله استحق الإلهية، وهو أنه يصرف الشمس وأنت لا تصرف الشمس، فأنت لست برب.

ثم إن إبراهيم إنما طالبه بتصريف الشمس من المغرب على خلاف العادة؛ لأنه رأى من نمروذ [31 ب/م] الشغب والمكابرة والمغالطة والوقاحة وقلة الحياء والإنصاف في المناظرة، فخشي إن قال له فأت بها من المشرق أيضا أن يقول له: نعم أنا آتي بها من المشرق، ثم يصبر حتى تطلع منه يقول: ها قد أطلعتها من المشرق، أو يدعي ذلك بوقاحته فيحتاج إبراهيم إلى ما يبطل به/ [65/ل] تلك الدعوى، وفي ذلك تطويل البحث وانتشاره، فاستراح من ذلك بأن طلب منه ما يعجزه، وهو أن يأتي بها من المغرب.

{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] أي انقطع؛ لأنه إن ادعى أنه يأتي بها كذلك عجز عن تحقيق دعواه [وإن اعترف بالعجز عن ذلك ظهر نقصه وبطلان دعواه] الإلهية.

وإنما قلنا: إنه في الدليل الأول غالط بالمجاز عن الحقيقة، لأن إبراهيم عليه السلام، إنما ادعى لربه الأمانة الحقيقة، وهي نزع الروح الحيواني عن الجسد بغير علاج محسوس، والإحياء الحقيقي، وهو إعادة الروح إليه بعد نزعها منه.

والنمروذ إنما أثبت لنفسه مجاز ذلك وهو استبقاء الحياة في الإحياء وتفويتها بالعلاج المحسوس في الإماتة، وذلك مما يقدر عليه اللصوص والشلوح وقطاع الطريق، فلا مزية

ص: 107

لنمروذ فيه، وقد تضمنت هذه الآية جواز المناظرة في طلب الحق، وتقرير الأدلة، وحذف بعض مقدماتها للعلم بها، وهو المسمى قياس الإضمار، والتنزل مع الخصم على تقدير التسليم، وإبطال الشبه والشكوك، وإلزام الخصم ما يفهمه، وجواز مناظرة السوفسطائية ونحوهم من منكري الحقائق ونحوهم، بما يقيم الحجة عقلا أو حسا، وقيام الحجة بانقطاع الخصم وانقطاعه بالعجز عن تمشية الدليل إذ لم يكن خائفا، وتضمن شرف علم الجدل والأصول والنظر في المعقول، والكلام في التوحيد به، وإمام الناس فيه إبراهيم عليه السلام.

[فلا جرم] قيل: {وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اِجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاِعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78)[الحج: 78].

{وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (135)[البقرة: 135].

{ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (123)[النحل: 123]، ولا جرم لما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم ورد كتابه القرآن مملوءا من المباحث الجدلية مشحونا بالحقائق النظرية، في هذا منقبة عظيمة للمتكلمين والأصوليين وأهل النظر. ولكن أكثر الناس لا يعقلون ولأجل هذا وضعنا هذا الكتاب.

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَاُنْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَاُنْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (259)[البقرة: 259].

هذا من حجج البعث والمعاد كما في إحياء البقرة الألوف {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ}

ص: 108

أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاِعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)[البقرة: 260].

اعلم أن من الناس من زعم أن إبراهيم شك في القدرة على إحياء الموتى/ [66/ل] حكاه القرطبي عن الطبري، واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام:«نحن أحق بالشك من إبراهيم» (1) وليس هذا بشيء، إذ برهان القدرة واضح، فكيف يخفى مثله على إبراهيم مع استخراجه حدوث العالم وقدم/ [32، /م] الصانع بلطيف النظر من أفول الكوكب والشمس والقمر، وإذا كنا لا نظن ذلك بذي النون حيث {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} (87) [الأنبياء: 87] حتى تأولناه على خلاف ظاهره مما يدفع ذلك عنه مع أن رتبة إبراهيم أعلى منه فكيف نظنه بإبراهيم.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فليس معناه إثبات الشك من إبراهيم، وإنما هي نفي للشك عنه بطريق أولى، ومعناه لو شك إبراهيم لكنا [بالشك أولى] منه؛ لقصورنا في المعرفة عنه، لكنا نحن لم نشك فإبراهيم أولى أن لا يشك، وهذا تأويل جيد للحديث، ثم أورد بعضهم هاهنا سؤالا وهو: أن قول إبراهيم: بلى. يقتضي أنه آمن، أي:

بلى آمنت، وقوله:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] يقتضي أن قلبه لم يطمئن إلى الآن، لكن الإيمان تلزمه الطمأنينة وحينئذ يصير كأنه قال: آمنت ما آمنت، أو اطمأن قلبي ولم يطمئن وهو تناقض.

