الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في سورة النساء
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً} [النساء: 1] الضمير عام إذ جميع الناس خلقوا من تلك النفس.
{وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً} (2)[النساء: 2] عام مطرد في اليتامى تدفع إليهم أموالهم بشرطه المذكور بعد.
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ} [النساء: 2] أي: مضمومة إليها، فمعنى الغاية موجود، ولا ضرورة إلى حملها على معنى مع.
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا} (3)[النساء: 3] عام مطرد في الصفة، خاص في (لكم) أي: أنكحوا هذا العدد المخصوص على أي صفة كن من الصفات الطبيعية ونحوها.
{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا} (3)[النساء: 3] عام خص بذوات محارمه من نسب أو رضاع إذا ملكهن، لا يباح له وطؤهن ونحو ذلك، مما قام الدليل على تخصيصه.
{وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} (4)[النساء: 4] عام خص بما وهبته المرأة له أو أبرأته منه، أو سقط بأمر من جهتها فلا يجب إيتاء شيء/ [45 ب/م] من ذلك.
وقيل فيه غير ذلك.
{وَاِبْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً} (6)[النساء: 6] عام مطرد، أي اختبروهم فإن صلحوا لتسليم المال إليهم سلموا بشرط البلوغ والرشد.
{وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] عام مطرد.
{وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وهو الأقل من كفايته وأجرة مثله، فلو كانت كفايته درهما كل يوم وأجرة مثله درهمين أو بالعكس، أخذ درهما لأنه المعروف [المتيقن استحقاقه].
{لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} (7)[النساء: 7] الظاهر أن هذا النصيب بالإرث؛ فيكون عاما مخصوصا بالعبد [والقاتل والكافر] من المسلم وبالعكس، وبمن حجب فلم يرث، وكذا {وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء: 7] أما ما ترك فعام أيضا، يخص بالوصايا ونحوها، وبالديون لا نصيب للورثة في شيء من ذلك.
ولقائل أن يقول: مقدار الدين لم يتركه الميت فلا يتناوله العموم، فلا يحتاج إلى أن يخص، وجوابه بالمنع بل هو تركة يتناوله العموم، بدليل ما لو برئ الميت من الدين تناول العموم مقداره بلا خلاف. نعم ذلك المقدار تعلق به حق الغير، وذلك لا يمنع من دخوله تحت عموم التركة.
{وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} أي: قسمة الميراث {أُولُوا الْقُرْبى} [النساء: 8] يعني قرابة الميت الذين لا إرث لهم {وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [النساء: 8] عام في هذه الأصناف إلا من خص بدليل وإعطاؤهم من الميراث على جهة الصدقة والتبرع والأمر به ظاهر في الوجوب، ويحتمل الندب.
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)[النساء: 10] عام مطرد في أموال اليتامى، ومن فرط فيها، وخاص في الأكل [أريد به العام]، إذ ليس المراد خصوصه، بل عموم تفويت أموالهم عليهم، وإنما خص الأكل؛ لأنه غالب ما يغصب لأجله المال.
{يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً} (11)[النساء: 11] أي في توريثهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] خص منهم من سبق من عبد وكافر وقاتل ومحجوب كابن الابن يحجبه الابن، وبنت الابن يحجبها بنات الصلب.
{آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً} (11)[النساء: 11] عام مطرد فيهم إذ لا يعلم عاقبة النفع والضرر فيهم إلا الله-عز وجل-وفيه إشارة إلى أن تفاوت أنصباء الورثة بالقلة والكثرة والإرث والحجب لتفاوت نفعهم للموروث في علم الله عز وجل دنيا وأخرى.
{* وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (12)[النساء: 12]، وكذلك {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] عام في الأزواج والزوجات خص بمن لا يرث كالرقيق/ [97/ل] والذمي والقاتل فلو ترك زوجة أمة أو ذمية أو قاتلة له لم ترثه، وكذا لو تركت زوجا عبدا أو قاتلا لم يرثها.
{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (13) / [46 أ/م][النساء: 13].
{وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ} (14)[النساء: 14] عام فيهما بشرط الموافاة على ذلك.
{وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} (15)[النساء: 15] عام في إتيان الفواحش غير أن الآية منسوخة في إمساكهن في البيوت، بما شرع فيهن من الجلد والرجم والتغريب.
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (17)[النساء: 17] هذا عام في هؤلاء مطرد.
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ} [النساء: 17] أي واجب منه بمقتضى صدق وعده لا أنه واجب عليه، خلافا للمعتزلة، إذ أوجبوا عليه قبول التوبة، ورعاية المصالح وفعل اللطف وإزاحة [العلل في التكليف]؛ لأنه لو لم يجب عليه لجاز له تركه، ولو تركه لكان [ذلك قدحا في الحكمة والعدل، وأنه محال.
وقال الجمهور: لو وجب عليه شيء من ذلك لكان] فوقه موجب أعلى منه شرع أو عقل وأنه محال، إذ الله-عز وجل-هو العلي المطلق، فلا أعلى منه، ولا نسلم أنه لو ترك شيئا مما ذكرتم لكان قد جار في حكمه أو عدل، فلم قلتم ذلك، فإن الله يتصرف في خلقه بحق ملكه التام واستعلائه العام، وإنما هذا من الخصم بناء على التحسين والتقبيح العقلي، وهو ممنوع.
[النساء: 18] عام مطرد في سلب قبول التوبة عن هذين الفريقين لكنهما إنما تنقطع عن عامل السيئات عند حضور الموت، ومعاينة الملك ونحوه، وهي مقبولة ما لم ييأس من الحياة إن شاء الله عز وجل.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (19)[النساء: 19] عام في الوارث والموروث وجهة الإرث.
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً} (20)[النساء: 20] عام خص بما تراضيا عليه كتواهب أو تخالع كما سبق في قوله-عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} (229)[البقرة: 229].
{وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ} [النساء: 22] عام، والاستثناء بعده منقطع، فليس بمخصوص، نعم من يرى أن النكاح حقيقة في الوطء، وأن الزنا لا يوجب تحريم المصاهرة يخص منه موطوءة الأب بالزنا فيبيحها للابن واختلف في النكاح؛ فقيل: هو حقيقة في العقد، وقيل: في الوطء، وقيل فيهما.
والأشبه أنه في الوطء حقيقة وضعية، وفي العقد حقيقة عرفية مجاز لغوي، ثم من يرى استعمال اللفظ الواحد في حقيقه ومجازه معا/ [98/ل] فقياس قوله التحريم بهما، ومن لم ير ذلك غلب إحدى الحقيقتين فحرم بها دون الأخرى والأشبه الأول.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} (23)[النساء: 23] عام فيهن من الطرفين كأمه وأمها وأم أبيه وأم جده ومن ولدتهن وإن علون.
{وَأَخَواتُكُمْ} من الطرفين أو أحدهما {وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ} كذلك إذ العمة أخت الأب من الجهات/ [46 ب/م] الثلاث، والخالة أخت الأم منهن.
{وَبَناتُ الْأَخِ} الذي هو من الجهات الثلاث، (وبنات الأخت) التي هي كذلك.
{وَأُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] عام فيهن من النسب والرضاع.
{وَرَبائِبُكُمُ} [النساء: 23] الواحدة ربيبة، وهي بنت زوجته المدخول بها دون غير المدخول بها، فلو دخل بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها. ولو عقد عليها ولم يدخل بها حرمت عليه أمها لعموم {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ} [النساء: 23] دون ابنتها لخصوص {مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، ولا أثر لتخصيصهن بالحجور؛ لأنه دليل خطاب خرج مخرج الغالب، وليس بحجة خلافا لداود حيث أباح للرجل ربيبته التي ليست في حجره لظاهر دليل الخطاب.
{وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} (23)[النساء: 23] خص به عموم مسمى الأبناء فخرج منه أبناء التبني لا النسب، كزيد بن حارثة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسالم بالنسبة إلى مولاه أبي حذيفة فلا تحرم عليه زوجته، وهو عام في تحريم زوجة الابن وابن الابن وابن البنت لأنه من الصلب بواسطة أمه [البنت] وإن سفلوا في هذه البنوة.
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} (23)[النساء: 23] أي: والجمع بين الأختين حرام عليكم؛ فاقتضى عمومه تحريم الجمع بينهما بالنكاح والملك.
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا (3)[النساء: 3]{إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (30)[المعارج: 30] جوازه بملك اليمين، من ثم قيل: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فمن ثم حرم الجمع بينهما بالنكاح إجماعا، وخرج فيه بالملك قولان للعلماء: أحدهما: يحرم لعموم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} (23)[النساء: 23] والثاني: تباح لعموم: {إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (30)[المعارج: 30] ثم من حاول ترجيح الإباحة قال: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] خاص بتحريم النكاح فتبقى إباحة الجمع بينهما بالملك على عمومه من غير معارض، ومن حاول ترجيح التحريم قال:
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا} (3)[النساء: 3] عام خص بأمته المشركة والمجوسية لا تحل له.
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} (23)[النساء: 23] عام لم يخص، [وما لم يخص] أولى بالاعتبار، مما خص، فيكون العمل بمقتضاه أولى والأشبه الأول، ثم قوله/ [99/ل]:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3] ذهب الكرخي (1) إلى أنه مجمل؛ لأن عين [الأم والميتة] لا تحرم، وإنما المحرم هو فعل متعلق بها. وذلك الفعل غير متعين؛ لاحتمال أنه من الأم وطؤها أو استخدامها أو إجارتها وغيره من الأفعال، ومن الميتة أكلها أو بيعها أو
إتلافها ونحوه.
فكان النص فيها مجملا، والجمهور على أنه ليس بمجمل، والتحريم ينصرف إلى الفعل المعهود، وهو الاستمتاع بالأم، وأكل الميتة/ [47 أ/م] وصار ذلك كالحقيقة العرفية لمبادرة الذهن إليه خصوصا، والآية مكتنفة بذكر النكاح قبلها وبعدها نحو:{وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً} (22)[النساء: 22].
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ} [النساء: 25] فصار ذلك كالقاطع في البيان، وهذه من مسائل المجمل والمبين.
{* وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ} [النساء: 24] أي المزوجات يعني ذوات الأزواج حرام عليكم وهو عام خص بالاستثناء بعده {إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} [النساء: 24] بالسبي، لأن سبيهن يقطع عصمة نكاحهن، فإذا اعترض الملك بابتداء الرق على النكاح قطعه وأباح، وإذا اعترض النكاح على الملك كالأمة يزوجها السيد، لم يبح له وطؤها.
{وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} [النساء: 24] أي نكاح ما سوى المحرمات المذكورة، وهو عام خص بالسّنّة في تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها ونكاحهما عليها.
{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ} [النساء: 24] عام في جنس المال وقدره، فيستدل به على جواز كون المهر نقدا وعرضا من جماد وثياب وحيوان وجوهر أو عرضا كالمنافع؛ إذ هي كالمال في مقابلتها بالعوض وعلى جواز كونه قليلا وكثيرا كخاتم حديد وقنطار ذهب.
