الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في سورة المائدة
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 1] خطاب عام.
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وهي العهود والمواثيق، وهو عام مخصوص بالعقود الفاسدة، والمتضمنة للمفاسد الراجحة، كاشتراط أهل الحرب في الهدنة رد من جاء من نسائهم إلينا مسلما، أو على أن يدفع إليهم مصحف، ونحو ذلك، فلا يجب الوفاء به.
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} [المائدة: 1] عام خص بالاستثناء بعده.
{إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] / [127/ل] وهو ما تضمنته الآية بعد وهي {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاِخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3)[المائدة: 3].
{إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ} (1)[المائدة: 1] عام مطرد.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (2)[المائدة: 2] عام مخصوص بأحوال الضرورات، كإحلال مكة للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، وحكم ذلك باق عند الحاجة، وكإحلالهم من الإحرام للإحصار، ونحو ذلك، وشعائر الله-عز وجل-حرماته المعظمة.
{وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ} [المائدة: 2] عام كالذي قبله في التخصيص الضروري.
{وَإِذا حَلَلْتُمْ} [المائدة: 2] أي من الإحرام، {فَاصْطادُوا} إباحة، واختلف في الأمر الوارد بعد الحظر هل/ [60 ب/م] هو للإباحة، أو على مقتضاه الأصلي وجوبا، أو غيره؟
فيه قولان (1): فمن قال: هو على مقتضاه الوضعي، قال: خرج نحو {فَاصْطادُوا.}
{فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَاِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاُذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (10) الجمعة [10] بدليل خاص.
{وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (2)[المائدة: 2] عام في كل بر وتقوى، يخص منه ما عجز عنه، أو عارضه مفسدة راجحة كالنهي عن منكر، يثير فتنة عامة والأمر بمعروف يفوت أهم منه، فلا يتعاون عليه {وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا} [المائدة: 2] عام أيضا يخص منه ما استكره عليه، أو جهل تحريمه، أو تضمن مصلحة راجحة لقوم هموا بفسق عام كالقتل والزنا وإتلاف المال، وأمكن إشغالهم وتعويقهم عن ذلك بسماع الملاهي أو شرب شراب ونحوه مما مفسدته أقل من مفسدة ما هموا به، جاز إعانتهم عليه، وربما وجب.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3] عام في تحريمها، ويخص بما خصت به الميتة في المخمصمة ونحوه.
{وَما أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] عام خص بالاستثناء.
{إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وكذلك هو مخصص للأربعة قبلها فما أدركت تذكيته منها حل، وهذا استثناء رجع إلى جمل، وهل يرجع الاستثناء إلى ما قبله فقط، أو إلى جميع ما تقدمه مما يصلح رجوعه إليه، أو يوقف فيه؟ فيه أقوال: موضعها سورة النور، إن شاء الله، عز وجل.
{وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} [المائدة: 3] عام إلا في ضرورة يستباح بها الكفر، ونحوه.
{ذلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] أي جميعه أكل المحرمات، والاستقسام وهو عام في كونه فسقا، إلا ما استبيح منه بالتخصيص، فلا فسق فيه.
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: 3] عام في الكفار الايسين ما عاد أحد منهم يطمع في تبديل دين الإسلام بالكلية.
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] عام في الدين، لم يبق في شيء منه / [128/ل] نقص.
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] عام أريد به الخاص وهو نعمة الدين، أما نعمة الدنيا، ففي إتمامها نظر؛ فإنها إنما تتم بملك الدنيا بأسرها كما ملكها سليمان ونحوه.
ولقائل أن يقول: لعل الاقتصار من نعمة الدنيا على بعضها من إتمام نعمة الدين في حق هؤلاء المخاطبين لئلا تلهيهم عن مهام الآخرة.
{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] إن قيل: هاهنا وفي قوله-عز وجل {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} (19)[آل عمران: 19]{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} (85) [آل عمران:
85] جعل الإسلام هو الدين جميعه، وفي حديث جبريل الصحيح جعل الإيمان والإسلام والإحسان هو الدين، فالدين الذي/ [61/أ/م] هو الإسلام في الآيات الثلاث هو ثلث الدين الذي هو مجموع الأمور الثلاثة في الحديث، فكيف الجمع؟
وجوابه من وجوه:
أحدها: أن الثلاثة لما كانت متلازمة في نظر الشرع جاز التعبير ببعضها عن جميعها؛ لأن باقيها لا ينفك عن المذكور منها كما يقال: الإنسان هو الناطق، ولا ينص على الحيوان للزومه إياه.
الثاني: أن يكون الدين مشتركا بين الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث، وبين الإسلام وحده المذكور في الآية. فأراد في كل واحد منهما أحد المشتركين.
الثالث: يكون معناه: ورضيت لكم الإسلام من الدين، أي رضيته لكم جزءا من الدين مضموما إليه الجزآن الآخران.
الرابع: أن معناه ورضيت لكم دين الإسلام وهو مجموع الأمور الثلاثة فتتفق الآية والحديث.
الخامس: أن الإسلام صار في العرف علما على ما يقابل اليهودية والنصرانية وسائر
الملل من الأديان، فكأنه قال: ورضيت لكم هذه الملة الخاصة المقابلة لسائر الملل دينا، وهو معنى الذي قبله.
{فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] عام في المضطر، وهذا مخصوص لعموم التحريم المتقدم في الميتة، وما بعدها وظاهره جواز الأكل مما أهل به لغير الله-عز وجل وما ذبح على النصب للمخمصة.
{يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاُذْكُرُوا اِسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} (4)[المائدة: 4] ليس المراد بها ضد الخبائث المحرمات، إذ كان يصير تقديره، أحل لكم الحلال، وهو دور لا يحصل به جوابهم، وإنما المراد أحل لكم المستلذات والمستطابات، فيكون عاما مخصوصا بما حرم منها كالخمر ولحم الخنزير، والسباع والجوارح، ونحوها من المستلذات المحرمة.
{وَما عَلَّمْتُمْ} [المائدة: 4] أي وأحل لكم صيد الجوارح المعلمة، وهو عام فيه، خص بصور:
منها: ما أمسكه الكلب ونحوه على نفسه لا/ [129/ل] على صاحبه بدليل {فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].
ومنها: ما أكل الكلب منه لدلالته على أنه إنما أمسك على نفسه.
ومنها: ما لم يسم الله-عز وجل-على الصائد عند إرساله عليه على خلاف فيه، بدليل {وَاُذْكُرُوا اِسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4].
{وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (121)[الأنعام: 121] وغير ذلك من الصور المفصلة في الفقه، والجوارح عام خص بصفة التعليم والتكليب.
{فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] عام خص بما لم يسم عليه على ما مر، وبما شارك الكلب فيه غيره مما يقدح في الحل، ككلب استرسل بنفسه، أو كلب مجوسي، أو ترد من علو أو ماء/ [61 ب/م] مغرق أو كان الكلب مغصوبا، إذ صيده لمالكه، أو
كان ما أمسكه الجارح ونحوه، غير مأكول كسبع أو جارح مثله، ونحو ذلك من الصور.
{وَاُذْكُرُوا اِسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] فيه مسألتان:
إحداهما: أنه يدل على أن الاسم غير المسمى، أما أولا فلإضافة اسم إلى الله، والإضافة تقتضي التغاير.
وأما ثانيا: فلأن الذي يتحرك به لسان المسمي على الصيد، ليس هو الذات القديمة قطعا، وإنما هو لفظ دال عليها، وذلك قاطع في التغاير.
الثانية: أن اسم الله هاهنا إما عام أريد به الخاص أو المراد به المعهود، وهو لفظ الله، وليس المراد عمومه، وإلا لتوقف حل الصيد، والذبيحة على ذكر كل اسم لله-عز وجل -أو على ذكر التسعة والتسعين اسما، وأنه باطل بإجماع.
منها: ما حرم علينا ابتداء كالميتة والخنزير، فيكون محرما علينا ابتداء، بواسطة أهل الكتاب.
منها: ما حرم عليهم كذي الظفر من بهيمة الأنعام، ونحوها؛ لأننا تبع لهم في حل طعامهم فحرم علينا ما حرم عليهم.
ومنها: [شحم الثرب](1) والكليتين مما يحل لهم ذبحه يحرم عليهم وفي حله لنا قولان:
ومنها: الغدة، وإذن القلب، يكره أكله لنا مطلقا مما ذبحوه، أو ذبحناه، وفي تحريمه خلاف. وما كان من مثل هذه الصور.
{وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] عام، ويخص منه شحم ذبائحنا المحرم عليه، لو ذبحه هو.
{وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ} [المائدة: 5] أي: العفائف يحل لكم نكاحهن، ويخص منه ذوات الأزواج، والمعتدة والمحرمة بسبب أو نسب مما ذكر في سورة النساء، والمشتبهة
كأخته المشتبهة بأجنبيات حتى تتعين، والزانية على الزاني وغيره حتى تتوب، وتعتد لمفهوم المحصنات/ [130/ل].
