الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في سورة سبحان
{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1)[الإسراء: 1] فيه إثبات الإسراء ويتبعه المعراج، لاتصاله به، وقد أنكره بعض الفلاسفة والمعتزلة، بناء على أن الجسم الثقيل الكثيف الهابط لا يرتقي إلى العالم اللطيف، وإنما كان مناما بدليل قوله:
«فاستيقظت فإذا أنا [نائم] في بيت أم هانئ» (1) ونحوه مما يدل على أنه كان مناما.
واعلم أن هذا مثل فلسفة إبليس في قوله: {قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (12)[الأعراف: 12] فإن صعود الجسماني الأرضي إلى العالم الروحاني السماوي ممكن لذاته، وكل مقدور، والفاعل عندنا مختار يفعل ما يشاء ويختار، فلا يبقى لامتناع ذلك وجه.
وتوجيهه على رأي المتكلمين بأن يخلق الله-عز وجل-في الجسم الكثيف قوة جاذبة له إلى فوق أو خفة بحيث يحمله اللطيف، أو يخلق في القضاء اللطيف كثافة بحيث يحمل الكثيف، وهذا الغمام والمطر والبرد والصواعق وسائر الآثار العلوية كثيفة أو كثير منها، ويحملها الفضاء اللطيف، وأما المنام فقد لعمري كان مناما مرة توطئة لليقظة، ثم كان يقظة، والأحاديث الصحيحة دلت عليهما جميعا، ولو لم يكن إلا مناما لما أنكرته قريش، وبالإجماع أنهم أنكروه.
{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً} (13)[الإسراء: 13] قيل: هي صحيفة عمله تعلق في عنقه في قبره حتى يبعث بها، فيحاسب عليها وهي الكتاب الذي يخرج له يوم القيامة، فيلقاه منشورا.
{مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15)[الإسراء: 15] يحتج بها المعتزلة لإسناد الهدى والضلال إلى المكلف لا إلى الرب-عز وجل.
وأجيب بأنه أسند إليه باعتبار الكسب، وقد تكرر هذا، والقاعدة الكلية أنه لما أضيف تارة إلى الرب، وتارة إلى العبد، حمل على الأول باعتبار الخلق، وعلى الثاني باعتبار الكسب، أو التفويض التقديري عند أهل الجبر جمعا بين النصوص.
{مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15)[الإسراء: 15] يحتج به الجمهور على أن لا حكم للعقل بإيجاب، ولا حظر ولا تحسين ولا تقبيح، ولا يقتضي شيئا من ذلك، وتقريره أنه لو كان له حكم لتوجه/ [123 أ/م] التعذيب على من عصى بموجب حكمه قبل بعثة الرسل، واللازم باطل، فالملزوم كذلك، أما الملازمة، فلأنه لو كان له حكم لكان مخالفه/ [260/ل] عاصيا قبل البعثة، ولو كان مخالفه عاصيا لتوجه التعذيب عليه حينئذ.
وأما انتفاء اللازم، فلهذه الآية، إذ نفي التعذيب قبل البعثة، وقد سبق القول في هذا، وحكاية مذهب المعتزلة فيه في سورة الأعراف.
{وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً} (16)[الإسراء: 16] ظاهرها متروك بالنص والإجماع على أن الله-عز وجل لا يأمر بالفحشاء والفسق أمر اقتضاء واستدعاء، ولكن في تأويلها أقوال:
أحدها: أمرناهم بالطاعة فعصوا ففسقوا، فحق عليهم القول ولزمتهم الحجة فعاقبناهم.
الثاني: أمرناهم كثرناهم، ففسقوا، والكثرة سبب الفساد، يقال: أمر بنو فلان أي:
كثروا وعظموا.
الثالث: أمرناهم: جعلناهم يمورون فيها أي: يسعون ويجولون، من مار يمور، ففسقوا وهذا بخلق الدواعي والصوارف فيهم لذلك.
الرابع: أمرناهم بلسان التكوين لا التكليف، ففسقوا كما قلنا في قوله-عز وجل:
{*وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ اِنْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ} (46)[التوبة: 46] مع {اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (41) [التوبة:
41] وذلك بخلق دواعي الفساد فيهم.
{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً} (18)[الإسراء: 18] هذه قيدت بقيدين:
أحدهما: في المراد وهو ما نشاء، والثاني في المريد: وهو لمن نريد، وبذلك قيد مطلق {وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ} (145) [آل عمران: 145]، {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (20) [الشورى: 20] ونحوه، وكذلك {وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} (19) [الإسراء: 19] مقيد بقيدين السعي المناسب والإيمان، ولا يبعد أن يفسر المحكم بمثل هذه المقيدات والمتشابه بما يقابلها من المطلقات.
{اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (21)[الإسراء: 21] إن قيل: تفاوت الدرجات في الآخرة مما يتأذى به المفضول فيها عادة، وذلك يعارض النص بأن لا نصب فيها ولا حزن، ولا هم، قلنا: العادة ترتفع هناك، ويرضى كل بما حصل له، وثمرة التفاوت تحصل في نفس إدراك النعيم، فإدراك بعضهم أقوى ولذته أتم من بعض، وهذا كما تفاوتوا في الدنيا في العقول، ثم كل منهم راض بعقله، وثمرة التفاوت فيها يظهر في الإدراك العقلي قوة وضعفا.
لأنه-عز وجل: «قضى» أي: حكم ألا يعبد سواه، وما قضاه لا مخالف له، فما عبد في الوجود إلا هو وهذه الأشياء قد عبدت، فوجب أن تكون هي إياه، وما ذلك إلا لسريانه بذاته في العالم أو كونه عين العالم.
ورد عليه بأن الغلط إنما وقع من جهة اشتراك اللفظ، وإنما معنى قضى أمر، ولا يلزم من الأمر الطاعة، فهو أمرهم ألا يعبدوا إلا إياه، فخالفوه، وعبدوا سواه.
{*وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً} (23)[الإسراء: 23] هذا هو المثال المشهور في مفهوم الموافقة، وهو ما استفيد من غير محل النطق أقوى من المنطوق، فالمنطوق هنا تحريم التأفيف، والمفهوم تحريم الضرب، وهو أقوى من المنطوق بمعنى أن التحريم فيه أولى من تحريم التأفيف، يدرك ذلك بالضرورة.
واختلف فيه، أهو قياس، أم لا؟ فقال قوم: هو قياس جلي، ونظمه: إن ضرب الوالدين أذى لهما فكان حراما كالتأفيف لهما وأولى، وأركان القياس موجودة الأصل والفرع والعلة والحكم.
وقال آخرون: ليس بقياس، وإنما هو مدلول لفظي، لتفاهم العرب له مع عدم معرفتهم بالقياس، ولأن ذلك يفهمه من لا يتصور القياس، ولا يخطر له ببال، ويحتمل أن يقال:
المنطوق في [مثل] هذا أعم، أو كالأعم من المفهوم. فالنهي عنه من باب نفي الأعم المستلزم نفي الأخص، وهذا من باب الدلالة العقلية لا اللفظية.
{وَاِخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً} (24)[الإسراء: 24] هذا مجاز [تشبيها للولد] في ذلك بطائر خفض جناحه لأفراخه يظلهم به، وكذا {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاِخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (88) [الحجر: 88]، ولما قال أبو تمام الطائي في قصيدته المشهورة:
لا تسقني ماء الملام فإنني
…
صب قد استعذبت ماء بكائي
أنكرت عليه هذه الاستعارة، ولم تستحسن منه، فأرسل إليه العتابي غلاما له، ومعه قارورة وقال له: قل له: احتجنا إلى شيء من ماء الملام فابعث به إلينا في هذه القارورة، فعلم أبو تمام أنه منكر عليه، متهكم مستهزئ به فقال للغلام: ارجع إلى مولاك فقل له:
يرسل إليّ بريشة من جناح الذل، أخرجه له بها، فكان في ذلك مناظرة بالكناية شبيهة
بمناظرة القاضي عبد الجبار وأبي إسحاق المذكورة عند قوله-عز وجل: {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (28)[الأعراف: 28].
وتوجيهها: أن العتابي قال لأبي تمام: إن الملام لا ماء له فكيف استجزت استعارته؟ ! فقال له أبو تمام: فإن الذل لا جناح له/ [124 أ/م] فكيف استجيز استعارته في القرآن.
واعلم أن المؤاخذة على أبي تمام ليست في نفس الاستعارة، وإنما هي/ [262/ل] في حسنها وتمامها وتطبيق المفصل بها، وليست استعارته في ذلك كاستعارة جناح الذل، وبينهما بون بعيد يدرك ذلك حسا وعقلا، وإن شئت تحقق ذلك فتخيل الذل طائرا خفض جناحه، وتخيل الملام ماء في وعاء نخيل تجد الأول أسرع والنفس إليه أبدر، واستقصاء الكلام في هذا غير هاهنا.
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (29)[الإسراء: 29] شاهد على مدح التوسط، وذم الانحراف والتطرف.
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} (30)[الإسراء: 30] وكيفية ذلك بتقدير الأسباب المفيدة للرزق ومنعها: وهي بيد الله-عز وجل-وذلك ظاهر، وعلل ذلك بما تضمنه قوله-عز وجل:{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} (30)[الإسراء: 30] وهو أن فيهم من لا يصلحه إلا بسط الرزق، وفيهم عكس ذلك، فهو يراعى بذلك مصلحة من يشاء منهم، تفضلا منه من حيث لا يعلمون، ولا يشك عاقل أن قارون لو كان فقيرا لكان أقرب إلى صلاحه، وأن السارق وقاطع الطريق لاضطرار الفقر له إلى ذلك لو كان موسرا لكان أقرب إلى صلاحه.
