الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في سورة يس
{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (3)[يس: 3] إثبات لرسالته صلى الله عليه وسلم وبرهانها يأتي إن شاء الله عز وجل.
{لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ} (6)[يس: 6] احتج بها بعض النصارى على اختصاص رسالة محمد بالعرب؛ لأنهم هم الذين لم ينذر آباؤهم، أما بنو إسرائيل من اليهود والنصارى فقد أنذر آباؤهم بالرسل والكتب، فليس هو مرسلا إليهم.
والجواب أن المراد ما أنذر آباؤهم [بالرسل والكتب] في الفترة، وهى ما بين عيسى ومحمد؛ فيعم الأمم كلها ثم هذا [الاستدلال] بمفهوم ضعيف؛ فلا يعارض النصوص على عموم دعوته، وأيضا من سلم أنه رسول إلى العرب لزمه تصديقه في دعوى عموم الرسالة والدعوة.
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (7)[يس: 7] يعني القول المذكورين/ [344 ل] في قوله: {إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) وَاِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} (13)[يس: 12، 13]، ولما حق القول القديم عليهم بذلك وجب تحقيقه عند وجودهم بإجبارهم على المراد منهم بخلق الدواعي والصوارف في قلوبهم الموجبة لذلك، وإليها الإشارة بالأغلال في أعناقهم والسد من بين أيديهم ومن خلفهم ومن أراد أن ينظر إلى عظمة الله-عز وجل/ [165 أ/م] فلينظر إلى هذا حيث جبر خلقه على ما يريد منهم، بحيث لا خروج لهم عنه ولا خلاص لهم منه، ثم هو يحاكمهم إلى عقولهم فتقضي عقولهم عليهم، ما ذاك إلا لأن الخلق عبيده والعقول خلقه وجنوده، فلم يجعل في فطرها إلا ما عليه فطرها، وهو القضاء على ذويها بحكم كسبها الظاهر، وعدم إقامة عذرهم بالجبر الإلهي الباطن، فلله فيهم الإرادة الغالبة وعليهم الحجة البالغة.
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} (23)[يس: 23] استدلال على التوحيد، وتقريره هكذا: لا شيء من الآلهة بنافذ الإرادة، والإله الحق نافذ الإرادة، فلا شيء من الآلهة بإله حق.
{وَإِنْ كُلٌّ لَمّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ} (32)[يس: 32] هذا إثبات للبعث.
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} (37)[يس: 37] إشارة إلى دليل البعث المذكور قبلها، وهو الدليل المشهور في قياس البعث على إحياء الأرض.
وكذلك {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} (37)[يس: 37] حجة على البعث؛ لأن الليل مظلم كثيف كالعظام البالية مظلمة، لعدم الحياة، كثيفة لتمحض طبيعة الأرض فيها، ثم إن النهار مشرق لطيف، كالجسم الحي مشرق بنور الحياة، لطيف بما فيه من العنصر المائي اللطيف ثم لما كان سلخ النهار من الليل ممكنا، فكذلك إخراج الأجساد الحية من العظام البالية، ثم ذكر مع هاتين الحجتين على البعث حججا أخر على وجود الصانع لمن ينكره، وهي جريان الشمس لمستقر لها، وتقدير القمر منازل، وحمل الناس في الفلك المشحون وتقريره: أن هذه أفعال وآثار عظيمة؛ فتستدعي مؤثرا قطعا، ثم يستدل على قدمه ووحدانيته كما سبق.
{ما يَنْظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} (49)[يس: 49] الآيات فيهن إثبات البعث ونفخ الصور ونحوه. من أحكام الآخرة.
{* أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (60)[يس: 60] أي تطيعوه، وفيه إشارة إلى أن العبادة هي الطاعة، وهى كذلك، غير أنها في العرف العام هي الطاعة على جهة الذل والخضوع.
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (62)[يس: 62] يعني بالإغواء والوسوسة، إذ لم يكن له عليهم سلطان إلا أن دعاهم فاستجابوا له، فبقيت الأفعال مترددة بين الله-عز وجل-بالخلق، والعباد بالكسب.
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} (65)[يس: 65] / [345 ل] هذا من خوارق العادات في الآخرة؛ لأن العادة اطردت اليوم بظهور الكلام من فم وشفتين ولسان ومخارج وأسنان، فإذا سمع العقل بصدور كلام على غير هذه الصفة استغربه، وحقيقة الكلام إنما [هي صوت] مفهم خارج من / [165 ب/م] جسم، وهو من اليد والرجل وسائر الأعضاء ممكن، قريب بأن يخلق فيها الصوت المفهم، وقد يمكن أن ينقل الفم إلى اليد؛ فتنطق به، وهل اختصاص الفم بالوجه إلا عادة اطردت، وإلا فنسبته من حيث هو إلى سائر الأعضاء واحدة.
