الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في سورة النور
{الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2)[النور: 2] عام خص بالمكره ومن ليس بمكلف ونحوهم.
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5)[النور: 4، 5] هذا استثناء تقدمه جمل تصلح لرجوعه إليها، وفيه وفي نظائره أقوال:
أحدها: يرجع إلى جميعها إلا لمانع، وهو مذهب الشافعي وأحمد.
والثاني: يختص بالأخيرة فقط لقربها وحصول المقصود، وهو تعليق الاستثناء بها، وهو قول أبي حنفية/ [305/ل].
والثالث: أن رجوعه إلى الجميع وإلى الأخيرة وقد استعمل فهو مشترك بين الأمرين، فالوقف على مرجح واجب، وهو قول القاضي أبي بكر.
والرابع: الوقف لتردد الحال بينهما، وهو قول الشريف المرتضى من الشيعة، فهو وقف ترددي وما قبله اشتراكي، وعلى هذا فاتفقوا في هذه الآية على أن القاذف إذا تاب لا يسقط الجلد عنه؛ لأنه حق آدمي كالدين وعلى أن فسقه يزول، واختلفوا في قبول شهادته فقبلها الشافعي وأحمد ردا لحكم الاستثناء إليها لصلاحيته لذلك من غير مانع بخلاف الجلد؛ إذ كونه آدميّا مانعا من السقوط، ولم يقبلها أبو حنيفة لاختصاص الاستثناء بزوال الفسق، فلم يتعد إلى قبول الشهادة، ووجهوه بأن استمرار رد شهادته عقوبة على جنايته فلم ترتفع كالجلد، ولا يلزم من زوال الفسق قبول الشهادة؛ لأنها قد ترد لمانع كشهادة الوالد لولده وعكسه والرجل على عدوه ونحوه، ردت شهادتهم للمانع الخاص مع ثبوت العدالة، فحاصله: أن قبول / [144 ب/م] الشهادة هل يلحق بالجلد في استمراره أو بالفسق في زواله وهو أشبه؛ لأن الظاهر أن المراد بهما شيء واحد، وإنام عبر تارة باللازم، وهو رد الشهادة وتارة بالملزوم، وهو الفسق تعظيما للقضية وتقبيحا لها، كما يقال: الذي يسرق فأقم عليه حده واقطعه ونكل به، واحرمه الانتفاع بجارحته وكف عاديته عن الناس والكل واحد.
{* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (21)[النور: 21] أي: لاتبعتم الشيطان وخطواته فلم يزك منكم أحد، فاقتضى أن العصمة من الشيطان بفضله، والوصمة بوساوس الشيطان ومكائده بقدر الله-عز وجل-وعدله، ويحتج به الجمهور {وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (21) [النور: 21] يؤكد ذلك لاختصاص التزكية بمن شاء.
{وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (22)[النور: 22] احتج بها الجمهور على فضل أبي بكر لأنها نزلت فيه؛ إذ ترك الإنفاق على مسطح وقد وصف فيها بأنه من أولي الفضل [أي والله الذي لا إله إلا هو أنه من أولي الفضل أعظم أولي الفضل من هذه الأمة-رضي الله عنه وأرضاه-] وأجابت الشيعة [لعنهم الله] بأن المراد فضل المال وكثرته بدليل اقترانه بالسعة لا الفضل الذي هو الكمال وضد النقص، لكن يحتج بها الجمهور من موضع-آخر وهو قوله-عز وجل:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (22)[النور: 22] وهو يدل على أنه مغفور له.
{الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (26)[النور: 26] هذا مع قوله في أول القصة {إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ} (11)[النور: 11] وما بينهما يحتج به الجمهور على براءة عائشة رضوان الله عليها/ [306/ل] مما رميت به، والأحاديث الصحيحة دلت على ذلك حتى قال بعض الحنفية بكفر من قذف عائشة لمخالفته القاطع دون غيرها.
إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)[النور: 31] فيه مسألتان: إحداهما وجوب التوبة على كل مؤمن، لأنها مأمور بها والأمر للوجوب، ولأن المؤمن لكونه غير معصوم لا يخلو من ذنب يوجب التوبة، كيف وإن أكثر أحواله ذنوب إلا من وفق.
