المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في سورة النحل - الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌ترجمة المصنف

- ‌وصف المخطوط

- ‌مطلب في الفرق بين الخلق والكسب

- ‌وقد بقي الكلام بين الجبرية والكسبية:

- ‌مبحث العموم والخصوص

- ‌القول في الفاتحة

- ‌القول في سورة البقرة

- ‌القول في سورة آل عمران

- ‌القول في سورة النساء

- ‌القول في سورة المائدة

- ‌القول في سورة الأنعام

- ‌القول في سورة الأعراف

- ‌القول في سورة الأنفال

- ‌القول في سورة براءة

- ‌القول في سورة يونس

- ‌القول في سورة هود

- ‌القول في سورة يوسف

- ‌القول في سورة الرعد

- ‌القول في سورة إبراهيم

- ‌القول في سورة الحجر

- ‌القول في سورة النحل

- ‌القول في سورة سبحان

- ‌القول في سورة الكهف

- ‌القول في سورة مريم

- ‌القول في سورة طه

- ‌القول في سورة الأنبياء

- ‌القول في سورة الحج

- ‌القول في سورة المؤمنون

- ‌القول في سورة النور

- ‌القول في سورة الفرقان

- ‌القول في سورة الشعراء

- ‌القول في سورة النمل

- ‌القول في سورة القصص

- ‌القول في سورة العنكبوت

- ‌القول في سورة الروم

- ‌القول في سورة لقمان

- ‌القول في السورة السجدة

- ‌القول في سورة الأحزاب

- ‌القول في سورة سبأ

- ‌القول في سورة الملائكة

- ‌القول في سورة يس

- ‌القول في سورة الصافات

- ‌القول في سورة ص

- ‌القول في سورة الزمر

- ‌القول في سورة غافر

- ‌القول في سورة فصلت

- ‌القول في سورة الشورى

- ‌القول في سورة الزخرف

- ‌القول في سورة الدخان

- ‌القول في سورة الجاثية

- ‌القول في سورة الأحقاف

- ‌القول في سورة محمد

- ‌القول في سورة الفتح

- ‌القول في سورة الحجرات

- ‌القول في سورة ق

- ‌القول في سورة الذاريات

- ‌القول في سورة الطور

- ‌القول في سورة النجم

- ‌القول في سورة القمر

- ‌القول في سورة الرحمن

- ‌القول في سورة الواقعة

- ‌القول في سورة الحديد

- ‌القول في سورة المجادلة

- ‌القول في سورة الحشر

- ‌القول في سورة الممتحنة

- ‌القول في سورة الصف

- ‌القول في سورة الجمعة

- ‌القول في سورة المنافقين

- ‌القول في سورة التغابن

- ‌القول في سورة الطلاق

- ‌القول في سورة التحريم

- ‌القول في سورة الملك

- ‌القول في سورة (ن)

- ‌القول في سورة الحاقة

- ‌القول في سورة المعراج

- ‌القول في سورة نوح

- ‌القول في سورة الجن

- ‌القول في سورة المزمل

- ‌القول في سورة المدثر

- ‌القول في سورة القيامة

- ‌القول في سورة الإنسان

- ‌القول في سورة المرسلات

- ‌القول في سورة عمّ

- ‌القول في سورة النازعات

- ‌القول في سورة عبس

- ‌القول في سورة التكوير

- ‌القول في سورة الانفطار

- ‌القول في سورة المطففين

- ‌القول في سورة الانشقاق

- ‌القول في سورة البروج

- ‌القول في سورة الطارق

- ‌القول في سورة الأعلى

- ‌القول في سورة الغاشية

- ‌القول في سورة الفجر

- ‌القول في سورة البلد

- ‌القول في سورة الشمس

- ‌القول في سورة الليل

- ‌القول في سورة الضحى

- ‌القول في سورة ألم نشرح لك صدرك

- ‌القول في سورة التين

- ‌القول في سورة اقرأ

- ‌القول في سورة القدر

- ‌القول في سورة البينة

- ‌القول في سورة الزلزلة

- ‌القول في سورة العاديات

- ‌القول في سورة القارعة

- ‌القول في سورة التكاثر

- ‌القول في سورة العصر

- ‌القول في سورة الهمزة

- ‌القول في سورة الفيل

- ‌القول في سورة قريش

- ‌القول في سورة الماعون

- ‌القول في سورة الكوثر

- ‌القول في سورة الكافرين

- ‌القول في سورة النصر

- ‌القول في سورة «تبت»

- ‌القول في سورة الإخلاص

- ‌القول في المعوذتين

الفصل: ‌القول في سورة النحل

‌القول في سورة النحل

{أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ} (1)[النحل: 1] أي قرب وسيأتي، فنزل المستقبل لقربه منزلة الماضي لتحقق وقوعه في علمه.

{أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ} (1)[النحل: 1] فيه ذم الشرك ونفيه وإثبات التوحيد.

{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ} (2)[النحل: 2] فيها إثبات عموم النبوة والتوحيد خلافا للبراهمة في النبوة فإنهم نفوها، محتجين بأن العقل كاف فيما ينبغي أن يستعمله المكلف؛ لأنه/ [116 ب/م] يأتي الحسن ويجتنب القبيح، ويحتاط في المشتبه بفعل أو ترك، فالأنبياء إما أن يأتوا على وفق العقل، فلا حاجة معه إليهم، أو على خلاف العقل، فلا التفات إليهم.

