الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في سورة الأعراف
{كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} (2)[الأعراف: 2] ثم قال-عز وجل: {لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2] وتعليل الإنزال بالإنذار وهو من باب ما سبق آنفا.
{اِتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} (3)[الأعراف: 3] إن أريد باتباعه تصديقه فهو عام مطرد؛ لأن تصديق الجميع واجب بمعنى الاعتقاد أنه حق من حق، وإن أريد به الامتثال التكليفي فهو عام أريد به الخاص وهو الأوامر والنواهي.
{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ} (4)[الأعراف: 4] أي: أهلكناها في الحكم، فجاءها بأسنا في التنفيذ الواقع، وهذا كما حكي: أن شخصا وقع من علو فمات؛ فقيل وقع فلان فمات؛ فقال بعض العارفين: بل مات فوقع، أي لما حكم بموته، جعل وقوعه سببا لتنفيذ ما حكم به.
وقيل: المعنى أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، وهو قريب من الأول، وقيل: هو من باب التقديم والتأخير، أي جاءها بأسنا فأهلكناها، وهذه من باب حروف المعاني في أصول الفقه.
{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (8)[الأعراف: 8] الآيتين يحتج به ونظيريه في (المؤمنون)، و (القارعة) على وزن أعمال العباد، ثم اختلف فيه:
فالجمهور على أنه وزن حقيقي بميزان ذات كفتين ولسان، وأن الموزون صحائف الأعمال أو اعتمادات تساوي حركات الأعمال، أو يخلق الله-عز وجل-فيهما ثقلا وخفة تكون أمارة على ما يراد/ [85 أ/م] بالعبد من سعادة أو غيرها، والمعتزلة على أنه وزن مجاز/ [181/ل] بمعنى إقامة العدل بحيث لا بخس ولا ظلم بدليل:{وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} (47)[الأنبياء: 47] أبدل القسط من الموازين، والمقصود هو البدل لا المبدل منه كما [اقتضته العربية] كأنه قال: ونضع القسط، وأجيب بأن وضع القسط لا ينافي نصب الموازين لجواز أن سبب القسط هو الميزان.
إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ (11)[الأعراف: 11] يحتمل أن الخلق والتصوير لآدم، وأضيفا إلى المخاطبين لتضمن صلب آدم لهم، فالترتيب والتراخي يتم على أصله، ويحتمل أنهما للمخاطبين فيكون الجواب على نحو ما مر في {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ} (4) [الأعراف: 4] أي خلقناكم في علمنا، أو أردنا خلقكم ثم قلنا أو قلنا {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَاِسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} (34) [البقرة: 34] ثم خلقناكم.
{قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (12)[الأعراف: 12] فيه اقتضاء الأمر الوجوب والفور لأنه لامه على تأخير السجود عن وقت أمره به؛ لأن «إذ» للوقت تقديره: ما منعك أن تسجد وقت أمري لك بالسجود، وفيهما خلاف، و «لا» في «أن لا تسجد» زائدة، وإلا لاقتضى أن إبليس سجد ثم ليم على السجود الذي هو طاعة، وأنه محال، ونظيره في زيادة «لا» قول الراجز:
فما ألوم البيض أن لا تسخرا
…
لما رأين الشمط القفندرا
أي أن تسخر.
{قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (12)[الأعراف: 12] تضمن هذا من إبليس مخالفة وعنادا واستكبارا واعتراضا وقدحا في الحكمة وجهلا بالحقائق وغلطا في الفلسفة؛ لأن النار خفيفة طائشة محرقة شريرة، والطين رزين ثابت متواضع، ولا جرم رجع كل منهما إلى أصله، فإبليس مذموم وآدم مرحوم.
وبالجملة فإبليس استعمل الفلسفة؛ فوقع في السفه، ولو أعطى الفلسفة حقها؛ لأعطى الطاعة مستحقها.
{قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ} (13)[الأعراف: 13] الضمير إما للسماء أو للجنة وعلى التقديرين يدل على أن الجنة دار تواضع وأدب لا كبر فيها، وعلى القول بأن الضمير للجنة، وهو الظاهر يقتضي ظاهرا:
أن آدم ومن سجد له وإبليس جميعا كانوا في تلك الحال في الجنة، فما امتنع إبليس من الطاعة على الفور، عوقب بالخروج من الجنة على الفور.
به الجمهور على أن الهادي والمضل والمغوي هو الله-عز وجل/ [85 ب/م]؛ لأنه أقر إبليس على نسبة الإغواء إليه، ولولا أن/ [182/ل] الأمر كذلك لما أقره بل كان يقول له: ويحك أمعصية وبهتا؛ أتعصيني وتبهتني؟ ! فلما أقره على ذلك دل على صحته.
والجمهور إذا تمسكوا بهذا قال لهم المعتزلة: أنتم تلاميذ إبليس، تشنيعا عليهم، وليس احتجاج الجمهور بقول إبليس، وإنما هو بإقرار الله-عز وجل-عليه.
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ} (20)[الأعراف: 20] أي وسوس لهما ليعصيا؛ فتبدو سوآتهما، فذكر الغاية البعدى لاستلزامها القربى، إذا كانت أثرا لهما.
{وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ} [الأعراف: 20] أي لئلا تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين. يحتج بهذا من يرى الملائكة أفضل من البشر حتى آدم.
وتقريره أن هذا يدل على أن ذلك كان مشهورا متقررا عند آدم وحواء حتى جعله إبليس سببا لإغرائهما واستذلالهما، وإلا لما قبلاه منه مسارعين إليه، وأيضا لما أقدما على المخالفة حرصا على رتبة الملائكة دل على ما قلناه؛ لأن العاقل إنما يحصر على ما يعتقده كمالا له، وأيضا [لما قرن كونهما ملكين بكونهما من الخالدين، دل على أن الملك أفضل من البشر] كما أن الخالد أفضل من الزائل.
{فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ فَلَمّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ} (22)[الأعراف: 22] يحتج به مثبتو الحرف والصوت في كلام الله- عز وجل-أعني نفس تكلمه؛ لأن النداء لا يعقل إلا كذلك، ومثله:{وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى} ونحوه.