كل هؤلاء يحرم نكاحهن مطلقا أو مؤقتا ويخص بهن هذا العموم. {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] عام في حرائر أهل الكتاب يحل نكاحهن من الذميات والحربيات، وفي الحربيات خلاف، الأصح جوازه للعموم، والأصح امتناع نكاح إمائهم للتخصيص بالمحصنات، وهن الحرائر، إذ لا إحصان لأمة.
{وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] عام مطرد.
قوله-عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَاِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (6)[المائدة: 6] اقتضى بعمومه وجوب الوضوء لكل صلاة، فإن تعذر الوضوء فالتيمم خص ذلك في الوضوء بالإجماع؛ لكونه رافعا، فلا يجب إلا على من أراد الصلاة وهو محدث، وبقي في التيمم على عمومه/ [62 أ/م] فيجب عند إرادة كل صلاة بحيث لا يجمع بتيمم واحد فرضين في وقت واحد، وهو مذهب الشافعي، وقول لأحمد، والصحيح عنده أن التيمم وظيفة الوقت؛ فيصلي به ما شاء في الوقت من فروض ونوافل، حتى يخرج.
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] عام في الوجه، وهو من منابت شعر الرأس المعتاد إلى مجتمع اللحيين طولا، وما بين الأذنين عرضا، وخص منه داخل العينين؛ فلا يجب غسله إذا خيف الضرر، وإن أمن ففي استحبابه وجهان، ومقتضى العموم وجوبه، وفي المسترسل من اللحية عن مجتمع اللحيين قولان:
أحدهما: يجب غسله؛ لاتصاله بمحل الفرض.
والثاني: لا يجب لخروجه عن حد الوجه، وداخل الفم والأنف متردد بين ظاهر الوجه
وباطن الحلق؛ فمن ثم وقع الخلاف في وجوب المضمضة والاستنشاق.
{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ} [المائدة: 6] عام ثم إن قيل: حد اليد إلى تحت الإبط كما فهمه الصحابة أولا، فقد خص منها ما بين المرافق والآباط؛ وإن قيل: إن حدها إلى الكوع؛ كما في قطع السارق؛ فهو عام مطرد؛ وزيد عليه ما بين الكوع إلى المرفق، بالغاية المذكورة إلى المرافق؛ وبهذا [يتضح القول] في دخول المرافق في الغسل؛ فعلى حد اليد الأول يكون دخول المرفق في الغسل بعموم لفظ اليد بعد تخصيص ما فوق المرفق إلى الإبط وعلى حدها الثاني. ينبني على أن «إلى» بمعنى مع على غير المختار، فيدخلان في الغسل أو على أصلها في الغاية؛ فينبني على أن الغاية تتناول ما بعدها، فيه أقوال.
ثالثها: إن كان من جنسها، تناولته وإلا فلا، وهو اختيار المبرد.
ورابعها: أنها مجملة في التناول وعدمه، يقف على الدليل فإن قلنا: يتناوله مطلقا، أو إذا كان من جنسها دخل/ [131/ل] في الغسل هاهنا؛ لأن المرفق من جنس اليد، وإن قلنا: يتناول ما بعدها، أو هي مجملة يحتمل التناول وعدمه، ففيه قولان:
أحدهما: يدخل في الغسل؛ لبيان النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بفعله حيث توضأ فغسل يديه، وأدار الماء على مرفقيه.
والثاني: لا يدخل، هو قول زفر بن الهذيل (1) من أهل العراق، عملا بمقتضى الغاية في عدم التناول أو اقتصارا على الأقل المتيقن إن جعلناها مجملة، ويحمل فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غسل المرافق على الاستحباب، والقول في {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] نحو منه في {إِلَى الْمَرافِقِ} [المائدة: 6].
{وَاِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] فيه مسائل:
الأولى: الباء، قيل: للإلصاق. وقيل: زائدة. فتقتضي تعميم الرأس بالمسح أي امسحوا رؤوسكم ملصقين بها أيديكم، وهو مذهب مالك أحمد رحمهما الله.
وقيل/ [62 ب/م]: للتبعيض، فيقتضي إجزاء مسح بعضه، وهو مذهب الشافعي- رحمه الله-ولو شعرة لحصول مسمى المسح، والزيادة والتبعيض ضعيفان، وإن كان
التبعيض في الباء منقولا عن الشافعي، ولو ثبت عنه كان حجة، وقد خرج مسح البعض على غير تبعيض الباء، وهو أن الباء إن وردت للتبعيض وغيره في الاستعمال فكانت في الآية مجملة لاحتمالها الأمرين، فاقتصر فيه على الأقل المتيقن، وهو ما يصدق عليه اسم المسح، وهو تقرير الإمام فخر الدين، في تفسيره.
وعند أبي حنيفة-رحمه الله-الواجب مسح ربع الرأس، وعنه قدر الناصية، وعنه قدر ثلاث أصابع؛ لأن المسح يقتضي آلة يمسح بها، وهي الكف، وثلاث أصابع أكثره، فقامت مقام جميعه، وفي كون الباء للتبعيض أولا مباحث نظرية، مذكورة في أصول الفقه لا نطيل بذكرها، ويكفي في ذلك إطباق أهل اللغة على إنكار أنها للتبعيض إلا ابن كيسان (1)، وما يروى عن الشافعي، قال ابن برهان الأصولي النحوي (2): من زعم أن الباء للتبعيض، فقد أتى أهل اللغة بما لا يعرفونه، ومحل الخلاف ما إذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه نحو:
مسحت رأسي، وبرأسي لا مطلقا.
المسألة الثانية: ذكر الرأس، وهو ممسوح متخللا للمغسولات، احتج به من رأى الترتيب فرضا في الوضوء، هو الشافعي وأحمد-رحمهما الله-بناء على أن ذلك، لا بد له من فائدة، ولا فائدة إلا التنبيه على الترتيب، وفيه نظر؛ لأن لقائل أن يقول: إن تخلل الرأس للمغسولات هو بمقتضى الكلام القديم عبارة مسموعة جعل أو معنى ذاتيا، والكلام القديم لا يعلل بالفوائد والعلل، سلمنا أنه لا بد له من/ [123/ل] فائدة، لكن جاز أن تلك الفائدة تعديل الكلام المعتبر في الإعجاز، وجاز أنها للتنبيه على استحباب الترتيب لا وجوبه، ومن الشافعية من بنى الترتيب في الوضوء على كون الواو العاطفة تقتضي الترتيب [لا وجوبه] وبعض الأعضاء معطوف على بعض بها. ويحكى أيضا عن الشافعي، والصحيح أن لا ترتيب فيها وأنها للجمع المطلق كما مر.
ومنهم من أثبت بأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» (3)، وذلك الوضوء إما مرتب؛ فيلزم ألا تقبل الصلاة إلا بوضوء مرتب، وهو المطلوب،
أو غير مرتب؛ فيلزم أن لا تقبل الصلاة إلا بوضوء غير مرتب، وهو خلاف للإجماع، وهي طريقة حسنة مطردة، في جميع أبعاض الوضوء غير أنها منتقضة على كل مستدل بها بما لا يقول هو بوجوبه في الوضوء كالمضمضة والاستنشاق والموالاة/ [63 أ/م] وسائر السنن عند من لا يرى فرضية شيء منها؛ فإن النكتة جارية فيه بعينها بأن يقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم لا يخلو إما أنه عليه الصلاة والسلام تمضمض فيه أو لا، إلى آخرها.
المسألة الثالثة: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] قرأ نصف القراء بفتح اللام نصبا عطفا على الوجوه والأيدي في الغسل. واحتج به الجمهور، وقرأ الباقون بكسر اللام جرا عطفا على الرءوس في المسح. واحتج به الشيعة.
ثم كل واحد من الفريقين تأول قراءة الآخر على خلاف الظاهر؛ فالجمهور تأولوا قراءة الجر على المجاورة للرءوس، نحو:
. . .
…
كبير أنا في بجاد مزمل
. . .
…
صفيف شواء أو قدير معجل
وجحر ضب خرب، والأصل مزمل وخرب بالرفع، وقديرا بالنصب، وإنما جر الثلاثة لمجاورتها المجرور قبلها.
وردت الشيعة ذلك بأن الإعراب على المجاورة شاذ نادر، أو ضعيف في القياس فلا تحمل عليه القراءة المشهورة، ثم هو إنما يستعمل حيث يؤمن اللبس لا حيث يلبس كما هاهنا، على أن معنى الشاهد الثالث: لكم جحر ضب خرب جحره، فهو نعت سببي مقيس لكن حذف الفاعل لدلالة خبر المبتدأ عليه؛ إذا التقدير: هذا جحر ضب خرب جحره.
والشيعة تأولوا قراءة النصب على أنها على محل {بِرُؤُسِكُمْ} [المائدة: 6] وهو نصب نحو: «فلسنا بالجبال ولا الحديدا» ، وهو أقرب من الوجوه والأيدي، والعطف على الأقرب أولى.
