الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في سورة الأنفال
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1)[الأنفال: 1] كانت كذلك يوم بدر، ثم نسخت بقوله-عز وجل:{*وَاِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (41)[الأنفال: 41] على ذلك التفصيل.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2)[الأنفال: 2] هذا حصر للمؤمن الكامل لا لمطلق المؤمن؛ بدليل أن المؤمن يصدق بدون بعض هذه الصفات بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» (1) لا يقال: إن من كان بهذه الصفة استلزم الصفات التي في الآية لأنا لا نمنع من ذلك، ولا دليل عليه.
{يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (6)[206/ل][الأنفال: 6] إشارة إلى كراهة ذلك من فاعله فيقتضي تحريم الجدال في الحق بعد بيانه، وذم من فعله، وأن الجدال كذلك هو المذموم، لا مطلق الجدال كما مر.
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (17)[الأنفال: 17] يحتج به الفريقان، أما المعتزلة فبقوله-عز وجل:{وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] أضاف الرمي إليه، وأما الجمهور فبقوله-عز وجل:{وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى} [الأنفال: 17] نفى الرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأثبته لنفسه، وقد حقق ذلك بعض المفسرين فقال: الرمي بالتراب أو الحجر اشتمل على قبض وإرسال، وهما من النبي صلّى الله عليه وسلّم
وعلى تبليغ وإصابة، وهما لله-عز وجل-ف {وَما رَمَيْتَ} باعتبار هذين {إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى} باعتبار الأولين، وهما عند الجمهور كسب له لا خلق.
{وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (23)[الأنفال: 23] هذا ظاهره مشكل لأنه على صورة قياس مركب من شرطيتين؛ ينتج من الشكل الأول: لو علم الله فيهم خيرا لأعرضوا عن الحق، وذلك يستلزم خلاف مقتضى العلم الأزلي، وأنه محال، وأجيب عنه من وجهين: أحدهما: أن معناه: لو أسمعهم على تقدير أن لا يعلم فيهم خيرا لأعرضوا، وتقريره: أن الجملة المذكورة متضمنة قياسين استثنائيين حذف من كل واحد منهما مقدمته الاستثنائية لظهورها، أحدهما: لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، لكنه لم يعلم فيهم خيرا فلم يسمعهم.
والثاني: لو أسمعهم لتولوا، أي: على تقدير ألا يعلم فيهم خيرا كما دل عليه الاستثناء قبله، لو أسمعهم لتولوا لكنه لم يسمعهم، يعني الدواب البكم الصم، فلم يتصور منهم التولي والإعراض. هذا تقريره على رأي المفسرين.
الثالث: على رأي المنطقيين: أن شرط إنتاج/ [97 أ/م] الشكل الأول كلية كبراه، والكبرى هاهنا وهي {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] ليست كلية إذ ليست مسورة بكلما ونحوها على ما عرف في موضعه، فلذلك لم تنتج الأشكال المذكورة.
وفي هذه الآية إشارة إلى ما قررناه في سر القدر في مقدمة هذا الكتاب، وهو أن الله- عز وجل-لو فرض أعمال العصاة إليهم لما كانت إلا معصية بحسب علمه فيهم، فرجح جانب الجبر، وأجراهم على مقتضى العلم.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (24)[الأنفال: 24] أي:
يخلق الدواعي والصوارف في القلب يحول بين المرء وإرادته، فربما أراد الإنسان بطبعه، أو عقله شيئا فيخلق فيه الصارف عنه والداعي إلى خلافه.
ومن هاهنا أخذ بعض العارفين حين سئل: بماذا عرفت ربك؟ فقال: بنقض العزائم، أي إنه يعزم على شيء فينقضه الله-عز وجل-عليه بما يخلقه في قلبه من الصارف عنه، وهذا من أدلة الجمهور على المعتزلة؛ لأن فعل الإنسان إنما يتم بإرادته، وإذا حال الله-عز وجل-بينه وبين إرادته امتنع مقتضاها ووجب مقتضى الصارف، مثاله لو أراد أن يصلي
فصرفه الله-عز وجل-عن الصلاة إلى الأكل لامتنعت منه الصلاة حينئذ، ووجب الأكل، والممتنع لا يوجد سواء امتنع لذاته أو لغيره.