وجوابه: أن هذا مبني على التحسين والتقبيح العقلي، وهو ممنوع، وبتقدير تسليمه لا نسلم أن العقل يستقل بجميع ما ينبغي خصوصا في حقوق الإله-عز وجل-فلا بد له من معين على معرفة ما لا يستقل به من مصالح المعاش والمعاد وكيفية شكر المنعم والتعبد له وتعريف المقدرات ونحو ذلك، وحينئذ لا نسلم أنهم إن جاءوا على وفق العقل لا حاجة إليهم؛ لجواز أن يعرفوه بعض ما يخفى عليه مما ينبغي له، أو يؤكدوا حكمه بحكمهم، ودليلان أقوى/ [249/ل] من دليل واحد، ولا نسلم أنهم إن جاءوا على خلافه لا يلتفت إليهم؛ لجواز أن يخالفوه فيما يخفى عنه كما مر، على أن ذلك في نفس الأمر فرض محال لإجماع الناس على أن الشرع لا يأتي بخلاف العقل في نفس الأمر، وإنما يأتي بما يقصر عن إدراكه العقل كتفضيل بعض الأمكنة والأزمنة على بعض لأسرار خفيت عنه، وكوجوب صوم آخر يوم من رمضان وإفطار الذي بعده، ونحو ذلك ومع البراهمة كلام أبسط من هذا.

وخلافا لبعض المتصوفة حيث زعموا أن الرسل سوى الله، وكل سوى الله حجاب عن الله-عز وجل-فالرسل حجاب عن الله-عز وجل-فلا حاجة بالخلق إليهم، وهذا من هؤلاء إما جهل ظاهر، وفساد عقل أصابهم من غلبة الرياضة عليهم، أو زندقة خفية وإلحاد غلب عليهم من نظر فاسد. وأيسر ما يجابون به أن كبرى قياسهم ممنوعة الكلية، وهو كاف في فساد قياسهم، فإن الرسل وسيلة إلى معرفة الله-عز وجل-والوصول

ص: 370

إليه، لا حجاب عنه، وهل يقبل ذو عقل أن يقال: نائب السلطان في بلاده حجاب عنه، فلا حاجة إليه؟ إذ الأنبياء يسوسون العباد في أمر المعاش والمعاد كنواب الملك في بلاده.

وهب أن هذا المتصوف وشرذمة قليلة من أصحابه أمكنهم الوصول إلى الله-عز وجل-بلا واسطة لقوة رياضتهم واستعدادهم وقابليتهم، فالسواد الأعظم الذين لا يمكنهم ما أمكن هؤلاء يتركون على انقطاعهم وجهلهم من غير موصل ومعرف؟ ! هذا جهل عظيم من هؤلاء، وإنما هذا كمن له عبيد كثيرون سائرون في سفر عرض لهم بحر وفيهم نفر يسير عوامون، والباقون لا يعرفون العوم، فإن مكثوا انقطعوا وإن خاضوا غرقوا، فهل ينكر العقل أن يمدوا بعوامين أو ملاحين يقطعون بهم تلك اللجة/ [117 أ/م].

{وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} (7)[النحل: 7] ربما ظن بعضهم أن المراد بهذا البلد مكة على الخصوص، وليس كذلك، بل عموم البلاد التي تحتاج فيها إلى الظهر، وتلحق المشقة دون بلوغها، وكيف ولعل الخطاب لأهل مكة وما حولها، ولا مشقة عليهم بالنسبة إلى بلوغها، لأنها دارهم وقرارهم.

{وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} (8) [النحل:

8] احتج بها أبو حنيفة ومالك-رحمهما الله-على تحريم لحوم الخيل؛ لأنه-عز وجل قرنها بما لا يؤكل، وهي البغال والحمير ونص على الحكمة في خلقها [250/ل] في سياق الامتنان به، ولو كان في خلقها حكمة سوى الركوب، لاقتضى سياق الامتنان ذكرها كما قال في الأنعام:{اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ} (79)[غافر: 79] حتى عد لها خمس حكم، ولما لم يذكر لخلق الخيل سوى حكمة واحدة، صار كقوله: لا تنتفعوا من الخيل بغير الركوب، وهو نص في المطلوب.

أما الشافعي وأحمد-رحمهما الله-ومن تابعهما، فلما رأوا هذا الاستدلال لا يخرج عنه كونه بالمفهوم وهو لا يعارض المنطوق، رجحوا عليه السّنّة الصحيحة من حديث جابر (1) وأسماء:«نحرنا فرسا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأكلناه» (2) ومثل هذا ظاهر إن لم يكن

ص: 371

قاطعا في أنه بلغه فأقر عليه، وذلك حجة في إباحة لحم الفرس، وربما علل المانعون بأن في إباحة لحم الخيل إغراء بها وتقليلا لآلة الجهاد، وهو جيد، غير أنه منتقض بالإبل كانت أكثر آلة جهادهم، وقد أبيح أكلها باتفاق، وليس لمانع أن يمنع كون الإبل من آلة الجهاد، لقوله- عز وجل:{وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6)[الحشر: 6].

{وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أي إرشاد قصد السبيل، أي عليه أن يرشدكم إلى السبيل الأقصد والطريق الأقوم الأرشد، وهذا وجوب منه لا عليه، خلافا للمعتزلة بناء على وجوب رعاية مصالح التكليف واللطف بالمكلف على الله-عز وجل-عندهم، وأنشد بعضهم في نحو ذلك:

يا من تمكن في علم ومعرفة

مفرقا بين صدق القول والكذب

هل جائز من كريم كل ذي كرم

عبد له من جميع العجم والعرب

يدعو إلى فضله قوما ويمنعهم

عند ابتداء بلا جرم ولا سبب

وتحدى صاحب هذه الأبيات بها جماعة من أهل العلم، فوقفوا إلا عن قوله:{لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} (23)[الأنبياء: 23].

وجواب ذلك لا يخرج عما قررناه في مقدمة هذا التعليق من رأي الجبرية، وهو أنه يمنعهم لعلمه بأن لو فوض إليهم خلق أفعالهم/ [117 ب/م] لامتنعوا من الطاعة و [قارفوا] المعصية، وكذلك من دعا إلى مأدبة قوما جاز أن يمنع بعضهم عنها بأسباب توجب منعه، لعلمه لفساد نية أو خبث طوية، أو لعلمه بأنه إنما أجاب كارها أو متثاقلا، وأنه لو ترك وعزمه لم يجب. {*وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ اِنْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ} (46) [التوبة: 46].

ثم قوله: هل جائز؟ إن أراد الجواز العقلي وهو الإمكان الخاص، فلا شكل في جوازه كذلك، وإن أراد هل حسن؟ فهو تحسين عقلي، وهو ممنوع.

ثم إن سؤاله خارج عن/ [251/ل] محل النزاع؛ لأن فرضه أنه دعاهم ثم منعهم ابتداء بلا موجب، ومحل النزاع فيما إذا منعهم لموجب اختص هو بعلمه، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14) [الملك: 14].

ص: 372

وهذا كما أشار إليه بقوله-عز وجل: {*وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ اِنْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ} (46)[التوبة: 46].

ثم بين سبب الكراهة بقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ} (47)[التوبة: 47].

وكما أشار إليه بقوله-عز وجل {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَاّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِتَّقى} (32)[النجم: 32].

وعند هذا التحقيق سقط ما قاله هذا القائل من التلفيق، والله ولي التوفيق.

(ومنها) أي ومن السبل (جائر) أي مائل عن القصد، وهو كقوله-عز وجل:

{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (153)[الأنعام: 153].

{وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ} (9) [النحل:

9]. يحتج به الجمهور كما سبق.

{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (11)[النحل: 11].

هذا عطف عام على خاص، ومثله:{وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ} (34)[إبراهيم: 34].

مع ما قبله و {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَاُسْجُدُوا وَاُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَاِفْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (77)[الحج: 77].

عطف عام على خاص، ثم على أخص؛ إذ العبادة أعم مما قبلها، وفعل الخير أعم من العبادة، وكلام العرب إما عطف خاص على عام نحو: وملائكته وجبريل، أو عام على خاص كما ذكر هاهنا، أو عام على عام نحو الإنس والبشر، أو خاص على خاص، نحو:

محمد وأحمد.

ص: 373

{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (17)[النحل: 17] هذا من أدلة التوحيد، وقد سبق تقريره.

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ} (27)[النحل: 27] لا ينبغي لعالم أن يغفل عن هذه، فإنها قاطعة بأن لأهل العلم مقالا بين يدي الله-عز وجل-يوم القيامة، وأنه ربما حكم بقولهم هناك إكراما لهم كما أجرى أحكامه على ألسنتهم في الدنيا.

{* وَقِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ} (30)[النحل: 30] هو عام في المحسنين مطلق في الحسنة، فكل محسن لا بد له في الدنيا من حسنة جزاء كثيرا أو قليلا، ولو وصف الإحسان.

{جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ} (31)[النحل: 31] عام مطرد، لا يقال: لو شاءوا الظلم أو الزنا لم يكن لهم فيها، لأنا نقول: يصرفون عنه فلا يشاءونه/ [118 أ/م] لغناهم عنه بخير منه، أو لمجرد الصرف عنه.

{وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (35)[النحل: 35] سبق القول على نظيرها في الأنعام.

ص: 374

طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)[الأنعام: 38]{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} (41) [النور:

41]، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} (44) [الإسراء: 44] ونحو ذلك.

{وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاِجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (36)[النحل: 36] هو مثل {فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (30)[الأعراف: 30].

{إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} (37)[النحل: 37] يحتج به الجمهور على تقدير أن فاعل يضل هو الله-عز وجل-والمعتزلة على تقدير أن فاعله راجع إلى «من» لنسبة الضلال إلى المكلف، ويحمله الجمهور على أن معناه يضل بالكسب، أو على تقدير التفويض على ما عرف، وعلى تقدير يضل غير مسمى الفاعل يحتج به الفريقان لتردد فاعل الضلال بين الله-عز وجل-وغيره كالشيطان نحو {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} (108) [الأنعام: 108]. {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} (24)[النمل: 24].

{أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (122)[الأنعام: 122] ونحوه.

ص: 375

بأمرين أحدهما بيان ما يختلفون فيه، والثاني تكذيب الكفار في دعاويهم الباطلة كإنكار البعث ونحوه، وقد دلت هذه على أن كشف الحقائق المختلف فيها إنما يكون في الآخرة، لأن هذه الدار كما أنها دار تكليف لا جزاء كذلك هي دار خلف لا كشف.

{إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} (119)[هود: 119]{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (22)[ق: 22]. وشبهتهم في إنكار البعث: أن الأجسام إذا انحل تركيبها تلاشت وصارت عدما محضا ونفيا صرفا، وإعادة ما ذلك شأنه محال.

وجوابه: لا نسلم أنها إذا انحلت صارت عدما محضا بل تنحل إلى جواهر مفردة قارة الحقائق حافظة لمواد الأجسام، والإعادة بجمع تلك الجواهر وتأليفها ثانيا كما كانت أولا، ومثاله عقد انقطع سلكه فتفرق حبه، فإعادته عقدا بجمعه ونظمه، سلمنا أنها تصير عدما محضا. لكنها مع ذلك يجوز إعادتها عن عدم، كما جاز ابتداؤها عن عدم، وتمام القول في هذا يأتي إن شاء الله-عز وجل:

{إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (40)[النحل: 40] هذا بيان لوقوع البعث ومستند صحته، وهو صلاحية القدرة الأزلية لفعل/ [118 ب/م] كل ممكن، فإن قيل: لا نسلم أن إعادة المعدوم وبعث الموتى ممكن حتى يدخل تحت عموم المقدورية، قلنا: بيان إمكانه من وجهين: أحدهما أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته.

الثاني: أن كل حقيقة وماهية من جسم وغيره فوجودها من حيث هو إما ممكن أو ممتنع، فإن كان ممكنا حصل المقصود وجاز إيجادها ثانيا كإيجادها أولا، وإن كان ممتنعا فامتناعه إما/ [253/ل] لذات تلك الماهية، أو لبعض لوازمها، أو لأمر خارج عنها، فإن كان لذاتها أو للازمها لزم ألا توجد ابتداء، وإنه باطل، لأنها قد وجدت ابتداء فتعين أن امتناع وجودها لأمر خارج عن حقيقتها وعارض من عوارضها، وذلك العارض يجوز انفكاكه عنها ومفارقته لها، فيزول امتناع وجودها لزوال سببه، وحينئذ يبقى وجودها جائزا، وهو المطلوب، أو نقول: يكون وجودها معلقا على أمر ممكن؛ وهو انفكاك ذلك الأمر العارض عنها، والمعلق على الممكن ممكن، فكل ماهية إعادتها ممكنة، وهو المطلوب،

ويورد على هذه الآية سؤال، وهو أن الشيء المراد كونه متى يقال له: كن، أفي حال وجوده، أو في حال عدمه؟

ص: 376

إن كان الأول، فتكوينه تحصيل الحاصل، وإن كان الثاني، فليس حينئذ شيئا حتى يقال له: كن، والآية تضمنت أن الذي يقال له: كن شيء، والشيء في اللغة الموجود، وهو نقيض المعدوم.

والجواب: على رأي المعتزلة سهل؛ لأن عندهم بين الموجود والمعدوم واسطة تسمى الثابت، وهو لا موجود ولا معدوم، فعلى هذا معنى الآية: إذا أردنا إخراج بعض هذه الأفراد الثابتة إلى الوجود، قلنا له: كن موجودا أو كن خارجا عن حال الثبوت إلى الوجود، فيخرج.

أما على رأي الجمهور النفاة لهذه الواسطة؛ فنقول: إن للحقائق بالنسبة إلينا وجودا خارجيا وذهنيا ولسانيا وبنانيا، أي: بالكتابة بالبنان، والوجود الذهني صورة [في الذهن] مطابقة للخارجي، وإذا عرف هذا فنحن نثبت الحقائق بالنسبة إلى الله-عز وجل-وجودا علميا على وزان وجودها الذهني بالنسبة إلينا، وحينئذ معنى الآية: إذا أردنا إيجاد شيء من الموجودات العلمية إلى الخارج، قلنا له: كن فيكون، فباعتبار وجوده في العلم صح تسميته شيئا وموجودا وباعتبار عدم وجوده في الخارج صح إيجاده وقبوله لتأثير المؤثر.

{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (43)[النحل: 43].

هذا/ [119 أ/م] جواب من قال: {فَقالُوا أَبَشَراً مِنّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} (24)[القمر: 24].

أو جواب من قال: {*وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} (21)[الفرقان: 21].

أو {وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} (8)[الأنعام: 8] ونحوه، وتقرير شبهتهم: أن هذا رجل مثلنا، فاختصاصه بالرسالة دوننا ترجيح بلا مرجح، فأجيبوا، بأنا قد أرسلنا قبله رسلا رجالا إلى أممهم السالفة، وقد سلمتم ذلك، فإن لزم المحال من إرسال محمد إليكم، فيلزم من إرسال الرجال إلى من قبلكم، وهذا واف في إبطال شبهتهم، أما بيان عدم لزوم الترجيح بلا مرجح، فقد سبق في سورة إبراهيم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده.