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً} (31)[الإسراء: 31] مفهوم خرج مخرج الغالب فلا يعتبر.
{وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} (36)[الإسراء: 36] احتج به من رأى الظن نوع علم، لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن اتباع غير العلم، ثم إنه كان يحكم بالظن المستفاد من البينة واليمين وخبر الواحد ونحوه.
ولولا أن ذلك نوع علم لكان مرتكبا للنهي، وأنه غير جائز منه.
وجوابه أنه سمى الظن علما للرجحان المشترك بينه وبين العلم كما سبق في {اِرْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ اِبْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاّ بِما عَلِمْنا وَما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} (81)[يوسف: 81].
واحتج بهذا أيضا من منع العمل بخبر الواحد، وهم الشيعة، ومن تابعهم، لأنه إنما يفيد الظن لا العلم وقد نهى عن اتباع غير العلم وذلك يقتضي النهي عن العلم بخبر الواحد.
وأجيب بأن هذا عام خص في خبر الواحد بأدلة كثيرة، منها ما سبق في {بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (44) [النحل: 44] {*وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122)[التوبة: 122] وبالإجماع على قبول خبر المفتي والشاهد والحاكم ثبت عندي، ونحو ذلك.
{ذلِكَ مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (39)[الإسراء: 39] يعني الآداب المتضمنة للطاعة واجتناب المعصية، وهذا التفسير لها داخل فيما سبق في تعريفها عند قوله-عز وجل:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ} (269)[البقرة: 269]{ذلِكَ مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (39)[الإسراء: 39] نهى عن الشرك، وأمر بالتوحيد وظاهره يقتضي ما سبق من أن عصمة الأنبياء-عليهم السلام من وقوع الشرك لا من جوازه/ [263/ل] خصوصا على رأي من يقول: إن النهي عن الشيء [124 ب/م] يقتضي صحة وقوعه.
أضافوا إلى الله-عز وجل-ما هو منزه عنه، ويستحيل عليه واستئثارهم عليه بالأكمل على تقدير جواز ذلك عليه.
{قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} (42)[الإسراء: 42] هذا من أدلة التوحيد، وتقريره من وجهين:
أحدهما: لو كان معه إله غيره لطلب ذلك الغير سبيلا إلى مغالبة ذي العرش على الملك وانفراده بالإلهية دونه واللازم باطل؛ فالملزوم كذلك؛ بيان الملازمة أن العادة اطردت بأن المشتركين في الملك يحاول كل واحد منهما المكر بصاحبه، أو مغالبته على إخراجه من الملك، وانفراده به دونه، واطراد العادة حجة، ولذلك كان انخراقها للأنبياء معجزا، بيان بطلان اللازم أن كل من ادعيتموه إلها مع الله تعالى كالأصنام ونحوها أسير في قبضة قدرته لا يستطيع السبيل إلى الخروج عن عبوديته فضلا عن ابتغاء السبيل إلى مغالبته.
الوجه الثاني: لو كان معه غيره لطلب ذلك الغير السبيل إلى الوصول إلى رتبة ذي العرش أو إلى الشفاعة إليه فيما يريد، على العادة في بلوغ النظير رتبة نظيره والشفاعة إليه في بعض أموره، واللازم باطل، والمعول عليه هو الوجه الأول.
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} (44)[الإسراء: 44] فيه قولان:
أحدهما: أنه عام أريد به الخاص وهم ذوو الحياة المتأتي منهم التسبيح، وعلى هذا يتمسك به الفلاسفة في أن الأفلاك حية ناطقة، لأنها مسبحة بهذا النص، وكل مسبح حي ناطق، فالأفلاك حية ناطقة.
وجوابه: بمنع كونها مسبحة على هذا التقدير، وينتقض عليهم بالأرض؛ فإنها مسبحة بهذا النص، وليست حية باتفاق.
الثاني: أنه عام مطرد في الحي وغيره كالجمادات، لكن تسبيح كل شيء بحسبه؛ فالحي بالنطق والجماد إما بظهور آثار القدرة فيه والتسخير له قسرا أو بخلق حياة فيه، أو أصوات يسبح بها لا يعلمها ويدركها إلا خالقها، ومن أطلعه عليها، [قال بعض العلماء المحققين رضي الله عنهم: ] وقد أخبرني الثقة، أنه كان نائما في بستان فاستيقظ ليلا فسمع للنخيل والأشجار وجدار البستان كدوي النحل بالتسبيح، وأخبرني الثقة عن الثقة فيما أحسب أنه مر في أرض/ [264/ل] مزروعة حنطة، وهو يسبح، فسمع السنبل جميعه يسبح، وفي تسبيح الجبال مع داود-عليه السلام-غنية عن ذلك كله.
[وعلى هذا فربما احتج به الاتحادية على أنه سار/ [125 أ/م] بذاته في كل شيء، وأنه يسبح نفسه منها.