وأجاب الآخرون بأنه ناداهما بواسطة [الملك: أو سمى إفهامهما] بكلامه الذاتي نداء بجامع الإفهام.
وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)[الأعراف: 26] تضمنت هذه الآية المجاز بمراتب، وذلك لأن المنزل عليهم ليس هو نفس اللباس إنما هو الماء المنبت للزرع المتخذ منه الغزل المنسوج منه اللباس، وصار ذلك كقول الراجز:
الحمد لله العظيم المنان
…
صار الثريد في رءوس العيدان
سمى السنبل في رءوس العصف الذي تحته ثريدا، وإنما يصير ثريدا بعد أن يحصد، ثم يدرس، ثم يصفى، ثم يطحن، ثم يخبز، ثم يثرد، سمى ابن السيد البطليوسي (1) هذا وأمثاله [مجاز المراتب]، وهو من غرائب مسائل المجاز.
{يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (27)[الأعراف: 27] أضاف الفتنة إلى الشيطان مع قول موسى: {وَاِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَاِرْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ} (155)[الأعراف: 155] وقوله-عز وجل {وَكَذلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} (53)[الأنعام: 53] وتحقيقه ما سبق من أن فتنة/الشيطان بالوسوسة، وفتنة الله-عز وجل / [86 أ/م] بالتقدير، وخلق الدواعي والصوارف.
{إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} / [183/ل]{مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} هذا من جملة الابتلاء والمحنة، وعظيم الفتنة، إذ لو رآهم بنو آدم لاحترزوا منهم كما يحترز بعضهم من بعض، ولكن صاروا كما قيل:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى
…
فكيف بمن يرمي وليس برامي
والسبب في أنهم يروننا ولا نراهم مادتهم نارية لطيفة، ومادتنا طينية كثيفة، والكثيف
لا يرى اللطيف.
فإن قيل: فنحن نرى النار التي هي مادتهم فما بالنا لا نراهم؟ !
قلنا: التخليق يلطف المادة، ألا ترى أن البشر ألطف من الطين الذي هو مادته، وكذلك كل فرع هو ألطف من أصله كالزيت من الزيتون، والعصير من العنب، والدبس من الرطب، ونحو ذلك.
{وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (28)[الأعراف: 28] يحتج بها المعتزلة، ووجه احتجاجهم أنه كما لا يأمر بالفحشاء لا يريدها.
وقال الجمهور: بل هو يريدها ويقدرها بتقدير أسبابها، وخلق دواعيها والصوارف عنها وإن لم يأمر بها، ولعل أصل الخلاف أن المعصية خلاف الأمر عند الجمهور، فلا ينافيه موافقة الإرادة في المعصية، وعند المعتزلة هي مخالفة الإرادة، فلو كان مريدا للمعصية لكان المكلف عاصيا من حيث هو مطيع، وأنه محال.
ومذهب الجمهور في أن الطاعة والمعصية دائران مع الأمر والنهي أشبه باللغة والنظر، وهو الصواب.
ويحكى أن الشيخ أبا إسحاق الإسفراييني دخل على الصاحب بن عباد، وعنده القاضي عبد الجبار الهمذاني، فلما رآه القاضي قال تعريضا به: سبحان المنزه عن الفحشاء، فقال الشيخ أبو إسحاق: سبحان من يفعل ما يشاء، فاستوفى كل واحد منهما حجته في خمس كلمات، واعلم أن هؤلاء الذين قالوا في فاحشتهم:{وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (28)[الأعراف: 28] صدقوا في تقليد آبائهم وكذبوا على ربهم.
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَاُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (29)[الأعراف: 29] يحتمل أمرين: أحدهما: إثبات المعاد، أي كما بدأكم أي: ابتداء خلقكم بعد العدم الأصلي، كذلك يعيدكم بعد العدم الطارئ على وجودكم، وهو أيسر، ولا فرق غير أن الإنسان في ابتداء نشأته يتدرج في الأطوار السبعة.
نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخرها، وفي إعادته لا يتدرج في الأطوار، غير أن هذا ليس مؤثرا في حكم القدرة التامة، وقد قيل: إن عند إرادة البعث تمطر السماء أربعين يوما ماء كمني
الرجال، فلعل الأرض تجعل فيها حرارة كحرارة الرحم، ثم يتطور العالم في بطنها كتطوره في بطون الأمهات/ [184/ل]، والأرض تسمى أما، فلعله لذلك أو له ولغيره/ [86 ب/م]، وبالجملة فالقدرة صالحة للتأثير بواسطة التطوير ودون التطوير.
الثاني: إثبات القدر أولا وآخرا، أي كما بدأ خلقكم مؤمنا وكافرا، ومهتديا وضالا، كذلك يعيدكم كما بدأكم، يشهد لذلك قوله عز وجل:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2)[التغابن: 2] وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره؛ فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل» (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «يبعث كل إنسان على ما مات عليه» (2) أي من هدى وضلال وكفر وإيمان؛ دل على هذا الاحتمال قوله عز وجل: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَاُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (30)[الأعراف: 29 - 30]، إشارة إلى افتراقهم في الهدى والضلال من البدء، ثم يعادون على ما بدئوا عليه من ذلك، وانظر إلى لطيف حكمته عز وجل في قوله:{فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (30)[الأعراف: 30] نسب الهدى إليه، إذ لا محذور فيه، ولم يقل: وفريقا أضل، بل قال:{فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (30)[الأعراف: 30] فأحال بضلالهم على علته الكسبية من جهتهم، وأشار إلى علتهم القدرية من جهته؛ فتحرر من ذلك أن علة ضلالهم مركبة من تقديره الجازم المتقادم، وكسبهم الآخر المتراخي، ولو شاء الله ما فعلوه، وإنما ألزموه شبهة في
استحقاق الذم وغير الإرادة الإلهية.
{* يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاِشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31)[الأعراف: 31] هذا من أصول الطب، وتدبير الأبدان، وهو الاقتصاد في المأكل والمشرب.
ويحكى أن جبرائيل بن بختيشوع الطبيب دخل على هارون الرشيد، وعنده قارئ؛ فقرأ هذه الآية؛ فقال الحكيم: يا أمير المؤمنين، ما ترك كتابكم شيئا من الطب إلا استوفاه في هذه الكلمات.
ووجه ذلك أن المقصود من الطعام والشراب إنما هو بقاء النفس بما يستحيل منه من الدم ويتجوهر منه من الروح الحاس والمدرك، فإذا اقتصد فيه، قويت المعدة على هضمه، فانصرف أكثره إلى المقصود، وبقي باقية تدفعه الطبيعة [ثفلا] فيبقى البدن خالصا من الفضول بعده كما كان قبله، وإذا أسرف فيه باقية الزائد على المقصود فضولا وأخلاطا في البدن خصوصا إن ضعفت المعدة عن هضمه، فتكون تلك الأخلاط غليظة ثم تتعفن تلك الأخلاط، فتولد أمراضا يكون منها العطب.
ويحكى عن جالينوس أنه قال: أنا أحب أن آكل لأعيش، وهؤلاء يحبون أن يعيشوا [185/ل] ليأكلوا، يعني أن الحكمة تقتضي أن تكون الحياة غاية الأكل والأكل وسيلة لها، والعامة عكسوا ذلك فجعلوا الأكل غاية الحياة، والحياة وسيلة له وهو دأب البهائم/ [87 أ/م].
وقال ابن الرومي:
عدوك من صديقك مستفاد
…
فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
…
يكون من الطعام أو الشراب
{وَكُلُوا وَاِشْرَبُوا} [الأعراف: 31] أمر إباحة {وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] بحتمل أنه نهي إرشاد، ويحتمل الكراهة.
{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] هذا جامع لكل محرم، والخصال الأربع المذكورة، بعدة معطوفة عليه عطف الخاص على العام.
33] يحتج به من زعم أن خبر الواحد يفيد العلم؛ لأنا إنما نقبل خبر العدل، والعدل قد حرم عليه أن يقول ما لا يعلم، فوجب أن لا يقول إلا ما يعلم، وذلك يفيد العلم، وهو ضعيف ومقدمته الأخيرة ظنية؛ لجواز أن يخالف لداع أو صارف؛ فيقول ما لا يعلم، ثم لو أفادت الآحاد العلم لما احتيج إلى العدد في البينات، وما تفاوتت في العدد ولما كان للاستفاضة والتواتر مزية على الآحاد واللوازم باطلة؛ فالملزوم كذلك؛ ولأنا نجد أنفسنا غير عالمة بموجب خبر الواحد فالقول بإفادته العلم مصادم لهذا العلم الوجداني الضروري؛ فلا يلتفت إليه، وربما احتج بقوله-عز وجل:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (32)[الأعراف: 32] من يرى إباحة الطرب وسماع الملاهي، لأن الآية اقتضت إباحة عموم الطيبات من الرزق وهذه الأشياء من طيبات رزق السمع؛ فكانت مباحة كطيبات رزق الذوق والشم والبصر واللمس، وهذه والتي قبلها-أعني إفادة خبر الواحد العلم-يعزيان إلى مذهب الظاهرية، والأشبه أن سماع الملاهي إن دعا إلى حرام، أو أشغل عن واجب فهو حرام، وإن دعا إلى مكروه أو صد عن مندوب فهو مكروه، وإلا فهو مباح، وحيث يحرم يخرج جواز التداوي به من الماليخوليا ونحوه من الأمراض، على الخلاف في التداوي/ [186/ل] بالمسكر.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (34)[الأعراف: 34] ونظائرها حجة للجمهور على أن المقتول هلك بأجله لم يكن ليستأخر عن ذلك ولا يستقدم، ولو لم يقتله القاتل [لهلك في وقت القتل بسبب غيره، خلافا للمعتزلة فيما حكي عنهم من أن القاتل] قطع عليه أجله، ولو لم يقتله لاستمر حيا إلى آخر أجله؛ استصحابا لحال حياته، والأشبه الأول؛ لأن تفويت هذه الحياة المعينة في هذا الوقت المعين بالسبب المعين معلوم لله-عز وجل-وكل ما كان معلوما لله-عز وجل -استحال تغيره بتقدم أو تأخر، وما قاله المعتزلة تخيل ذهني لا وقوع له في الخارج أصلا.
{فَمَنِ} / [87 ب /م]{اِتَّقى وَأَصْلَحَ} أي اتقى الكفر وأصلح العمل فهو في قوة {فَمَنِ اِتَّقى وَأَصْلَحَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} وقد سبق القول فيه.
(36)
[الأعراف: 36] لم يشترط مع الكفر نفي العمل الصالح كما اشترط مع الإيمان وجوده، والفرق أن العمل الصالح لا يتصور مع الكفر، إذ الكفر مانع من وجوده فلم يحتج إلى اشتراط نفيه؛ لأنه منفي لوجود مانعه أو انتفاء شرطه، وهو الإيمان بخلاف الإيمان، فإن انتفاء العمل الصالح يصح معه؛ فلذلك اشترط وجوده في تمام الجزاء عليه.
وهذا يقتضي أن الكفر في بابه أعظم من الإيمان في بابه، وكذلك النواهي والمعاصي أعظم من الأوامر والطاعات في بابها، وسبب ذلك، عظمة الجناب الإلهي عن الجرأة عليه بالمعاصي واستغناؤه عن الطاعات فالمعاصي تغضبه، والطاعات لا تنفعه إنما هي إحسان من المطيع إلى نفسه، ألا ترى أن السلطان إذا خرج عن طاعته خارجي جهز إليه العساكر، وقام له وقعد، ولو أهدى له ملك الأرض لم يحتفل له بعض ذلك الاحتفال.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} (37)[الأعراف: 37] يحتمل أن المراد نصيبهم من الشقاوة السابقة [لهم في الكتاب] ويحتمل أن المراد نصيبهم من الرزق المقسوم لهم في الكتاب، ويحتمل إرادة الأمرين، والنكتة المقصودة قوله-عز وجل:{يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ} [الأعراف: 37] ولم يقل ينالون نصيبهم، إشارة إلى أن ما سبق في الكتاب من شقاوة وسعادة ورزق هو أشد طلبا للإنسان حتى يناله من الإنسان له حتى يدركه، ولو لم يكن لأهل التفويض والتوكل غير هذه لكفتهم إذا فهموها.