ص: 377

{فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي عن الرسل/ [254/ل] المتقدمين، هل كانوا رجالا أم لا، اسألوا عنهم أهل الكتاب إن أنكرتم أو جهلتم ذلك، فهذا الأمر الخاص هو سبب هذا الكلام.

ثم احتج العلماء بعموم لفظه على جواز تقليد العامي للعالم، وبمفهومه على أن العالم [لا يقلد العالم] وفي هذه أقوال ثالثها: يقلده لنفسه لا لغيره، ورابعها: يقلده إن ضاق الوقت ولم يجد الحكم في حاصله، واستدلالهم بهذه الآية على هذا الحكم بناء على أن النص الوارد على سبب خاص يعتبر عموم لفظه لا خصوص سببه؛ خلافا لمالك في ذلك وفيه عندهم تفصيل، وهو أن اللفظ إن استقل دون سببه اعتبر عمومه، وإن لم يستقل دونه اختص به.

{بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (44)[النحل: 44] هذا متعلق «بأرسلنا» لا ب «تعلمون» أي: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (43)[النحل: 43] بالبينات أي أرسلناهم {بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (44)[النحل: 44]، [هذا متعلق] وليس معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون البينات والزبر، وإنما نبهت على هذا؛ لأن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي في تعليقته في أصول الفقه تأول الآية على هذا، وعلق الباء ب «تعلمون» ، وليس الأمر كذلك، والوجه ما ذكرناه.

{بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (44)[النحل: 44] أي: كما أرسلنا الرسل قبلك بالبينات والزبر أرسلناك بالقرآن.

وأنزلناه إليك {لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وفي هذا مسائل:

الأولى: أن في الكتاب ما يحتاج إلى البيان، وإلا لم يكن للتعليل المذكور وبيان الرسول عليه الصلاة والسلام-فائدة.

الثانية: جواز التكلم بالمجمل لاستلزام الحاجة إلى [بيان ذلك].

الثالثة: ما نزل إليهم، إن كانت «ما» نكرة موصوفة، فالتقدير: لتبين للناس شيئا أو

ص: 378

كلاما نزل إليهم فلا عموم فيها، وإن كانت بمعنى الذي فهو عام أريد به الخاص وهو المجمل/ [119/ب/م] الكتابي؛ إذ فيه كثير مما هو بيّن بذاته، لا يحتاج إلى بيان.

الرابعة: أن بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن إذا وجد كان مقدما على غيره؛ لأنه المخصوص ببيان الكتاب.

الخامسة: وجوب العمل بخبر الواحد؛ لأن بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن واجب القبول، والتواتر فيه نادر، فلو لم تقبل الآحاد لتعطل أكثر البيان.

السادسة: جواز بيان المتواتر بالآحاد بخلاف النسخ؛ لأنه رفع والبيان كشف، والأقوى يكشف الأضعف، ولا يرفع به.

السابعة: (للناس) عام مخصوص بمن ليس بمكلف، إذ لا حاجة له إلى البيان، وبالكفار لأن البيان فرع الكتاب، وهم ينازعون في الأصل فلا يفيدهم البيان، وإنما يدعون أولا إلى الإيمان بالأصل ثم يبين لهم.

الثامنة: قوله-عز وجل: {بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (44)[النحل: 44].

أي: أنزلناه إليك مبلغا، نزل إليهم مكلفين به، وهو صلى الله عليه وسلم/ [255/ل] من حيث هو مكلف بأحكام الكتاب داخل في عموم الناس في التكليف، أو تقديره: أنزلناه إليك لتبلغه، وتعمل به، ونزل إليهم ليعملوا به.

{وَلِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (49)[النحل: 49] ليس هذا من باب عطف الخاص على العام، إذ الملائكة ليسوا دواب وإنما هو من باب:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} (172)[النساء: 172] في كون كل واحد من المعطوفين أفضل مما قبله.

{يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} (50)[النحل: 50] يحتج به مثبتو جهة العلو، حملا للفوقية على المحسوسة خصوصا، وقد أضيفت إلى الملائكة الذين هم غالبا في السماء، وفوقيتهم محسوسة، وحملها الخصم على الفوقية المعقولة بالربوبية والمالكية والقدرة والعظمة ونحوها.

{وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} (50)[النحل: 50] يحتج به على عصمتهم، إذ لا معنى

ص: 379

للمعصوم إلا المحفوظ من المعاصي، وهؤلاء إذا فعلوا ما يؤمرون لزم أنهم لا يعصون، لأن الأمر إما بفعل أو كفّ عن فعل فيدخل في فعلهم ما يؤمرون فعل المأمورات وترك المحظورات، ولا شيء من المعصية ينسب إلى من كان كذلك.

{* وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اِثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ} (51)[النحل: 51] هذا نهي عن الشرك، وإثبات للتوحيد يتضمن الأمر به.

{وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ} (52) [النحل:

52] إشارة إلى برهان التوحيد السابق إثباته، وتقريره: أن كل ما يدعى إلها مع الله-عز وجل-مملوك له وكل مملوك له ليس بإله معه/ [120/م] فكل ما يدعى [إلها] معه ليس في الحقيقة إلها معه.