الثانية: احتج بها من رأى التوبة من الأعمال الصالحة، وزعم أن ذلك شأن الأبرار والمقربين، وتقرير حجته أن المخاطب بالتوبة هم المؤمنون ولا تتجه توبة المؤمن إلا من العمل الصالح، وهذا ضعيف، وإنما يصح لو كان المؤمن معصوما من المعاصي أما وهو غير معصوم فتتجه توبته من معاص تقع منه، نعم لو احتج بأن الآفات المفسدة للأعمال كالرياء والعجب ونحوهما خفية عن المؤمن غالبة عليه جدا؛ فالظاهر أن عمله لا يسلم منها، ثم إن القسمة العقلية/ [145 أ/م] تقتضي أن العمل إما أن يقطع بسلامته من المفسدات، أو بفساده بها، أو يتردد فيه بين الأمرين، والعلم بسلامة العمل عزيز نادر أو متعذر في العادة، فصار الغالب في العمل إما القطع بفساده أو التردد فيه، فوجب الاستغفار والتوبة منه بناء على الغالب؛ لأن الطاعة إذا فسدت صارت معصية كالعصير إذا فسد صار خمرا، وصار الجهل بسلامة العمل كالقطع بفساده فتجب التوبة كما قيل في باب الربا: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، فيجب اجتناب المعاملة فيه-لكن هذا تقرير جيد غير خارج عن قواعد الشرع والنظر وهذا المذهب يعزى إلى المحققين من أهل الطريق، ويرجع إلى أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فالعارف المقرب يرى الحسنات بالإضافة إلى غيره سيئات بالإضافة إليه فيتوب منها.
واحتج الآخرون بأن التوبة هي الندم على الفعل والعزم على تركه، والطاعات لا يجوز الندم على فعلها ولا العزم على تركها فالتوبة منها لا تجوز.
والجواب: أن هذا خارج عن محل النزاع، لأن الطاعة التي يقطع بصحتها وسلامتها من مفسد لا تجب التوبة منها، وإنما تجب التوبة من الطاعة لا من حيث هي طاعة، بل من حيث
اشتملت غالبا على معصية كالرياء ونحوه من المفسدات، وهذا كمن اشترى دراهم أو سلعة مغشوشة وجب له ردها على صاحبها لا من حيث هي فضة بل من حيث هي مغشوشة، فينبغي للإنسان أن يتوب بهذا الاعتبار من جميع أفعاله احتياطا، ولا يعول/ [307/ل] منها على شيء، ولا يلقى الله-عز وجل-إلا فقيرا إلى رحمته غير ملتفت إلى غيرها، أما توبته من المعاصي فلقبحها، وأما من الطاعات فلعدم القطع بسلامتها لغلبة المفسدات الخفية والظاهرة عليها، ولا يلتفت إلى إنكار الظاهريين لهذا فإنه مقام نظري لم يصلوا إليه.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (33)[النور: 33] هذا عطف واجب على مندوب؛ إذ الكتابة ندب والإيتاء فيها واجب.
{وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (33)[النور: 33] يحتج به من لم ير المفهوم حجة؛ لأن مفهوم هذا: إن لم يردن تحصنا فأكرهوهن على البغاء وليس الحكم كذلك.