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاِسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} (40)[الأعراف: 40] يعني لأرواحهم عقيب الموت/ [187/ل] بل ترد فتخر من السماء تهوي بها الريح في مكان سحيق أي بعيد، وهو سجين بخلاف المؤمنين، فإن أبواب السماء تفتح لأرواحهم حتى تنتهي إلى العرش إكراما لها ثم تعاد إلى القبر للسؤال.
وتفصيل هذا في حديث البراء بن عازب، وهذه من متعلقات اليوم الآخر.
{حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} [الأعراف: 40] هو من باب تعليق الشيء المحال، نحو حتى يعود اللبن في الضرع، حتى يشيب الغراب ويبيض القار.
وحتى يؤوب القارصان كلاهما وينشر في القتلى كليب لوائل ونحو ذلك.
{وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (43)[الأعراف: 43] يعني كان في الدنيا، وقد يستبعد ذلك وليس ببعيد، أما إن نسب إلى القدرة الإلهية فظاهر، وأما إن نسب إلى الواقع، فكثيرا ما طابت/ [88 أ/م] النفوس عن خبث، واصطلح الناس عن غضب، وتنازلوا عن غل وإحن.
وقد حكي في كتاب عجائب المخلوقات أن في البحر سمكة إذا أكلها المتضاغنان زال ما في نفوسهما وعادا أصدقاء.
وبالجملة فهذا أمر ممكن، وكل ممكن مقدور، وكل مقدور أخبر الصادق بوقوعه فهو واقع لا محالة.
{وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (43)[الأعراف: 43] لعلهم يقولون هذا لما يرون من صعوبة الطريق ووعورة المسلك، فيعلمون أنهم عاجزون عن قطعه لولا إعانة الله-عز وجل-لهم فيحمدونه على نعمه، ويعترفون بالحمد والحق لأهله.
ويحتج به الجمهور على أن الهدى من الله، ويطردون حكمه في مقابله وهو الضلال بقضائه وقدره.
{لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43] عرفوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يعرفونه في دار التكليف نظرا وبرهانا وتلك المعرفة أتم.
{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] يعني أن الجنة كانت للكفار، بتقدير أن لو آمنوا والنار للمؤمنين أن لو كفروا، فإذا دخل المؤمنون الجنة؛ فكأنهم ورثوا ما كان للكفار لو آمنوا، وذلك هو التغابن يغبن أهل الجنة أهل النار بفوزهم وهلاك أولئك.
{وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ} (45)[الأعراف: 44، 45] إلى آخر القصة من أحكام اليوم الآخر في محاورة أهل الجنة والنار.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} (53)[الأعراف: 53][118/ ل] هي في الكفار لا تنفعهم شفاعة، ولا يجدون شافعا.
قيل: هي من أيام ربك كل يوم كألف سنة مما تعدون، وقيل: هي من أيامنا هذه، وهو أشبه وعلى كمال القدرة أدل، وهاهنا سؤال مشهور، وهو كيف خلقها في ستة أيام مع قدرته على خلقها «بكن» فيكون؟ !
وجوابه أن ذلك ليعلم عبيده الأناة والتثبت، ولذلك أمرهم بذلك فقال:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (94)[النساء: 94]{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ} (6)[الحجرات: 6] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» (1).
{الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} (54)[الأعراف: 54] هذه وذكرها في القرآن تعرف بمسألة الاستواء، وهي: أن الله-عز وجل-هل يقال إنه بذاته استوى على عرشه فوق السماوات، أم لا؟ أثبته الحنابلة والمحدثون، ونفاه المعتزلة والأشعريون ومن تابعهم، وبعضهم يسميها مسألة الجهة، وبعضهم مسألة العلو.
احتج المثبتون بوجوه: أحدها: هذه الآيات؛ إذ [88 ب/م] [تقتضي استواءه) على العرش، هو السر الإلهي بذاته.
الثاني: أن الله-عز وجل-والعالم حقيقتان موجودتان، وكل موجودين فإما أن يكون أحدهما ساريا في الآخر، أو مماسا له، أو بائنا عنه، والأولان محال على الله-عز وجل-فتعين الثالث، وهو أنه مباين للعالم، وقد ورد الشرع بما يصلح أن يكون جهة مباينة له، وهي جهة العلو؛ فتعينت بتعيين الشرع، ولأنها أشرف.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به إلى ربه، وأنه-عليه الصلاة والسلام-عرج به إلى جهة فوق ينتج من الشكل.
الثالث: أن رب محمد في جهة فوق، ويتعين أنه مستو على العرش بالنص.
الرابع: قوله-عز وجل: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ} (10)[فاطر: 10] مع قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم» (1)، فبين أن صعود الأعمال إليه إلى جهة فوق، وذلك يقتضي أنه فوق.
الخامس: قوله-عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ} (16)[الملك: 16]{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (17)[الملك: 17] مع قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة باتت هاجرة لفراش زوجها كان الذي في السماء ساخطا عليها» (2) رواه مسلم. نظم الدليل منه: أن الله-عز وجل-هو
المؤثر سخطه، والمؤثر سخطه في السماء، فالله-عز وجل-في السماء/ [189/ل] والأولى إجماعية، والثانية: ثابتة بالحديث.
السادس: شهادة القرآن بأن فرعون بنى صرحا ليطلع إلى إله موسى في السماوات وأقره موسى على ذلك، والاحتجاج بإقرار موسى لا بفعل فرعون.
السابع: تكليم موسى على الجبل، ليكون أقرب إلى جهة الرب، وإلا لم يكن لصعوده الجبل فائدة.