بيان الأولى: بالآية إذ تضمنت: أن له ما في السماوات والأرض وما كان له، فهو مملوك له.

بيان الثانية: أن الإله مالك، والمملوك من حيث هو مملوك لا يكون مالكا، فالإله ليس بمملوك، فالمملوك من حيث هو لا يكون إلها، وإن شئت قلت: لو كان مع الله إله غيره لكان مملوكا له، واللازم باطل فالملزوم كذلك، بيان الشرطية أن ذلك الغير مما في السماوات والأرض، وكل ما في السماوات والأرض مملوك له، فذلك الغير مملوك له بيان انتفاء اللازم استحالة اجتماع المملوكية مع الإلهية بما سبق.

{لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (55)[النحل: 55] هذا أمر تهديد مثل: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (40)[فصلت: 40].

{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} (57)[النحل: 57] هذا حكاية مذهب الكفار، زعموا أن الملائكة بنات الله؛ لأنهم أشخاص شريفة، ولا بد لهم أن يصدروا/ [256/ل] بالولادة من غيرهم، ولا أشرف من الله يصدرون بالولادة عنه، ثم هم ليسوا بذكور، فكانوا إناثا بنات الله، وهذا تلفيق بحسب عقولهم وما ألفوه، والملائكة صادرون عن الله-عز وجل-بالخلق والاختراع، لا بالولادة، ثم رد الله عليهم بوجهين:

أحدهما: التنزيه الحقيقي العقلي، فقال عز وجل:{سُبْحانَهُ} أي تنزه عن اتخاذ

ص: 380

الولد؛ لأنه يستدعي ولادة والولادة تستدعي زوجة وافتقارا إلى الوقاع المستلزم للجمسية، وكل ذلك ممتنع في حق الله-عز وجل.

الوجه الثاني: التقريع العرفي بقوله-عز وجل {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} (57)[النحل: 57]، {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (58) [النحل: 58] أي أنهم يختارون لأنفسهم البنين الذين هم أشرف وأكمل، ويعتقدون لربهم البنات اللاتي هن أخس وأنقص، حتى إن أحدهم إذا بشر أن قد ولدت له بنت اسود وجهه من الكآبة والحزن، يتوارى من أصحابه حياء وخجلا، وظنا أن قد لحقه عار عظيم، ثم يتردد رأيه بين أن يستبقي تلك البنت على هوان وعار يلحقه منها، أو يدفنها في التراب حية، وهي الموءودة كشفا للعار عنه، ومع هذا كله يختارون لربهم نقائص البنات، ويستأثرون عليه باختيار كمال البنين، وقد كان يجب-إن لم يكن بد من سوء القالة، وقبح المقالة-أن يختاروا له أفضل القبيلين، لكن {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى} (21) / [120 ب/م) [النجم: 21].

{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} (62)[النحل: 62] فزين لهم الشيطان أعمالهم بالوسواس ومساعدة القدر {تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (63)[النحل: 63] يحتمل أنه وليهم من حين ماتوا، حيث حلوا دار البوار باتباعه؛ فيصح أنه كان وليهم يوم نزلت هذه الآية، ويحتمل أن هذا الكلام قيل في الأزل على جهة الحكاية كما يقال يوم القيامة، أي زين لهم الشيطان أعمالهم، حتى إنه ليقال يوم القيامة:{تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (63)[النحل: 63].

{وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (67)[النحل: 67] منسوخ بالنصوص في تحريم المسكر.

{وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ} (68)[النحل: 68] أي ألهمه، والوحي إما بإلهام أو إرسال أو رؤيا ونحوه.

ص: 381

{وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ} (71)[النحل: 71] شاهد على التوحيد وتقريره: أن الله-عز وجل-فضل السادة على العبيد في الرزق، ثم إن السادة لا يردون من فضل رزقهم على عبيدهم بحيث يشاركونهم ويساوونهم فيه والأصنام، وسائر الآلهة التي يدعونها مع الله-عز وجل-عبيد له ومملوكون، فلا ينبغي لكم أن تشركوهم في عبادته التي اختص بها كما [257/ل] لا تشركون عبيدكم في فضل رزقكم، وهذا دليل قياسي في التوحيد؛ فيدل على جواز استعمال القياس في الفروع بطريق أولى خلافا للظاهرية.

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} (73)[النحل: 73] دليل آخر على التوحيد، وتقريره: أن الإله هو الرازق، وآلهتكم لا شيء منها برازق، فلا شيء من آلهتكم بإله، وهو واضح.

{إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاُعْبُدُوهُ وَاُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (17)[العنكبوت: 17].

{* ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (75)[النحل: 75] دليل آخر على التوحيد، وتقريره أن الله-عز وجل-غني له ملك السماوات والأرض، وآلهتكم عبيد فقراء، فلا يساوونه في رتبة الإلهية، ولا يستحقون معه صفة المعبودية، كما لا يستوي العبد الفقير منكم والموسر الذي ينفق من يساره سرا وجهرا.

ويحتج بهذه على أن العبد لا يملك بالتمليك، لأن الفقر جعل وصفا له لازما في دليل التوحيد؛ فلا يجوز زواله، كما لا يزول التوحيد.

