الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في الفاتحة
{الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (2)[الفاتحة: 2].
الرب: قيل: هو المالك.
وقيل: السيد.
وقيل: المربي والمصلح.
ويجوز أن يكون الخالق؛ لقوله-عز وجل: {اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (62)[الزمر: 62] خالق كل شيء ففسر «الرب» في موضع، بالخالق في آخر.
والعالمون: جمع عالم، وهو ما سوى الله-عز وجل-إن اشتققناه من العلامة إذ هو علامة على جود صانعه، ومختص بذوي العلم كالملائكة والجن والإنس، إن اشتققناه من العلم.
ويقال: إن لله-عز وجل-تسعين ألف عالم كل عالم كالدنيا وما فيها.
وقيل: ألف عالم، أربعمائة منها في البر، وستمائة في البحر. وإضافة «رب» إلى العالمين إشارة إلى أمور:
أحدها: كمال نعمته التي استحق بها الحمد؛ إذ [العالمون] جزء من نعمته، كما قال:
له أياد إليّ سابقة
…
أعد منها ولا أعددها
الثاني: إشارة إلى كمال قدرته؛ لأن العالمين خلق عظيم، فالقدرة الموجدة لهم أعظم بالضرورة.
الثالث: إشارة إلى أنه خالق العالم وصانعه القديم، وهذا هو المقصود من هذه الآية، وهي مسألة وجود الصانع، وهي من مسائل أصول الدين، والاستدلال فيها بوجود الأثر على المؤثر.
وتقريره: أن العالم حقيقة موجودة بالحس، فالمؤثر في وجوده: إما جملته، أو ما هو داخل فيها، أو ما هو خارج عنها، والأول والثاني باطلان فتعين الثالث، أما بطلان الأول فلاستحالة إيجاد الشيء نفسه؛ لأنه من حيث هو مؤثر يقتضي أنه موجود؛ إذا المعدوم لا تأثير له، ومن حيث هو أثر يقتضي أنه معدوم؛ إذ الموجود لا يقبل الوجود؛ لاستحالة تحصيل الحاصل. فلو كان العالم موجدا لنفسه لزم أن يكون موجودا معدوما في حالة/ [8 ب/م] واحدة وإنه محال.
[والثاني باطل؛ لأن] الموجد للعالم لو كان جزؤه الداخل في حقيقته لكان ذلك الجزء موجدا لنفسه، ويلزم المحال/ [14/ل] بعينه.
وإذا تعين أن الموجد للعالم خارج عن حقيقته، فذلك الخارج: إما قديم، [وإما] حادث، فإن كان قديما فهو المطلوب، وإن كان حادثا فالموجد له إن كان هو العالم لزم الدور؛ لتوقف كل واحد منهما على الآخر. وإن كان غير العالم: فإن انتهى إلى قديم فهو المطلوب، وإلا لزم التسلسل، وهو محال.
وهذه مسألة انتظمت الدلالة على وجود الصانع وقدمه، ولها مواقع أخر ربما تذكر فيها، إن شاء الله عز وجل.
قوله-عز وجل: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} (3)[الفاتحة: 3]: اعلم أن الكلام في الله- عز وجل-في أصول الدين: إما في ذاته أو صفاته، أو أفعاله، والكلام هاهنا من قبيل الكلام في الصفات، ف {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} (3) [الفاتحة: 3] مشتق من الرحمة، وقد اختلف فيها: فقيل: هي صفة فعلية بمعنى الإحسان إلى الخلق، والإحسان مخلوق لا يقوم بذاته-عز وجل-لاستحالة قيام الحادث بالقديم؛ يقال: رحم الطبيب المريض: إذا عالجه؛ لأن علاجه له إحسان إليه.
وقيل: الرحمة صفة ذاتية؛ أي: معنى قائم بذاته-عز وجل-كالعلم.
وقد اختلف الناس في هذا، وأن الله عز وجل-هل يجوز أن يقوم به صفات زائدة على مفهوم ذاته، وللكلام في ذلك موطن هو أليق به من هذا، والمقصود فيه أصرح.
ثم اختلف في أيهما أبلغ: فقيل: الرحمن؛ لأن بناء «فعلان» للمبالغة؛ نحو: غضبان للممتلئ غضبا، ونحوه.
وقيل: الرحيم؛ لأنه عدل به عن «فاعل» إلى «فعيل» وهو عدول عن صيغة الفاعل إلى بناء المفعول؛ فكان أبلغ، كما عدلوا عن عالم وقادر إلى عليم وقدير، وعن خاطب إلى خطيب، وعن قول بالغ إلى بليغ.