وجوابه أن ذلك يقتضي اتحاده بها أو حلوله فيها، وهو محال على ما تبرهن في الكلام والحكمة، ويحتج ب {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} (44) [الإسراء: 44] ونحوه على أن الفقه لغة الفهم، وقد قيل: هو العلم كما مر في مقدمة الكتاب].
[قوله تعالى]{وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً} (45)[الإسراء: 45] قيل: ساترا، فلا يرونك ليؤذوك إذا أرادوا، وقيل: مستورا عن أعين الناظرين، وهو إما خلق الصوارف [في قلوبهم عنك، أو ملائكة يسترونك عنهم كما ستره ملك عن أم جميل امرأة أبي لهب حين جاءته وهو في المسجد لتؤذيه.
{وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً} (46)[الإسراء: 46] هذه الأكنة والوقر في آذانهم إما حسية، أو عقلية بخلق الصوارف] عن اتباع القرآن كما مر في ختم الله على قلوبهم.
{وَقالُوا أَإِذا كُنّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} (49)[الإسراء: 49] تضمنت إنكارهم للبعث بشبهتهم السابقة في سورة النحل.
[الإسراء: 51] هذا جوابهم عن إنكار البعث بإثباته والاستدلال عليه، بقياس الإعادة على الابتداء أول مرة، بجامع الإمكان والقدرة على كل ممكن فيهما.
[الإسراء: 51] ليس فيه تحديد لوقت قيام الساعة، إذ القريب أمر إضافي فألف سنة قريب بالإضافة إلى عشرة آلاف سنة، وبعيد بالنسبة إلى مائة سنة، ومائة ألف سنة قريب [إلى ألف ألف سنة بعيد بالنسبة إلى][عشرة آلاف].
[الإسراء: 52] اعلم أن الأجساد للأرواح كالثياب للأجساد، وكما أن جماعة عراة إذا صاح بهم صائح بادر كل منهم إلى ثوبه فلبسه، ثم أجاب الصائح، كذلك الموتى تتجرد أرواحهم، ثم تبلى أجسادهم فإذا أريد بعثهم أعيدت الأجساد كما كانت، وقد دللنا على إمكانه ووقوعه، ثم بادر كل روح إلى جسده فلبسه، ثم أجاب داعي البعث، وكما خلق الله-عز وجل-الجسم بالتطوير والتصوير من نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخرها، فهو قادر على إعادته بدون ذلك، كما أنه خلق بني آدم بالتطوير ومن قبلهم خلق آدم بدونه، فالقدر المشترك في ذلك كله وغيره هو القدرة/ [265/ل] التامة، وما زاد فهو كالآلات لا ينبغي أن يوقف معه، فهذه حقيقة البعث إن شاء الله-عز وجل.
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} (54)[الإسراء: 54] مورية لزناد الجبرية، حيث قالوا: إنه-عز وجل-علم أنه لو فوض إلى العاصي عمله لكان معصية، فجبر على ما لو فوض إليه لفعله كما تقرر في/ [125 ب/م] المقدمة، وبيانه من الآية أن المعنى الظاهر منها ربكم أعلم بكم، لو فوض إليكم خلق أفعالكم، ماذا كان يكون فهو يرحم ويعذب بحسب ذلك العلم.
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} (55)[الإسراء: 55] دلت على أن بعضهم أفضل من بعض في الحقيقة، وأما نحن فنهينا عن التفضيل بينهم لما عرف من إيهام ذلك غضّا من المفضول، فقد جاء في الحديث «لا تفضلوا بين الأنبياء» (1).
{قُلِ اُدْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} (56)[الإسراء: 56] هو من أدلة التوحيد، ونفي الشرك، وقد سبق نظيره في غير موضع.
{أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً} (57)[الإسراء: 57] معناه:
أن آلهتكم التي تدعونها شركاء عبيد لله-عز وجل-ضارعون يطلبون القرب إليه ويرجونه ويخافونه، ولا شيء ممن هو كذلك بإله.
{أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً} (57)[الإسراء: 57] اعلم أن بعض علماء الظاهر ينكر على بعض أهل العمل قوله: لست أعبد الله-عز وجل-رجاء جنته، ولا خوفا من ناره. والتحقيق أن الجزم في هذا بأحد الطرفين، أعني الجواز والمنع مطلقا حطأ، بل الحق التفصيل، وهو أن من قال هذا القول إظهارا للاستغناء عن فضل الله ورحمته وجرأة عليه، فهو مخطئ كافر، ومن قاله لاعتقاده أن الله-عز وجل-أهل للعبادة لذاته حتى لو لم يكن هناك رحمة ولا عذاب ولا جنة ولا نار، لكان أهلا أن يعبد فهو محقق عارف، وتحقيق ذلك أن للحق-عز وجل-صفتي جلال وجمال، فلو انتفى الخوف من جهة صفة جلاله لوجبت عبادته لما هو عليه من الكمال [من جهة صفة] جماله.
{وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً} (59)[الإسراء: 59] تضمنت الجواب عن استعجال الكفار الآيات في أول الأمر، وقولهم:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} (7)[الرعد: 7].
{لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} (7)[الحجر: 7] ونحوه، وتقريره: أنه لم يمنعنا من تعجيل الآيات إلا الإبقاء عليكم إذ جرت عادتنا أن من كذب باياتنا أهلكناه كما كذب بها الأولون فأهلكناهم فأخرناها عنكم/ [266/ل] مدة لعلكم تراجعون الحق، فلما أصروا على كفرهم، جاءتهم الآيات كانشقاق القمر وإمساك المطر وتسليم الحجر والشجر، ونحوها، [فلزمهم بها] الحجة ثم أهلكوا، سنة الله التي قد خلت من قبل.
{وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً} (59)[الإسراء: 59] يحتج به من زعم أن [لا عذاب] في الآخرة وبقوله-عز وجل: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ} (16)[الزمر: 16] قالوا:
لأن هذه الآية دلت على أن ما ثم إلا التخويف، أما إيقاع ما وقع به التخويف فلا.
وجوابه: أن هذا الحصر ممنوع بل هناك تخويف، وهو لا ينافي وقوع ما خوف به، وقد
صرحت به/ [126 أ/م] النصوص فوجب القول به.
واحتجوا بأن العقاب إما للطائع وهو غير مناسب، أو للعاصي، وهو إما لا لفائدة وهو عبث، أو لفائدة، وهي إما لله-عز وجل-وهو غني عما سواه، أو للمكلف فهي إما في الدنيا وقد انقطعت فصارت عدما، أو في الآخرة وهو باطل؛ لأن العقاب ضرر محض مناف للفائدة، فثبت أن العقاب باطل لبطلان جميع أقسامه وأحواله.
وجوابه من وجوه:
أحدها: أن هذا مخالف للنصوص القاطعة وإجماع العلماء، فلا يلتفت إليه ولا يعارض القاطع.
الثاني: أن العقاب لفائدة وحكمة استأثر الله-عز وجل-بها، ولا نسلم أن العقاب ينافي الفائدة، كما في تأديب الصبي ونحوه.
الثالث: أن العظمة الإلهية لذاتها تقتضي العقاب على المعصية.
الرابع: أن ما ذكرتموه منتقض بآلام الدنيا ومصائبها ومحنها، هي ضرب من العذاب، وهي إما للطائع أو العاصي إلى آخر ما ذكرتم، فيلزم أن تكون منتفية، وهو باطل، لا يقال: محن الدنيا تعوض عنها بخلاف عقاب الآخرة؛ لأنا نقول: العوض عندنا غير لازم، بل لله-عز وجل-أن يؤلم ويهلك ويمتحن بما شاء من غير تعويض، وحينئذ جوابكم عن بلاء الدنيا هو جوابنا عن عذاب الآخرة.
{وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً} (60)[الإسراء: 60] يحتج به الجمهور على أن الله-عز وجل-يريد ويقصد فتنة بعض الناس وإضلاله، وينصب لهم شراك ذلك، وهذه الرؤيا هي رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم شجرة الزقوم في النار، فأخبر بها الكفار، فكذبوا وقالوا: النار تأكل الشجر، فلا يكون فيها شجر، وهو غلط منهم، لجواز أن يخلق في النار ضعف عن أكل الشجرة، أو في الشجرة قوة على الثبات في النار؛ وهذا السمندل طائر يعيش في النار، فالشجرة أولى.
والشجرة الملعونة في القرآن هي عند الجمهور شجرة الزقوم، كما ثبت في الحديث، وعند الشيعة هي شجرة بني أمية لما صدر عنهم من قطع أرحام بني عبد المطلب، وقاطع الرحم ملعون بالنص والإجماع، ولما ورد في السّنّة أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو غير راض عن ثقيف وبني حنيفة/ [267/ل] وبني أمية.
والأشبه الأول؛ لأن الشجرة فيه على حقيقتها وهي على الثاني مجاز، والحقيقة أولى.
{وَاِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً} (64)[الإسراء: 64] قيل:
بالربا، (والأولاد) قيل: بالحنث في طلاق الزوجات، وقيل: بمشاركته الرجل في وطء امرأته، إذ لم يسم عند الجماع. روي عن ابن عباس: أن الرجل إذا جامع ولم يسم، قعد الشيطان على فخذه، ينكح معه، ويقوي/ [126 ب/م] ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«لو أن أحدهم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان» حديث صحيح، ومفهومه أنه إذا لم يسم فقضي بينهما ولد ضره الشيطان، ولا ضرر أبلغ من أن يشارك فيه.
{إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (65)[الإسراء: 65] أي عبادي المخلصين الخواص عندي المختصين بعنايتي ورعايتي لا سلطان لك عليهم، وحينئذ ادعت الشيعة أن من أبغض عليا فهو ولد زنا، وهو ابن الشيطان لأن عليا لا يبغضه إلا منافق بالنص الصحيح.
