الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في سورة القيامة
{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ} (1)[القيامة: 1] فيه إثباتها، ثم قيل: لا زائدة، وقيل:
المعنى، لا أقتصر على القسم بيوم القيامة بل أقسم بأعظم منه، والقولان جاريان في نظائره نحو:{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} (16)[الانشقاق: 16]، {لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ} (1) [البلد:
1] {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ} (2)[القيامة: 2] المذكور في القرآن، هذه والنفس الأمارة والنفس المطمئنة، فاللوامة تلوم على فعل الشر، والأمارة تأمر به، والمطمئنة ساكنة لما وعدت ومتواضعة لقبول ما به أمرت، خاضعة تحت مجاري الأقدار، خاشعة لله الواحد القهار. ثم قيل: هي ثلاث نفوس على ظاهر القرآن، وقيل: نفس واحدة لها ثلاث قوى أو ثلاثة أحوال، تارة تلوم، وتارة أمر، وتارة تطمئن، والله-عز وجل-أعلم بخلقه.
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ} (4)[القيامة: 3، 4] هذا إثبات للبعث خلافا لمنكريه، وأحال الله-عز وجل-هاهنا على مجرد القدرة، ثم برهن عليه في آخر السورة.
{بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ} (6)[القيامة: 5 - 6] تتعلق به الملاحدة ونحوهم على أن لا حقيقة للبعث، وإنما هو تخويف للناس لئلا ييأسوا من المعاد فيفجروا ويتظالموا فيفسد النظام.
والجواب/ [211 أ/م] أن ما ذكره لا ينفي وقوع البعث، وقد دلت عليه قواطع السمع والعقل، والتخويف بالشيء لا يمنع وقوعه.
عز وجل-حيث ذكرهما قدم الشمس، ولأنها أوسط مكانا في السماء وأعلى من القمر وأسعد منه.
واحتج من فضل القمر بأنه مذكر، وهو أسرع حركة وجولانا في الفلك، ومدار الحساب على تمامه ونقصانه أكثر، وهو في ذلك أعجب، وهو أقل ضررا من الشمس ونحو هذا من الوجوه، ولا شيء منها يعارض ما ذكر للشمس.
{بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ} (15)[القيامة: 14، 15] أي: يشهد على نفسه وتشهد عليه جوارحه كما مر، فلو اعتذر بما أمكنه لم ينفعه مع شهادة نفسه عليه.
{فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} (19)[القيامة: 18، 19] يحتج به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب؛ لأن ثم للتراخي، وقد دلت على تأخير البيان عن وقت القراءة، وقد سبق نظيره أول هود.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} (23)[القيامة: 22 - 23] وهذه عمدة الجمهور في إثبات رؤية الله-عز وجل-في الآخرة؛ لأن النظر المقرون بإلى يقتضي الرؤية لغة، وقد تضمنت الآية ذلك فكانت مقتضية للرؤية.
واعترض المعتزلة بأن قالوا: النظر هاهنا مضاف إلى الوجوه وليست آلة للرؤية ولا محلا لها، سلمناه لكن لا يعلم أن اقتران النظر بإلى يقتضي الرؤية، بدليل قوله-عز وجل:
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (198)[الأعراف: 198] فاقترن النظر بإلى مع نفي الإبصار والرؤية، سلمناه ولكن لا نسلم أن هاهنا حرف جر، وإنما هو اسم/ [211 ب/م] وهو أحد الآلاء وهي النعم، نحو: معى وأمعاء، والتقدير وجوه يومئذ ناضرة، نعمة ربها ناظرة أو منتظرة؛ لأنها تفرح بما ترى من أمارات الثواب، وهي تراه وتنتظره، سلمناه لكن ما ذكرتموه إنما هو ظاهر في الرؤية فلا يعارض القاطع في نفيها، وهو أن الرؤية تقليب الحدقة إلى جهة المرئي واتصال شعاع البصر به وذلك مستلزم للجسمية، فالرؤية لا تتصور إلا على رأي المجسمة أو على رأي الاتحادية الذين يجيزون أن يظهر الحق-عز وجل-في المظاهر والأطوار، فيظهر في مظهر جسماني/ [436/ل] فيرى، كما ورد أنه يأتيهم في صورة ينكرونها ثم في صورة يعرفونها، ويكشف لهم عن ساقه فيخرون سجدا، لكن التجسيم والاتحاد باطلان عند الجمهور.
وأجيب عن الأول بأن الوجوه محل الإبصار والإبصار محل الرؤية وآلة لها، فالوجوه محل للرؤية وآلة لها، ودل على ذلك استعمال العرب كقول القائل:
وجوه ناظرات يوم بدر
…
إلى الرحمن تنتظر الفلاحا
وقول الآخر:
وفى يوم بدر قد رأيت وجوههم
…
إلى الموت من وقع السيوف نواظرا
فقد أضاف النظر إلى الوجوه، وعن الثاني بأن وضع اللغة أن النظر المقرر بإلى يقتضي الرؤية، فإن لم يكن موضوع اللغة فأكثر استعمال العرب عليه نحو قوله:
نظرت إلى من حسن الله وجهه .... . .