والجواب: [أنه قد قيل: معناه، بلى] آمنت بالقدرة، ولكن ليطمئن قلبي بالخلة، وكان قد جعل إظهاره على إحياء الموتى علامة على اتخاذه خليلا، وعلى هذا فلا تناقض، وهذا وإن كان قريبا ممكنا غير أن المختار غيره، وهو الإيمان يستند إلى العلم والعلم له مراتب:

علم اليقين هو ما حصل عن النظر والاستدلال، وعين اليقين وهو ما حصل على شهادة وعيان، وحق اليقين وهو ما حصل عن العيان مع المباشرة، فالأول كمن علم بالعادة أن في البحر ماء.

ص: 109

والثاني: كمن مشى إليه حتى وقف على ساحله وعاينه.

والثالث: كمن خاض فيه، واغتسل وشرب منه، وإذا عرفت هذا فإيمان إبراهيم عليه السلام بالقدرة على إحياء الموتى قبل أن يراه كان عن علم يقين نظري، فأراد أن يطمئن قلبه بالإيمان بذلك عن عين اليقين، فلذلك قيل له: خذ أربعة من الطير إلى آخره، أي:

باشر هذا الأمر ليحصل لك عين اليقين عيانا وحق اليقين مباشرة.

وفي الحديث: «ليس الخبر كالعيان» إن موسى بلغه أن قومه قد فتنوا فلم يتغير فلما رآهم عاكفين على العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه، وفي هذا المعنى قيل:

ولكن للعيان لطيف معنى

له سأل المعاينة الكليم

وحينئذ يكون معنى الكلام: بل آمنت عن/ [67/ل] نظر واستدلال، ولكن أريد طمأنينة القلب بنظر العيان، وهذه أيضا دليل على إمكان البعث.

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (261)[البقرة: 261]، هذا عام مطرد، أما المرائي فليس منفقا في سبيل الله، فلذلك لم ينتفع بإنفاقه، غير أن في هذه الآية إطلاقا قيد في الآية بعد بقوله-عز وجل:{ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً} [البقرة: 262] فصارت/ [32 ب/م] مضاعفة الصدقة إلى سبعمائة ضعف مشروطة بعد المن والأذى، وصار تقدير الآية: مثل الذين ينفقون أموالهم [في سبيل الله ثم] لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى، {لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى} [البقرة: 264] عام في بطلان الصدقات بذلك والمن تذكير النعمة، والأذى إلحاق ضرر بالسائل دون أخذها كانتهاره، وزجره وتقريعه ونحو ذلك.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} (264)[البقرة: 264] عام مطرد؛ إذ أعمال الكفار والمرائين هباءا منثورا.

ص: 110

غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)[البقرة: 267] يستدل به على تعلق الزكاة بكل ما يخرج من الأرض من معدن ونبات وثمر، لكن خص العلماء من أشياء بأدلة وحدّدها، وبقيت الزكاة في الباقي كالركاز والمعدن، والعنب والرطب، والمكيل المدخر على تفاصيل فيه.

{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ} (269)[البقرة: 269] عام مطرد، لكن ما هذه الحكمة؟ فالأشبه أنه العلم الموصل إلى معرفة وجود الله-عز وجل-وما يجوز عليه، وما لا يجوز، وإلى معرفة معاملته، فالأول: علم أصول الدين، والثاني: علم الفقه لأدب الظاهر، وعلم الأخلاق وأعمال القلوب لأدب الباطن، وذلك لأن المكلف لا بد له من اعتقاد يلقى الله عز وجل-به، وعمل ظاهر يقيم به رسوم التكليف، وأدب باطن يقيم به رسم العبودية، فهذه العلوم الثلاثة أركان الحكمة، والقيم بالأول المتكلمون، وبالثاني الفقهاء، وبالثالث محققو الصوفية كشيخ الإسلام في مقاماته ونحوه.