{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ} [النساء: 24].
احتج الشيعة بهذا على جواز نكاح المتعة، وهو عقد النكاح إلى مدة معلومة مع باقي شروطه عند الجمهور، من خلوها من زوج وعدة، وغير ذلك ولحوق النسب فيها ونحوه
من آثار النكاح، وخالفهم الجمهور.
حجة الشيعة من وجوه أحدها: هذه الآية، وجه استدلالهم بها قوله عز وجل:
{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ} [النساء: 24] وهو بعمومه يتناول المتعة ثم قال: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]. وهو عام أيضا يتناولها مع أنه صرح بلفظ مشتق منها، وهو استمتعتم تنبيه على أنها مراده من العموم؛ لئلا يطمع طامع في تخصيصها أو في عدم تناول/ [100/ل] العموم لها.
الوجه الثاني: ما روى جابر بن عبد الله قال: «كنا نتمتع» ، أو قال:«تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر بالرغيف والقبضة من الشعير حتى حرمها عمر في شأن عمر بن حريث» ، أو كما قال، رواه مسلم (1).
قالوا: وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أباحها، ثم لم ينسخها حتى مات، بحيث عمل بها في خلافة الشيخين عملا مشهورا.
وأيضا فتحريم عمر لها يقتضي بقاء إباحتها [إلى خلافته].
الوجه الثالث: ما روي عن علي أنه قال: لولا أن عمر حرم المتعة، لما زنى إلا شقي رواه ابن شاهين (2) في كتاب الناسخ والمنسوخ له. ويدل على/ [47 ب/م] ذلك ما روي من قول عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحرمهما يعني: متعة الحج، ومتعة النكاح (3). فدل على أن إباحتها استمرت إلى بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم.
الوجه الرابع: ثبت أن المتعة أبيحت قبل خيبر أو في أيامها، ثم حرمت بحديث عليّ الصحيح عند الخصم في ذلك، وهو قوله:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن المتعة، وعن لحوم الحمر الإنسية» (4) رواه البخاري وغيره؛ ثم ثبت إباحتها يوم الفتح إباحة تواترت؛ لأنه-عليه الصلاة والسلام-أشاع إباحتها في جميع الجيش، وهو يومئذ اثنا عشر ألفا ثم
ادعى الخصم نسخها بخبر واحد وهو حديث سيرة بن معبد الجهني (1) ونحوه.
والقاعدة: أن الآحاد لا تنسخ التواتر فلنتمسك بالتواتر في إباحتها حتى يرد لها ناسخ يساويه في القوة.
الوجه الخامس: حديث ابن مسعود (2) حين تذاكروا المتعة عنده؛ فتلا: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (87)[المائدة: 87]، وذلك يقتضي بقاء إباحتها، وأنها من الطيبات، وإلا لما خفي ذلك على ابن مسعود عادة.
الوجه السادس: إجماع أهل البيت على إباحتها وهو عند الشيعة معصوم.
الوجه السابع: أن المتعة غايتها أنها نكاح مؤقت؛ فكان جائزا كالمؤقت في الدوام، فيما إذا علق طلاقها بما يجب وقوعه، كطلوع الشمس ومجيء الليل، ومن ثم أوقع مالك الطلاق في الحال إلحاقا لتوقيت الدوام بتوقيت الابتداء عنده.
الوجه الثامن: إذا تعارضت الأدلة في المتعة فلنرجع فيها إلى الأصل فيما قبل الشرع، وهو الحل في الأفعال.
الوجه التاسع: أن المتعة مذهب ابن عباس، وهو حبر القرآن، وبحر العلم، وقول/ [101/ل] الصحابي حجة عند كثير من علماء الجمهور.
الوجه العاشر: أن المتعة فيها توسعة على الناس بمستند شرعي، وكل ما كان كذلك كان جائزا، فالمتعة جائزة، والمستند الشرعي ما سردناه من الأدلة على جوازها، ولا يلزم عليه الزنا إذ هو توسعة؛ لأنه لا مستند له من الشرع بل الشرع صرح بتحريمه، والإجماع منعقد عليه.
هذا ما استحضرته لهم على إباحة المتعة، وقد رأيت لبعضهم على ذلك خمسة عشر وجها لم أستحضر جميعها، وأكثر هذه الوجوه إلزامي للخصم إذ الشيعة لا تحتج بأخبار الآحاد.
احتج الجمهور بوجوه: أحدها قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (234)[البقرة: 234] والمتعة ليست من المعروف، فتتضمن الجناح فتكون حراما.
الثاني: حديث علي/ [41 أ/م] رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة يوم خيبر. والأصل بقاء ما كان على ما كان.
الثالث: أن أئمة الحديث كمسلم وغيره نقلوا حديث سبرة بن معبد نقلا مستفيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم المتعة، والتغليظ فيها، وتأبيد تحريمها إلى يوم القيامة بألفاظ كثيرة مختلفة، ومثل ذلك ينسخ به غيره.
الرابع: إجماع الجمهور من الصحابة ومن بعدهم على تحريمها، وهو قاطع، فلا يعارضه غيره.
الخامس: أن ذات المتعة لا زوجة، وإلا لورثت منه إذا مات، ولا ملك يمين، وإلا لما جاز نكاحها له، وحينئذ يكون حراما، وهو بنكاحها عاد لقوله-عز وجل:{إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (6)[المؤمنون: 6].
هذه حجج الفريقين في المسألة [على ما] حضرني الآن، ولكل على حجة صاحبه اعتراض، وجواب يطول ذكره.
يعني إذا تزوجت الأمة [ثم زنت]؛ فعليها نصف حد الحرة المحصنة، وهو عام في تنصيف الحد خص بالتغريب فلا تغرب ولا ترجم؛ لعدم الإحصان الشرعي، وإنما تجلد خمسين جلدة، فكأنه قال: نصف ما على المحصنات مما يقبل التنصيف والجلد يقبله دون التغريب؛ لأنه معنى بسيط لا يقبل التجزئة بخلاف الضرب فإنه مجموع حركات يقبل التجزئة من حيث هي مجموع، فإن قيل: تغريب العام نصفه تغريب نصف عام؛ فقد قبل التجزئة، قلنا: إنما قبلها هاهنا باعتبار طرفه الزماني لا بحسب ذاته، إذ حقيقة التغريب أنه التفريق بينه وبين وطنه، ومفهوم التفريق من حيث هو لا يعقل فيه التجزئة كضده/ [102/ل] الذي هو الجمع بينهما.
{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25] أي: وصبركم عن النكاح أو عن نكاح الإماء خير لكم، وهو عام يخص بمن خشي بتركه العنت، فإنه يشرع في حقه وجوبا أو ندبا.
{يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (26)[النساء: 26] قد يستشعر منه أن من قبل هذه الأمة أفضل منها إذ جعلوا كالقدوة لها وهو مناقض لما سبق من كونها خير أمة أخرجت للناس.
والجواب: أنه لا نسلم أنه يشعر بذلك ولو أشعر به لكنه محتمل، وغيره قاطع فلا يعارضه.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} [النساء: 29] عام مطرد، والاستثناء بعده وهو {إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] منقطع فلا يكون مخصصا.
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً} (29)[النساء: 29] أي: لا تقتلوها مباشرة، ولا/ [48 ب/م] تسببا فهو عام يخص في المباشرة بما إذا قال الجاني للولي: أنا أقتص لك من نفسي؛ فرضي جاز، ويقتل الجاني نفسه في ذلك؛ لأن ذلك حق عليه يؤديه، أو لأن يده كيد الولي، وفي التسبب بكل ما تضمن مصلحة مطلوبة شرعا كالجهاد، ونحوه مما سبق في {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195) [البقرة: 195].
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً} (30)[النساء: 30] عام مطرد، وفي تقييده بالعدوان إشارة إلى تخصيص ما قبله إذ يدل على أن قتل الإنسان نفسه قد لا يكون عدوانا وظلما؛ فيجوز إلا أن يحمل هذا التقييد على عادة كانت، أو أن ذلك هو مقتضى قتل نفسه.
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} (31)[النساء: 31] فيه انقسام السيئات إلى كبائر وصغائر، وأن اجتناب جميع الكبائر مكفر لجميع الصغائر، واختلف في الكبائر، فقيل: السبع المنصوص عليها (1). وهي
الشرك، والقتل، والسحر، والقذف، وأكل مال اليتيم، والزنا، وشهادة الزور.
وزيد فيها في حديث آخر: التولي عن الزحف، وأكل الربا.
وقيل: هي سبعون موزعة على الجوارح (1).
وقيل: هي ما ترتب عليه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة.
وقيل: هي المنصوص عليه، وكل معصية ساوى قبحها ومفسدتها واحدة من المنصوص عليه وهو أجود الأقوال ما ذكر منها، وما لم يذكر.
وقيل: لا صغير في الذنوب، بل كلها كبائر نظرا إلى عظم المعصى.
كما قيل: لا تنظروا إلى صغر الذنوب، ولكن انظروا على من اجترأتم.
وهو خلاف مقتضى هذه الآية، وقوله-عز وجل:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَاّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِتَّقى} (32)[النجم: 32] وتكفير الصغائر باجتناب الكبائر مناسب عرفا وشرعا، أما عرفا فلأن الملك إذا أطاعته الرعية ولم تنازعه ملكه وكان حليما صفح لها عن سائر ما يصدر عنها من الجرائم، وأما شرعا؛ فلأن الشخص إذا اجتنب النجاسة المغلظة كالبول/ [103/ل] والغائط، عفي له عن النجاسة الخفيفة المختلف فيها، وإذا اجتنب ما يمكنه التحرز منه، عفي له عما يشق تحرزه منه كطين الشوارع، ونحوه، ولو أتى كبيرة واحدة، اختل شرط تكفير الصغائر.
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} (33)[النساء: 33] هذا عام في إرث المولى بالموالاة، ثم نسخ بإرث الأقارب.
{أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً} (24)[النساء: 24] هو عام وهو شبيه بقوله-عز وجل {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)[البقرة: 228] أي: يقومون بأمر النساء ويكفلونهن.
{وَاللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاُهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاِضْرِبُوهُنَّ} الآية عامة، وذلك حكم كل ناشزة.
{* وَاُعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً} (36)[النساء: 36] عام في تحريم الفخر والخيلاء/ [49 ب/م] وبغض فاعلهما خص من ذلك الخيلاء حال الحرب، لقوله صلى الله عليه وسلم «إن هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا المكان» (1)، أو في حال الضرورة.
{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً} (38)[النساء: 38] هو عام في ذم الشيطان، خص بقرين النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبر أنه أعين عليه فأسلم إذا قيل: أنه صار مسلما، فإنه لا يذم حينئذ.
{وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً} (39)[النساء: 39] يحتج بها القدرية، وتقريره لو كان الكفر وانتفاء الإيمان مخلوقا له لما لامهم عليه، فدل على أنه مخلوق لهم.
وجواب الكسبية: أنه لامهم على كسبهم للكفر على وفق إرادتهم.
وجواب الجبرية: أنه لامهم على ما ظهر على جوارحهم، أو على ما لو فرض إليهم كان معصية وكفرا.
{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (40)[النساء: 40] عام مطرد، ومفهوم الموافقة دل على نفي الظلم في أكبر من ذلك.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً} (43)[النساء: 43] يستدل بها على صحة تكليف من لا يفهم كالناسي والسكران. إذا كان هذا خطابا تكليفيا للسكارى، ولا حجة فيه، إنما هو خطاب للصحابة أن لا يقربوا الصلاة حال سكرهم أو خطاب لهم بأن لا يسكروا ثم يقربوا الصلاة.
{إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً} (48)[النساء: 48] فيها مسألتان:
إحداهما: أن الشرك لا يغفر لمن مات عليه ومدركه سمعي كهذه الآية ونحوها، لا عقلي إذ العقل لا يمنع العفو عن كل كافر.
المسألة الثانية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً} (56)[النساء: 56] يقتضي أن أفعاله-عز وجل-وأحكامه معللة بالأمور الحكمية، وقد اختلف في تعليل أحكامه-عز وجل-على قولين: أحدهما: لا تعلل، لأن كل من فعل فعلا لعلة كان مستكملا بتلك العلة، ما لم يكن له قبلها/ [105/ل] من الكمال، فيكون ناقصا بذاته مستكملا بغيره، وذلك على الله-عز وجل-محال.
والثاني: أنها تعلل؛ لأن كل فعل لا علة له ولا غاية فهو عبث، [والعبث] على الله- عز وجل-محال.
والتحقيق في هذا أن العلة تارة يراد بها موجب الفعل وموجده، وتارة غايته والحكمة الباعثة على فعله؛ فإن أريد بالعلة هاهنا الأولى، فالله-عز وجل-هو علة أفعاله لا علة لها سواه، وإن أريد بها الثانية؛ فلا بد منها تحرزا عن لزوم العبث، إذ من لا غاية لفعله يقصدها به إما عابث أو فاعل بالطبع، وكلاهما على الله-عز وجل-محال، ولا يلزم استكماله
بغيره، وإنما يلزم ذلك أن لو كانت مصالح أفعاله ونفعها عائدا إليه، وليس كذلك إنما هي عائدة إلى خلقه، فالكمال المستفاد بتلك العلل الغائية لهم لا له سبحانه وتعالى.
فإن قيل: أي نفع لخلقه في تجديد جلود أهل النار ليذوقوا العذاب؟
قلنا: زجر السامعين بذلك ليرتدعوا من مثل أفعال أولئك المعذبين.
{* إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (58)[النساء: 58] عام، ربما خص بما إذا تعلق برد الأمانة مفسدة راجحة مثل مال المحجور عليه بيد الولي إذا خاف من رده إليه تضييعه، وسلاح أهل الحرب والبغاة ونحوهم، إذا كان أمانة وعلم أو ظن أنه إن رد إليهم استعانوا به على الفساد فيجب تعويقه/ [50/أ/م] حتى تؤمن غائلته وأشباه ذلك.
{وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] عام مطرد.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59)[النساء: 59] عام مخصوص، بما إذا دعوا إلى بدعة أو معصية لا تجوز طاعتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم:
«إنما الطاعة في المعروف لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .
وقد امتنع كثير من أئمة السلف من إجابة الخلفاء إلى المناكر والمفاسد والبدع، وهم في ذلك قدوة، والآية المذكورة لهم حجة.
{فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] يحتج به الظاهرية على إنكار القياس، لأن الحكم إما مجمع عليه، فلا حاجة إلى القياس فيه، أو مختلف فيه، فيجب رده إلى الله والرسول والمراد كتاب الله-عز وجل-وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واستفادته منهما وهذا موضع بيان، فلو كان القياس مدركا للحكم لوجب ذكره هاهنا، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وأنه باطل، وأجاب القياسيون/ [106/ل] بأن القياس مستفاد من الكتاب والسّنّة، فرد الحكم إليهما يتضمن اعتبار القياس لأنا نقول: القياس يقتضي أن الحكم المتنازع فيه كذا وكذا.
والكتاب والسّنّة دلا على أن القياس دليل معتبر.
[النساء: 64] هذه اللام تفيد تعليلا تكليفيا لا تكوينيا قدريا، ومعناه: إنا أرسلنا الرسل لقصد تكليف الناس طاعتهم، وليس المراد أنا أرسلناهم وقدرنا طاعة الخلق لهم، إذ لو قدرت طاعتهم من جميع الخلق لكانت، لكن الواقع بخلافه بدليل معصية الأكثر لهم، وهذا هو القول في نحو:{وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} (56)[الذاريات: 56] وأشباهه، وأما قوله-عز وجل {بِإِذْنِ اللهِ} فأفاد أن طاعة المطيع مشروطة بإذن الله-عز وجل-فيها وتقديره لها، بحيث إنها بدون ذلك لا توجد، وهذا متردد بين المعتزلة والجمهور؛ لأن المعتزلة يقولون: أشار بإذن الله إلى الإمداد بالألطاف، والأفعال مخلوقة للمكلفين. والجمهور يقولون: أشار به إلى أنه يخلق أفعالهم على وفق إرادتهم وأكسابهم، أما باقي الآية وهو:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاِسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوّاباً رَحِيماً} (64)[النساء: 64] فيقوي به المعتزلة دعواهم [إذ هم] لا يكونون ظالمين بما هو فعل لله-عز وجل-ولا مستغفرين منه، ولو كان كذلك لكان الله-عز وجل-غافرا لفعل نفسه.
والجواب على رأي الكسبية والمجبرة معروف، وقد تكرر في عدة مواضع، وقد سبقت قاعدته.
قوله-عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (65)[النساء: 65] هذه عظيمة في الاعتصام بالسّنّة والتسليم لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وقد/50 ب/م] تنازعتها فرق الأمة في المسائل التي كفر بها بعضهم بعضا، إذ كل فرقة تقول للأخرى: لو آمنتم لسلمتم ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم لكنكم لم تسلموا فأنتم كفار أو ضلال وخصوصا الشيعة والسّنّة؛ فإن الشيعة زعموا أن الصحابة لم يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الإمامة ولم يسلموا له حكمه؛ إذ خالفوا نصه عليّ يوم الغدير فخرجوا عن الإيمان بذلك.
والسّنّة قالوا لهم: أنتم لم تحكموا النبي صلى الله عليه وسلم ولم تسلموا له، إذ نص على فضل- الصحابة-رضي الله عنهم-وقطع لهم بالجنة معينا منهم وغير معين، ثم أنتم تكفرونهم فخرجتم عن الإيمان بذلك.
هكذا ترتيبهم في الحقيقة فقد يحتج به من يرى الواو للترتيب، ولا حجة فيه لأن هذا ترتيب اتفاقي لا اقتضائي.
{أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] هو من باب: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} (154)[آل عمران: 154] وقد سبق القول فيها، وإدراك الموت لهم، إما بدخوله عليهم غير مانع أو بخروجهم إليه بما يخلق في نفوسهم من دواعي الخروج والصوارف عن القعود.
[النساء: 78] يعني السيئة والحسنة وهما المكروه والمحبوب والجدب والخصب، ويتناول بعمومه الطاعة والمعصية لأنهما حسنة وسيئة ويحتج به الجمهور على أن الله-عز وجل خالق المعاصي والشرور حتى جعل من خالف ذلك لا يكاد يفقه بما ذكر في تمام الآية.
وعارضت المعتزلة بقوله-عز وجل {ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً} (79)[النساء: 79] وأجيب بأن معناه فبكسبك جزاء على فعلك نحو {وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} (166)[آل عمران: 166] مع قوله-عز وجل: {أَوَلَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (165)[آل عمران: 165]. وقيل: معناه فمن نفسك على جهة الإنكار أي ليست السيئة التي تصيبك من نفسك فتنفق مع التي قبلها، وحذف همزة الاستفهام إذا دل عليه دليل جائز نحو:
{وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ} (34)[الأنبياء: 34] أي: أفهم الخالدون.
(79)
[النساء: 79] فيه عموم الدعوة إلى عموم الناس نحو {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (28)[سبأ: 28].
{وَأَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً} (79)[النساء: 79] أي على رسالتك يشهد لك بإظهار المعجزات على صدقك، إذ المعجز في قوة قول الله عز وجل. صدق عبدي في أنه رسولي، وهاتان من مسائل النبوات، والثانية مقررة للأولى؛ لأنه إنما [بينت عموم دعوته بإخباره وما ورد على لسانه، وخبره إنما يقبل إذا ثبت صدقه، وصدقه إنما] ثبت بالمعجز، فإذن نظم الدليل هكذا: محمد صلى الله عليه وسلم أتى بالمعجز وكل من أتى بالمعجز فهو صاد [ق: وكل [51 أ/م] صادق يجب قبول خبره [فمحمد صلى الله عليه وسلم يجب قبول خبره]، وقد أخبر بعموم دعوته فيجب قبول خبره بعموم دعوته وهو المطلوب.
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (80)[النساء: 80] هذه وأمثالها نحو {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ} (174)[الصافات: 174] وأشباهه يحتمل أنه إشارة إلى الوعيد لهم فيكون محكما، ويحتمل أنه على ظاهره في التولي والإعراض عن قتالهم فيكون منسوخا بآية السيف، وهذه كالقاعدة الكلية في هذا الضرب/ [108/ل] والأشبه أنها وعيد فلا نسخ وأيضا الأصل عدمه (فأعرض عنهم) من هذا الباب.
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً} (82)[النساء: 82] هذا قياس استثنائي، يستثنى منه نقيض التالي، فينتج عين المقدم هكذا، لكن لا يجدون فيه اختلافا فليس هو من عند غير الله [فهو إذن من عند الله] عز وجل.
وهذا القياس يلزمه لو لم يكن من عند الله لما اتفق لكن اتفق فهو من عند الله، والمراد بالاختلاف التناقض المحض بشروطه، وهو ليس موجودا في القرآن كما بيناه في كتاب «دفع التعارض عما يوهم التناقض» لا مطلق الاختلاف؛ لأنه موجود كثيرا في القرآن لكن ذلك لا يقدح؛ فإن قيل: لم قلتم: إنه لو كان من عند غير الله لزمه الاختلاف وظاهر أنه ليس كذلك؟ فإن كثيرا من الكتب المصنفة هي من عند غير الله-عز وجل-ولا
اختلاف فيها [لإتقان مصنفها له] وتدبرهم إياها.