وقوله:
نظروا إليك بأعين محمرة
…
نظر التيوس إلى شفار الجازر
وهو كثير، وهو يحصل المقصود؛ ولأن غلبة استعماله تدل على أنه الحقيقة.
فأما: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (198)[الأعراف: 198] فلم يكن عدم الإبصار لعدم اقتضاء اللفظ له، بل لأن المشار إليهم هم الأصنام وهم جماد ليس لهم آلة الإبصار كما سبق في آخر «الأعراف» ، وعن الثالث بأنه خلاف المتبادر إلى فهم كل سامع، والصحابة ومن بعدهم إنما فهموا أن إلى حرف جر حتى ظهر المعتزلة بتأويله، ثم إن ما ذكروه لا يصح؛ لأن الكلام وهم في الجنة والنظر إلى النعيم فيها لا يعد نعمة؛ إنما ذلك الموضع محل تناول النعم والالتذاذ بها لا محل النظر إليها، وانتظارها هناك غير مناسب؛ لأن الانتظار-كما قيل يورث الصغار، ثم إن النعم في الجنة حاصلة فانتظار مناف لحصولها أو تحصيل الحاصل.
قوله: ما ذكرتموه، ظاهر في الرؤية، قلنا: بل قاطع لتبادر الفهم/ [212 أ/م] إليه، وإجماع السلف على فهم الرؤية منه، وهم أهل العصمة الإجماعية واللسان العربي، سلمنا أنه ظاهر لكن لا نسلم أن عندكم قاطعا يعارضه.
قوله: إن الرؤية تقليب الحدقة إلى جهة المرئي.
قلنا: هذا على اختلاله لا يضر؛ لأن مثبتي الجهة يلتزمونها، ووجه اختلال هذا القول أن الرؤية ليس نفس تقليب الحدقة بل هي نوع إدراك يلزمه تقليب الحدقة فتقليب الحدقة من لوازم الرؤية لا أنه نفسها، وأما من لا يثبت/ [437/ل] الجهة كالأشعرية، فإنهم يفسرون الرؤية بنوع كشف نسبته إلى الرب-عز وجل-كنسبة الرؤية إلى المرئيات.
قوله: واتصال شعاع البصر بالمرئي.
قلنا: الناس لهم في كيفية رؤية المرئيات أربعة أقوال:
أحدها: اتصال الشعاع.
والثاني: انطباع صورة المرئي في الرطوبة الجليدية كانطباع الوجه في المرآة.
والثالث: أنه نار تخرج من البصر فيدرك به المرئي، وهذا شبيه بالقول بالشعاع.
والرابع: أنه علم يخلقه الله-عز وجل-في نفس الرائي مقارنا للرؤية، وهو مذهب المتكلمين.
فنقول أولا: لم قلت: إن رؤية الباري-عز وجل-أو الرؤية مطلقا باتصال الشعاع؟ وما أنكرت أن يكون بخلق العلم في نفسه كما هو رأي المتكلمين.
وثانيا: أنه قد ثبت لنا رؤية لا باتصال شعاع وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تختلفوا عليّ-يعني في الصلاة-فإني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي» (1) وما ذاك إلا لخارق إلهي ومعجز نبوي أيد به النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يرى الثريا اثني عشر كوكبا وغيره إنما يراها ستة أو سبعة، وذلك لقوة خص بها في بصره خرقا للعادة، فجاز إذ كان الآخرة محل خرق العادة أن تتجدد للمؤمنين خرق عادة يرون بها ربهم من غير انطباع ولا اتصال شعاع، ولا جهة أصلا على رأي نفاة الجهة، كالدودة في وسط البلورة تراها لا في جهة، وكرة العالم يراها الله-عز وجل-وقد قام البرهان على أنها ليست في جهة على ما قيل، وحينئذ لا يلزم مثبتي الرؤية لا رأي المجسمة ولا رأي الاتحادية.
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (36)[القيامة: 36] أي هملا لا راعي له، ولا معترض عليه ولا بعث ولا معاد، وهذا إنكار لنفي البعث فيقتضي إثبات البعث، وهذا شبيه بقوله-عز وجل:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ} (115)[المؤمنون: 115].
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى} (37)[القيامة: 37][212 ب/م] إلى: {أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى} (40)[القيامة: 40] هذا احتجاج على إمكان البعث ووقوعه بالقياس على النشأة الأولى كما سبق في أول «الحج» وغيره.
…