فأما الحكمة التي هي عبارة عن المنطق والإلهي والطبيعي والرياضي، فهي حكمة فلسفية باصطلاحهم والخطر في الإلهي منها عظيم على رأيهم، فلا يليق النظر فيه إلا لمتضلع من الحكمة الأولى وعلوم الشرع.

وقد [68/ل] يحتج الفلاسفة على أن الحكمة في الآية هي حكمتهم المذكورة لقوله- عز وجل-عقيب ذلك: {وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ} [البقرة: 269] والتذكر:

النظر، والألباب: العقول، فهو إذن إشارة إلى أن الحكمة المذكورة إنما طريق إدراكها نظر العقل. وحكمتنا أحق بذلك؛ لأنها مؤسسة على النظر والاستدلال العقلي.

{وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ} (270)[البقرة: 270] أي فيجازى عليه، وهو عام مطرد.

ص: 111

لا يقدر عليه إلا الله-عز وجل، وهو المراد هاهنا، وقد أخبر الله-عز وجل-أنه مستبد به يهدي، من يشاء، ويحتج به الجمهور على أن الإنسان لا يملك هدى نفسه، والحجة معهم، خلافا للمعتزلة إذ عندهم أن العقل كاف في المعرفة والنظر، ومخلوق للناظر، والعلم متولد عنه والهدى تابع للعلم بتحقيق الحجة وكشف الشبهة وذلك يقتضي أن هداهم مخلوق لهم.

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (274)[البقرة: 274].

قالت الشيعة: نزلت هذه في علي؛ كان معه أربعة دراهم، أنفق درهما ليلا، ودرهما نهارا، ودرهما سرا، ودرهما علانية، فنزلت هذه الآية ذكره عبد الرزاق في تفسيره.

قالوا: وليس مثله لأبي بكر ولا غيره فيكون أفضل، وعارضه الجمهور بنحو:

{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} (17)[الليل: 17].

{وَما لَكُمْ أَلاّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (10)[الحديد: 10].

{وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (33)[الزمر: 33]{إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)[التوبة: 40].

ص: 112

النظم الواضح يقتضي أن يقال: «إنما الربا مثل البيع» فالعدول إلى عكسه غير متضح، والجواب أن الكفار إنما أرادوا بقولهم {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة: 275] المناقضة والإلزام كأنهم قالوا: يعاب علينا الربا والبيع مثله، فمن أنكر علينا الربا لحصول التغابن فيه لزمه إنكار البيع لحصول التغابن فيه. / [69/ل].

ولو قالوا: إنما الربا مثل البيع، لكان ذلك قياسا، كأنه قيل: الربا صفقة تضمنت تفاضلا وتغابنا فكان حلالا كالبيع، [لكن هؤلاء إنما قصدوا] الإلزام والمناقضة لا القياس والمماثلة، وإنما ذكرنا هذا لكونه سؤالا كثير إيراده واستشكاله، ولتعلقه بالقياس [والنص والإلزام]، وذلك من مسائل أصول الفقه.

{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] هذا فيه حجة قوية للظاهرية في اعتبارهم الظواهر السمعية، دون العلل القياسية، وتقرير ذلك أن أكلة الربا لما أوردوا مناقضتهم المذكورة أجابهم الله-عز وجل-بالحكم الإلهي فقال:{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فيجب عليكم متابعة هذا الحكم المنصوص، ولم يحتج عليهم بحكمة تحريم الربا المناسبة مع أنها ظاهرة مؤثرة، وهي أن الربا إنما يكون مع اتحاد الجنس أو العلة، فالغبن فيه لازم لا يستدرك بخلاف البيع، فإنه يكون مع اختلاف الجنس فالغبن فيه يمكن استدراكه، مثاله: لو اشترى ثوبا بعشرين وهو/ [33 ب/م] يساوي عشرة، أمكن أن تبيعه بعشرين أو أكثر، لرغبة أو ارتفاع سوق ونحوه، أما لو اشترى مد قمح بمدين، فيبعد أن يرد له المد الواحد مدين [إلا ويرد] المدان البائع أربعة أمداد، اللهم إلا أن يختلفا بالجودة والرداءة بحيث يساوي المد الجيد مدين رديئين.