وجوابه من وجهين: أحدهما أن مثل القرآن في نظمه وطريق إعجازه لو قدر أن بشرا تكلفه في مثل حجمه للزمه الاختلاف لو عورة طريقه على السالك غير المعصوم.
الثاني: أنه لو تكلفه بشر بغير إذن إلهي لأعجزه الله فيه بوقوع الاختلاف فيه الدال على كذبه لما عرف من أنه-عز وجل-لا يؤيد بالمعجزة كذابا، تمييزا للصادق من غيره.
{اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} (87)[النساء: 87].
هاهنا مسألتان: إحداهما: التوحيد الذي هو مقتضى لا إله إلا الله.
والثانية: المعاد والحشر ليوم القيامة، وسيأتي برهانهما في موضعه إن شاء الله-عز وجل.
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} (87)[النساء: 87] عام مطرد، أي: لا أحد أصدق منه حديثا، وفيه تقرير لدعوى التوحيد والمعاد المذكورين في سياقه {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ} الآية، هي من قواصم الظهر على المعتزلة لتصريحها بإسناد الإضلال إلى الله عز وجل-وتأويلهم المشهور وهو أن معنى (أضل الله) أصابه ضالا من باب: أبخلت زيدا وأجبنته إذا أصبته كذلك لا يتجه هاهنا؛ لأن معنى الآية: أتريدون أن/ [51 ب/م] تناقضوا حكم الله-عز وجل-فتجعلون مهتديا من جعله الله-عز وجل-ضالا! ليس لها معنى إلا هذا، وهو [يأبى] تأويلهم
[النساء: 88] يعني إلى الرشد؛ لأن من يضله الله-عز وجل-يسد عليه طرق الاهتداء بما يخلق في نفسه من الصوارف عنه والدواعي إلى الضلال، ويطبع على قلبه ومن يفعل الله-عز وجل-ذلك به لا يجد إلى الرشد سبيلا وهو عام مطرد.
قتل المؤمن خطأ، وإنما التقدير لكن إن قتله خطأ فالإثم ساقط، ويحتمل كونه متصلا على تقدير {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً} إذ قتله حرام يأثم به إلا قتله خطأ فلا يأثم به {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ} [النساء: 92] هو عام مطرد في الرقبة لأنها حق الله-عز وجل-ومخصوص في الدية بما إذا تصدق بها الأولياء على القاتل سقطت؛ لأنها حقهم {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ} [النساء: 92] هو عام مطرد فيمن لم يقدر على عتق رقبة، أن يصوم شهرين.
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً} (93)[النساء: 93] احتج بها المعتزلة على تخليد قاتل المؤمن عمدا عدوانا.
ونقل عن ابن عباس القول بتخليده، وقال: تكاتف الوعيد فيها، ولم ينزل بعدها ما ينسخها. ثم طرد المعتزلة حكمها في كل ذي كبيرة لم يتب عنها.
وأجاب الجمهور بوجوه: أحدها أنها محمولة على القاتل مستحلا؛ لأنه حينئذ يكفر باستحلال القتل، وحكمه التخليد، أما غير المستحل فلا، [فهي] عندهم عام مخصوص، وقد [أجمعنا] على تخصيص عمومها بالقتل العدوان إذ ظاهره أن المتعمد كيف ما قتل وجب تخليده.
وبالإجماع لو قتله عمدا في حد أو قصاص لما كان عليه حرج والعام إذا خص ضعف.
ومن ثم اختلف في كونه حجة بعد التخصيص، وحينئذ يتسلط عليها تخصيصنا المذكور.
والثاني: أنها نسخت بآية الفرقان {إِلاّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} (70)[الفرقان: 70] الآيتان بالآية ولقائل أن يقول: دعوى نسخها ضعيفة؛ لأنها خبر، والخبر لا ينسخ، لأن ذلك يستلزم الكذب، ويجاب عنه بأنها وإن كانت خبرا لكنها تضمنت حكما شرعيا والخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه من جهة كونه حكما شرعيا لا من جهة كونه خبرا.
الثالث: أنها معارضة بقوله-عز وجل: {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} وهو يتناول القتل عمدا، وهو يقتضي أن القاتل عمدا في المشيئة لا مجزوم له بالتخليد، ولقائل أن يقول:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً} (93)[النساء: 93] أخص من {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ}
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)[النساء: 48][52 أ/م] والخاص مقدم، ومما يجاب به عنها الأحاديث الصحيحة المستفيضة [110/ل] في أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله (1) وهو يتناول القاتل عمدا وغيره. ولقائل أن يقول: الآية أخص من مقتضى الحديث، والخاص مقدم.
{فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (95)[النساء: 95][أول ما نزلت] هكذا عامة، ثم خصصت ب {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95] وهي تقتضي التسوية بين المجاهد بماله ونفسه، والقاعد عن الجهاد [لضرر أو زمانة بنية الجهاد] لو قدر وزايله الضرر، وهو موافق لأحاديث السّنّة نحو حديث مسلم من رواية سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من سأل الشهادة خالصا من قلبه بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه:«إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا نزلتم منزلا إلا كانوا معكم» قالوا: وهم بالمدينة؟ ! قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر» (3).
ومن هاهنا أخذ علي-رضي الله عنه-قوله فيما روي عنه أنه قال في حروبه في الجمل وصفين والنهروان: لقد حضر حروبنا هذه قوم هم الآن في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، سيلفظهم الدهر. أي حضروا معنا بالنيات على تقدير وجودهم، ولعلك تستبعد هذا، وهو قريب جدا إذ ليس مقصود الجهاد نصرة الله-عز وجل-من كل، ولا تكثيره من قل؛ لأن الله-عز وجل-قادر على الانتصار من كل عدو له بكلمة أو يجمعهم على الإيمان به والطاعة له، فلا يبقى له عدو، وإنما مقصود الجهاد امتحان النفوس
ببذلها في حبه وتعريضها للهلاك في سبيله، ولا فرق في ذلك بين من بذل نفسه بالفعل ومن بذلها بالقوة بالنية الصادقة.
وشواهد هذا كثيرة ومرجع الجميع إلى أن الأعمال بالنيات ولا يقدح فيما ذكرناه.
قوله-عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (95)[النساء: 95] لأن المراد بالقاعدين بغير نية الجهاد، أو أنه يفضلهم من جهة دون جهة مثل أن يسوي بين الفريقين في كمية الأجر، ويفضل المجاهدين في كيفيته.
ونحو ذلك {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً} (97)[النساء: 97] يحتج بها الشيعة على التقية كما فعل البخاري في كتابه. وقد سبق وجه الاستدلال بها في آل عمران.
{* وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} (100)[النساء: 100] يحتج بها المعتزلة على أن ثواب الطاعة واجب على الله-عز وجل-ويتبع ذلك أن أفعال المكلفين مخلوقة لهم. وقد سبق الجواب عن ذلك.
{وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً} (101)[النساء: 101] يحتج بهذه مع قول يعلى بن منية (1): ما بالنا/ [52/ب/م] نقصر وقد أمنا-على أن مفهوم الشرط حجة. ووجهه أن هذا الرجل العربي فهم من تعليق جواز قصر الصلاة على الخوف انتفاءه عند انتفاء الخوف، وكذلك/ [111/ل] عمر بن الخطاب-رضوان الله عليه- فهم ذلك فأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على فهمهما، ثم بين لهما أن انتفاء الجواز عند [الانتفاء] إنما
هو من جهة أخرى وهي الصدقة عليهم والتخفيف عنهم.
ولولا أن المفهوم المذكور حجة لما فهماه ولما أقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على فهمهما إياه.
وبعضهم يترجم مفهوم الشرط بأن يقول: المعلق على شيء بحرف «إن» عدم عند ذلك الشيء نحو: إن دخلت الدار فأنت طالق؛ علق طلاقها على الدخول، فينتفي عند انتفاء الدخول.
والمفهوم على أضرب: مفهوم الشرط والحصر والصفة والعدد واللقب وغير ذلك مما سيقع في مواضعه إن شاء الله، عز وجل.
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً} (101)[النساء: 101] هو لكفار معهودين، أو عام أريد به الخاص، أو عام خص بمن أسلم منهم بعد ذلك أو صار أخا وصديقا لا عدوا، أو المراد: كانوا لكم عدوا حال كفرهم.
{وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً} (102)[النساء: 102] فيه دليل على جواز فرض مسائل لم تقع بعد، وإعداد حكمها لوقت وقوعها؛ لأن الله-عز وجل-بين لهم حكم المطر والمرض قبل وقوعه على تقدير وقوعه.
{وَلا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (104)[النساء: 104] فيه ترجيح أحد الدليلين المتعارضين بما يختص به من أسباب القوة؛ لأن الله-عز وجل-قال للمؤمنين: جدوا في جهاد الكفار، ولا يصدنكم عنهم ألم الجهاد؛ فإن الألم مشترك بينكم وبينهم، وتترجحون عليهم برجاء ثواب الآخرة دونهم، وذلك مما يناسب جدكم في جهادكم.
ويحتمل أن المراد: بما أراكه بواسطة نظرك واجتهادك في أحكام الكتاب وأدلته. وفيه على هذا دليل على أنه-عليه الصلاة والسلام-كان يجتهد فيما لا نص عنده فيه من الحوادث. وهي مسألة خلاف في أصول الفقه.
حجة من أجاز هذه الآية وأن الاجتهاد في الأحكام منصب كمال، فلا ينبغي أن يفوته صلى الله عليه وسلم وقد دل على وقوعه منه قوله صلى الله عليه وسلم:«لو قلت: نعم، لوجبت» (1).
و«لو سمعت شعرها قبل قتله لم أقتله» (2) في قضيتين مشهورتين.
حجة المانع: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى} (4)[النجم: 3، 4] ولأنه قادر على يقين الوحي، والاجتهاد لا يفيد اليقين [112/ل] فجوازه في حقه والحالة هذه كالتيمم/ [53 أ/م] مع القدرة على الماء.
ثم على القول الأول: وهو أن الاجتهاد جائز له؛ هل يقع منه الخطأ أم لا؟ فيه قولان للأصوليين، أحدهما: لا (3) لعصمته، صلى الله عليه وسلم.
والثاني: نعم (4)، بشرط أن لا يقر عليه، استدلالا بنحو:{عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ} (43)[التوبة: 43].
{ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (67)[الأنفال: 67] ونحو ذلك.
ويتعلق بهذا مسألة التفويض: وهي أنه هل يجوز أن يفوض الله-عز وجل-إلى نبي حكم الأمة؛ بأن يقول: احكم بينهم باجتهادك، وما حكمت به فهو حق، أو وأنت لا تحكم إلا بالحق؟ فيه قولان، أقربهما الجواز، وهو قول موسى بن عمران من الأصوليين؛ لأنه مضمون له إصابة الحق، وكل مضمون له ذلك جاز له الحكم أو يقال: هذا التفويض
لا محذور فيه، وكل ما كان كذلك كان جائزا.