ولأن العرب إذا أرادت المبالغة عدلت بالشيء إلى ضده، تنبيها على شدة التفاوت بين المعدول والمعدول عنه؛ كما عدلوا في «عالم» إلى «علاّمة» بلفظ المؤنث، وفي «امرأة صابرة» إلى «صبور» بإسقاط علامة التأنيث وقالوا للغراب: أعور؛ لحدة بصره، و «رحم» إنما اسم الفاعل منه «راحم» فالعدول به إلى «رحيم» على «فعيل» الذي أصله للمفعول يدل على ما ذكرناه من المبالغة.
وهذا ونحوه وإن كان خارجا عن الأصول، إلا أنها فوائد مستطردة، فلا تنكرنها.
قوله-عز وجل: {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4)[الفاتحة: 4] هذا من مسائل اليوم الآخر؛ إذ معناه: مالك يوم الجزاء، وهو يوم القيامة، وفيه مباحث تؤخر إلى الموضع الأليق بها، إن شاء الله، عز وجل.
قوله-عز وجل: {إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} (5)[الفاتحة: 5] البحث في هذا يتعلق بالقدر، وهاهنا سؤال؛ وهو أن قولهم:«نعبد» يقتضي/ [15/ل][9 أ/م] تمكنهم من فعل العبادة؛ لإضافتهم إياه إلى أنفسهم بصيغة «نفعل» .
وقولهم: {وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] يقتضي عجزهم عنه بدون إعانته لهم، وذلك ينافي تمكنهم واستقلالهم به، المستفاد من قولهم:«نعبد» وهو تناقض؟ !
والجواب: أما على رأي الكسبية فالمراد: إياك نعبد كسبا، وإياك نستعين على العبادة خلقا لها منك فينا.
وأما على رأي المعتزلة فالمراد: إياك نعبد بخلقنا لأفعال العبادة، وإياك نستعين بأن تمدنا بألطافك من خلق دواعي العبادة، ونفي الصوارف عنها.
وعلى رأي المجبرة: إياك نعبد بظاهر حركاتنا، وإياك نستعين بإجبارك لنا عليها وخلقك لها فينا.
قوله-عز وجل {اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} (6)[الفاتحة: 6].
إن قيل: إن كانوا مهتدين فسؤالهم الهداية تحصيل الحاصل، وإن كانوا غير مهتدين كان ذلك مناقضا لقولهم:{إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} (5)[الفاتحة: 5].
والجواب: أنهم لم يسألوا أصل الهداية بل الدوام والاستمرار عليها، فهو من باب:
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اِتَّقِ اللهَ} [الأحزاب: 1] أي: دم على تقواه، و «أنا مؤمن إن شاء الله» أي:
أدوم على الإيمان إن شاء الله، عز وجل.
ثم قولهم: (اهدنا) يقتضي أن لا هادي إلا الله-عز وجل، ويحتج بها على القدرية، وهي قوية عليهم، وهم يجيبون عنها بأن المراد: أعنا على أن نهدي أنفسنا بإمدادك لنا باللطف، وهو أمر من أمر الله-عز وجل-إذا فعله بالعبد كان أقرب إلى الهدى، وإذا منعه إياه كان أقرب إلى الضلال.
أما حقيقة الهدى والضلال فالعبد يفعلهما لنفسه عندهم، وتأويلهم للآية بعيد؛ فهي
إذن عليهم لا لهم.
أما الكلام في اللطف فموضعه غير هاهنا إن شاء الله؛ عز وجل.
قوله عز وجل: {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّالِّينَ} (7)[الفاتحة: 7] متردد بين الفريقين؛ لأن الجمهور يقولون: أنعمت عليهم بخلق الهداية فيهم.
والقدرية يقولون: أنعمت عليهم بإمدادهم بالألطاف حتى اهتدوا بأنفسهم.
والمختار أن المعنى: أنعمت عليهم برضاك فوفقتهم لهداك، بدليل مقابلة {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ب {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] والرضا يقابل الغضب.
قوله-عز وجل: {وَلا الضّالِّينَ} (7)[الفاتحة: 7] يتمسك به القدرية على أن الكافر والعاصي هو يضل نفسه، لأنه نسب الضلال إليهم بصيغة اسم الفاعل الذي تصريفه: ضل يضل، فهو ضال.
وجواب الجمهور عنه: إنما نسب إليهم لأنهم كسبوه، أو لأنه ظهر على أدواتهم ظاهرا، وإن جبروا عليه باطنا، أو لأنهم لو فوض إليهم وتركوا واختيارهم لفعلوه.
هذا كله يتعلق بمسائل القدر.
…