لكن الجودة الرداءة هاهنا غير معتبرة طردا للباب في المنع، ولو كانت هذه الحكمة القياسية حجة لاحتج بها عليهم؛ لأنها أشبه بإلزامهم المذكور، وأقرب إلى عقولهم، فلما لم يحتج عليهم بها بل بالنص القاطع للحجة، دل على، لا حجة في العلل والمناسبات وصار هذا كما قال لإبليس:{قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (12)[الأعراف: 12]، احتج عليه بالأمر، ولم يسمع منه علته الفلسفية المزخرفة، وهي قوله:{قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (12)[الأعراف: 12].

وقد كان يمكنه أن يعارضه بأحسن منها وأنس في العقل، وهو أن الطين ثابت ورزين متواضع لين رطبن والنار مضطربة خفيفة، مستعلية يابسة شريرة محرقة.

ص: 113

ومن ثم رجع إبليس إلى أصله في الخفة والطيش، ورجع آدم إلى أصله في الثبات والرزانة، فقال:{قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} (23)[الأعراف: 23] فاعترف؛ فعرف واستغفر؛ فغفر له، فما لم يفعل ذلك / [70/ل]؛ دل على أن لا ارتباط للأحكام إلا بالنصوص والظواهر.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (277)[البقرة: 277] قد تكرر هذا في القرآن كثيرا، ويحتج به من يرى الإيمان مجرد التصديق، وأن الأعمال ليست ركنا للإيمان بل أثرا من آثاره خلافا للجمهور من المحدثين وغيرهم.

حجة الأول: أنه عطف العمل الصالح على الإيمان والعطف يقتضي التغاير، فالإيمان غير الأعمال، وأجاب الآخرون بأن هذا من باب عطف الخاص على العام كالصلاة الوسطى على الصلوات، وجبريل وميكائيل على الملائكة، ولا ينافي ذلك كون الخاص من العام، وهذا ضعيف؛ لأنا لو اقتصرنا على الملائكة فهمنا جبريل وميكائيل وهاهنا لو اقتصرنا على الإيمان لم نفهم العمل الصالح إلا على دعوى الخصم ويعود النزاع.

{وَاِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (281)[البقرة: 281] أي كل نفس مكلفة، أو كل نفس منكم ليخرج من العموم من ليس بمكلف، كالصبيان والمجانين والبهائم ونحوهم، فالعموم مخصوص بهم.

{وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة: 282] عام مطرد.

{وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا} [البقرة: 282] عام خص منه ما إذا أبى لمرض أو خوف أو كونه مكرها على تحملها بالباطل، أو كان عبدا تحملها بلا إذن سيده، ومنعه من السعي للأداء.

وذهب بعض الأئمة إلى عدم أهلية العبد للشهادة/ [34 أ/م] بهذه الآية، لأنه مأمور بالسعي للأداء، وذلك يبطل حق السيد من خدمته ومقتضى هذا أنه عن تحملها بإذن السيد جاز أن يسعى للأداء، ودخل في عموم {وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ.}

{وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} [البقرة: 282] أمر إرشاد، وذهب بعض الظاهرية إلى أنه أمر وجوب قطعا للتنازع وصيغة «افعل» ترد بمعان: منها الإرشاد والإباحة والتكوين

ص: 114

والتعجيز، والوجوب والتسوية والتهديد والإهانة، وغير ذلك، وهذه من مسائل الأوامر من أصول الفقه.

{* وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (283)[البقرة: 283] احتج به الظاهرية على أن الرهن لا يجوز في الحضر، بمفهوم قوله-عز وجل:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ} [البقرة: 283] والجمهور على خلافه، وحملوا هذا المفهوم على أنه خرج مخرج الغالب، إذ الغالب في السفر عدم الكاتب، والمفهوم إذا خرج الغالب لا يحتج به، ومنه {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} (23) [النساء: 23].