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} (108)[النساء: 108] هذه المعية عند الجمهور بالعلم، وعند بعض الفرق من المتكلمين والصوفية بالذات كالهواء مع الناس بذاته ولا يرونه، والأول قول الأئمة.
والخلاف مطرد في {قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى} (46)[طه: 46]{قالَ كَلاّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} (15)[الشعراء: 15]{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (7)[المجادلة: 7] ونحوه.
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} (108)[النساء: 108] عام مطرد، أي بالعلم، وهو يدل على قول الأئمة في أن المعية بالعلم أيضا.
{ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} (109)[النساء: 109] ظاهره استعمال الجدل يوم القيامة عند الحساب، يحتج الله-عز وجل-على خلقه، ويحتج كل منهم لنفسه، ويحتج بعض الناس على بعض؛ بدليل:{وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (76)[البقرة: 76] وهو يدل على شرف علم الجدل؛ إذا كان طريقا إلى لزوم الحق ونفي الباطل في الدنيا والآخرة.
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً} (110)[النساء: 110] عام، لكن بشرط الإخلاص في التوبة والاستغفار وسابقة القبول.
{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (111)[النساء: 111] عام مطرد.
{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً} (112) [النساء:
112] عام خص منه من دخل دار الحرب بغير أمان ولا عهد، بل مغيرا أو متلصّصا جاز أن يقتل ما شاء، ويحيل به على بعضهم؛ لأن له أذاهم مباشرة فبالتسبب أولى.
{وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} (113) [النساء:
113] عام أريد به الخاص وهو الضرر في الدين؛ بدليل {وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء: 113] وإن حمل على أنه عام مطلق كان مخصوصا بما لحقه من أذى الكفار وضررهم كيوم أحد ونحوه. [113/ل].
{وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (113)[النساء: 113] إن أريد بالحكمة السّنّة دل على أنها منزلة كالكتاب، وكان / [53 ب/م] هذا شاهدا، وموافقا لقوله صلى الله عليه وسلم:«ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه، وإن جبريل يأتيني بالسّنّة كما يأتيني بالقرآن» (1).
{وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] إن جعلنا «ما» نكرة موصوفة: أي علمك شيئا لم تكن تعلمه؛ فلا عموم. وإن كانت خبرية عامة فالمراد بها خصوص ما علمه، أو كانت مخصوصة بما استبد الله-عز وجل-به مما لم يكن يعلمه، بدليل:
{فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (114)[طه: 114] ولو كان قد علم كل ما لم يعلم لم يبق شيء يسأل زيادة علمه.
{* لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (114)[النساء: 114] عام في نفي الخير فيه، خص بالاستثناء المذكور.
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ} [النساء: 114] عام مطرد.
قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً} (115)[النساء: 115] هذه
عمدة الجمهور في أن الإجماع حجة (1) وتقريره أن الله-عز وجل-توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين؛ فدل على تحريمه ويلزم منه وجوب اتباع سبيل المؤمنين وهو الإجماع، أو نقول: اتباع غير سبيل المؤمنين متوعد عليه، وكل متوعد عليه حرام، فاتباع غير سبيل المؤمنين حرام، وسبيل المؤمنين هو الإجماع، فاتباع غير الإجماع حرام، فاتباع الإجماع واجب، واعترض عليه بوجوه: الأول: أن قولكم: توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين، تريدون أنه توعد عليه وحده أو مع غيره؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم، لكنه حينئذ لا يدل على تحريمه؛ لجواز أن يكون التحريم إنما هو للجموع المركب من اتباع غير سبيل المؤمنين ذلك الغير، وهو مشاقة الرسول هاهنا، فلا يكون اتباع غير سبيل المؤمنين بمفرده حراما.
الوجه الثاني: سلمنا أن التوعد عليه بمفرده، وأن ذلك يدل على تحريمه لكن لم قلتم: إنه يلزم منه حينئذ وجوب اتباع سبيل المؤمنين؟ وظاهر أنه ليس كذلك لاحتمال الواسطة بين سبيل المؤمنين وسبيل غيرهم. وهو الوقف بين طريقين لا طريق هؤلاء، ولا طريق هؤلاء، بل بينهما وسطاء، إما على [جهة الجواز] والإباحة التي لا رجحان لأحد طرفيها، أو على جهة الوقف والتردد في مهلة النظر وبتقدير هذه الواسطة [لا يلزم اتباع سبيل المؤمنين، وفي هذا الوجه نظر؛ لأن هذه الواسطة] إنما تصور لو قيل: «ويتبع سبيل غير المؤمنين» أما إذا قيل: ويتبع غير سبيل المؤمنين فتندرج الواسطة المذكورة تحت هذا القسم الممنوع فلا يبقى متعينا إلا اتباع سبيل المؤمنين.
الوجه الثالث: لم قلتم: إن/ [54 أ/م] سبيل المؤمنين/ [114/ل] هو الإجماع ولا بد، بل جاز أن يكون سبيل المؤمنين هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وترك مشاقته المتوعد عليها، حتى كأنه قيل: ومن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين في متابعته وترك شقاقه، وحينئذ يكون الوعيد على الكفر وترك الإيمان لا على ترك الإجماع.
وجاز أن يكون سبيل المؤمنين هو ما صاروا به مؤمنين وهو الإيمان حتى كأنه قيل:
ويتبع غير سبيل المؤمنين، وهو الإيمان، وهذا متجه جدا؛ لأنه يصير من باب اقتران الحكم بالوصف المناسب لاشتقاق المؤمنين من الإيمان، وجاز أن يكون سبيل المؤمنين هو ما سبق في الآية قبلها، وهو الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح، حتى كأنه قيل: ويتبع غير سبيل المؤمنين في الأمر بهذه الخصال.
وإذا احتمل سبيل المؤمنين هذه المعاني امتنع تعينه للإجماع، أو نقول حينئذ: تبقى الآية فيه ظاهرا لا قاطعا، ثم يلزم المحال من وجهين: أحدهما إثبات القاعدة القاطعة بالظاهر المحتمل، وهو إثبات الأقوى بالأضعف، وهو باطل.
والثاني: أن الظاهر إنما عمل به بالإجماع، فلو أثبت الإجماع بالظاهر لزم الدور، وأنه محال لاستناد الإجماع إلى نفسه بواسطة العمل بالظاهر.
الوجه الرابع: قوله في الطريقة الثانية: اتباع غير سبيل المؤمنين متوعد عليه [يتوجه عليه] أسئلة:
أحدها: الوجه الأول على الطريقة الأولى.
الثاني: أن غير لا يتعرف بالإضافة، وحينئذ يبقى تقدير الكلام: ويتبع غير سبيل المؤمنين أي ويتبع مغايرا لسبيل المؤمنين وحينئذ يكون هذا مطلقا في غير سبيل المؤمنين، لا عاما في كل ما غاير سبيل المؤمنين وإذا كان الأمر كذلك احتمل [أن يكون السبيل المتوعد عليه المغاير لسبيل المؤمنين سبيلا معهودا هو سبيل] الكفر.
ويحصل بذلك الوفاء بوظيفة اللفظ المطلق فلا يبقى اللفظ واجب التناول للإجماع.
ويجاب عن هذا بأن غير إذا تعين ما أضيفت إليه، تعرفت نحو هذا الحق غير الباطل، وهاهنا قد تعين ما أضيفت إليه وهو سبيل المؤمنين [فتعرفت به].
الثالث: أن اللام في المؤمنين يحتمل أنها للعموم، فيقرب ما قلتم، ويحتمل أنها لبعض معهود منهم، فيبقى تقديره: ويتبع غير سبيل قوم مخصوصين من المؤمنين؛ فلا يكون المراد / [115/ل] به الإجماع، ثم نقول: ما ذكرتم من الدليل لو دل على أن الإجماع حجة لكان عندنا ما/ [54 ب/م] يعارضه، وذلك من وجوه:
أحدها: أن ابن عباس خالف عثمان في حجب الأم باثنين من الإخوة والأخوات؛ وقال: ليس الأخوان إخوة في لسان قومك. فاحتج عليه عثمان بالإجماع قبله، وفي عصره على ذلك؛ فلم يرجع ابن عباس إليه واستمر ابن عباس على خلافه، ولم ينكر عليه عثمان ولا أخذ على يده ورده إلى إجماع الناس؛ ولو كان الإجماع حجة لما استمر ابن عباس على خلافه، ولا أقره عثمان على ذلك. وأيضا فأحد الأمرين لازم، إما أن ما احتج به عثمان ليس بإجماع مع أنه إجماع الشيخين في عصرهما فغيره في عصرهما فغيره في الأعصار بعد ذلك أولى أن لا يكون إجماعا، أو أن ابن عباس خالف الإجماع، وأقره عثمان على ذلك.
الوجه الثاني: أن ابن مسعود كان لا يجوز لمن عدم الماء أن يتيمم كما ثبت في البخاري في مناظرته أبا موسى على ذلك، وهذا منه مخالف للنصّ والإجماع؛ فإن كان ابن مسعود
مصيبا في ذلك كان الإجماع على جواز التيمم لعادم الماء، فلا يكون الإجماع حجة لجواز الخطأ فيه، وإن كان مخطئا فالصحابة لم ينكروا عليه مخالفته للإجماع، فيكون إجماعهم على ترك الإنكار خطأ، فلا يكون الإجماع [حجة لما] ذكرنا.
الثالث: أن الإجماع: هو اتفاق مجتهدي المؤمنين على أمر ديني، والمؤمن من اتصف بالإيمان، والإيمان هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبذلك فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل-عليه السلام-المتفق عليه (1)، ثم إن المؤمنين المتصفين بهذا الإيمان المصدقين بهذه الأركان-قد اشتهر انقسامهم إلى نيف وسبعين فرقة منهم من يرى الإجماع حجة، ومنهم من لا يراه؛ كالشيعة والخوارج والنظام (2)، ومن تابعهم.
فإن أريد بالإجماع سبيل المجتهدين من طوائف الأمة كلها النيف والسبعين لم ينكر وجوده؛ لأن بعضهم ينكر كونه حجة [فلا يمكن اعتبار موافقته في الإجماع؛ لأن اعتباره في الإجماع فرع على كونه يرى الإجماع حجة]، والأصل منتف فالفرع أولى.
وإن أريد بالإجماع سبيل المجتهدين من بعض طوائف الأمة/ [116/ل] فهؤلاء بعض المؤمنين، والآية إنما نزلت على وجوب اتباع سبيل مجتهدي (3) جميع المؤمنين لا سبيل مجتهدي بعضهم.
واعلم أن هذه إشكالات صعبة على الإجماع عند من هو فاضل يدري ما يقول.