ورد الجمهور ذلك بأن العطف على محل {بِرُؤُسِكُمْ} [المائدة: 6] وإن كان أقرب، لكن العطف على لفظ الوجوه والأيدي أقوى/ [133/ل] واعتبار الأقوى أولى من اعتبار الأقرب؛ لأن القوة معنى حقيقي، والقرب معنى إضافي عدمي، ثم أكدوا ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واتفاق السواد الأعظم على غسل الرجلين.
واعلم أن الخلاف لما قوي في هذه المسألة من الطرفين ذهب قوم من الجمهور إلى التخيير بين الغسل والمسح، وآخرون إلى الجمع بينهما احتياطا؛ فصار فيها أربعة مذاهب، وخص من عموم الأعضاء الأربعة ما قام به مانع من التطهير كالجراحة والشجة ونحوها.
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} [المائدة: 6] عام خص منه من لا تشتهى لصغرها والمحرم، على خلاف في ذلك؛ فلا ينقض الوضوء مسها واللمس من غير قصد أو لغير شهوة عند بعضهم، ثم إن الملامسة حقيقة وضعية في تماس البشرتين، ومجاز في الوطء؛ فمن اعتبرهما من لفظ واحد-كالشافعي ونحوه-ينقض الوضوء بالجماع واللمس، ومن لم يعتبرهما في لفظ واحد-كأبي حنيفة-نقض/ [63 ب/م] الوضوء بالجماع للإجماع، ولم ينقضه باللمس، وإلا لاعتبر من اللفظ الواحد حقيقته ومجازه وأنه باطل عنده، وهذا من مسائل الحقيقة والمجاز في أصول الفقه.
{فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] هذا نكرة في سياق نفي؛ فيعم، ومقتضاه أنه إن لم يعدم جميع أفراد الماء المطلق لا يجوز له التيمم. وقد وقع النزاع في صور:
منها: الماء المتغير بالطاهرات تغيرا شديدا بحيث لا يخرجه عن طبيعة الماء وقوته، هل يجوز الوضوء بناء على أن الماء المطلق يتناوله أم لا؟ (1).
ومنها: المستعمل في رفع الحدث (2)، أجاز مالك استعماله في الطهارة مع الكراهة، ومنعه الباقون؛ بناء على ذلك أو كونه صار نجسا عند بعضهم.
ومنها: نبيذ التمر عند عدم الماء في السفر، هل يتوضأ به أم لا؟
منعه الأئمة إلا أبا حنيفة (3).
حجة المانع: أن جميع أفراد الماء معدومة فوجب الانتقال إلى التيمم؛ إذ لم يجعل الشرع بينهما واسطة فمن أجاز الوضوء بالنبيذ فقد أثبت الواسطة، حيث لم يثبتها الشرع، وأنه غير جائز.
حجة من أجاز قوله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود ولم يجد معه إلا نبيذا: «ثمرة طيبة وماء طهور» (1) فسماه ماء؛ ولأنه لا بد في النبيذ من أجزاء مائية؛ فوجده لم يعدم جميع أفراد الماء فيلزمه استعمال تلك الأجزاء واستعمالها مفردة لا يمكن لاستهلاكها/ [134/ل] فيوصل إليه باستعمال الجميع-أعني الماء-وما استهلك فيه، وصار ذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والجواب: أن الحديث قد ضعف، والأجزاء المائية في النبيذ خرجت عن اسم الماء وطبيعته؛ فلا يتناولها العموم، فلا يجب استعمالها.
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] اختلف في من هاهنا هل هي للتبعيض أو لابتداء الغاية؟ فعلى الأول يشترط فيما يتيمم به أن يكون له غبار يعلق بمحل التيمم؛ تحقيقا لمعنى الباء في التبعيض، وهو مذهب الشافعي وأحمد (2)، وعلى الثاني: لا يشترط ذلك؛ لأن الواجب ابتداء المسح من الصعيد، وهو حاصل بدون الغبار حتى لو ضرب بيده على حجر صلد ونحوه مما لا غبار فيه جاز، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة (3).
ثم ألزم الشافعية الاكتفاء بمسح بعض الوجه في التيمم من قوله-عز وجل:
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] كما جاز الاكتفاء بمسح بعض الرأس من {وَاِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ} [المائدة: 6] وإلا فسووا بينهما في التعميم، أو أفرقوا بين الموضعين مع اتحاد الصيغة، ووجود الباء المبعضة فيهما لكنهم فرقوا بأن المسح في الرأس أصل فعمل فيه مقتضى الباء التبعيض بخلاف المسح في/ [64 أ/م] الوجه فإنه ينزل عما يجب استيعابه به وهو الغسل فألحق بأصله.
وهذا عند التحقيق ليس بالقوي؛ لأن مقتضيات الألفاظ لا يؤثر فيها اختلاف الأحكام، وهذا البحث يتعلق بحروف المعاني، وهي من أبواب أصول الفقه.
{ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] هو عام بدليل {وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اِجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاِعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78)[الحج: 78] وهو عام مطرد؛ لأن الله-عز وجل لم يشرع حكما إلا وأوسع الطريق إليه ويسره، حتى لم يبق دون حرج ولا عسر ويحتج بهذه الآية ونحوها من رأى أنه إذا تعارض في مسألة حكمان اجتهاديان-خفيف وثقيل- ترجح الخفيف دفعا للحرج. وفي هذا أقوال:
ثالثها: التخيير والأخذ بالأثقل أحوط، وهذه من أصول الفقه.
قوله-عز وجل: {وَاُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} (7)[المائدة: 7] يحتمل [أن هذا] تذكير [للمؤمنين بالعهد المأخوذ عليهم {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ} (172) [الأعراف: 172] ويحتمل أنه تذكير لهم ببيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم على النصرة والإسلام والتزام أحكام الشريعة، وهو أشبه/ [135/ل].
{* وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} (12)[المائدة: 12] يعني على طاعة موسى-عليه السلام-وهو عام فيهم.
{وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12] استشهد الإمامية بهذا على أن أئمة
الأمة من أهل البيت اثنا عشر على عدد نقباء بني إسرائيل؛ لأن النقباء هنا الشهود بدليل سياق الآية، والأئمة شهود على الأمة؛ لقوله عز وجل:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (71) [الإسراء:
71] ولأن الإمام خليفة الرسول، والرسول شاهد على الأمة فكذا خلفاؤه.
واعلم أن هذا تشبيه مجرد عن غير ربط لزومي، وإنما الأشبه بنقباء بني إسرائيل نقباء الأنصار الذين بايعوا بيعة العقبة.
{وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة: 12] أي بالنصرة والإعانة.
{وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} [المائدة: 12] عام مطرد في الإيمان بالرسل.
{لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ} [المائدة: 12] عام في تكفير جميعها، ولا يجوز تخصيصه بالكفر لقوله-عز وجل:{إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً} (48)[النساء: 48] لأن تكفير سيئاتهم إنما هو على تقدير الإيمان كما صرحت به الآية، وهو والكفر لا يجتمعان؛ فإذن تكفير السيئات عام مطرد فيما سوى الكفر.
{فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ} [المائدة: 12] عام مطرد.
{فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاِصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (13)[المائدة: 13] يحتمل أن نقضهم إياه بمخالفة جميع أجزائه وهي الخمسة المذكورة في الآية قبلها «إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، وتعظيمهم، وإقراض الله-عز وجل-قرضا حسنا» ويحتمل أن نقضه بمخالفة بعض أجزائه، ولو جزء واحد/ [64 ب/م] منه؛ لأن ماهية الجملة تنتفي بانتفاء جزء منها، كالعشرة تنتفي صورتها وماهيتها بعدم واحد منها.
ويحتج القدرية بهذه ونحوها، ووجهه أنه-عز وجل-لعنهم بنقضهم الميثاق، فلو كان نقضه مخلوقا له لكان لاعنا لهم على فعله، وذلك جور. وقد عرف هذا وجوابه غير مرة على رأي الكسبية والمجبرة.
{وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً} [المائدة: 13] قسوة القلب صلابته، فلا يلين لطاعة الله- عز وجل-وذكره، وسببها ما يخلقه الله-عز وجل-في القلب من غلبة شهوات الدنيا عليه والاغترار بها فيخالف في تحصيلها المأمورات، ويرتكب المحظورات، وربما قال المعتزلة:
إنه-عز وجل-جعل تقسيته لقلوبهم عقوبة على نقضهم للميثاق فلو كانت العقوبة والذنب جميعا من فعله وخلقه لما كان أحدهما بأن يكون ذنبا والاخر عقوبة أولى من العكس، ويجاب عنه بالمنع بل نقول: لما كانا جميعا/ [136/ل] مخلوقين له بالقدرة والاختيار اختار أن خلق النقض ذنبا وتقسية القلوب عقوبة.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} [المائدة: 13] قيل: حرفوه بالتبديل، وقيل:
بالتأويل، والحق أنهم حرفوه بالأمرين، ولعل اختلاف العبارتين وهي (يحرفون الكلم عن مواضعه) و (من بعد مواضعه) إشارة إلى ذلك، ويشبه أن تحريفه من بعد مواضعه بالتبديل، وعن مواضعه بالتأويل، لأن التبديل أخص التحريفين، ومن بعد مواضعه أخص العبارتين، فيجعل الأخص للأخص عملا بموجب المناسبة، هذا كله في اليهود.