66]، يقطع مادة الروح الباصر عنها، أو بالتحام الجفنين أو غير ذلك.
{وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اِسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} (67)[يس: 67] بسلب الحياة والرطوبة من أجسادهم، فتتمخض طبيعة الأرض فيها فيعودون جمادا.
{وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (69)[يس: 69] يعني صيانة لمعجز القرآن أن ينسب إلى الشعر، فتمكن الشبهة وتضعف الحجة، وهو من باب {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ} (48) [العنكبوت: 48] وعلى هذا اختلف فيما ورد عن النبي [من قوله]:
«أنا النبي لا كذب
…
أنا ابن عبد المطلب» (1)
وقوله:
«هل أنت إلا إصبع دميت
…
وفى سبيل الله ما لقيت» (2)
وقوله:
«إن تغفر اللهم تغفر جما
…
وأي عبد لك ما ألما» (3)
وقوله:
«اللهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا» (4)
فمن أهل العلم من قال: هذا رجز، وحكم بأن الرجز ليس بشعر، طردا {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (69) [يس: 69] ومنهم من سلم أن الرجز شعر، وهو مذهب الخليل والأكثرين، ولكن أجابوا بوجوه:
أحدها: أن هذا كلام موزون كان يصدر عنه اتفاقا لا قصدا لوزنه، ويسمى انسجاما
لجودة القريحة وكمال الفطرة، وقد وقع مثله في القرآن كثير، نحو {*نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (49) [الحجر: 49]، وفى كلام الناس قول بعض المرضى لأهله: اذهبوا بي إلى الطبيب، وقولوا قد اكتوى.
ويحكى أن جماعة من الشعراء جاءوا إلى منزل أوس بن حجر ليشاعروه؛ فخرجت إليهم بنت له صغيرة، فقالت: ما تريدون من أبي، قالوا: جئنا لشاعره؛ فقالت:
تجمعتم من كل أوب ووجهة
…
على واحد لا زلتم قرن واحد
فعادوا مغلوبين، وهذا شعر جيد متين صدر عنها انسجاما، ما لم تقصده، فهذا سبيل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من الرجز على قلته وندوره.
والوجه الثاني: أن الشعر هو ما سمي به الإنسان شاعرا، وهو نظم القصيد المتعدد الأبيات اللازم للوزن والروي، ويطرد ذلك من صاحبه [346 ل] وليس كذلك ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم فإن مجموع ما صدر عنه من ذلك هذا الذي أوردناه لا نحفظ عنه غيره، وهو أبيات رجزية، فاذة في أغراض مختلفة.
الثالث: أنهم أوردوا/ [166 أ/م] الكلام المذكور عنه بتحريك أواخره، أو سكونها ليخرج عن حد النظم إلى حد النثر؛ فقالوا: أنا النبي لا كذب، بفتح الباء أنا ابن عبد المطلب بكسرها، وكذلك دميت ولقيت بسكون التاء فيهما، وما عدا هذين البيتين فمسموع قبله لغيره، فقوله:«إن تغفر اللهم» البيت محفوظ عن زيد بن عمرو بن نفيل، أو عن أمية بن أبي الصلت، وقوله: لولا أنت ما اهتدينا، محفوظ عن عامر بن الأكوع رجزية في طريقهم إلى خيبر، وحينئذ يكون النبي صلى الله عليه وسلم حاكيا له متمثلا به لا منشئا له، كما كان يتمثل بقول طرفة: ويأتيك من لم تزود بالأخبار، وبكسره هكذا تحقيقا لقوله عز وجل:{وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (69) [يس:
69] وكذا قوله: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة» وهو نثر لا نظم، وربما قال: فاغفر للمهاجرين والأنصار».
النار» (1)، فنزلت هذه الآيات مشتملة على جملة من أدلة البعث أحدها هذا وهو قياس الإعادة على الإبداء أي الذي ابتدأها، أولا يعيدها ثانيا بجامع الإمكان والقدرة التامة، وقد سبق هذا.