ويقال له: ولا تظن هذا غريبا مني، فقد وقفت على شرح وريقات إمام الحرمين، للشيخ الإمام الفاضل تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري، المعروف بالفركاح الدمشقي (4). وقد زيف فيها أدلة الإجماع بأسرها/ [55 أ/م] ولم يعتمد منها إلا على ما هو تحلة القسم. والذي يقتضيه النظر أن الإجماع أحد أدلة الشرع كالنص والقياس؛ وربما قدم عليه الظاهر كما قدمه ابن عباس عليه؛ إذ قدم ظاهر:{يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ}
{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً} (11)[النساء: 11] على الإجماع الذي احتج به عثمان مع أنه أقوى الإجماعات إذ هو إجماع الصحابة الذي خالفت الظاهرية فيما سواه من الإجماعات.
وكما قدم ابن مسعود القياس المصلحي على الإجماع على جواز التيمم لعادم الماء حيث قال: لو أجزنا لهم التيمم لأوشك إذا برد الماء على أحدهم أن يتيمم والماء حاضر.
قوله عز وجل: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً} (117)[النساء: 117] يعني الكفار العابدين للأوثان: ما يدعون منها إلا إناثا، كاللات والعزى ومناة ونحوها.
{وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً} (117)[النساء: 117] وهو الذي سول لهم عبادتها وكلمهم من أجوافها، أما غير الوثنيين من العرب فقد دعوا من دون الله-عز وجل-الملائكة والكواكب وغيرها.
فهذا العام مخصوص بهؤلاء، أو عام أريد به الخاص وهم الوثنيون من العرب.
{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً} (119)[النساء: 119] عام أريد به الخاص؛ إذ لم يبتكوا [آذان جميع الأنعام، ولا غيروا جميع خلق الله، عز وجل.
{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً} (120)[النساء: 120] عام مطرد.
{أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ} [النساء: 121]، عام أريد به من مات على هذه الأوصاف منهم، وهي عبادة الأوثان وما بعدها.
{وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً} (121)[النساء: 121] عام مطرد.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} (122)[النساء: 122] عام مطرد.
{لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً} (123)[النساء: 123] عام خص بما عفا الله-عز وجل-عنه إما تفضلا أو بشفاعة، أو سقط مقاصة.
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} (124)[النساء: 124] عام مطرد بشرط الموت على ذلك.
{وَإِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (128)[النساء: 128] عام خص بما إذا أفضى إلى مفسدة راجحة، أو فساد لا يتدارك فتركه خير.
{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] هذا عام مطرد باعتبار الفطرة المطبوع عليها الإنسان أنه يشح ويبخل، / [117/ل] فلا تناقض.
قوله-عز وجل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9)[الحشر: 9] كما أن الإنسان طبع على الشهوة، ولا ينافيه وجود معصوم من آثارها.
{وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً} (131)[النساء: 131] عام مطرد شاهده {يا أَيُّهَا النّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ} {وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً} (132)[النساء: 132] تكرر في القرآن، وهو عام مطرد {مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (134) [النساء: 134] عام مطرد.
تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)[النساء: 135] عام في أمر المؤمنين بذلك وكذلك {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (136)[النساء: 136] عام مطرد فيمن كفر بهذه الأركان أو بعضها، وهي أركان/ [55 ب/م] الإيمان كما سبق.
{بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} (138)[النساء: 138] عام فيمن مات منافقا.
{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} (139)[النساء: 139] عام مطرد.
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (143)[النساء: 143] عام مطرد، وهو حجة على المعتزلة، وقد سبق مثله.
{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} (145)[النساء: 145] عام فيمن مات منافقا.
{إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاِعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} (146)[النساء: 146] عام مطرد.
{* لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً} (148)[النساء: 148] يحتج بدليل خطابه على استحباب الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ خلافا لبعض متكلمي العصر؛ حيث قال-فيما بلغنا عنه-: لا يستحب.
وبيانه أن مفهوم {*لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148] أنه يحب الجهر بالحسن من القول، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأذكار من حسن القول، فيحب الله-عز وجل-الجهر بها لكن بشرط أمن الرياء والعجب ونحوه من المحبطات،
فإن خاف شيئا من ذلك فالإسرار أفضل، وربما وجب.
وتحقيق القسمة: أن الذاكر وكل طائع إن قصد التأسي به وأمن المحبط استحب له الجهر، وإن خاف المحبط أو لم يقصد التأسي أو قصده، وليس أهلا له وجب الإسرار، وإن قصد التأسي وخاف المحبط فالأحوط الإسرار.
وإن لم يقصد التأسي؛ ولا خاف المحبط جاز الأمران، وفي أيهما أفضل؟ احتمالان؛ أصحهما الإسرار للحديث:«من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» (1). / [118/ل] واختصاص ذكره بالذات القديمة أفضل من ذكره في ملأ الملائكة، {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً.}
{أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً} (151)[النساء: 151] اعلم أن هذا توسط في الصورة، وهو انحراف في الحقيقة، فلذلك ذم بخلاف باقي التوسطات نحو:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (29)[الإسراء 29].
{قُلِ اُدْعُوا اللهَ أَوِ اُدْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَاِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً} (110)[الإسراء 110].
{وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً} (67) الفرقان [67] ونحوها، فإن التوسط فيها محمود.
وتحقيق ذلك أن الحق لما كان تابعا للبرهان فتارة يكون في الوسط، وتارة يكون في الطرف، فإذا كان في الوسط كان التطرف انحرافا مذموما، كما في قوله عز وجل:
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء 29] فهذان طرفان مذمومان والحق في الواسطة، وهو القصد بين الإسراف والتقتير، وإذا كان الحق في الطرف كان التوسط انحرافا مذموما كما في هذه الآية، فإن الإنسان إما يؤمن بالله- عز وجل-وبرسله، أو يكفر بهما جميعا، أو يؤمن بالبعض ويكفر بالبعض، فالحق في الطرف الأول، فالثاني مع الواسطة انحراف باطل، والغالب هو القسم الأول، وهو كون
الصواب في الواسطة فمن ثم ورد: «خير الأمور/ [56 أ/م] أوساطها» (1) وقال الشاعر:
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
بناء على الغالب والتحقيق ما قلناه وهذه القاعدة شبيهة بقياس الشبه، إذا كان معناه تردد الواسطة بين طرفين، فيلحق بأشبههما بها.
{يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اِتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً} (153)[النساء: 153] يحتج بها المعتزلة على عدم جواز الرؤية، وقد سبق ذلك في البقرة.
{فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً} (155)[النساء: 155] يحتج بها المعتزلة والجمهور، أما المعتزلة فقالوا: الطبع على قلوبهم كان عقوبة على كفر، صدر عنهم بخلقهم، وإلا استحال أن يعاقبهم على فعله.
والجمهور قالوا: كما طبع عليها آخرا عقوبة طبع عليها أولا إبعادا أو بغضا بحسب سابق العلم.
{وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اِتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً} (157)[النساء: 157] هذا أعنى {رَسُولَ اللهِ، } تخصيص من الله-عز وجل-لعيسى-عليه السلام[وتنويها بذكره] بإثبات رسالته، وليس من قول اليهود؛ إذ لو كان من قولهم لكان ذلك اعترافا منهم برسالته، وذلك/ [119/ل] مع اعترافهم بقتله على زعمهم وافتخارهم به، محال.
{وَإِنَّ الَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} [النساء: 157] اختلف أهل الملل في قتل المسيح وصلبه، فادعاه اليهود والنصارى، وأنكره المسلمون.
أما اليهود فادعوه على جهة التشفي بالمسيح حيث بدل دين التوراة، وأحل السبت ونحو ذلك.
وأما النصارى فادعوه على جهة المرتبة للمسيح والتشنيع على اليهود بقتل داع إلى الحق، واحتجوا بأن التواتر ثابت بين اليهود والنصارى والمجوس على قتل المسيح وصلبه قبل ظهور ملة الإسلام، وهو سبب العداوة بين اليهود والنصارى، وبأن قتل المسيح ثابت في الإنجيل المتواتر، وكل ما ثبت في الإنجيل المتواتر فهو حق ثابت في نفس الأمر.
أما أنه ثابت في الإنجيل فمشاهد بالعيان لمن نظر فيه. وأما أن الإنجيل متواتر فلإطباق النصارى عليه في شرق الأرض وغربها كإطباق المسلمين على القرآن، وأما أن ما ثبت في المتواتر فهو حق؛ فلأن التواتر يفيد العلم قطعا، وأيضا فلأن الإنجيل معصوم، وما ثبت في الكتاب المعصوم فهو حق.
احتج المسلمون بوجهين: أحدهما: أن نفي قتل المسيح ثابت في القرآن المعصوم، وكل ما ثبت في القرآن المعصوم فهو حق معصوم؛ فنفي قتل المسيح حق معصوم، أما أن نفي قتله ثابت في القرآن، فلهذه الآية {الَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اِتِّباعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] وأما أن القرآن معصوم فلقيام البرهان على أنه كلام الله-عز وجل-وكلام الله-عز وجل-معصوم.
وأما أن ما ثبت في المعصوم معصوم؛ فلأنه جزء من المعصوم، وجزء المعصوم معصوم، فثبت بذلك نفي قتل المسيح، فلو ثبت قتله مع ذلك لاجتمع النقيضان، وأنه محال. / [56 أ/م] الوجه الثاني: أن قتل المسيح لو ثبت لتواتر قتله، كتواتر مولده، ودعواه التي ادعاها، واللازم باطل فالملزوم كذلك.
بيان الملازمة أن قتل المسيح بعد ظهور أمره وانتشار دعوته، وظهور الخوارق على يده أمر شنيع جدا في العقول والطباع، كما أن ولادته من غير أب أمر غريب في العادات والعقول، فلو كان لقتله أصل لوجب اشتهاره اشتهارا مساويا لولادته، ولو اشتهر كذلك لتواتر كتواتره لقضاء العادات بتواتر المشهورات.
بيان انتفائه اللازم أنه لو تواتر قتله كتواتر مولده لما اختلف فيه كما لم/ [120/ل] يختلف في مولده، لكن رأينا الخلاف وقع في قتله، ولم يقع في مولده ودعوته، فدل على أن قتله لم يتواتر، وإلا لكان أحد المتواترين المتساويين في القوة مختلفا فيه دون الآخر، وأنه محال.
وحاصل هذا الدليل أن تواتر قتله لازم [لقتله، واللازم منتف فالقتل منتف، وإنما قلنا:
إن المتواتر منتف؛ لأن الاتفاق عليه بتقدير وقوعه لازم له، والاتفاق منتف؛ فالتواتر منتف.
والجواب عن شبهتهم قوله: التواتر ثابت بين الملل الثلاث على قتل المسيح.
قلنا: لا نسلم التواتر عندهم، سلمناه، لكن التواتر إنما يحتج به إذا كان داعيه متفقا وليس كذلك هاهنا؛ لأن داعي اليهود إلى إثباته التشفي بالمسيح، وداعي النصارى إلى إثباته التعدي على اليهود والتشنيع عليهم، وأما داعي المجوس فيحتمل أنه التقليد للطائفتين، ويحتمل أنه السخرية بهم، ويحتمل أنه استدراجهم إلى الضلال، إذ لم يوافقوهم في التنبيه من هذا التواتر مركب الداعي محتمل للباطل فلا يسمع.