ثم قال الله-عز وجل: {وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} (14)[المائدة: 14] أي بالتوحيد، فثلثوا، كما سبق من مذهبهم، وهذا عام مطرد في النصارى.
واعلم أنهم قرروا هذه الدعوى بأن قالوا: كلمة الله-عز وجل-حلت في هيكل المسيح، وكلمة الله لا تنفك عن ذات الله؛ فهيكل المسيح لا ينفك عن ذات الله بواسطة الكلمة الحالة. قالوا: ولا نعني بكون المسيح هو الله، والله هو المسيح إلا أن ذاته لا تنفك عن ذاته بطريق الحلول، وقد سبق بطلان هذه المقدمات.
وأجاب الله-عز وجل-عن دعواهم هذه بقوله-عز وجل: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ}
شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ [المائدة: 17] وتقريره لو كان الله هو المسيح ابن مريم لامتنع عليه إهلاكه واللازم باطل فالملزوم كذلك، بيان الملازمة أن الله- عز وجل-لو كان هو المسيح لكانا ذاتا واحدة قديمة، [ولو كانا ذاتا واحدة قديمة لامتنع أن يهلك الله] ذاته القديمة/ [65 أ/م] إذ القديم لا يقبل العدم ولا الهلاك ولا التأثر بوجه.
بيان انتفاء اللازم وهو أن الله-عز وجل-قادر على إهلاك من في الأرض جميعا، بل جميع العالم، فعلى إهلاك المسيح وحده أولى، وإذا كان قادرا على إهلاكه لزم أنه ليس هو الله-عز وجل-لأن إهلاك المسيح مقدور، وإهلاك الله-عز وجل-نفسه غير مقدور؛ ينتج أن المسيح ليس هو الله، وينعكس كليا أن الله-عز وجل-ليس هو المسيح، وهو المطلوب.
{وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (17) / [137/ل][المائدة: 17] إشارة إلى ما سبق من أن العالم بأسره مملوك لله-عز وجل-ونفسه أو ابنه على تقدير قول النصارى ليس مملوكا له فلو كان المسيح هو الله- عز وجل-أو ابنه كما قالوا؛ لكان المسيح خارجا عن عالم السماوات والأرض، وأنه باطل، وإذا ثبت أنه من العالم والعالم مملوك مخلوق فالمسيح بهيكله وروحه وكثيفه ولطيفه مملوك مخلوق، ومختصر هذا أن المسيح من العالم، وكل ما هو من العالم فهو مملوك مخلوق فالمسيح مملوك مخلوق.
{وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (18)[المائدة: 18] تقريره أنكم أيها اليهود والنصارى معذبون بذنوبكم، والأبناء والأحباء لا يعذبون بذنوبهم، فأنتم أيها اليهود والنصارى لستم أبناء الله ولا أحباءه، بل أنتم بشر من خلقه يغفر لمن شاء منكم ويعذب منكم من يشاء.
فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134)[طه: 134] ونحوه من الاحتجاج على الله- عز وجل-بنفي بعثه الرسل فقطع هذه الحجة عنه بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ} (20)[المائدة: 20] يقتضي أن النبوة نعمة على النبي وعلى قومه لشرفهم به، كما قال الله-عز وجل-لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} (44)[الزخرف: 44] أي: شرف.
قال: {*وَاُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (27)[المائدة: 27] يحتج به من يرى أن الفاسق لا يقبل له عمل، ولعله رأي الخوارج، وتقريره أن الفاسق ليس بمتق، وكل من ليس بمتق لا يقبل منه عمل، فالفاسق لا يقبل منه عمل، أما الأولى فواضحة بذاتها، وأما الثانية فلهذه الآية لاقتضائها حصر تقبل العمل في المتقين وحصر الشيء في الشيء يقتضي أن لا يوجد في غيره فالتقبل لا يوجد في غير المتقي؛ وهو المطلوب. أو يقال: المتقبل عمله متق والفاسق ليس بمتق، فالمتقبل منه ليس بفاسق، وينعكس كليا الفاسق ليس متقبلا منه.
والجواب: أن هذه الشبهة مبنية على أن {إِنَّما} [المائدة: 27] في الآية للحصر وأن التقوى هي العامة، وهي تقوى المعاصي على/ [65 ب/م] الإطلاق وكلاهما ممنوع؛ أما الأول فلما تقرر قبل من أن (إنما) / [138/ل] لا تقتضي الحصر، بل الإثبات المؤكد، وأما الثاني فلأن المراد التقوى الخاصة، وهي اجتناب الكفر، وعلى هذا التقدير نمنع مقدمتي الدليل المذكور، فلا نسلم أن الفاسق ليس بمتق، ولا أن كل من ليس بمتق لا يتقبل منه ويدل على ما ذكرناه قوله-عز وجل:{وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كارِهُونَ} (54)[التوبة: 54] فحصر المانع من قبول النفقة في الكفر، وذلك يقتضي أن غير الكفر لا يمنع من قبولها، وحينئذ ينتظم الدليل هكذا: المانع من قبول النفقة هو الكفر، والكفر غير موجود في الفاسق المؤمن، فالمانع غير موجود في الفاسق المؤمن.
{فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ} (31)[المائدة: 31] إن كان هذا الغراب ملكا كما قيل، فلا عجب، وإن كان غرابا حقيقيا فطالما أرشد الله-عز وجل-الإنسان ببعض الحيوان؛ فهذا جالينوس الحكيم إنما استفاد الحقنة من طائر في البحر؛ إذا أصابه تخمة زج بمنقاره من ماء البحر في دبره فيستطلق فيبرأ.
واستفادوا أن الرازيانج فيه جلاء للبصر من الحية؛ إذا طال مقامها في الشتاء تحت الأرض أظلم بصرها، فتخرج إذا خرجت على الفور إلى الرازيانج الأخضر فتفتح عينها فيه، وتجل به بصرها؛ فيزول عنها، وهذا النوع كثير في أسرار الحيوان، وقد أعطى الله-عز وجل-كل شيء خلقه ثم هدى؛ فإرشاد ابن آدم إلى دفن أخيه بالغراب من هذا الباب.
{مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (32)[المائدة: 32] اعلم أن العلة الشرعية تارة تستفاد من النص عليها، وتارة بالإيماء إليها، وتارة بالسير والتقسيم، وتارة بالدوران بالنص كما في هذه الآية، وبها يستشهد في ذلك نحو. فعلت كذا لكذا، أو من أجل كذا، أو لعلة كذا، ونحوه. وباقي الأقسام تشير إلى ما نمر به منه إن شاء الله، عز وجل.
{وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (38)[المائدة: 38] يحتج بها القدرية في أن أفعال العباد مخلوقة لهم، وإلا لكان قطع السارق عقوبة له على خلق غيره، وذلك جور.
وأجيب بأن قطعه على كسبه، كما صرحت به الآية، ولا يلزم من كون الفعل كسبا له أن يكون مخلوقا له.
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)[المائدة: 41] هذا حجة على المعتزلة في أن/ [139/ل] الله- عز وجل-يريد فتنة بعض الخلق أي: ضلالهم/ [66 أ/م] ولا يريد تطهير قلوبهم بالإيمان والهدى، فيمتنعان منهم، والآية فيه واضحة غنية عن البيان بتقرير البرهان.
{سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (42)[المائدة: 42] هذا مخصص لعموم قوله-عز وجل: {إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً} (105)[النساء: 105] خص في أهل الكتاب بهذه الآية حيث خير في الحكم بينهم، فأما الحكام بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهل يلزمهم الحكم بين أهل الذمة إذا ترافعوا إليهم؟ فيه خلاف وتفصيل.
{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (43)[المائدة: 43] يحتج اليهود بهذا على صحة توراتهم إلزاما للمسلمين، لأن القرآن قد صرح بأن فيها حكم الله، وكل ما فيه حكم الله فهو حق معتبر؛ فالتوراة حق معتبر.
وجوابه: أن معنى {فِيها حُكْمُ اللهِ} أي بعضه أو حكم خاص كحكم الزانيين الذين كانت فيهما القصة، ونحن لا ندعي تحريف جميعها، بل ما نلزمهم به الحجة من صفات محمد صلى الله عليه وسلم ونحوه، ولا يلزم من تضمنها بعض حكم الله أن يكون جميعها حقا معتبرا، وإنما يلزم ذلك أن لو قال:«في جميعها حكم الله» . أو: «فيها جميع» ، أو:«كل حكم الله» ، لكنه لم يقل ذلك، ثم قوله: وكل ما فيه حكم الله فهو حق معتبر-غلط أو مغالطة؛ لأن قولنا: {فِيها حُكْمُ اللهِ} ظرف ومظروف فالمظروف الذي هو حكم الله هو الحق المعتبر، أما الظرف الذي فيه الحكم فجاز أن يكون حقا وباطلا، ولو صح ما ذكرت لكان إذا تحقق أن في الإنجيل أو كتاب المجوس ونحوه حكما واحدا حقا هو حكم الله-عز وجل-
وجب أن يكون جميع الإنجيل ونحوه حقا معتبرا. وأنت لا تقول به.
{إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَاِخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [المائدة: 44] هذا إنما هو في التوراة المنزلة، وهي حق، فلا حجة لليهود فيه على حقية التوراة التي بأيديهم؛ لأنها مبدل فيها ومحرف.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ} (44)[المائدة: 44].
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} (47)[المائدة: 47] في فواصل الآيات الثلاث، وإنما تفاوتت هذه الفواصل إما لأن الكفر يستلزم الظلم والفسق، أو لأنه بحسب مراتب المخالفة في الحكم، فتارك الحكم بما أنزل الله في التوحيد ونحوه من أركان الدين/ [140/ل] يكون كافرا، وتاركه في أحكام الفروع كالقصاص ونحوه يكون ظلما فاسقا.
وهو عام فيمن لم يحكم بما أنزل الله، أو يحكم بغير ما أنزل الله، ويخص منه المكره والمخطئ في الاجتهاد، وتارك الحكم بين أهل الذمة إذا ترافعوا إليه إذا/ [66 ب/م] قلنا: يخير في الحكم بينهم، أو لإشكال الحكم وتعارض الدليل ونحو ذلك.
قوله-عز وجل: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يحتج به من رأى قتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، بناء على أصول:
أحدها: أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ إذ النفس بالنفس من شرع التوراة.
الثاني: أن المفهوم ليس بحجة، فمفهوم الحر بالحر لا يخصص هذا العموم.
الثالث: آخر الآية: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} (45)[المائدة: 45] يتناول أهل
الإسلام وغيرهم مع أهل التوراة.
وروى أبو حنيفة في مسنده بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي، وقال:«أنا أحق من وفى بذمته» (1).
حجة الآخرين أن القصاص شرطه المكافأة ولفظه ينبئ عن ذلك، والعبد لا يكافئ الحر، والذمي لا يكافئ المسلم، والأصلان الأولان مع الحديث الذي رواه ممنوعة. والأصل الثالث منصوص أو متروك بأقوى منه.
{وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} [المائدة: 45] عام يخص بما تعذر فيه ذلك بأن لا يؤمن فيه الحيف كالجائفة ونحوها، وجروح العبد لا يقتص بها من الحر لعدم التكافؤ بينهما، كما مر.
{وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (46)[المائدة: 46] يعني الإنجيل المنزل لا المبدل، فلا حجة في هذه للنصارى كما لا حجة لليهود في التي سبقت.
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} (47)[المائدة: 47] كانوا مأمورين بالحكم بالإنجيل المنزل قبل نسخ شريعتهم أو بعده إذا تحاكموا إلى حاكمهم وأمكنه معرفة الحكم المنزل.
{وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48)[المائدة: 48][يحتمل أن هذا ناسخ لما سبق من تخييره [في الحكم] بينهم، ويحتمل أن المعنى احكم بينهم بما أنزل الله إن اخترت الحكم بينهم، نحو:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ}
{بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]
{لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً} [المائدة: 48] يحتج به على أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا، إذ لو لم يكن كذلك لما خصت كل أمة بشرعة ومنهاج.
وأجيب بأن اختصاص كل أمة بشرعة إنما هو في فروع التكاليف، أما التوحيد ونحوه من أصول الديانات فالشرائع فيه واحدة، ثم إن الآية ليست في محل النزاع؛ إذ/ [141/ل] ما كان لنا فيه شرعة ومنهاج لا يحتاج فيه إلى شرع من قبلنا، إنما محل النزاع هو الحكم الذي لا دليل عندنا فيه، وهو موجود في شرع من قبلنا، ولم يرد شرعنا بنسخه، والآية ليست في ذلك.
{وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} [المائدة: 48] هو حجة على المعتزلة في أن الله-عز وجل-أراد اختلاف الأمم، ويلزم من ذلك أنه أراد هداية المهتدي وضلال الضال؛ إذ بهما يتقوم الاختلاف، وفي هذا اللزوم نظر، بل الاختلاف يحصل بإرادته هداية البعض، أما ضلال البعض الآخر فهو منهم عند الخصم، وبالجملة فالآية مراغمة لهم.
{إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48)[المائدة: 48] فيه إثبات البعث/ [67 أ/م] والمعاد، وهو عام مطرد في الجميع.
{* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} (51)[المائدة: 51] عام في ترك موالاتهم والاستعانة بهم بطريق الموالاة في أمر دين أو دنيا، إلا حيث يضطر إليهم ولا يوجد مسلم يقوم مقامهم في كتابة أو تطبب ونحوه؛ فيجوز على ما فيه، أما بطريق المعاملة كالمبايعة والإجازة والمناكحة، ونحو ذلك مجردا عن الموالاة فجائز.
والموالاة هي: العناية الظاهرة عن موادة باطنة.
{بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] أي: إنما يصلح موالاة بعضهم لبعض لما بينهم [من جامع الكفر لا للمؤمنين، لا أنهم في الواقع متوالون؛ كيف وقد ألقي بينهم] العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} (51)[المائدة: 51] ظاهره أنه يكفر بموالاتهم، وهو كذلك؛ إذ موالاتهم تستلزم معاداة المؤمنين، وهي كفر.
أما من اعتنى بأمر بعضهم على جهة الرحمة أو رعاية الذمة، أو استمالتهم إلى الإسلام، ونحو ذلك مجردا عن موالاتهم فلا بأس لقوله-عز وجل {لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (8) [الممتحنة: 8].
قوله-عز وجل: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ} (55)[المائدة: 55] احتجت بها الشيعة على إمامة علي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتقرير حجتهم منها من وجوه:
أحدها: حصر وليهم في المذكور بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو علي، والولي هو الإمام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«إن عليا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي» (1) وفي حديث آخر: «وهو وليكم بعدي» (2) حديثان مشهوران رواهما أحمد، والمفهوم من الولي هو الرئيس المطاع أو المتصرف النافذ التصرف، كولي اليتيم والمرأة خصوصا، وقد قال:«وليكم بعدي» وهذه البعدية/ [142/ل] تقتضي في العرف الاستخلاف؛ لأنهم إنما يحتاجون بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى إمام يقوم مقامه بأمرهم العام.
الوجه الثاني: قوله-عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ} (56)[المائدة: 56] عام أريد به الخاص، وهو علي عليه السلام كقوله-عز وجل:{الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (173)[آل عمران: 173] يعني عروة بن مسعود قال لأبي سفيان، ولأن جميع المؤمنين لما كانوا في رعاية إمامهم وحياطته وهم تابعون له وردا وصدرا؛ جاز أن يعبر عنه بلفظهم خصوصا علي-رضي الله عنه-في شهرته
وشرفه وكمال فضله، وليس الأمر بمستنكر أن يجمع العالم في واحد، وإنما قلنا: إن المراد بالذين آمنوا علي لقوله-عز وجل: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ} (55)[المائدة: 55] فجعل هذه الجملة بدلا من {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55] قبلها، ثم إن النقلة اتفقوا-إلا من شذ منهم-على أن عليا هو الذي تصدق في الصلاة/ [67/ب/م] بخاتمه وهو راكع فكان هذا كالعلامة على إمامته، وقد وجدت هذه العلامة في علي دون غيره؛ فوجب أن يكون هو المراد بولاية المؤمنين التي هي عبارة عن إمامتهم، وإنما قلنا: إن المراد بهذه العلامة الصدقة في حال الركوع؛ لأنه-عز وجل-قال: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ} (55)[المائدة: 55] أي في حال ركوعهم، والجملة حالية.
الوجه الثالث: قوله-عز وجل-قبل هذه الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (54)[المائدة: 54] ثم استطرد الآية المذكورة مع قوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر:
«لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يكون الفتح على يديه» (1) مع قوله-عز وجل-هاهنا: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ} (56)[المائدة: 56] فيه دليل واضح على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بما وصفه الله-عز وجل-به من محبته لله ومحبة الله-عز وجل-إياه، بالفتح المستلزم لكونه غالبا إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن المراد بالآية هو صاحب هذه الصفات، وصار ذلك كالتفسير والبيان للآية من النبي صلى الله عليه وسلم. هذا وجه استدلالهم بهذه الآية.