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً} (35)[النساء: 35]{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً} (31) [الإسراء:

31]، وهذه من مسائل دليل الخطاب

{آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285)[البقرة: 285] هذه غالب/ [71/ل] أركان الإيمان، وقد سبق الكلام عليها عند {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: 177].

{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] تعريض باليهود والنصارى حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرت اليهود بالمسيح، والكل رسل الله-صلواته عليهم أجمعين- كما سيأتي تقريره إن شاء الله-عز وجل.

ص: 115

{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اِكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاُعْفُ عَنّا وَاِغْفِرْ لَنا وَاِرْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} (286)[البقرة: 286] احتج به المعتزلة على امتناع تكليف ما لا يطاق؛ لأنه لا يدخل تحت الوسع وما لا يدخل تحت الوسع لا يكلف به، فما لا يطاق لا يكلف به، والأولى قاطعة والثانية سمعية بهذه الآية.

ولأن التكليف شرطه الإمكان ليتبين المطيع من العاصي، فما ليس بممكن لا يكلف به، وإلا كان جورا.

{رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا} [البقرة: 286] هذا رفع للتكليف الناسي والمخطئ، كقوله-عليه الصلاة والسلام «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولأن التكليف شرطه الفهم وإلا لكلف الجماد والحيوان الأعجم، وهو باطل، ثم الناسي والساهي لا يفهم فلا يكلف، وأما المخطئ فلم ينتهك حرمة، ولا قصد له حتى ينتظمه دليل التكليف، فإن ترتب حكم التكليف على أحد منهم كالصائم يفطر وتلزمه الكفارة بالنسيان، والمخطئ في القتل تلزمه الدية، ونحو ذلك-فهو من باب ربط الأحكام بالأسباب أو مخصوص من عموم القاعدة بدليل:{رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً} [البقرة: 286] احتج به من أجاز تكليف ما لا يطاق وإلا لم يكن/ [34 ب/م] لهذا السؤال فائدة، واعلم أن بعض الأصوليين يترجم هذه المسألة بتكليف ما لا يطاق، وبعضهم بتكليف المحال، وما لا يطاق يطلق تارة على ما يشق فعله وإن أمكن لذاته، وتارة على ما لا يمكن وقوعه، والمحال إما لذاته كالجمع بين الضدين، وإما لغيره كإيمان من تعلق علم الله-عز وجل-بأنه لا يؤمن.

وقد قال قوم بجواز التكليف بالقسمين، وقوم بامتناعه فيهما، وآخرون بجوازه في المحال لغيره، دون ذاته، والأشبه الأول. وإذا اشترك القسمان في استحالة الوقوع، فلا أثر للفرق بالإمكان الذاتي وعدمه.

ومأخذ الخلاف في هذه المسألة أن المقصود من التكليف الامتثال وامتحان الطائع من العاصي عند المعتزلة، فلذلك اشترطوا كون الفعل المكلف به ممكنا، وعند الجماعة ليس المقصود منه ذلك بل المقصود جعل وجود الفعل أو عدمه علما أو أمارة/ [72/ل] على

ص: 116

الثواب أو العقاب، وعلى السعادة أو الشقاء، وذلك حاصل من التكليف بالممكن وغيره، أما وقوع التكليف بما لا يطاق، فقد اختلف فيه أيضا، والأشبه أنه وقع في مسألة خلق الأفعال على رأي الجبرية والكسبية؛ إذ الإنسان مكلف بكسب ما خلقه الله-عز وجل وهو تحصيل الحاصل، وفي مسألة تكليف الكافر بالإيمان مع العلم بأنه سيموت كافرا، وإذا تعلق علم الله-عز وجل-بوجود شيء أو عدمه [فهل يبقى خلاف معلوم الله-عز وجل-مقدورا أم لا؟ فيه قولان.

والحق أنه مقدور لذاته لا لغيره].

واعلم أن مواد الأفعال ثلاث: واجب، وممتنع وممكن خاص، فالممكن يجوز التكليف به إجماعا، والواجب والممتنع يخرج التكليف بهما على تكليف المحال، والله-عز وجل أعلم بالصواب.

ص: 117