ص: 382

قادر كافل لخلقه آمرناه، فلا تساويه أصنامكم العادمة لهذه الصفات، كما لا يستوي رجلان أحدهما جامع لهذه الصفات، وآخر عادمها.

{وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (78)[النحل: 78] يذكرها بعضهم في أوائل المنطق فيقول: / [121 أ] إن الإنسان في مبدأ الفطرة لا يعلم شيئا، ثم إنه يدرك المحسوسات بحواسه، فيتنبه لمشاركات بينها ومباينات، فيستنتج منها تصورات وتصديقات تحصل علوما عقلية ومطالب نظرية.

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَاّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (79)[النحل: 79] هذا عند الجمهور على معنى: أنه خلق لها آلة تطير بها، وتستمسك وتنهض بها وتنزل، كما خلق للدواب قوائم تمشي عليها، [وعند الاتحادية إنما أمسكها لحلوله وسريانه بذاته فيها كما مر من حكاية مذهبهم].

{وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (93)[النحل: 93] يحتج بها الجمهور كما سبق.

{وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (101)[النحل: 101] يحتج بها على النسخ.

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (103)[النحل: 103] والإشارة إلى سلمان الفارسي، كانت الكفار يقولون: إنه يعلم محمدا أخبار الفرس وقصص الأولين، فأجيبوا بأن لسان الذي أشرتم إليه أعجمي، ولسان القرآن عربي؛ فكيف يكون تعليم البشر، وقد أورد على هذا سؤال/ [258/ل]: وهو أن يكون البشر المشار إليه يعلمه بلسانه وهو يلخصه بعبارته وفصاحته، وحينئذ لا يقدح اختلاف اللسانين في تعليم البشر له؟

ويجاب عن هذا: بأن البشر المشار إليه إن كان هو سلمان، فهو إنما أسلم بعد الهجرة بالمدينة بعد استقرار الإسلام وظهور المعجزات، وذلك لا يقدح فيما ثبت، ولو قدر أن سلمان كان يحكي له بعض أيام الفرس وقصصها على جهة التعريف بحالهم فلا يقدح في نبوة قد تقررت، ومن أين لهم أنه كان ينقل ما يسمعه من سلمان قرآنا، ولو كان ذلك

ص: 383

حقا لعورض، ثم ظهرت معارضته وقد كان النضر بن الحارث يتعاطى أن يعارض القرآن بما كان عنده من أحاديث الفرس مثل بهرام وإسفنديار ورستم ونحوهم؛ فعجز وقصر، وإن كان المشار إليه غير سلمان، فهو إما عربي كرحمان اليمامة الذي زعموه، أو عجمي، فالأول باطل، إذ لو صح [ذلك] لكان هذا العربي يدعي الأمر لنفسه، وهو أولى بالعلم الذي عنده يجعله دليلا على نبوته، وما كان ليؤثر بذلك على نفسه أحدا، والثاني باطل، وإلا فقد كان [بينهما ترجمان]، فصاروا في القضية ثلاثة، وكل حديث جاوز اثنين شائع؛ فكان يجب أن يشيع ذلك ويشتهر، ويتعين فاعله، كما اشتهر أمر مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وسجاح، وغيرهم من الكذابين.

والذي يظهر لي في سبب هذه الشبهة أنها فتنة فتنهم الله-عز وجل-بها، وإن بعض كفار مكة أو غيرهم/ [121 ب/م] كشف له حتى رأى جبريل يوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة بشر دحية الكلبي أو غيره، فقالوا: إنما يعلمه بشر، وأشاروا إلى شخص كان جبريل على صورته.

{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (104)[النحل: 104] يحتج بها الجمهور على أنه-عز وجل-يملك منع الهداية، فلا يهتدي أحد إلا بإرادته، وأجاب المعتزلة بأنه جعل مع هدايتهم عقوبة على كفرهم بآياته؛ فذلك الكفر منهم؟ قلنا: نعم هو منهم بكسبهم، وخلق الله-عز وجل-إياه فيهم، وإذا ملك سلب هدايتهم عقوبة ملكه ابتداء، ولو كان لهم جهة خلق الكفر لكان لهم جهة خلق الهداية، لما منعهم إياها، وحينئذ كانوا غالبين لله-عز وجل-وهو محال/ [275/ل].

{مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} (106) [النحل:

106] يحتج بها الشيعة على جواز التقية كما سبق تقريره في آل عمران، واختلف فيمن أكره [على كلمة الكفر] بالقتل، أيما أفضل له: إعزاز الدين بالامتناع والصبر على القتل، أو حفظ نفسه بالإجابة مع اعتقاد الإيمان؟ فيه قولان.

ويحتمل أن الأفضل فعل الأثقل على نفسه، ورجح بعضهم حفظ النفس استبقاء للحقوق الإلهية التكليفية فيها، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمار:«إن عادوا فعد» مع قوله له ولمن معه:

«صبرا فإن موعدكم الجنة» (1) فلو كان الامتناع أفضل لاختاره لهم؛ لأنه أسرع لهم إلى الجنة.

ص: 384

{أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} (108)[النحل: 108] يحتج بها الجمهور كما سبق أول البقرة.

{* يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (111)[النحل: 111] إن قيل: هذا يوجب أن يكون لكل نفس نفس؛ فيلزم التسلسل، قيل: ليس كذلك بل النفس لفظ مشترك بين الهيكل الجسماني ذي الروح، والجوهر البسيط المستوكر له المسمى نفسا؛ فالهيكل نفس تجادل عن الجوهر، الذي هو نفس، ومجادلتها محاجتها عن نفسها بما ترجو أن يخلصها.

{فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاُشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ} (114)[النحل: 114] أي توحدونه بالعبادة، وهي تدل على أن شكر النعمة من التوحيد؛ لأنه يضيف النعمة إلى الله-عز وجل-وحده كما توجه العبادة إليه وحده، {وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121]، لعله إشارة إلى هدايته للنظر والاستدلال بأفول الكواكب على وجود الصانع، ثم إلى طمأنينة القلب برأي العيان، وحينئذ فيه إشارة إلى أن طريق النظر والاستدلال صراط مستقيم، وأنه يرجى إيصاله إلى مقام العيان؛ لأن النفس إذا استعدت لقبول العيان، بالعلوم النظرية صارت كسراج فيه ذبالة مرواة بالزيت، فإذا أشرقت عليها أنوار المعرفة أوقدتها فعادت كمشكاة/ [122 أ/م] فيها مصباح.

{ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (123)[النحل: 123] يحتج بها من رأى أنه صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة غير متعبد بشريعة أحد؛ إذ لو تعبد بشريعة أحد، لكان أولى ما تعبد به شريعة إبراهيم-عليه السلام-لأنها اختيرت له بعد النبوة، ثم لو كان متعبدا بها قبل النبوة؛ لكان مستصحبا لها إلى ما بعدها، فلم يحتج إلى تجديد الأمر باتباعها، وقد اختلف في هذه فقيل: لم/ [276/ل] يكن متعبدا بشريعة أحد، لئلا يكون تبعا لغيره، وقيل: كان على ملة إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى، وقيل: كان يتعبد بما يراه، وهو معصوم فيه على جهة التفويض على مذهب موسى بن

ص: 385

عمران الأصولي كما سبق.

{إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (124)[النحل: 124] اختلف قوم في بقاء تحريم السبت على اليهود، وفيه قولان للعلماء:

أحدهما: هو باق، لاعتقادهم له واعترافهم وتدينهم به، مؤاخذة لهم بإقرارهم.

والثاني: أنه ليس بباق، لثبوت نسخه بشريعتي المسيح ومحمد-عليهما السلام-فلو استباحه يهودي اتجه تعزيره وتأديبه على الأول، لانتهاكه حرمة يعتقدها لله-عز وجل دون الثاني.

{اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125)[النحل: 125] يحتج بها المنطقيون على صحة علمهم ووجوب استعماله في الدعاء إلى الله-عز وجل-لإقامة الحجة وكشف الشبهة، قالوا: لأن المنطق ليس إلا علما يتعرف فيه أحوال الأقيسة النظرية قوة وضعفا، وصحة وفسادا؛ ليتوصل بها إلى تحقيق الحق وإبطال الباطل، وجملة الأقيسة المبحوث عنها في المنطق خمسة: البرهاني والإقناعي والجدلي والسوفسطائي والشعري، والثلاثة الأول هي المعول عليها في المطالب العلمية، فالبرهان لإدراك اليقين، ويصلح لمن ارتاض بالحكمة، أو كانت له فطرة جيدة يدركه بها، والإقناع للعامة القاصرين عن رتبة البرهان، والجدل لمن يقصد المغالبة أو المغالطة في الحق فيلقى به ليكف عاديته، وأشير في الآية إلى هذه الثلاثة وسمي البرهان حكمة والإقناع الخطابي موعظة، وأشار إلى الجدلي بقوله:{اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125)[النحل: 125].

أما السوفسطائي فتشكيك في الحقائق، وإنما يعرف ليجتنب، أو ليبطل إن شكك به.

والشعري تخييل يؤثر قبضا وبسطا في النفس يخدع به الناس عن أموالهم، فلا يستعملان في غير ذلك فلم يبق إلا الثلاثة الأول المشار إليها في الآية، وهي المقصود من علم المنطق، وإنما قلنا: إن استعماله في الدعاء إلى الحق واجب؛ لأنه أمر بالدعاء إليه به والأمر للوجوب، ولأن المنطق للمعاني كالنحو للألفاظ/ [122 ب/م] فبدونه لا تتحرر الحجج، وما لم تتحرر الحجج لا يتضح الحق؛ فلذلك قلنا: إن استعماله واجب، وعلى المنطق

ص: 386

شكوك قد ذكرت غير هاهنا، والتنبيه من الآية على معنى ما ذكرناه وذكره الإمام فخر الدين في أول شرح الإشارات.

{اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) / [259/ل]) [النحل: 125] يستدل به على أنه هو خالق الإضلال والهدى لقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14)[الملك: 14] فلما علم بمن ضل دل على أنه خلق ما به ضل.

{إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (128)[النحل: 128] معية إعانة وعناية ونصرة ورعاية.

ص: 387