الثامن: الله-عز وجل-ذات موجودة، وكل ذات موجودة، فإما في السماوات، أو في الأرض، أو فيهما، أو لا في واحدة منهما، والكل باطل إلا الأول والخصم يدعي الأخير، وهو أنه لا في واحدة منهما كسائر المجردات.
التاسع: حديث الجويرية: إذ قال لها: «أين الله» ؟ فأشارت إلى السماء؛ فحكم بإيمانها بذلك، والخصم يكفر من حكم النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان مثله، وهذه مباينة للشرع.
العاشر: أجمع الناس على رفع أيديهم إلى السماء في الدعاء لتلقي الخير والبركة منه، وهي شهادة شرعية فطرية عامة، على أنه فوق السماء.
احتج النافون بوجوه:
أحدها: أنه لو كان بذاته سبحانه على العرش لكان إما أصغر منه أو أكبر أو مساويا وبكل حال يلزم كونه متحيزا جسما مركبا منقسما، وأنه محال.
الثاني: أن الله-عز وجل-قديم واجب غني فلو كان مستويا بذاته على العرش في جهة فوق لكان متحيزا/ [89 أ/م] وكل متحيز جسم أو جوهر، وكل جسم أو جوهر حادث ممكن مفتقر، فالقديم حادث، هذا خلف.
الثالث: أن العرش إن كان قديما لزم تعدد الذات القديمة، وهو محال، وإن كان حادثا، فإن كان الاستواء عليه قديما لزم قدم الحادث أو حدوث [القديم] وأنه محال وإن كان حادثا فإن كان صفة قائمة بذات القديم لزم قيام الحوادث بذاته وهو محال، وإن لم يكن قائما بذاته، فالتقدير حدوثه فهو مسبوق بعدمه فعدمه أزلي والأزلي لا يزول، فعدم الاستواء لم يزل والاستواء لم يكن، وحينئذ يجب تأويل الاستواء على الاستيلاء نحو:
قد استوى بشر على العراق
…
بغير سيف ودم مهراق
وقول لآخر:
ولما علونا واستوينا عليهم
…
تركناهم صرعى لنسر وطائر
الرابع: أن الله-عز وجل: في الأزل لم يكن مستويا على العرش، وهو الآن على ما كان/ [190/ل) عليه في الأزل، فهو الآن غير مستو على العرش على ما يقوله الخصم، وهذا ضعيف، إذ لقائل أن يعارضه بأنه لم يكن معه عالم في الأزل وهو الآن على ما كان عليه في الأزل، فالعالم ليس معه الآن، لكنه خلاف العيان.
وذهب [أبو عبد الله بن حامد] إلى أن معنى استوائه على العرش الاستقرار، كما ذهب إلى أن نزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا انتقال. واحتج بقوله-عز وجل:{فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي نَجّانا مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} (28)[المؤمنون: 28] وقد أنكر ذلك على ابن حامد، ورد عليه.
واعلم أن السمع قوي في الإثبات، والعقل قوي في النفي، غير أن النفاة قالوا: العقل أصل السمع؛ فيجب تقديمه، وإلا لزم القدح في دلالة الأصل [على الفرع]، وذلك قادح في الفرع أيضا، فتقديم الفرع مبطل لشهادة الأصل والفرع جميعا، وأنه غير جائز.
وأجابوا عن حجج المثبتين من حيث الإجمال بأنها شبه وظواهر فلا تعارض الحجج القواطع.
قال بعض النفاة: أحد الأمرين لازم، إما بطلان مذهب المثبتين أو صحة مذهب الاتحادية؛ لأن إثبات الجهة والاستواء يستلزم التجسيم، وهو لا يصح إلا على رأي الاتحادية الذين يجيزون ظهور الحق سبحانه وتعالى في المظاهر الجسمانية والأطوار الطبيعية، وإليه الإشارة بقول الحلاج للجنيد: يا معلم، من الذي يأتي البشر على رسوم الطبع؟ فقال له الجنيد: اسكت، ويحك! أي خشبة تريد أن تفسد.
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} (54)[الأعراف: 54] احتج به من قال: إن القرآن ليس بمخلوق؛ لأن القرآن هو الأمر، والأمر غير الخلق، فالقرآن غير الخلق، فالقرآن غير مخلوق، وأما أن القرآن هو الأمر، فلقوله-عز/ [89 ب/م] وجل-:{إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ} (5)[الدخان: 3 - 5] ففسر القرآن بالأمر، وأما أن الأمر غير الخلق
فلعطفه عليه في هذه الآية والعطف يقتضي التغاير، وأجاب الخصم بأن الأمر مشترك بين القرآن وغيره. ولا نسلم أن المراد به هاهنا القرآن سلمناه، لكن لا نسلم أن الأمر غير الخلق، وعطفه عليه ليس عطف تغاير، بل عطف خاص على عام.
{اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (55)[الأعراف: 55] تنبيه على عظمته التي يستحق بها ضراعة غير له.
{وَخُفْيَةً} تنبيه على قربه الذي لا يحتاج معه إلى أن يجهر له، كقوله صلى الله عليه وسلم:«إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا قريبا، إنه أقرب/ [191، ل] إلى أحدكم من عنق راحلته» .
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَاُدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (56)[الأعراف: 56] إن كانت الرحمة صفة فعل فهي قريبة بذاتها، وإن كانت صفة ذات، فالقرب أثرها [أو ذاتها على رأي من يرى أن الله-عز وجل بذاته في كل مكان، أو على رأي الاتحادية؛ لأنها حينئذ لا تفارق الذات؛ فلا يمكن قربها بذاتها إلا على رأي هؤلاء].