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] فيه إثبات المعاد.
{وَاِتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (25)[الأنفال: 25] يحتمل أن المراد: اتقوا معصية لا يختص عقابها بمباشريها، بل يتعدى إلى من ترك إنكارها، فيكون فيها حجة على وجوب إنكار المنكر، وأن تارك الإنكار مع القدرة في حكم فاعل المنكر في لحوق الوعيد، كما أن الردء كالمباشر في قطاع الطريق، وسامع الغيبة أحد المغتابين، وراوي الكذب عالما به أحد الكذابين، ونحو ذلك.
ويدل على هذا التأويل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ظهر فيكم المنكر فلم تنكروه أوشك أن يعمكم الله بعقاب من عنده» (1).
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (29)[الأنفال: 29] أي: هداية تفرقون بها بين الحق والباطل، وهذه أدل على هذا المطلوب من قوله-عز وجل:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَاِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها}
{وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاِتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (282)[البقرة: 282] لاحتمال أن هذه اتفاقية اقترانية فقط لا لزوم فيها بين التقوى والتعليم بخلاف/ [208/ل]{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً} [الأنفال: 29] فإنها شرطية لزومية.
وتوجيه ذلك: أن المتقي ولي الله، وولي الله-عز وجل-مهدى إلى الحق، فالمتقي مهدي إلى الحق، أما الأولى فلقوله-عز وجل:{أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (62)[يونس: 62] وصف الأولياء بالتقوى فالولي متق، والمتقى ولي، لأنهما متساويان، فينعكس أحدهما على الآخر لخصوص المادة، وإن كان/ [97 ب/م] الموجب الكلي لا ينعكس كليا.
وأما الثانية فلقوله عز وجل: {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} (2)[الطلاق: 2] أي، من المضايق الحسية والعقلية؛ لأن اللفظ يعمهما، واشتباه الحق بالباطل من المضايق العقلية، فالمتقي يجعل له منها مخرجا بأن ينصب له علم فرقان بين الحق والباطل. وأيضا:{ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (11)[التغابن: 11].
{* وَاِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (41)[الأنفال: 41] عام خص بسلب المقتول مبارزة تغريرا فإنه لقاتله غير مخموس وما كان أن من جنس هذه الصورة.
والصوارف. وذلك لأن الله-عز وجل-لما أراد بموجب علمه السابق هلاك الكفار ببدر ونصرة دينه ورسوله والمؤمنين-حرك قريشا على إرسال عيرهم إلى الشام مع أبي سفيان على عادتهم في التجارة، ثم حرك لأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة فأرصدوا لها على ماء بدر، فعلمت قريش، فتحركت لحفظ مالها، فجاءوا حتى التقى الجمعان بعدوتي بدر المذكورتين هاهنا.
كل ذلك بإرادة الله-عز وجل-وما خلقه في قلوب الفريقين من الدواعي والصوارف، ولولا ذلك لكانوا لو تواعدوا إلى هناك لاختلفوا في الميعاد؛ ليعلم أن لا مراد لله إلا كائن، ولا كائن إلا مراد.
فإذا شغب هاهنا ذو اعتزال حكم على/ [209/ل] عقله عنه بالانعزال.
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} (43)[الأنفال: 43] قيل: المنام هاهنا محل النوم وهو العين والرؤية، لذلك كانت يقظة، وقيل: المنام على ظاهره في أنه خلاف اليقظة فكان ذلك رؤيا لا رؤية. لكن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق ووحي، فعلى كلا التقديرين يستدل بالآية على أن لله-عز وجل-أن يظهر الأشياء على خلاف حقائقها في نفس الأمر لحكمة، كما أظهر هاهنا قلة الكفار، وهم في نفس الأمر كثيرون لئلا يفشل ويتنازع المؤمنون. ثم لا يعد ذلك منه سبحانه وتعالى خطأ ولا كذبا ولا جهلا، ولا يعد بالكلية نقصا، بل يعد حكمة وحكما، {قَدِ اِفْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ} (89) [الأعراف: 89].
عز وجل-والجميع ممكن مقدور.