والمنافق ليس من عباد الله الخواص المنفي عنهم سلطان الشيطان، فهو من العباد المبعدين عن الله المستولي عليهم سلطان الشيطان، فالمنافق داخل تحت سلطان الشيطان، ومن سلطان الشيطان عليه مشاركته لأبيه فيه كما سبق، فمبغض علي يشارك الشيطان فيه؛ فهو ولد زنا وابن الشيطان. ثم أكدوا ذلك بما ذكره القرطبي في تفسيره من حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود، قال: بينا علي بن أبي طالب يمشي في بعض سكك المدينة عرض له إبليس، فهم علي بقتله ليريح الناس منه، فقال له إبليس: مهلا يا أبا الحسن ما هذا جزائي منك؛ فقال: وأي جزاء لك عندي يا ملعون؟ قال: والله ما أبغضك أحد إلا وقد شركت أباه في أمه، وهذا من الشيعة تعريض بالخوارج والنواصب.
وأجاب الجمهور عن هذا بأن قالوا: نحن نحب عليا [ولا] نبغضه، فلا يلحقنا مما قررتموه معرة، نعم أنتم أولى بما ذكرتم لأنكم ترون إباحة المتعة وهي زنا، وأكثركم أو كثير منكم مولود منها.
تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)[الأنعام: 41] ونحوه.
{أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً} (69)[الإسراء: 69] أي في البحر، وهذا مما يحتج به على أن كسب الإنسان مخلوق لله-عز وجل-والإنسان مجبور؛ لأن الله- عز وجل-نسب إعادتهم إلى البحر إليه شاءوا أم أبوا، وذلك إنما يكون بما يجبرهم به على ذلك من خلق الدواعي والصوارف، فإن الإنسان يرى من هول البحر ما يزعجه جدا حتى/ [268/ل][يعزم، وربما حلف الأيمان المغلظة أنه لا يعاود ركوبه، ثم يكذبه الله- عز وجل] ويرغمه ويضطره إلى ركوبه خاسئا [مخشوشا بخشاش] القدر كالجمل الذلول، لا يمكنه أن يمتنع، وهو دليل على ما ذكرناه.
{* وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً} (70)[الإسراء: 70] يحتج بها من فضل الملائكة على بني آدم لأنهم/ [127 أ/م] إنما فضلوا على كثير من المخلوقات لا على جميعها، والإجماع على تفضيلهم على من عدا الملائكة، فدل هذا على أنه لم يفضلوا على الملائكة، ثم إذا انضم إلى هذا الحديث الصحيح:«ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» تم الاستدلال على الملائكة أفضل من بني آدم.
{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (74)[الإسراء: 74] هاهنا مسائل:
الأولى: أن العصمة تثبيت وصرف عن المعصية بما يخلق في النفس من شدة الخوف وغيره من الأسباب، بدليل {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (74) [الإسراء: 74] {قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ} (33)[يوسف: 33]، وليست العصمة امتناع وقوع المعصية عقلا، وإلا لما ظهرت فضيلة التقوى أبدا، ولتعذر ابتلاء أحد بالمعصية؛ إذ الممتنع عقلا لا يدخل تحت المقدورية.
الثانية: [أن عصمة الأنبياء إما هي من وقوع المعصية والكفر لا من جواز ذلك؛ لأن الله عز وجل-أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه هو الذي ثبته عن الركون إلى الكفار بالافتراء على الله بغير
ما أنزل، وأنه لو لم يثبته لركن إليهم، ثم لأصابه العذاب المضاعف وذلك قاطع فيما ذكرنا.
الثالثة: تفاوت الناس في المعصية بحسب مراتبهم، بحيث يستكثر من بعضهم قليلها، لأن الله-عز وجل-أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لو ركن إليهم شيئا قليلا؛ لأذاقه عذابا مضاعفا.
ولقائل أن يقول: إن ذلك الركون لقليل لو وقع لكان كفرا عظيما، إذ هو افتراء على الله-عز وجل-والكفر العظيم لا يستقل منه شيء.
قوله-عز وجل: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} (85)[الإسراء: 85] يحتج به من يرى قدم الروح، وقرروه بأن الروح من أمر الله، وأمر الله قديم، فالروح قديم.