سلمنا ثبوت التواتر بينهم لكن لا نسلم لهم على قتل عين المسيح، بل على قتل شخص ظن الراءون أنه المسيح، ولا يلزم من ذلك أنه عين المسيح لاحتمال أنه شبه لهم، كما جزم به القرآن، ويدل على تحقيق ذلك أن في الإنجيل أنهم لما أخذوا المسيح ليقتلوه أظلم الوجود من الساعة الثالثة من النهار إلى الساعة التاسعة حتى ظن الناس أن الساعة قد قامت، ففي هذه المدة المزعجة ألقي شبه المسيح إما على بعض تلاميذه وأحبائه منحه له وفداء للمسيح به، أو على عدوه يهوذا الأسخر يوطي الذي دل عليه وأسلمه كيدا له ومكرا به، فقتل وعرج بالمسيح، وهذا الاحتمال لا ينتفي أبدا، وما لم ينتف لا تتم حجتهم، ولا تسلم من كدورات الظن، فلا يعتمد عليها في مقام القطع، وأما كون قتله سببا للعداوة بين اليهود والنصارى فبناء على اعتقادهم الفاسد في أن اليهود قتلته؛ فلا حجة فيه.
قوله: قتل المسيح ثابت في الإنجيل المتواتر.
قلنا: أما أنه ثابت في/ [57 أ/م] الإنجيل فنعم، وذلك لا يضرنا، كما لا يضركم إثبات تنبيه المجوس ونبوة نبيهم زرادشت في كتبهم.
وأما كون الإنجيل متواترا فممنوع؛ لأنه إنما ألف على جهة التأريخ، وحفظ سيرة المسيح بعد أن رفع وقتل وصلب على زعمكم بنحو ثمانين سنة، معتمدا في جمعه على أربعة، وهم: لوقا ومرقص ويوحنا ومتى، ومثل هذا لا يحصل به التواتر، ودعوى النصارى أن هؤلاء كانوا أنبياء معصومين حل عليهم روح القدس دعوى خيال تورث الخبال تكاد تزول منها الجبال، فلا تسمع قوله: أطبقت النصارى عليه في شرق البلاد وغربها كإطباق المسلمين على القرآن.
قلنا: التواتر لا يثبت بمجرد الإطباق، وإنما يثبت بوجود حقيقته وشروطه، وهي اتفاق العدد الكثير المأمون تواطؤه على الكذب على الإخبار عن محسوس مع اتفاق الطرفين
والواسطة في هذه القيود، وهذا المعنى موجود في إطباق المسلمين على نقل القرآن، وليس موجودا في نقل النصارى للإنجيل، فإن الطرف الأول الذي على عهد المسيح لم يكونوا على شرط التواتر لقلتهم وضعفهم، حتى إن المسيح-على زعمكم-قتل قتل اللصوص وصلب بين لصين، وما استطلقوا جثته إلا استطلاقا من هيردوس الملك، حتى دفنوها، وإن بطرس رئيس الحواريين وأشجعهم وأصدقهم في محبة المسيح [لما سئل عن المسيح] أنكره في ليلة واحدة قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، ثم لم تزل الملة المسيحية خاملة مستضعفة مع اليهود لا يجسر أحد أن يتظاهر بذكر المسيح ولا بسيرته، ولا بالإنجيل حتى ظهر قسطنطين ابن قسطنطين فأظهرها، وذلك بين من السنين نحو ثلاثمائة سنة؛ فأين التواتر وما هذا شأنه.
وكذا قوله: إن الإنجيل معصوم. وهو ممنوع؛ لأن المعصوم له تفسيرات، أحدهما: يراد به كلام الله-عز وجل-ورسله والإنجيل [الذي بأيدي النصارى ليس كلام الله عز وجل إلا على زعمهم أن المسيح هو الله والإنجيل] كلامه وذلك بناء ممنوع [على ممنوع]، وليس هو كلام المسيح جميعه بل بعضه كلامه وأكثره حكايات ومجريات من كلام غيره شبيه بالسيرة والتاريخ.
والثاني: أن يراد به المحفوظ من التناقض [والتهافت وليس الإنجيل كذلك إذ قد بين الناس فيه من التناقض] كثيرا جدا على ما استقصيناه في كتاب مفرد، ولو لم يكن من ذلك إلا التهافت الذي في قصة صلب المسيح لكان كافيا حتى احتاج شراحه والمفسرون له إلى تكلف بعيد في إزالته، ولم يزل، فأين الإنجيل والحالة هذه من العصمة، وقد تكلم في تهافت الإنجيل [والرد على] جماعة منهم أبو محمد بن حزم (1) وابن عوف/ [57 ب/م] الزهري الإسكندري (2) وتقي الدين صالح الخطيب القوصي، وأحسنوا، وأجودهم ابن عوف، فلقد شفى وكفى.
فتبين بما ذكرناه ضعف، بل بطلان دعواهم في قتل المسيح إن شاء الله، عز وجل.
{وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً} (157) / [121/ل][النساء: 157] هذا يحتمل أنه نفي ليقين القتل، ويحتمل أنه يقين لنفي القتل، وهو المراد، وإن شئت يحتمل أن القتل منفي التيقن أو
متيقن النفي، وهو المراد.
{* إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} (163)[النساء: 163] يحتج به على أمرين أحدهما: أن آدم لم يكن نبيا، وإلا لبدأ بذكره في هذا السياق؛ لأنه أبلغ.
ويجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أن آدم دخل في قوله-عز وجل: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً} (164)[النساء: 164] وقد سبقت قصة آدم.
الثاني: أن ذلك منقوض بإدريس هو نبي باتفاق، ولم يصرح به هنا.
الأمر الثاني: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نسخه لاستواء الوحي إلى نبينا وغيره من النبيين؛ لأن الشرائع متلقاة عن الوحي، فإذا استوى الجميع في الوحي استووا في الشرائع.
وأجيب بأن المراد كما أوحينا إليهم في التوحيد ونحوه من قواعد الأصول ردا على تثليث النصارى المذكورين قبل هذه الآية وبعدها بدليل: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48)[المائدة: 48] والجمع بينهما بما ذكرناه من استواء الشرائع في الأصول التي لا تقبل التغيير دون الفروع التي تقبله.
{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً} (164)[النساء: 164] يحتج به الصوتية على أنه كلمه بحرف وصوت، ووجهه أنه أكد الفعل بالمصدر إرادة لحقيقة الكلام وهو بالحرف والصوت.
احتج الآخرون بما سبق، وبأنه إنما أكده بالمصدر لئلا يظن أنه كلمه إلهاما أو في الرؤيا أو نحو ذلك، وتأوله بعض المعتزلة على أنه كلّمه بإظهار المحن من الكلم وهو الجرح، بدليل:{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ}
تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)[طه: 40] وهو ضعيف بعيد.
{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (165)[النساء: 165] يحتج به على أن الله-عز وجل-لو لم يرسل الرسل إلى خلقه لم تقم حجته عليهم.
ونظير ذلك: {وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى} (134)[طه: 134].
{وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (47)[القصص: 47] وتحقيق هذا أن حجة الله- عز وجل-على ضربين: خفية يستبد بعلمها، وظاهرة يشاركه في العلم بها خلقه، فالأولى:
قائمة على الخلق بدون الرسل؛ إذ هو سبحانه وتعالى غير متهم في حكمه وعدله.
والثانية: لا تقوم بدون الرسل، أقوى الحجتين وأظهرهما، فأخذ الله-عز وجل-بها؛ لأنها أحوط لدفع تهمة الجور عنه من الكفار؛ إذ لو عاقبهم بحسب علمه فيهم لقالوا: ما أنصفتنا، لو أنذرتنا برسول، / [122/ل] لما توجهت لك علينا حجة، ثم ترتب على هذا أن العقل [لا حكم] له إذ/ [58 أ/م] لو كان له حكم لما توقف قيام حجة الله-عز وجل-على خلقه على بعثة الرسل، إذ كان العقل كافيا في قيام الحجة، وهذه الآية من هذا الوجه موافقة لقوله عز وجل:{مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15)[الإسراء: 15] ولم يقل حتى نجعل لكم عقولا، غير أن تحقيق محل النزاع ما هو، فالجمهور يحكون عن المعتزلة أنهم يقولون: العقل حاكم، وهي عبارة فيها إجمال وشناعة لإيهامه الشرك في الحكم كما أشركوا في خلق الأفعال، والمعتزلة يفسرون مرادهم بأن العقل جعله الله-عز وجل-مدركا لحسن الحسن وقبح القبيح، بحيث يقتضي من جهة الحكمة المناسبة والمناسبة الحكمية أن يثاب على الأول، ويعاقب على الثاني، وأن الحسن والقبح مدركان بالعقل، كما يدركان بالشرع، وأن الشرع مؤكد لحكم العقل في ذلك
{لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً} (166)[النساء: 166] ونظيره: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (14)[هود: 14]، اعلم أن الناس اتفقوا إلا من عساه شذ منهم على أن الله-عز وجل-عالم قادر مريد حي متكلم سميع بصير قديم باق.
ثم اختلفوا، فالجمهور على أنه كذلك لمعان قديمة زائدة على مفهوم ذاته، قائمة بها كالحياة والعلم والقدرة وكذلك سائرها.
وذهب المعتزلة ومن تابعهم إلى أن لا صفة هناك ثبوتية زائدة، ثم اختلفوا، فقال بعضهم: معنى كونه عالما قادرا حيا: أنه ليس بجاهل ولا عاجز ولا ميت، وكذلك سائرها ويسمون السلبية.
وقال آخرون: هو كذلك لمعان ليست موجودة ولا معدومة، وهي مشتقة من المعاني الثبوتية سموها أحوالا كالعالمية والقادرية والحيية، وهي كونه عالما قادرا حيا، حجة الجمهور هذه الآية {لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً} (166) [النساء: 166] دل على أن له علما [والمعقول منه] صفة ثبوتية زائدة، وأيضا القرآن عربي ولغة العرب أن العالم من قام به العلم، وهو وصف ثبوتي، وأيضا {خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} (107) [هود: 107] مع أن الفعل مشتق من المصدر، وهو الإرادة، وقد وجد الفعل المشتق، فوجب أن يكون الإرادة المشتق منها موجودة، وإذا ثبت هذا في العلم والإرادة، وجب مثله في باقي الصفات، إذ لا قائل بالفرق، وتأول الخصم {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} على معنى أنزله وهو يعلمه احترازا من أن/ [123/ل] يكون ساهيا أو غافلا. حجة الخصم: لو كان عالما بعلم قائم بذاته زائد على مفهومها قديم، لزم تعدد التقديم، وأيضا افتقار الذات إلى غيرها في كمالها وهما محالان، وجوابه أن المحال إنما هو تعدد الذوات القديمة، لا الذات والصفات، وكذلك افتقار الذات إلى/ [58 ب/م] غيرها في وجودها، هو المحال لا في غيره، وافتقارها إلى غير خارج عنها، لا إلى غير قائم بها، لا ينفك عنها مع أن المحال الذي ادعاه أصحاب الأحوال لا موجودا ولا معدوما غير معقول.