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ} (48)[الأنفال: 48]، جاء في التفسير: أن إبليس تراءى لكفار قريش/ [98 أ/م] على صورة سراقة بن مالك بن جعشم؛ فغرهم بغروره حتى شركوه في ثبوره، ففي ذلك دليل على أن الشياطين تظهر لبعض الإنس، وتتصور بما شاءت من الصور، وشواهده كثيرة، والكل ممكن مقدور.
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (63)[الأنفال: 63]، اعلم أن الحق سبحانه وتعالى لما كان هو الواحد بالحقيقة والوحدة من خواصه-كانت قوته وبطشه في وحدته فلا يحتاج إلى تكثير من قلة، ولا تقوية من ضعف، والخلق لما كان التعدد والكثرة والتركيب من لوازمهم-كانت قوتهم في اجتماعهم وكثرتهم، وشرط اجتماعهم اتفاقهم، واتفاقهم إنما يكون بميل القلوب بعضها إلى بعض، وقد سبق الله-عز وجل-هو المتصرف في القلوب بخلق الدواعي والصوارف، وأنه يحول بين المرء وقلبه، فكان أمر الله تأليف القلوب وتفريقها إليه-عز وجل-لا إلى غيره، ثم خلق دواعي الميل والألفة قد يكون مجردا عن سبب/ [210/ل]، وقد يكون مبنيا على سبب، إما (صالح كالإسلام) وظهور المعجزات في تأليف قلوب الصحابة ونحوهم من أتباع الرسل، أو فاسد كأكل الحرام ونحوه في تأليف قطاع الطريق ونحوهم من المفسدين.
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (64)[الأنفال: 64] قيل:
معناه يكفيك ويكفي من اتبعك، فمن عطف على الكاف في {حَسْبُكَ} [الأنفال: 64] محلا. وقيل: هي عطف على الله، أي: ويكفيك المتبعون من المؤمنين؛ بدليل {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] فالكفاية هاهنا مضافة إلى الله-عز وجل-خلقا، وإلى المؤمنين سعيا وكسبا على رأي الجمهور.
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] نسخت بما بعدها
إحداهما: نسخ الحكم إلى أخف منه؛ لأن ثبوت الواحد لاثنين أخف من ثبوته لعشرة، ويجوز أيضا إلى الأثقل والمساوي.
الثانية: قوله-عز وجل: {الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال: 66] احتج بها هشام بن عمرو الفوطي من المعتزلة على حدوث علم الله-عز وجل-وأنه لا يعلم شيئا حتى يكون؛ استدلالا بقوله: {خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال: 66] عطف العلم على التخفيف ثم التخفيف حادث لتقييده بالآن، فكذا ما عطف عليه.
وجوابه: أن المعطوف إنما يشارك المعطوف عليه وجوبا في الإعراب ونحوه؛ أما في الأحكام العقلية فلا، وإنما معنى الآية: الآن خفف الله عنكم، وقد علم-أي في الأزل- أن فيكم الآن ضعفا عما كلفتموه فخففه/ [98 ب/م] عنكم بالنسخ. غاية ما يلزم منه استعمال الفعل الماضي في موضع الحال بدون قد، وهو مذهب الكوفيين خلافا للبصريين، وشاهده:{إِلَاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (90)[النساء: 90] مع شواهد أخر في كلام العرب. وعلى رأي البصريين] تكون قد مقدرة، ولعل هشاما بنى ذلك على جواز قيام الحادث بذات الله-عز وجل-أو على أنه يعلم بعلم حادث لا في محل كالإرادة عنده وعند أصحابه، وكلا الأمرين فاسد، وتأسيس بنيان جوار على شفا جرف هار.
{ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (67)[الأنفال: 67] يحتج بهما على أمرين:
أحدهما: أن الأنبياء/ [211/ل] يجوز منهم الصغائر. الثاني: وقوع الخطأ منهم في الاجتهاد. ثم ينبهون عليه، وقد سبق هذا في سورة النساء.
والحق أن الأنبياء-عليهم السلام-معصومون مطلقا، وما عوتبوا عليه، فإنما هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، أو نحو ذلك والله-عز وجل-أعلم بالصواب.
…