وأجيب بأن هذا المفهوم لا يتصور، فبطلانه لعدم تصوره، لا لأن المفهوم ليس حجة، وبيانه أن الإكراه إنما يكون على خلاف الإرادة والاختيار، فالأمة إذا أرادت التحصن صح إكراهها على الزنا، أما إذا لم ترد التحصن وأرادت الزنا فلا يصح إكراهها عليه؛ لأن الإكراه/ [145 ب/م] حينئذ على وفق مرادها، فهو تحصيل الحاصل، وهذا كما إذا امتنع الإنسان من دخول الدار صح أن يدفع في قفاه أو يلبب ويجر ليدخلها، أما إذا دخلها مختارا فلا يصح ذلك منه وكان تحصيل الحاصل.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ} (39)[النور: 39] فيه أن الكفر لا يزكو معه عمل ولا تنفع معه حسنة، وأخذ بقياس عكسه قوم، فقالوا: الإيمان لا تضر معه سيئة فأرجأوا العمل وأبطلوا الوعيد عن العصاة وهم المرجئة، وليس كذلك.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} (41)[النور: 41] هو من باب {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} (44)[الإسراء: 44] واحتج به من قال بأن من أعتق طائرا زال ملكه عنه؛ لأنه مصل مسبح بهذا النص فصح عتقه كالآدمي، ويعترض عليه بأن الصلاة والتسبيح ليست متحدة فيهما بالحقيقة فلم يتحد جامع القياس فلا يصح.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} (43)[النور: 43] اختلف في كاد فقيل: هي كسائر الأفعال نفيها نفي وإثباتها إثبات، وقيل عكسه: نفيها إثبات وإثباتها نفي، فكاد زيد يقوم معناه ما قام، ولم يكد زيد يقوم معناه قام، والصحيح الأول؛ لأن كاد معناها مقاربة الفعل فإذا دخل عليها نفي انتفت مقاربة الفعل، فانتفاء نفس الفعل أولى إلا بدليل يثبته، وفى الإثبات يثبت مقاربة الفعل ويبقى نفس الفعل على استصحاب النفي إلا بدليل يثبته، فقولنا: كاد زيد يقوم أي قارب القيام أما كونه قام فالأصل عدمه إلا أن يثبت بدليل، وقولنا/ [308/ل]: ما كاد زيد يقوم، أي: ما قارب القيام، فانتفاء القيام بنفسه أولى إلا أن يثبت بدليل؛ فههنا {يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} (43) [النور: 43] إثبات لمقاربة ذهاب البصر فنفس ذهابه على أصل العدم ولا دليل عليه ثبته، أما {أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} (40) [النور: 40] فمعناه: لم يقارب رؤيتها فانتفاء رؤيتها أولى، لكن ثبت رؤيتها بدليل العادة أن اليد لقربها ترى على كل حال، فهذه قاعدة كاد وحاصلها أن كاد لمقاربة الفعل وهو من لوازم الفعل، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم، وثبوته لا يقتضي ثبوته إلا لدليل منفصل فيهما وقد تبين ذلك، وهذه القاعدة مطردة في كاد حيث وقعت، وعليها يتخرج قول ذي الرمة:
إذا أغير النأي المحبين لم يكد
…
رسيس الهوى من حب مية يبرح
أي لم يقارب البراح، وإذا انتفت مقاربة البراح فانتفاء نفس البراح الذي هو ملزوم مقاربته المنفية أولى، وبهذا يتبين خطأ ابن شبرمة في اعتراضه على ذي الرمة حيث قال له:
أراه قد برح، وخطأ ذي الرمة حيث يرجع إلى ابن شبرمة وغير «يكد» «أجد» ما استدرك عليهما/ [146 أ/م] أبو البختري، والأشبه أن الوهم إنما هو من ابن شبرمة وحده، فأما ذو الرمة فإنما رجع إليه؛ لأنه لما رأى المكان موضع وهم يهم فيه مثل ابن شبرمة مع فضله وأدبه أراد رفع الاستدراك عن كلامه، والوهم فيه بالكلية وتخلصه عن شوائب الاستدراكات والأوهام هذا عذر ذي الرمة.
{وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (45)[النور: 45] عام، واعترض عليه بعض النصارى بأن العقرب ونحوها من الحشرات مخلوقة من التراب لا من الماء وجوابه من وجوه.
أحدها: منع أن التراب المحض يتكون منه حيوان أصلا.
الثاني: أنه ليس المراد بتكوين الدواب من الماء البسيط الذي هو أحد العناصر الأربعة بل من الماء المستل من الأبوين وهو النطفة والعقارب تتناسل كغيرها.
الثالث: أن المراد بخلقها من ماء أن بدنها لا يتقوم إلاّ برطوبة مائية، وهذا لازم في كل حيوان.
الرابع: هب أن ما ذكرته صحيح لا جواب عنه فيكون الكلام عاما مخصوصا بالعقرب ونحوها، أو عاما أريد به الخاص، وذلك لا يعد تعارضا ولا تناقضا ولا خلفا من القول ولا يقدح في القرآن، ولا في غيره، من الكلام بوجه.
وأما تناقض إنجيلهم فقد قررنا منه شيئا كثيرا في كتاب مستقل.
{لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (46)[النور: 46] يحتج به الجمهور في تعليق الهداية/ [309/ل] بالمشيئة وجودا وعدما، وأما الآيات فالمقصود بها إقامة الحجة بالكشف عن طريق المحجة لا غير، أما أنها تهدي الهداية المخلصة فلا وإنما هي مرشدة.
ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) [النور:
54] هذا وعيدي محكم نحو: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ} (41)[يونس: 41] وليس بمنسوخ.
{أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (55)[النور: 55] يحتج بها الجمهور على صحة خلافة الأشياخ الثلاثة قبل علي، وتقريره: أن الله-عز وجل-وعد مؤمني هذه الأمة بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين وتبديل خوفهم بالأمن، ووعد الله-عز وجل-واقع لا محالة، ثم لا يخلو أن يكون المراد بالذين آمنوا المستخلفين في الأرض عليا وحده، أو عموم مؤمني الأمة، أو عموم خلفائها، أو الأشياخ الثلاثة الخصوص وليس المراد عليا وحده؛ لأن الوعد للذين آمنوا، وعلي وحده ليس جمعا ولا يصح التعبير عنه بلفظ الجمع إلا مجازا من باب العام أريد به الخاص ولا ضرورة إليه، سلمنا أنه المراد لكن الآية تضمنت أن استخلافه كاستخلاف من قبله، الذين قبله الأشياخ الثلاثة، فيلزم صحة استخلافهم [كصحة استخلافه] تحقيقا للتشبيه، وإلا لزم بطلان استخلافه تحقيقا للشبيه أيضا وإنه باطل/ [146 ب/م] باتفاق ولا يجوز أن يكون المراد عموم مؤمني الأمة إذ لم يستخلف كل واحد منهم ولا حاجة إلى ذلك؛ إذ الخلفاء رعاة وواحد من كل عصر يكفي، فتعين أن المراد إما الأشياخ الثلاثة على الخصوص فيحصل المقصود، أو عموم خلفاء الأمة فيحصل أيضا لاندراج الأشباح الثلاثة تحت عموم الخلفاء، هذا أحسن ما قرر به الدليل من هذه الآية.
واعترضت الشيعة [أبعدهم الله] بأن قالوا: لا نسلم أن الاستخلاف هاهنا من الخلافة التي هي الإمامة والسلطنة، وإنما هو من الخلف المقابل للسلف، وقولهم: خلف فلان فلانا على زوجته أو ماله ونحوه، وحينئذ لا دلالة في الآية على ما ذكرتم أصلا، ويكون الخطاب لجميع الأمة أنهم يخلفون من تقدمهم من الأمم في الأرض كما قال عز وجل:{ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (14)[يونس: 14] وقد أنجز الله-عز وجل-وعده بأن جعل هذه الأمة خلفاء في الأرض عمن قبلها من الأمم ولا تعرض في ذلك للخلافة والإمرة أصلا، سلمنا ذلك لكن الموعود باستخلافه هو المهدي عند نزول عيسى، يمكن الله له الدين بعد اضطرابه بالدجال، ويبدل به الخوف أمنا والجور عدلا، أما في أول الإسلام فتمكين الدين/ [310/ل] وتبديل الخوف حصل
بالنبي صلى الله عليه وسلم لا بغيره، سلمنا أن المراد الخلفاء الثلاثة بخصوصهم لكن الاستخلاف والوعد به لا يقتضي أن يكون حقا؛ لأن الله-عز جل-قد استخلف في أرضه من عباده محقا ومبطلا، ويعد الإنسان بخير بالنسبة إليه، ثم قد يكون ذلك الخير شرا في نفس الأمر [كما يعد ملكا بفتح مدينة يقتل فيها ويسبي؛ فذلك خير بالنسبة إلى الملك شر في نفس الأمر] فكذلك خلافة هؤلاء جاز أن تكون من هذا القبيل.
هذا هو الكلام على هذه الآية من الطرفين في هذا المعنى، والعموم فيها قوي فلا تدل على خصوصية الأمر المتنازع فيه إلا دلالة لطيفة كما قررناه.
{لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (63)[النور: 63] يحتج به على أن مقتضى الأمر المطلق الوجوب لأنه-عز وجل-توعد المخالفين لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفتنة والعذاب، والوعيد إنما يكون على ترك واجب أو فعل محرم، وذلك يقتضي أن مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم حرام فامتثال أمره واجب، وهو المطلوب، وتلخيص الدليل: أن مخالفة أمره متوعد عليه وكل متوعد عليه حرام فمخالفة أمره حرام، فامتثاله واجب.
…