واعترض الجمهور عليهم بأن قالوا: قولكم: إنه حصر وليهم في المذكور بعد-إنما هو بناء على أن «إنما» للحصر، وهو ممنوع سلمناه، لكن لا نسلم أن المراد/ [143/ل] بوليهم علي؛ لأن المذكور في الآية الله ورسوله والذين آمنوا فتخصيصه بعلي وحده بعيد
في النظر والاستعمال، سلمناه، لكن لا نسلم أن المراد بالولي الإمام إنما المراد به ضد العدو؛ لأن الآية وردت في سياق:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِياءَ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (57)[المائدة: 57] فنهاهم عن موالاة أهل الكتاب، ثم بين لهم من يتولون وهم الله ورسوله والذين آمنوا، فكان مقتضى سياق الآية: أن اتخذوا المؤمنين أولياء لا اليهود ولا النصارى، ويبعد جدا أن يقال: لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ولا أصدقاء، لكن اتخذوا عليا إماما أو المؤمنين أئمة؛ لأنه في هذا المقام فيما يتعلق بالموالاة والمعاداة لا فيما يتعلق بالإمرة والإمامة، سلمناه، لكن لا نسلم أن {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55] عام أريد به الخاص؛ إذ هو دعوى خلاف الأصل، سلمناه لكن لا نسلم أن هذا الخاص المراد بالآية هو علي، بل قد نقل أنه أبو بكر-رضي الله عنه
قوله الصدقة في حال الركوع علامة على أنه هو المراد لوجودها فيه خاصة قلنا: لا نسلم أن المراد بالآية الصدقة في حال الركوع لوجهين:
أحدهما: أن ذلك عمل في الصلاة يبطلها عند بعض العلماء فكيف يجعل صفة مدح تتلى/ [68/أ/م] ويستحق به الإمامة الكبرى.
الثاني: أنا لا نسلم أن قوله-عز وجل: {وَهُمْ راكِعُونَ} جملة حالية، بل هي استئنافية.
والوجه الثالث: لهم مناسبة إقناعية لا يعول على مثلها. وقولهم: صار ذلك كالتفسير والبيان للآية من النبي صلى الله عليه وسلم اعتراف منهم بأن الآية مجملة تحتاج إلى البيان، والمجمل لا دلالة له، وما ادعوه بيانا لا نسلمه.
واعلم أن جميع ما ذكر في هذا الاعتراض تحقيق إلا الوجهين في منع أن المراد بالآية الصدقة في حال الركوع فإنهما ضعيفان (جدليان) أما الأول فلأن الجمهور من العلماء على أن العمل اليسير في الصلاة لا يبطلها، والصدقة بالدرهم والخاتم ونحوه فيها عمل يسير، فلا تبطل، وأما الثاني فلأن جعل {وَهُمْ راكِعُونَ} [المائدة: 55] جملة حالية أولى؛ لأنه أقل لعدد الجمل، وأيضا لو جعلت استئنافية لزم عطف الركوع على الصلاة وهو [تكرار أو] عطف خاص على عام، وقد كان السجود أحق بذلك فكان يجب أن يقال:
وهم ساجدون.
واعلم أن هذه الآية من عمد الشيعة، / [144/ل] وعند التحقيق واعتبار ما سبقها ولحقها لا حجة لهم فيها بوجه، والذي قرروه منها ضرب من الشبهة وإنما مقصودها التعلق بولاية الله ورسوله والمؤمنين والإعراض عن ولاية اليهود والنصارى والمشركين وأخصر ما يرد به على الشيعة أن هذه الآية أعم من دعواكم، والعام لا دلالة له على الخاص بنفي ولا إثبات؛ لأنها دلالة لازم على ملزوم وهي عقيم.
{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ} (56) [المائدة:
56] عام مطرد، لكن غلبتهم تارة في الدنيا بالظهور، وتارة بالنصرة يوم النشور.
{إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} (51)[غافر: 51] وحينئذ لا يرد سؤال من يقول: قد رأينا كثيرا من أولياء الله-عز وجل مغلوبين لا غالبين، فليكن هذا العام مخصوصا بهم أو أريد به خصوص الغالبين من أولياء الله-عز وجل-لا يقال هذا لما ذكرنا.
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ} (60)[المائدة: 60] هذا إشارة إلى من مسخ من بني إسرائيل من أصحاب السبت والمائدة.
والمسخ هو: قلب الحقيقة الصورية لا الهيولانية إلى غيرها، كالإنسان قردا ونحوه.
ومعنى ذلك أن أجناس الأعيان العنصرية ثلاثة: جماد ونبات وحيوان، وهيولي الجميع- أعني مادته-واحدة، وهي الجسم، إذ هو مشترك بين الكل، لكن الجماد بقي على مطلق الجسمية، والنبات اختص عنه بقوة نباتية أفادته صورة النبات والحيوان اختص بالنفس الحيوانية، فأفادته صورة الحيوان، وكذلك الإنسان اختص بالنفس الناطقة، / [68 ب/م].
فالمسخ نقل هذه الصورة بعضها إلى بعض على مثال استحالة العناصر الأربعة بعضها إلى بعض، مع أنها لا تخرج عن دائرة الجوهرية، كذلك صور الأجسام الخاصة ينتقل بعضها إلى بعض مع بقائها في دائرة الجسمية كما مسخ هؤلاء قردة وخنازير، وامرأة لوط مسخت فيما نقل في التوراة ملحا، فانقلبت صورتها الإنسانية إلى الجمادية، ولا يستحضر أحد مسخ نباتا، غير أنه ممكن، واحتج أهل الكيمياء على إمكانها بهذا، إذ ليس فيها إلا نقل صورة معدن إلى معدن، كما ينقل صورة عنصر إلى عنصر، كالماء هواء، والهواء نارا وبالعكس، وكانتقال الإنسان خنزيرا وقردا كذلك تنتقل الصورة النحاسية مثلا أو الفضية
ذهبية ونحوه/ [145/ل].
والفاعل لذلك عند الجمهور هو الله-عز وجل-والصانع كاسب فلم يبق للمنع من إمكان ذلك وجه.
ومن زعم أن الكيمياء خلق الذهب والفضة أو غيرهما وذلك محال من غير الله-عز وجل-فقد وهم، وإنما هي كما ذكرنا نقل صورة إلى غيرها من الأعيان لا خلق مادة واختراعها، غير أن الاشتغال في الكيمياء قطع وقت عتيد في طلب أمر بعيد، وذلك جهل شديد، وهذه المسألة وإن لم تكن مشهورة من أصول الدين لكنها ذكرت في سياق ما يناسبها من المسخ، وكلاهما يتعلق بأفعال الله-عز وجل-وهي مندرجة تحت أركان أصول الدين كما ذكرناه قبل أن الكلام في الله-عز وجل-إما [في الذات] أو الصفات أو الأفعال.
{* يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} (67)[المائدة: 67] عام مطرد في الأمر بتبليغ كل ما أنزل عليه، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم، فمن زعم أنه كتم شيئا من القرآن فقد كذب، أما كونه يؤخر التبليغ أو البيان لمصلحة إما يوحي أو اجتهاد، فذلك جائز.
{*يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ} [المائدة: 67] أورد بعضهم أن هذا الكلام تضمن إيجاد الشرط والمشروط؛ إذ التقدير: بلغ رسالات ربك، فإن لم تبلغها فما بلغتها، وظاهره غير مفيد.
وجوابه: أن المعنى: وإن لم تبلغها فحكمك حكم من أمر بالتبليغ فلم يفعل، أو: وإن لم تبلغها فقد خالفت أو استحققت الوعيد ونحو ذلك، ولكن الله-عز وجل-أكرم نبيه عن التصريح بكلام مزعج، فعرض له تعريضا، وأفهمه المقصود من [لفظ يتضمنه] أو يرادفه نحو:{عَبَسَ وَتَوَلّى} (1)[عبس: 1] بلفظ الماضي المسند إلى غائب، ولم يقل:
عبست وتوليت إذا جاءك الأعمى، كل ذلك إكراما بالتلطف في خطابه صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النّارُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ} (72)[المائدة: 72] سبق القول في هذا.
{وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 72] هذا اعتراف منه بأنه عبد مربوب، وقد نطق الإنجيل الذي/ [69/أ] بأيدي النصارى بمثل هذا، وحينئذ يقال: المسيح مربوب، ولا شيء من المربوب بإله، فالمسيح ليس بإله. أما الأولى فبنص القرآن والإنجيل، وأما الثانية فبالاتفاق، لكن النصارى زعموا أن المربوب ناسوته لا لاهوته، فلا ينتج الدليل المذكور إلا سلب الإلهية عن الناسوت/ [146/ل] لا عن جملة المسيح.
وجوابه: أن النص دل على مربوبية المسيح، والمسيح هو مجموع الجملة المركبة من كثيفه ولطيفه، وذلك ينفي أن يكون فيه لطيفا غير مربوب، فينتفي أن يكون فيه شيء من اللاهوت، على أن دعوى حلول اللاهوت فيه باطلة ممنوعة.
{مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النّارُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ} (72)[المائدة: 72] فيه إثبات العذاب الحسي في المعاد خلافا للنصارى والفلاسفة؛ إذ قالوا: لا عذاب إلا العقلي، وهو البعد عن الله-عز وجل-ونحوه مما سبق، وهذا نص من المسيح على خلاف ذلك، وقد وافق عليه الإنجيل؛ إذ حكي فيه أن المسيح أمر بعض أتباعه بالخروج عن ماله، ثم قال: الحق أقول لكم: من ترك في هذه الدار زوجة أو زرعا أو مالا فله في الآخرة خير من ذلك. أو كما قال. وهو قاطع في إثبات النعيم الحسي فكذا العذاب المقابل له.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (73)[المائدة: 73] قد سبق أنهم يريدون بذلك ثالث ثلاثة أقانيم، وهي: الأب، والابن، وروح القدس، وأن كل واحد من هذه الثلاثة إله كامل بالحد والحقيقة، وأنهم مع ذلك ليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد، وإن ذلك تناقض وتخليط.
وأما عامة الناس فيظنون أن مرادهم بالثلاثة: الله، ومريم، والمسيح، وليس كذلك.
ووجه كفرهم إشراكهم؛ إذ مقالتهم المذكورة واعتقادهم يلزمه الشرك قطعا، وكذلك نوقضوا بإثبات التوحيد بقوله-عز وجل:{وَما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ} [المائدة:
73] ثم توعدوا على كفرهم بأن قيل: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ} [المائدة: 73]
أي: من الكفر بالإسلام {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} [المائدة: 73] أي: المستمرين على الكفر منهم {عَذابٌ أَلِيمٌ} (73)[المائدة: 73].
{مَا الْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ اُنْظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ} (75)[المائدة: 75] اعلم أن هذه الجملة تضمنت نفي إلهية المسيح؛ خلافا للنصارى، وإثبات رسالته، خلافا لليهود.
أما نفي إلهيته فقد سبق عليه أدلة، وقد استدل الله-عز وجل-عليه هاهنا بقوله:
{كانا} [المائدة: 75] يعني هو وأمه مريم {يَأْكُلانِ الطَّعامَ} [المائدة: 75] وهو كناية عن شيئين:
أحدهما: أنهما كانا يفتقران إلى أكل الطعام المقيم للبنية، وكل مفتقر إلى ذلك فليس بإله؛ ينتج أنهما ليسا بإلهين.
الثاني: / [69 ب/م] كانا يحتاجان إلى الخلاء وقضاء الحاجة، وكل من احتاج إلى ذلك فهو حادث، وكل حادث فليس هو بقديم، وكل من ليس بقديم فليس هو بإله؛ ينتج أنهما ليسا بإلهين.
ولما علم النصارى بقوة هذه البراهين/ [147/ل] وكونها مبطلة لدعواهم-فزعوا إلى شبهة سولها لهم الشيطان؛ فزعموا أن المسيح جملة مركبة من ناسوت ظاهر، ولاهوت باطن، وأنه كان يأكل ويشرب ويقضي الحاجة، ويألم من جهة ناسوته، ويفعل المعجزات ويظهر الخوارق من جهة لاهوته.
قالوا: وحينئذ ما ذكرتموه من البرهان إنما يدل على نفي الإلهية والقدم عن ناسوته فقط لا عن لاهوته، وهذا بناء منهم على أن اللاهوت حل في جسد المسيح، وقد سبق بطلانه.
ولنذكر هاهنا من ذلك وجهين: أحدهما أن المعقول من الحلول إحاطة المحل بالحال كإحاطة الظرف بالمظروف، فلو حل اللاهوت هيكل المسيح لكان جسد المسيح أكبر مما حل فيه، فيكون الجسد البشري أعظم من الذات الإلهية، وأنه محال.
الوجه الثاني: أنه لو عورضوا بمثل دعواهم في جميع الأنبياء وأنهم ركبوا من ناسوت ولاهوت، وأنهم أكلوا الطعام بناسوتهم، وأظهروا المعجزات بلاهوتهم لم يجدوا عن ذلك جوابا، ولا أمكنهم الانفصال عنه بطائل غير أنهم يقولون: ولد من غير أب فينتقض عليهم
بآدم، وأولى إذ كان لا من أب ولا من أم ولا أثر لخروجه من الرحم.
أو يقولون: ورد النص الإلهي بتسميته ابنا والله-عز وجل-له أبا؛ فيقال لهم: لا نسلم أن النص الإلهي ورد بذلك، ولا نسلم صحة ما تدعونه من النصوص. سلمناه لكنه ينتقض بيعقوب إذ قيل له في التوراة: أنت ابني بكري، وبقول المسيح للحواريين وغيرهم:
إن أباكم السماوي يراكم. وقوله: أذهب إلى أبي وأبيكم: وإلهي وإلهكم. فليكن هؤلاء كلهم آلهة لأجل هذه التسمية، وأنه باطل باتفاق.
{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (76)[المائدة: 76] هذا دليل آخر على عدم إلهية المسيح، وتقريره أن الإله يملك لكم الضر والنفع والمسيح لا يملك الضر والنفع، فالإله ليس بالمسيح، وينعكس كنفسه المسيح ليس بإله. والمقدمة الأولى واضحة، وأما الثانية فلأن المسيح لم يملك لنفسه ضرا ولا نفعا؛ إذ عند النصارى أنه قتل وصلب وقهر وظلم، فلم يمتنع، غير أن/ [148/ل] النصارى يتجاهلون ويزعمون أنه لم يعجز عنه نفع نفسه ولكنه هو أسلمها لعدوه إقامة للحجة عليهم، في أمور أخر/ [70 أ/م] يرغب عن ذكرها لسخافتها وضعف عقل قائلها.
وأما إثبات رسالة المسيح-خلافا لليهود-فلأنه ادعى النبوة وأظهر المعجز على وفق دعواه، وكل من فعل ذلك فهو رسول صادق، فالمسيح رسول صادق.
أما أنه ادعى النبوة فبالتواتر، وقد صرح به القرآن في قوله-عز وجل:{وَإِذْ قالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ} (6)[الصف: 6] وأما أنه أظهر المعجز على وفق دعواه، فبالتواتر أيضا كإحياء الموتى وغيره، من الخوارق التي هي كمعجزات موسى-عليه السلام-وأعظم.
وأما أن كل من كان كذلك فهو رسول صادق: فلوجهين:
أحدهما: أن تأييد الله-عز وجل-من ادعى النبوة بالمعجز يتنزل منزلة قوله: صدق عبدي في دعواه أنه رسولي. بدليل أن إنسانا لو قال لجماعة بحضرة ملك أنا رسول الملك إليكم، ثم قال للملك: صدق دعواي بخرق عادة من عاداتك، ففعل الملك ذلك؛ علم بالضرورة صدق ذلك الإنسان في دعواه.
الثاني: لو لم يكن كل من أتى بالمعجز على وفق دعواه صادقا لجاز أن لا يكون موسى
في مثل ذلك صادقا، لكن ذلك باتفاق منا ومنهم باطل؛ فثبت بما ذكرناه أن المسيح رسول الله، ولزم من ثبوت رسالته ثبوت النسخ الذي يفرون منه.
واعترض اليهود على هذه الحجة بأن قالوا: لا نسلم أن المسيح ادعى الرسالة، وإنما ادعى أنه ابن الله، والمسيح الذي وعدنا به هو ابن داود، فالمسيح ابن مريم ليس هو المسيح الموعود، ولا ادعى الرسالة، بل الإلهية، سلمناه لكن لا نسلم أنه أظهر المعجز على وفق دعواه، ولكنه لما فرت به أمه إلى مصر خدم بعض أحبار اليهود ممن كان قد أوتي الاسم الأعظم فسرقه أو تعلمه منه، فكان يفعل به الخوارق، ويدعي ما شاء، وإذا بطلت المقدمة الأولى من دليلكم لم تنفعكم الثانية وحدها، ولا حاجة بنا نحن إلى منعها.
والجواب: أن كون المسيح-عليه السلام-ادعى أنه ابن الله باطل من أباطيل النصارى، ثم تلقاه اليهود منهم [على جهة الإلزام لهم] من أباطيل النصارى، ولو سلم لكان ذلك مجازا أو تشريفا، كما قيل لإسرائيل: أنت ابني بكري، ولو أن يعقوب-عليه السلام-قال: أنا ابن الله بهذا الاعتبار/ [149/ل] لم يكن ذلك منافيا لدعواه الرسالة، وأما كون المسيح الذي وعدتم به هو ابن داود فهو صادق على عيسى ابن مريم؛ إذ هو ابن داود من جهة أمه مريم، وقول اليهود: إن دين التوراة أن النسب لا يثبت من جهة/ [70 ب/م] الأم مدافعة هم غير مأمونين عليها، ولو سلم ذلك لم يضر؛ لأن المسيح صاحب دعوة مستقلة وشريعة وملة، والنسب في شرعه يثبت من جهة الأم عل خلاف حكم التوراة؛ فيجب التسليم لما جاء به من المعجز، ثم ينزل كونه ابن داود على مقتضى شرعه، ثم إن صفة المسيح-عليه السلام-واردة في التوراة عند ذكر موت يعقوب- عليه السلام-ووصيته أولاده حيث قال: لا يزال الملك بين فخذي يهوذا حتى يأتي المنتظر الذي يركب الحمار ويحمر من الحر وجهه، وأشد بياضا من اللبن أسنانه. في صفات أخر موجودة في المسيح، فإنكار اليهود له مكابرة وعناد، وأما كونه سرق الاسم الأعظم من بعض أحبارهم فإن فتحوا هذا عورضوا بمثله في موسى-عليه السلام-وأنه سرق الاسم الأعظم المعظم من شعيب-عليه السلام-حين صاهره ورعى له الغنم عشر سنين، لكن ذلك باطل في حق موسى فكذلك في حق المسيح.
{كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ} (79)[المائدة: 79] تقتضي أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-مع إمكانه والقدرة عليه-كبيرة يستحق بها اللعن.
{تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ} (80)[المائدة: 80] الآيتين، يقتضي أن تولي الكفار كفر موجب للسخط، مخلد في العذاب، مناف للإيمان بالله-عز وجل ورسله وكتبه.
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (82)[المائدة: 82] الآيات، تعلق بها النصارى على جهة الإلزام للمسلمين، وتقرير شبهتهم منها أن قالوا: نحن قد أثنى علينا القرآن، وكل من أثنى عليه القرآن فهو خير محق؛ فنحن خيرون محقون، أما أن القرآن أثنى علينا ففي هذه الآيات أثنى علينا بأن منا قسيسين ورهبانا، وأنا متواضعون لا استكبار عندنا وغير ذلك، وأما أن من أثنى عليه القرآن يكون محقا فلأنه معصوم عند المسلمين، والمعصوم لا يقول إلا حقا، ولا يمدح ولا يقدح إلا بحق.
والجواب أن المراد بالنصارى/ [150/ل] في الآية نصارى مخصوصون، وهم النجاشي وأصحابه من أهل الحبشة لا جميع النصارى؛ بدليل أنه وصفهم بأنهم أقرب مودة للمسلمين، وأنتم أشد عداوة لهم، ووصفهم بأنهم إذا سمعوا القرآن فاضت أعينهم تصديقا له، وأنتم لا تصدقونه، ووصفهم بأنهم آمنوا بالإسلام وشهدوا بصلاح المسلمين، وأنتم لستم كذلك؛ فدل على أن المراد ما ذكرناه من خصوص النصارى، لا ما ذكرتموه من عمومهم، وكيف يثني عليكم وقد صرح قبل هذا بكفركم [لأجل التثليث] الذي تدينون به. في أول/ [71 أ/م] هذه السورة يقول:{وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} (14)[المائدة: 14] وهو ذم لهم؛ فدل على أن الذم والمدح مختلف الموضوع، وأن المذموم غير الممدوح.
وهذه شبهة أوردها عليّ بعض النصارى، فأجبته بنحو هذا الجواب.
ما إذا نذر صوما أو إحراما أو تطوع به فإنه قد حرم على نفسه طيبات، وهو غير منهي عن ذلك. ولقائل أن يقول: ليس هذا من باب تحريم الطيبات، وإنما هي عبادات تبعها تحريم طيبات، فتحريم الطيبات حصل تبعا لا قصدا.
{لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (89)[المائدة: 89] هذا هو المثال المشهور في الواجب المخير، وهو إيجاب أحد أشياء على التخيير لا على التعيين، والخلاف في جوازه مع المعتزلة، وهو عند التحقيق خلاف لفظي؛ لأن الجميع اتفقوا على أنه لو فعل الجميع أو ترك الجميع لما أثيب ولا عوقب إلا على واحد.
وتحقيق المسألة: أن التكليف تعلق بالقدر المشترك بين الأشياء المخير فيها، وهو واحد منها، فمن أتى بهذا المشترك خرج عنه عهدة التكليف، ومن عطل المشترك [بين الأشياء] بترك الجميع أثم، وهذا القول في الواجب الموسع وفرض الكفاية.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90)[المائدة: 90] هذا عام في تحريم هذه الأربعة، خص منه الخمر للتداوي عند بعض العلماء، وبعضهم يطرد فيه [العموم فلا] يبيحه لتداو ولا غيره إلا لدفع لقمة غصّ بها ولم يجد غيره، أو أكره على شربه. / [151/ل].
93] أي من المباحات، فهو مخصوص بها.
تحت عموم التحريم حتى يخص منه؛ لأن العموم إنما يتناول قتله عن قصد، وهذا لم يقصد قتله، لكن يخص بلا خلاف بالصيد الصائل إذا قتله لا تحريم فيه ولا إثم، ولكن هل يضمنه أم لا؟ فيه خلاف الأصح: لا يجب ضمانه.
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] يحتج به على أن الكفارة شرعت عقوبة وزجرا لا جبرا، والتحقيق أن الكفارات منها ما شرع زجرا كهذه، ومنها ما شرع جابرا كفدية/ [71 ب/م] الأذى؛ إذ لا معصية هناك يزجر عنها.
وهذه قاعدة في الكفارات حيث كانت عن معصية فالمقصود بها الزجر، وإن كان فيها جبر فهو تبع، وحيث لا معصية فهي جابرة لما نقص من العبادات أو فات من بعض الحقوق التعبدية.
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاِتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (96)[المائدة: 96] عام خص منه الضفدع والتمساح والكوسج، وعلى قياسه كل سبع مائي، وإنسان الماء وكلبه، وخنزيره، وكل ما حرم نظيره في البر على خلاف بينهم في بعض هذه الصور المخصوصة.
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] يعني حرم عليكم أكله وهو عام خص منه صيد الحلال؛ يجوز للمحرم أكله [إذ لم يصده لأجله] لقوله-عليه الصلاة والسلام: «صيد البر حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» (1).
{ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (103)[المائدة: 103] عامة في نفي الأربعة المذكورة فيها، فلا يشرع في الإسلام شيء منها.
{مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (105)[المائدة: 105] ربما احتج بها بعض من لا يعلم على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وليس كذلك، إذ هو خلاف الإجماع على وجوب الأمر والنهي عن المنكر، وإنما معنى الآية: اعملوا على خلاص أنفسكم بالطاعة وترك المعصية، ثم إن ضل ضال لم يضركم إذا اهتديتم، وإن اهتدى مهتد لم ينفعكم إذا ضللتم، كما قيل: عليك بخاصة نفسك.
{يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} (109)[المائدة: 109] عام مطرد.
{فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109] فيه أن الأنبياء يستشهدون على الأمم نحو:
{فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (6)[الأعراف: 6] وهذه من أحكام اليوم الآخر.
[المائدة: 110] فيها جملة من معجزات المسيح الدالة على صدقه في دعوى الرسالة كما سبق في آل عمران.
{وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} (110)[المائدة: 110] فيه رد على من زعم أنه قتل وصلب مع ما سبق في آل عمران وفي سورة النساء من النص على ذلك.
{إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اِتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (112)[المائدة: 112] الآيات فيها ذكر المائدة، وهي من معجزات عيسى-عليه السلام-لم تذكر إلا في هذا المكان.
واعلم أن الحواريين قد [ورد الثناء عليهم] فوجب دفع ما لا يليق بحالهم عنهم، فمنه
قولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} أما على قراءة الخطاب فلا إشكال؛ إذ تقديره: هل تستطيع يا عيسى أن تسأل ربك. وأما على الغائب فمعناه: هل يفعل ربك ذلك إن سألته، فعبروا عن الفعل بالاستطاعة؛ لأنها من لوازمه.
ومنه قولهم: {قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ} (113)[72 أ/م][المائدة: 113] ظاهر في أنهم كانوا شاكين في صدقه؛ فيجاب عنه بوجوه:
أحدها: أن هذا كان عند أول متابعتهم له، ولما يرسخ الإيمان في قلوبهم، كالمؤلفة قلوبهم من مؤمني الصحابة حتى استقر إيمانهم.
والثاني: أن يكون هذا القول من بعض أتباع الحواريين، إليهم مجازا، كما ينسب إلى الرجل قول بعض حاشيته وأتباعه.
الثالث: أن يجاب عنه بمثل ما أجيب عن قول إبراهيم: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاِعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (260)[البقرة: 260] أي بالعيان: وإن كانت قلوبنا مطمئنة بالإيمان.
{وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} (116)[المائدة: 116] اختلف في هذا؛ فقيل:
إنه وقع، وأن الله-عز وجل-سأل عنه المسيح لما رفع إليه، وقيل: لم يقع، ولكن سيقع يوم القيامة، ويسأله عنه تقريعا للنصارى وتوبيخا لهم، والمعنى: وإذ يقول الله: يا عيسى، واستعمل الماضي موضع المضارع، وعكسه {وَاِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ} أي: ما تلت.
{ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (117)[المائدة: 117] هذا مما سبق من الاعتراف بالعبودية والربوبية على ما مر تقريره.
…