أما الأولى فلصريح هذه الآية، وأما الثانية فلما سبق في قوله-عز وجل:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} (54)[الأعراف: 54] وأجيب عنه بأن الأمر مشترك بين الكلام والفعل والخلق وغيرها، فهو مجمل، ويكفي ذلك في سقوط الاستدلال به، ثم إنا نقول:{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} (85)[الإسراء: 85] أي من خلقه، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وكانت روح عيسى في تلك الأرواح» (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (2) والجنود المجندة ليست قديمة، ولأنه قد سبق الدليل على جسمية الروح ولا شيء من الجسم بقديم؛ ولأنها لو كانت قديمة لزم القول بالحلول أو الاتحاد وتعدد القديم، وكل ذلك محال، وإنما قيل: الروح من أمر ربي هكذا/ [127 ب/م] مجملا؛ لأن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح سؤال تعجيز
وتغليظ؛ إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان وجبريل وملك آخر يقال له:
الروح، وصنف من الملائكة/ [269/ل]، والقرآن، وعيسى ابن مريم كل واحد من هذه الستة [يسمى روحا]، فقصد اليهود أن يسألوه فبأي مسمى أجابهم، قالوا: ليس هو الذي قلت: فجاءهم الجواب مجملا [كما سألوا مجملا]{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} (85)[الإسراء: 85] وأمر ربي يصدق على كل واحد من مسميات الروح، فكان هذا الإجمال كيدا [قوبل به] كيدهم.
قوله-عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (88)[الإسراء: 88] هذه أعظم آيات التحدي بالقرآن، لأن بعض هذا مما يوفر دواعي الخصوم على طلب الإتيان بمثله، فلو كان ذلك في وسعهم لفعلوه بالضرورة عادة، لكنهم لم يفعلوا، ولم يأتوا بمثله، ولا بعشر سور مثله، ولا بسورة مثله، فدل على عجزهم عن معارضته مع كثرتهم وتمكنهم في الفصاحة والبيان، وذلك يقتضي كونه معجزا؛ إذ لا معنى للمعجز إلا أمر ممكن خارق للعادة مقرون بالتحدي خال عن المعارض، وهذه الصفات موجودة في القرآن فكان معجزا مع أن المتحدى به هاهنا هم الجن والإنس، وكل ما عجز عنه الجن والإنس معجز: بالطرد في معجزات الأنبياء، وبالعكس في غيرها؛ إذ كل أمر غريب ليس بمعجز فإن مجموع الجن والإنس لا يعجزون عن مثله.
ثم إن اليهود والنصارى وغيرهم من الخصوم [ألفوا] شكوكا على إعجاز القرآن إيرادها يطول، وقد أفرد في ذلك كتب.
وهاهنا مسألتان: إحداهما أن تحدي الجن والإنس به يدل على دخولهم تحت دعوته، وأنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الجن والإنس، إذ لم تنتظمهم دعوته لما تحداهم بكتابه كما لم يتحد به الملائكة والشياطين والبهائم، ولأن العجز عن معارضة المعجز كالنكول عن اليمين، وذلك مستلزم لحكم الدعوى.
الثانية: احتج بالآية من رأى خلق القرآن؛ لأنها تضمنت إثبات مثل للقرآن، حيث طولبوا بالإتيان بمثله، وأخبروا بالعجز عن مثله، وكل ما له مثل فهو مخلوق، وسئل بعضهم: ما الدليل على خلق القرآن؟ فقال: قدرة الله على مثله، ومعناه أن الله-عز وجل-إن لم يقدر على مثل القرآن لزم التعجيز، وإن قدر على مثله لزم أنه مخلوق،
والأول محال، فالثاني حق، ولأن القرآن معجز نبوي [وكل معجز نبوي] مخلوق/ [128 أ/م] أما الأولى فإجماعية، وأما الثانية فاستقرائية الاستقراء التام، إذ معجزات الأنبياء- عليهم السلام-كلها مخلوقة كالعصا واليد البيضاء وإحياء الموتى، والناقة وغيرها. وليس بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي يتوقع له معجز قديم ينخرم به هذا الاستقراء فوجب العمل بمقتضاه.
واحتج القائلون بقدم القرآن بأن جميع معجزات الأنبياء لم يتحد بها الجن/ [270/ل] مع الإنس إلا القرآن، وإنما ذلك لكونه قديما، وبقوله صلى الله عليه وسلم:«ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا» وإنما أشار بذلك إلى الفرق بين [معجزه، ومعجز] غيره بالقدم والحدوث، ولأن القرآن معجز باق وغيره من المعجزات فان، لم يبق إلا ذكره، فدل على قدم القرآن وحدوث غيره.
وقد سبق في هذا المعنى كلام من الطرفين.
{قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً} أي: ليس أمر الآيات التي اقترحتموها إليّ إنما عليّ البلاغ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ} (38)[الرعد: 38].
{قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً} (95)[الإسراء: 95] أي لم تستغربون أن يبعث الله إليكم بشرا رسولا، فإن الحكمة لا تقتضي إلا ذلك، أن يرسل البشر إلى مثله، أما إرسال الملك إلى البشر، فيبطل حكمة الإرسال، إذ يصير الإيمان برؤية الملك اضطرارا والحكمة تقتضي الإيمان الاختياري، حتى لو كان في الأرض ملائكة ساكنون مقيمون فيها لأرسلنا إليهم ملكا من جنسهم، إذ الحكمة لا تنافي ذلك؛ لأن إيمان الملائكة بملك منهم لا يصير اضطراريا يخل بحكمة الإرسال؛ إذ نسبتهم إليه نسبة البشر إلى الرسول البشري، ودلت الآية على أن الأرض ليس فيها ملائكة يمشون مطمئنين، أي: قاطنين بها كالإنس، وعلى أن فيها ملائكة يمشون، لكن [لا مطمئنين] قاطنين وشواهده كثيرة.