واستقصاء البحث في هذا في موضع آخر، وإنما هذا إشارة إلى مأخذ المذهبين.
الأول: إثبات رسالة المسيح-عليه السلام-خلافا لليهود، وسنذكر برهانه في سورة المائدة-إن شاء الله-عز وجل.
الثاني: معنى كونه كلمة الله-عز وجل-عند المسلمين أنه خلقه بكلمته، وهي «كن» التي يخلق بها الأشياء، وخص عيسى بتسميته كلمة تشريفا، نحو: ناقة الله، وبيت الله، ومعناه عند النصارى أن كلمة الله الحقيقية التي هي من صفة النطق حلت في مريم، واستحالت لحما ودما حتى تكّون منها عيسى، وهو محال لوجوه:
أحدها: انتقال الصفة مجردة عن محلها إلى غيره يوجب قيامها بنفسها، فيما بين المحلين المنتقل عنه وإليه.
الثاني: حلول الصفة القديمة في المحل الحادث، وهو مريم.
الثالث: استحالة القديم وتغيره.
الرابع: استحالة الصفة التي لا قيام لها بذاتها ذاتا قائمة بنفسها، والكل محال.
الثالث: ألقاها إلى مريم، معناه: عند المسلمين ما حكي في سورة مريم، وغيرها من تعرض الملك لها، ونفخه في فمها، أو جيب درعها حتى حملت بالمسيح، وعندهم حلول الكلمة القديمة فيها كما مر، وبطلانه بما سبق.
الرابع: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَاّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً} (171)[النساء: 171] معناه عند المسلمين أنه روح مخلوق خاص، سلكه في المسيح له قوة إظهار الخوارق والتعدي إلى التغيير كتصيير الطين ضربا من الطير، وعندهم أنه روح من ذات الله-
عز وجل-وبه كان إلها عندهم، قالوا: لأن «من» للتبعيض وقد أخبر أن المسيح روح منه وهو المسمى روح القدس، وهو صفة الله القديمة يعني حياته، وهي أحد الأقانيم القديمة الثلاثة.
والجواب أن «منه» هاهنا لابتداء الغاية لا للتبعيض كقوله-عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (13) / [124/ل]) [الجاثية: 13] أي ابتداؤه منه ومن فضله، وكذلك {يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَاّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً} (171) [النساء: 171] أي الله-عز وجل-مبدأ هذا الروح خلقا، لئلا يظن قدمه، ولو كان روح المسيح هو حياة الله-عز وجل-لكان إما جميع روحه أو بعضه فإن كان الأول لزم بقاؤه بعد انتقال حياته إلى المسيح بلا حياة؛ فيكون قد مات الأب لحياة الابن، وأنه محال، وإن كان الثاني لزم تبعيض حياة الله-عز وجل-وهو محال لوجهين:
أحدهما: أنها صفة فلو تبعضت لكانت جسما، وذلك/ [59 أ/م] انقلاب الحقائق، إذ صارت الصفة ذاتا.
والثاني: أن الحياة صفة بسيطة، فلو تبعضت لزم انقلاب البسيط مركبا، وأنه محال.
الخامس: {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 171] أي اعتقدوا المسيح رسولا.
كسائر الرسل، ولا تعتقدوه إلها؛ لأن ذلك غلو في الدين، كما ذكر في صدر الآية.
السادس: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} [النساء: 171] هو نهي لهم عن التثليث، ومعناه عندهم أن الله-عز وجل-جوهر، ذو ثلاثة أقانيم، وعنوا بالجوهر القائم بذاته الغني عن محل يقوم به أو يقومه، وبالأقانيم الصفات، أو القوى، وهي كونه موجودا ناطقا حيا، فأقنوم الوجود سموه أبا، وأقنوم النطق سموه ابنا، وهو الكلمة المسيحية، وأقنوم الحياة سموه روح القدس.
قالوا: فقولنا: الأب والابن وروح القدس [كقول المسلمين: الله الرحمن الرحيم، ثم إنهم زعموا أن كل واحد من الأب والابن وروح القدس إله] كامل بالحد والحقيقة، وأنهم مع ذلك ليسوا ثلاثة آلهة [في خبط كثير وتخليط] غزير منه ما لا يعقل، ومنه ما لا تساعده
الشبهة فضلا عن الحجة، فلهذا قيل لهم: انتهوا عن هذا الاعتقاد الباطل الذي ليس له حاصل ولا وراءه طائل يكن الانتهاء عنه خيرا لكم.
{إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً} (171)[النساء: 171] أي من كل الجهات لا تعدد ولا انقسام له بوجه؛ فقولكم: الأب والابن وروح القدس إله واحد، تناقض؛ لأنكم كثرتموه [أولا ثم] وحدتموه ثانيا، وهو [تهافت وتلاعب من الشيطان بعقولكم] وهذا بخلاف قول المسلمين:
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، } (1) لأنهم يقولون ذلك على معنى أن الذات الإلهية واحدة لكنها متصفة بصفات كمالية، فإن اقتصرتم أنتم على مثل ذلك وافقتم، وإن تماديتم في تخليطكم المذكور فلكم الويل والثبور.
السابع: {سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً} (171) / [125/ل]) [النساء: 171] أي تنزه عن الولد؛ إذ ما سواه في السماوات والأرض مملوك له، والملك ينافي الولدية، كما سبق في البقرة، والبحث مع النصارى طويل، أفردنا له عدة تعاليق.
قوله-عز وجل {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} (172)[النساء: 172].
لما زعمت النصارى إلهية المسيح قيل لهم: إن المسيح نفسه لن يستنكف، ولا يأنف من الإقرار بالعبودية فأنتم يا نصارى في تنزيهه عنها فضولية، ثم احتج بهذه الآية من يرى أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وتقريره أن هذا السياق في مثل هذا المقام يقتضي أن المذكور آخرا أفضل كما يقال: إن فلانا لا/ [59/ب] يستنكف عن خدمته أو زيارته الوزير، ولا السلطان. وذلك يقتضي أن الملائكة أفضل من الأنبياء؛ لأن المسيح من أفضلهم، فإذا كانت الملائكة أفضل منه فغيره ممن هو أفضل منه بطريق أولى.
واعترض عليه بأنا لا نسلم صحة ما ادعيتم، سلمناه، لكن الآية إنما تضمنت تفضيل الملائكة المقربين على المسيح؛ فلا يلزم تفضيل غيرهم عليه، ولا تفضيل أحد من الملائكة على غيره من الأنبياء.
واعلم أن الآية شديدة الظهور في تفضيل الملائكة، ولها شواهد أخر من الكتاب والسّنّة
والنظر، أما الكتاب فقوله-عز وجل:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} (50)[الأنعام: 50].
وقوله-عز وجل-في بني آدم {*وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً} (70)[الإسراء 70] ولم يقل: على جميع من خلقنا، مع أن بني آدم فضلوا على من سوى الملائكة فلم يبق أحد ينبغي أن لا يكونوا فضلوا عليه إلا الملائكة، ثم قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله-عز وجل:«من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم» تصريح بأن الملائكة أفضل من بني آدم، ويتناول عموم الأنبياء.
وأما النظر فلأن الملائكة رسل الله-عز وجل-إلى [الأنبياء: بغير واسطة، ورسل الله بغير واسطة أفضل من رسله بواسطة، وأيضا فالأنبياء] للملائكة كالأمم للنبيين، والرسول أفضل من أمته، ولأن الملائكة معلمون والأنبياء متعلمون منهم، والمعلم المفيد أفضل من المتعلم المستفيد، والأدلة على هذا كثيرة، غير أنه مذهب المعتزلة والفلاسفة، والجمهور على خلافهم لوجوه:
أحدها: أن الأنبياء بهم قامت حجة الله-عز وجل-على خلقه، بخلاف الملائكة حتى قال الله-عز وجل:{وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً.}
الثاني: أن الأنبياء في الدعاء إلى الله وإقامة حججه على خلقه أشد تعبا ونصبا لما جرى عليهم من التكذيب والأذى والثواب والفضيلة/ [126/ل] على قدر المشقة.
الثالث: أن آدم أبا البشر سجد له الملائكة، والمسجود له أفضل من الساجد، ثم في الأنبياء من هو أفضل من آدم-عليه السلام-فهو أولى بأن يكون أفضل من الملائكة.
الرابع: أن الناس في الموقف إنما يستشفعون بالأنبياء في تخفيف الموقف عنهم لا بالملائكة، ولو كانوا أفضل من الأنبياء لكانوا أولى بالشفاعة.
الخامس: أن الأنبياء عبدوا الله-عز وجل، ورضي عنهم مع معارضة الشهوة
والغضب المجبول عليهما البشر، وعبادة الملائكة مع تجردهم عنها، والعبادة أفضل لشدتها ومشقتها/60 أ/م] فالعابد أفضل.
السادس: أن إبليس وهاروت وماروت كانوا من خيار الملائكة، وصدر عنهم ما لم يصدر مثله أو بعضه إلا عن شرار بني آدم، والحجاج من الطرفين كثير.
وذهب قوم إلى أن خواص البشر أفضل من الملائكة والملائكة أفضل من عامة البشر.
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَاِسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً} (173)[النساء: 173] يحتج به المعتزلة، إذ لو كانت أعمالهم مخلوقة له لكان منه العوض والمعوض وقد سبق هذا وجوابه.
{يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} (174) [النساء:
174] يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يعني القرآن برهان أي حجة لله-عز وجل-على خلقه، لما اشتمل عليه من حجج التوحيد والنبوات، وغير ذلك، ويحتمل أنه برهان لمحمد صلى الله عليه وسلم على رسالته، وتقريره أن القرآن معجز، وكل معجز برهان على صدق من جاء به، فالقرآن برهان على صدق من جاء به، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سبق تقرير كونه معجزا فيما أقول وهو ظاهر.
واعلم أن القرآن من حيث هو حجة لله-عز وجل-ولرسوله يسمى برهانا، ومن حيث هو مرشد للخلق إلى مصالح معاشهم ومعادهم كاشف عنهم للعمى قائد لهم إلى الهدى يسمى نورا.
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (176)[النساء: 176]، أي يبين لكم طريق الهدى. لئلا تضلوا، وقيل: يبين طرق الضلال لتجتنبوها من باب قول القائل:
عرفت الشر ولا للشر، لكن لتوقيه، والله-عز وجل-أعلم بالصواب.
…