ثم احتجت النصارى بهذه الآية على إلهية المسيح إلزاما للمسلمين، وتقريره: أن المسيح أحيا العظام وهي رميم، وكل من أحيا العظام وهي رميم فهو الذي أنشأها أول مرة، فالمسيح هو الذي أنشأها أول مرة، أما الأولى فلنصوص القرآن والإنجيل إجماع الملتين على أن المسيح [أحيا الموتى، وأما الثانية فلهذه الآية إذ اقتضت أن لا محيي للعظام إلا منشئها أول مرة؛ فثبت أن المسيح] منشئ العظام أول مرة، ومنشئ العظام أول مرة هو الله فالمسيح هو الله، وهذه شبهة روجوها هكذا والغلط فيها واضح، فإن قولهم: المسيح أحيا العظام وهي رميم، إن أرادوا أنه أحياها مستقلا بإحيائها، فهو ممنوع، وإن أرادوا أنه أحياها بإذن الله كما صرح به القرآن، فإن أخذوا المقدمة الأخرى مقيدة بهذا القيد منعناها أيضا، وإن أخذوها بدونه لم يتحد الأوسط/ [347 ل] في القياس، فلا تنتج، إذا يصير هكذا: المسيح أحياها بإذن الله، وكل من أحياها مطلقا هو الذي أنشأها، فالوسط كما تراه غير متحد، ثم ما ذكروه معارض بأن الله يحيي العظام/ [166 ب/ل] مستقلا بإحيائها والمسيح أحياها غير مستقل بإحيائها، فالله غير المسيح فالمسيح غير الله، أو نقول المسيح أحياها بإذن الله، ولا أحد ممن أحياها بإذن الله بإله؛ فالمسيح ليس بإله، أما الأولى فلنص كتابنا ونص الإنجيل أنه كان إذا أراد إحياء ميت صلى ودعا وبكى وخضع، وذلك دليل على عدم استقلاله بذلك بدون إذن الله، وأما الثانية؛ فلأن الحاجة إلى الإذن دليل على قصور في القدرة، ولا أحد ممن هو قاصر القدرة بإله فهذا هو البرهان الواضح لا ما روجوه وغالطوا فيه.
ثم قوله-عز وجل: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (79)[يس: 79]، إشارة إلى ما ذكرناه في قوله:{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي}
{الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} (3)[3] في سبأ.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} (80)[يس: 80] تضمنت الدليل الثاني على البعث، وبيانه أن الذي أحاله منكر.
والبعث هو إخراج الجسم الحي المشتمل على الحرارة والرطوبة من عظم نخر، قد استولت عليه طبيعة التراب الباردة اليابسة، وذلك إخراج ضد من ضد وإيجاد طبع الحياة من طبع الموت، وأنه محال فيما زعموا فقيل لهم: هذا الشجر الأخضر الرطب قد أخرجنا لكم منه نارا في غاية اليبوسة، أنتم تستخرجونها بأيديكم من المرخ والعفار وغيرهما من الأشجار وهو إخراج يابس من رطب وضد من ضد؛ فإذا جاز إخراج يابس الناس من رطب الشجر، فلم لا يجوز إخراج رطب الحي من يابس العظم النخر؟ فإما أن تأتوا بفرق صحيح بين الصورتين ولن تجدوا، أو تمنعوا الجواز في الصورتين ولن تستطيعوا لثبوته عيانا في إخراج النار من الشجر أو تسلموا الجواز في الصورتين وهو المطلوب.
فإن قال قائل: إن إخراج الجسم الرطب الحي من العظم اليابس، محال لاحتياج الجسم إلى الرطوبة وهي معدومة في العظم الترابي اليابس بخلاف إخراج النار من الشجر الأخضر لجواز كمون النار في الشجر لغلبة العنصر الناري عليه، فتقاوم رطوبة الشجرة ما يقابلها من النار وتبقى بقية النار لا معارض لها تخرج عند استخراجها بالقدح، ومثل هذا التوجيه لا يتأتى في إخراج الحي من العظم فظهر الفرق [348 ل].
فالجواب أن الاحتياج لم يقع على توجيه إخراج الحي من العظم [الميت] بالتوجيه الطبيعي الذي ذكرتموه، حتى يصح مقتضى هذا الفرق، وإنما وضع على جواز إخراج الضد الطبيعي من ضده على مشترك بين الصورتين، إذ إخراج اليابس/ [167 أ/م] من الرطب، وإخراج الرطب من اليابس كلاهما يجمعه إخراج ضد من ضد.
أما توجيه حصول الرطوبة للجسم، فذاك ثبت بدليل آخر، وهو أنه ممكن، وكل ممكن مقدور، وبيان إمكانه أنه يجوز أن تستخرج له رطوبية مائية في الأرض، أو تمطر عليه من السماء، أو تخترع له اختراعا، وقد ورد أن الأرض تمطر عند إرادة البعث أربعين يوما مطرا كمني الرجال.
وحينئذ لا يبعد أن تجعل في الأرض حرارة كحرارة الرحم يتولد منها، ومن ذلك الماء الغليظ اللزج ما تقوم به الأجسام حية، ثم هذا البذر يقع يابسا في أرض يابسة فتهتز بعد أيام خضراء يعصر فيخرج منه الماء، فمن أين ذلك؟
والجواب مشترك، أما قولكم لجواز كمون النار في الشجر: فالكمون عندنا باطل، وأنتم عند المحاقة لا تقدرون على إثباته، فإنا لو قطعنا شجرة النار وشرحناها بأبلغ ما يكون ما وجدنا للنار أثرا لا عيانا ولا لمسا ولا غيره، وإنما النار يخلقها الله-عز وجل عند القدح، وغاية ذلك أن يكون اختصاص هذه الشجرة بإخراج النار منها طبيعة مناسبة للنار لكن ذلك لا يدل على كمون النار فيها على أن في كل شجر نارا، فلا اختصاص لبعضه دون بعض بذلك، وإنما هو كما قلنا مخترع عند استخراجه.