يضل بعض الخلق ثم يحشرهم يوم القيامة إلى جهنم مع أنه في ذلك ليس بظالم لهم؛ فدل على ما قلناه من أنه عاملهم على ما علم منهم على تقدير التفويض إليهم.
وقد حكى ابن خميس في كتاب مناقب الأبرار في ترجمة الجنيد قال: ناظرت قدريا فاشتد بيني وبينه الكلام وقام مصرا على رأيه، فلما كان الليل رأيت إنسانا يقول لي: ما ينكر هؤلاء القدرية أن الله-عز وجل-علم ممن عصاه من خلقه أنه لو فوض إليهم لعصوه، فجبرهم على وفق الواقع منهم، لو فوض إليهم ثم عاقبهم على تقدير ذلك، أو كلاما هذا معناه بعينه، وهذا/ [128 ب/م] هو سر القدر الذي قررناه في المقدمة، وكنت أظن أن أحدا لم يسبقني إليه حتى رأيت حكاية الجنيد هذه.
{ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} (98)[الإسراء: 98] هذا إنكار منهم للبعث واستبعاد أو إحالة له.
{* أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظّالِمُونَ إِلاّ كُفُوراً} (99)[الإسراء: 99] / [271/ ل]، دليل جواز البعث، وتقريره: أن خلق السماوات والأرض أعظم من إعادتكم وبعثكم، فالقادر على ذلك؛ قادر على بعثكم بطريق أولى، وإنما قلنا ذلك لأن خلق السماوات والأرض أعظم من ابتداء خلقكم، وابتداء خلقكم أعظم من إعادتكم، ينتج خلق السماوات والأرض أعظم من إعادتكم.
بيان الأولى: قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (57)[غافر: 57] بيان الثانية: قوله-عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (27)[الروم: 27] وإن شئت فاعكس، واستدل بالأهون فقل:
إعادتكم أهون من ابتدائكم، وابتداؤكم أهون من خلق السماوات والأرض، فإعادتكم أهون من خلق السماوات والأرض، والأهون من الأهون أهون، فالقادر على الأعظم الأصعب يكون على الأيسر الأهون أقدر بالضرورة.
{*أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظّالِمُونَ إِلاّ كُفُوراً} (99)[الإسراء: 99] يحتج به
على تحتم الأجل المضروب، لا زيادة ولا نقص كما سبق.
{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً} (101)[الإسراء: 101] قيل: هي العصا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وانفلاق البحر، والظلة.
{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً} (101)[الإسراء: 101] أي: يخيل إليك أشياء لا حقائق لها تظنها آيات، ويحتمل أن مراده: إني لأظنك ساحرا، ويصير هذا كما في {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً} (45) [الإسراء: 45] هل هو فاعل أو على أصله مفعول.
قال: {قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} (102)[الإسراء: 102] ضم التاء وفتحها تتخرج على القولين في مسحورا، إن أريد به المفعول فالمناسب له ضم التاء أي لقد علمت أنا أن هذه آيات حق من حق، وما أنا بمسحور، وإن أريد به الفاعل ناسبه فتح التاء، أي: لقد علمت يا فرعون أنها آيات حق، وأني غير ساحر، ولكنك معاند مثبور، سيحل بك الثبور، وهو الهلاك.
{قُلِ اُدْعُوا اللهَ أَوِ اُدْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَاِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً} (110)[الإسراء: 110] يحتج به على أن الاسم غير المسمى، كما مر وعلى تسمية الصفات كالرحمن أسماء إما مجازا لغويا أو حقيقة اصطلاحية، كما سبق تقريره في آخر الأعراف.
{قُلِ اُدْعُوا اللهَ أَوِ اُدْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَاِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً} (110)[الإسراء: 110] وهو من أدلة التوسط بين الطرفين، وذم الانحراف إلى أحدهما، وقد سبق آخر وهو {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (29) [الإسراء: 29] وبقي آخر في الفرقان {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ}
قَواماً (67)[الفرقان: 67].
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (111)[الإسراء: 111]، فيه نفي الولد والشريك، والولي من الذل أي/ [129 أ/م] الناصر، ويجيب به الجمهور عن قوله صلى الله عليه وسلم في علي:«إنه مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن/ [272/ل] بعدي» أي ناصر كل مؤمن، وكذلك يقولون في قوله:«من كنت مولاه فعلي مولاه» ، وهو بعيد من السياق والظاهر.