قوله: لغلبة الجزء الناري عليه، قلنا: العنصر الناري الكامن في الشجرة إما فاسد الصورة أو موجود الصورة؛ فإن كان فاسد الصورة فليس ذلك بنار كالعنصر الناري في الإنسان لا يسمى نارا موقدة ولا يوقد منها.
وإن كان موجود الصورة قائمها، فإما أن يكون غالبا للجزء المائي، أو مغلوبا له أو مكافئا مقاوما، فإن كان غالبا له، وجب أن يحرقه ثم يستولي على أثره في الشجرة، وهو رطوبتها فيذهبها ثم على جرم الشجرة فيحرقها بالكلية، والعيان بخلافة، وإن كان مغلوبا للمائي وجب أن ينطفئ لغلبة المائي عليه.
وحينئذ [يجب] أن لا تخرج النار من الشجرة بالقدح والاستخراج، والعيان بخلافه، وإن كان مكافئا مقاوما، وجب إذا شرحنا الشجرة أن نحسه عيانا، أو لمسا/ [349 ل] لأن الفرض أن صورته النارية قائمة لا فاسدة والعيان خلافه، فهذه الأقسام حاصرة وكلها باطلة، فبطل قولكم بكمون النار في الشجر لغلبة العنصر الناري عليه، ثم قوله: تبقى بقية النار لا معارض لها يخرج عند استخراجها، قلنا: إن بقيت فاسدة الصورة، فليست بنار، وإن بقيت بصورتها النارية، وجب أن تحرق ما تلاقيه من أجزاء الشجرة/ [167/م] إذ الفرض أنه لا معارض لها، فتبين بطلان الفرق المذكور من كل وجه.
ثم إن المزاج هو كيفية متوسطة حاصلة عن تفاعل العناصر بعضها في بعض وإذا تفاعلت كسر كل منها صورة الآخر وذهبت صورته بالكلية، ففرض كمون أحد العناصر بصورته في الجسم محال، نارا كان ذلك أو غيره. وإنما أطلنا الكلام هاهنا لوجهين:
أحدهما: لئلا يظن ظان أن الفرق المذكور مؤثر، فلا يثق بدليل القرآن،
الثاني: الإعلام بأن براهين القرآن بعد كل سؤال وجواب وتشكيك من ذي ارتياب تظهر أنها قوية متينة واضحة سالمة عن المبطلات، مستولية بالإبطال على الشبهات.
الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ (81)[يس: 81] تضمن الدليل الثالث على البعث، وقد سبق، وتقريره:
أن خلق السماوات والأرض أعظم من إعادتهم يعني منكري البعث، والقادر على الأعظم هو على الأيسر أقدر، أو يقال: إعادتهم أهون من خلق السماوات والأرض، فهو قادر عليها بطريق أولى، ودليل ذلك النص النظر، أما النص فقوله-عز وجل:{لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (57)[غافر: 57] وأما النظر فلأن الإنسان عالم صغير والسماوات والأرض هما العالم الأكبر، أعظم من الأصغر، كما أن الأصغر أيسر من الأكبر، ومن أتقن علم الهيئة والطب بحيث يقف على عجائب أشكال الأفلاك ودوائرها، وبدائع عجائبها وأجناس ما في السماوات والأرض وأنواعها وأصنافها وأشخاصها علم أن في ذلك من الحكمة وبديع الصنعة أضعاف ما في بدن الإنسان من الحكمة التي عرفت بالتشريح.
ثم إنه-عز وجل-لما قرر أدلة البعث، ذكر مستندها جملة وهو عموم القدرة على جميع الممكنات فقال:{إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (82)[يس: 82] أي، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إلى غيره من الآلات/ [349 ل] والعلاجات.
وربما قال قائل: إنما دل هذا الدليل على أنه قادر على أن يخلق مثل الناس، وهو ابتداء خلق والنزاع في الإعادة لا في ابتداء الخلق، فيقال: لعله نبه بهذا على أنه على الإعادة أقدر، إذ قد تقرر في سورة الروم وغيرها أن الإعادة أهون من الابتداء، أو يكون مراده بيخلق مثلهم يعيدهم مثل ما كانوا، والأمر قريب، والله-عز وجل-أعلم بالصواب.
…