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (57)[الأعراف: 57] هذه من أدلة المعاد؛ قياسا على إحياء الأرض بالمطر والنبات، وقد صرح بالقياس؛ فقال-عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (57)[الأعراف: 57] أي كإخراج الثمرات بالمطر من الأرض الميتة يخرج الموتى من الأرض، وتوجيه القياس أن حب الثمار مفرق في الأرض كأجزاء الموتى، وهي الجواهر المفردة المنحلة إليها الأجسام، ثم إنه-عز وجل-يجمع ذلك الحب ويحييه حتى يخرج زرعا وثمرا نافعا، وكذلك يجمع أجزاء الموتى من الأرض، ويحييها حتى يخرج بشرا سويا، [والجامع إمكانهما]، ودخول الممكن تحت المقدورية.
{لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (59)[الأعراف: 59] قول نوح هذا وغيره من الرسل في هذه السورة وغيرها شهادة بالتوحيد، موافقة لقوله-عز وجل:{وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (45)[الزخرف: 45] وسيأتي برهان التوحيد في موضعه، إن شاء الله-عز وجل.
قول هود لقومه: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (69)[الأعراف: 69] أي نعمه، واحدها نعمة، وقد اختلف العلماء في أن الله-عز وجل-على الكفار نعمة، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: نعم لهذه الآية وغيرها مما عدد عليهم فيها.
والثاني: لا، لأن ما أعطوه من/ [90 أ/م] متاع الدنيا استدراج لا نعمة، فهو كالعسل المسموم هو آفة لا حلاوة.
ومرجع الخلاف إلى أن النعمة ما هي: إن أريد به مجرد اللذة والتنعيم فعلى الكفار نعم عظيمة، وإن أريد بها [التنعيم مع] سلامة العاقبة فيه، فلا نعمة عليهم بل هي نقم في صورة نعم.
عدم إيمانهم مفهوم من تكذيبهم، وإنما أتى به تأكيدا، والتأكيد من أبواب اللغات في أصول الفقه، وكذا:{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى} (79)[طه: 79]{وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ} (14)[النساء: 14] / [192/ل] الثاني فيهما مفهوم من الأول، وجئ به تأكيدا.
قول شعيب: {قَدِ اِفْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ} (89)[الأعراف: 89] لما كان منشؤه في قوم كفار انعقد له سبب موافقتهم فتجوز به عن ملابسة ملتهم فسمى إعراضه عنها بهداية الله-عز وجل-إياه نجاة منها ودخوله فيها لو قدّر عودا إليها.
وقوله: {وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا} [الأعراف: 89] يدل على جواز الكفر على الأنبياء إذا شاءه الله-عز وجل-وإلا لم يكن لاستثنائه معنى، وقد سبق أن عصمتهم إنما هي من وقوع الكفر لا من جوازه.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} (100)[الأعراف: 100] يحتج به المعتزلة على أن الذنوب مخلوقة لأهلها، وإلا لكان مصيبا لهم بما هو مخلوق له، وذلك جور، والطبع على قلوبهم إذا كان من جملة عقوبتهم على ذنوبهم لم يكن فيه حجة، وجوابه قد عرف غير مرة، وقاعدته في مقدمة الكتاب وافية به حيث وقع.
{تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ} (101)[الأعراف: 101] يحتج بها الفريقان، أما المعتزلة فلكونه علل الطبع على قلوبهم بكفرهم، فلو كان كفرهم معلولا للطبع على قلوبهم، لزم الدور، فدل على كفرهم معلول لإرادتهم مخلوق لهم، والجمهور منعوا كون الطبع على قلوبهم معللا بكفرهم بل كفرهم معلل بالطبع على قلوبهم، كأنه قال: كذلك يطبع الله على قلوب قوم فيكفرون بسبب الطبع على قلوبهم.
{وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ} (127)[الأعراف: 127] / [90 ب/م] يستشهد به من يحمل الفوقية في حق الله-عز وجل حيث وقعت على المعنوية لا الحسية.
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} (137)[الأعراف: 137] يعني أرض مصر أورثها بني إسرائيل؛ لأنهم هم المستضعفون كانوا فيها بدليل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ} (5) [القصص:
5] إلى {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ} (6)[القصص: 6] وبدليل {فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ} (58)[الشعراء: 57 - 58] ذكر السهيلي في «الأعلام» أنه الفيوم.
{كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ} (59)[الشعراء: 59] يعني جنات فرعون وكنوزه، أورثها الله تعالى بني إسرائيل، لا يقال: إن بني إسرائيل بعد أن جاوزوا البحر فارين من فرعون، لم ينقل أنهم عادوا إلى مصر فكيف ورثوها؟ لأنا نقول: هذه دعوى مجردة، بل قد نقل وثيمة بن موسى في قصص الأنبياء: أن فرعون/ [193/ل] لما هلك وقومه وأمنت بنو إسرائيل غائلته ندب نقيبين من نقبائه الاثني عشر: أحدهما: ثالب بن يوفنا والثاني:
يوشع بن نون، مع كل واحد من سبطه اثنا عشر ألفا، وأرسلهما إلى مصر، وقد خلت من حامية لغرق أهلها مع فرعون، فأخذوا ذخائر فرعون وكنوزه، وعادوا إلى موسى، فذلك توريثهم أرض مصر.
بعدي» (1) وهارون خليفة موسى على أمته عند ذهابه لميقات ربه، فكذلك عليّ يجب أن يكون خليفة محمد صلى الله عليه وسلم على أمته عند إجابته داعي ربه، وربما قرروه بطريق آخر، وهو أنه لما استثنى النبوة من منازل هارون، دل على أنه أثبت لعلي منه باقي المنازل الهارونية من موسى، ومن تلك المنازل أنه خليفته في حياته، ولو عاش بعد وفاته، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليا في حياته عند خروجه إلى تبوك، ثم إنه عاش بعده مدة، فوجب أن يكون خليفته بعد وفاته لتثبت له المنزلة الهارونية تحقيقا في الحياة وتقديرا بعد الوفاة.
وأجاب الجمهور عن الطريقة الأولى بأن استخلاف موسى لهارون كان في حياته، ودعواكم استخلاف عليّ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والحياة والوفاة نقيضان لا يصح قياس أحدهما على الآخر، وعن الطريقة الثانية بأنا لا نسلم أن هارون/ [91 أ/م] لو عاش بعد موسى كان خليفة بعده، وحينئذ لا تثبت هذه المنزلة لهارون، فلا تثبت لعلي لأنه مشبه به، وفرع عليه.
{وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ اُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (143)[الأعراف: 143] يحتج به الجمهور على جواز رؤية الله-عز وجل وإلا لكان موسى غير عارف بما يجوز على الله عز وجل وما لا يجوز، أو مجترئا عليه بسؤال ما لا يجوز عليه، وكلاهما باطل، واعترض المعتزلة بأن قالوا: لم يكن سؤال موسى الرؤية لنفسه، إنما كان لقومه حين قالوا: أرنا الله جهرة. وقد قوبلوا عليه بالصعق والموت ولم يلزم من ذلك جهل ولا جرأة من موسى؛ إذ كان مبلغا عن غيره، ومبلغ الكفر والمعصية ليس بكافر ولا عاص.
والجواب: أن هذا جهل بمراتب آي الكتاب ووقائعه، أو تجاهل بذلك، وذلك أن موسى-عليه السلام-كان له مع الله-عز وجل-في هذا المقام ميقاتان: أحدهما هذا وكان فيه وحده، وسأل الرؤية فيه لنفسه، والثاني بعد هذا، وهو مذكور بعد على ترتيب / [194/ل] الواقع عند قوله-عز وجل:{وَاِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنا بِما}
{فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَاِرْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ} (155)[الأعراف: 155] وهنالك سأل قومه الرؤية، فأخذتهم الصاعقة، فهذا الاعتراض من المعتزلة فاسد، إما عن غلط أو مغالطة.
{وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ اُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (143)[الأعراف: 143] احتج به المعتزلة على عدم جواز رؤيته-عز وجل -لأنه نفى رؤية موسى له بلن المقتضية لتأبيد النفي، وذلك يقتضي انتفاء رؤيته إياه في الدنيا والآخرة، وإذا لم يره موسى في الدارين مع أن الكليم القريب، فغيره ممن هو دونه بطريق أولى وغيره ممن هو مثله كذلك؛ إذ حكم المثلين واحد، ولعدم القائل بالفرق.
وجوابه: لا نسلم أن «لن» تقتضي تأبيد النفي بدليل {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ} (95)[البقرة: 95] على ما قرر هناك، على أنا لا نسلم أنه نفى جواز الرؤية بل وقوعها في الدنيا لا غير، ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم والمسيح عليه السلام أفضل من موسى عليه السلام للإجماع في محمد صلى الله عليه وسلم وما سبق في تقريره في المسيح، فلا يلزم من انتفاء الرؤية [في حق موسى] انتفاؤها في حقهما، وإذا جازت لهما حصل المقصود إذ النزاع في جوازها.
{وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ اُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (143)[الأعراف: 143] احتج [به الفريقان]: أما الجمهور فقالوا: علق رؤيته على استقرار الجبل حال التجلي: واستقراره حينئذ ممكن، فالرؤية إذن معلقة على أمر ممكن وكل معلق على ممكن فهو ممكن فالرؤية ممكنة، وهو المطلوب، وأما المعتزلة فقالوا:
إن الله-عز وجل-علم أن الجبل لا يستقر عند تجليه له وحينئذ إنما علق الرؤية على استقرار الجبل حال اضطرابه واندكاكه للتجلي، واستقراره/ [91 ب/م] حال اضطرابه
محال، فالرؤية إنما علقت على محال [والمعلق على المحال محال] فالرؤية محال.
واعلم أن الجمهور لاحظوا إمكان استقرار الجبل لذاته حال التجلي، ولا شك في إمكان ذلك بهذا الاعتبار.
والمعتزلة لاحظوا استحالة استقراره حال اضطرابه بحسب ما عرض له من هيبة التجلي، واعتبار الشيء لذاته أولى من اعتباره بعارض له، فتلخص أن الدست هاهنا للجمهور.
{فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] قالت المعتزلة معناه: تبت إليك [مطلقا أو] من سؤال الرؤية [في الدنيا] وأنا أول المؤمنين [بأنك لا ترى، وليس نصا فيما قالوه لاحتمال أن المعنى: تبت إليك مطلقا أو من سؤال الرؤية في الدنيا وأنا أول المؤمنين] بعظمتك حتى لا يثبت لتجليك الجبال.
{قالَ يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ} (144)[الأعراف: 144] عام أريد به الخاص أي على ناس عصره؛ إذ لم يكن فيه نبي/ [195/ل] غيره، أما الأنبياء والرسل قبله وبعده فكثير، وأما الكلام فخص به كفاحا على من عداه، إلا من خصه الدليل كنبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.
{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (153)[الأعراف: 153] ظاهرها وجوب قبول التوبة من التائب، لكن وجوبه [من الله-عز وجل] عند الجمهور وعليه عند المعتزلة كما سبق.
{وَاِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَاِرْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ} (155)[الأعراف: 155] يحتج به الجمهور على ما عرف من مذهبهم في الضلال والهدى، وهو وأشباهه قاطع لأحبلة المعتزلة.
ويقال: إن الله-عز وجل-أخبر موسى بافتتان قومه من بعده بالعجل وهو يكلمه على الطور فقال موسى: يا رب، هذا السامري صنع صورة العجل فمن نفخ فيه الروح حتى خار؟ قال: أنا يا موسى، قال: فما أرى أضل قومي إلا أنت! فقال: أحسنت يا حكيم الحكماء. وهذا نص في المدعي، وفيه أن الإيمان بالقدر وتفويض الأمر إلى الله-عز
وجل-من الحكمة.
{* وَاُكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ} (156)[الأعراف: 156] فيه أن مناط العذاب والرحمة ومدارهما هو المشيئة لا الطاعة والمعصية ولا الاستعداد ونحوه، ويدل على هذا أن الرحمة قد تلحق من لم يعمل خيرا ظاهرا قط ككافر يؤمن عند الموت، والعذاب يلحق من تعبد طول عمره، كمؤمن كفر عند الموت وإنما الأعمال أمارات قد تصدق وقد لا.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاِتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157)[الأعراف: 157] أما التوراة فالنبي صلى الله عليه وسلم مذكور فيها باسمه وصفته في عدة مواضع على ما استخرجه العلماء في دلائل النبوة، ورأينا بعضه فيها من ذلك قوله: واستعلن الله من جبال فاران، أي ظهر دينه من هناك، والمراد جبال مكة. [92 أ/م] وأما الإنجيل فصفة النبي صلى الله عليه وسلم في فصل البارقليط من إنجيل يوحنا على ما قررناه منه في مناقضة الإنجيل، هذا مع ما لحق الكتابين من التحريف والتبديل، لكن بقاء ما ذكرناه من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيهما من قبيل المعجز؛ لأن اجتهاد أمتين عظيمتين على إزالة ذكره من كتابين لطيفي الحجم، ثم لا يستطيعون ذلك معجز لا شك فيه، وتعجيز إلهي لا ريب فيه.
ومعنى الآية: يجدون ذكره أو اسمه أو وصفه مكتوبا/ [196/ل] عندهم؛ إذ لا يمكن أن تكون ذاته وعينه البشرية في الكتابين لما سبق من استحالة كون الاسم هو عين المسمى.
{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] يحتج به من يرى تحسين العقل وتقبيحه، ووجهه أن معنى الآية: يأمرهم بما يعرفون وينهاهم عما ينكرون، إذ لو لم يكن كذلك لكان تقديره: يأمرهم بما جاء به، وينهاهم عما لم يجئ به، أو يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم، وهو إما خلف من القول أو تقصير في الوصف، فتعين أن المراد ما ذكرنا.
ثم لا يخلو إما أن يكون المراد: يأمرهم بما يعرفون في الشرائع السابقة، أو بما يعرفون في عقولهم، والأول باطل وإلا لكان شرع النبي صلى الله عليه وسلم تابعا لشرع من قبله، وهو باطل؛ فتعين الثاني، وهو المطلوب. والقول بالتحسين والتقبيح هو رأي المعتزلة ومن تابعهم.
والجمهور قالوا: إن الحسن والقبح يطلق باعتبارات ثلاثة:
أحدها: بمعنى الكمال والنقص؛ كقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح، والثاني: بمعنى ما يلائم الطبع وينافره كقولنا اللذة حسن والألم قبيح، والثالث: بمعنى المدح والثواب على العمل شرعا أو الذم والعقاب شرعا، والحسن والقبح بالاعتبارين الأولين عقليان، أي يدركان بالعقل، وبالاعتبار الثالث شرعيان، أي لا يدركان إلا بالشرع، وهو محل النزاع، أما الأولان فمحل وفقا معهم، وحينئذ يجوز حمل الآية على الاعتبار الأول أي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر اللذين هما من باب الكمالات والنقائص؛ لأن ذلك هو الذي يحتاج إليه في إقامة الدعوة، ويستميل القلوب إلى الإجابة، وأما المعروف والمنكر اللذان بحسب الذم والمدح والثواب والعقاب، فيثبت حكمها بدليل منفصل.
وتحقيق مذهب المعتزلة في هذا أنهم لا يقولون: إن العقل حاكم موجب أو محرم، وإنما يقولون: إنه مدرك بما جعل الله-عز وجل-فيه القوة/ [92 ب/م] أن هذا الفعل ينبغي أو لا ينبغي، ويدرك إدراكا حكميا أي من حجة الحكمة أن هذا الفعل مما تقتضي السياسة الشرعية أن يثاب أو يعاقب عليه لا أنهم يقولون: إن الشارع إن لم يثب أو يعاقب عليه عوقب أو استحق العقاب، قالوا: وإنما قلنا ذلك؛ لأن المعلومات/ [197/ ل] على ضربين حقائق وتكاليف؛ فالحقائق ثلاث: واجب: وهو ما يلزم من عدمه محال لذاته، وممتنع: وهو ما لا يلزم من عدمه محال لذاته، وممكن خاص: وهو ما لا يلزم محال وجوده ولا عدمه، والتكاليف ثلاث: مأمور به، ومزجور عنه، ومخير فيه بين فعله وتركه، ثم لما كان العقل يدرك أحكام الحقائق من حيث الجواز والامتناع والوجوب، فكذلك يدرك أحكام التكاليف من حسن وقبح وما بينهما.
وأجاب الجمهور: بأنا لا نسلم أنه يلزم من إدراكه أحكام الحقائق العقلية أنه يدرك أحكام التكاليف الشرعية، وهل محل النزاع بيننا إلا هذا بعينه؟
في عموم دعوة الإسلام مع نصوص أخر من الكتاب والسّنّة، وعارضه اليهود والنصارى بقوله-عز وجل:{وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (46)[القصص: 46] وذلك يقتضي اختصاص دعوته بالعرب الأميين دون غيرهم من الأمم والفرق الذين سبقت فيهم النذر، وأنزلت فيهم الكتب، وسيأتي جوابه في موضعه إن شاء الله-عز وجل.
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اُسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَاُدْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (161)[الأعراف: 161] يحتج به مع نظيره في البقرة على أن الواو لا تقتضي الترتيب؛ لأن السجود قدم في إحداهما وأخر في الأخرى والقصة واحدة، فلو كان للترتيب لزم اختلاف الخبر، والكذب في أحد النصين وإنه محال.
{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} (163)[الأعراف: 163] يحتج بها الجبرية ونحوهم؛ لأن هذا اضطرار أو شبيه بالاضطرار لهم إلى المعصية؛ لأنه ألقى عليهم شهوة السمك وحرم عليهم العمل يوم السبت، ومنع الحيتان ألا تأتي إلا فيه فصار شبيها بما قيل:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له
…
إياك إياك أن تبتل بالماء
وقد صرح بمعنى هذا حيث قال-عز وجل: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [163] قالت المعتزلة الفرق بينهما أن هؤلاء المعتدين في السبت مختارون لصيد السمك بخلاف الملقى في الماء مكتوفا؛ إذ لا اختيار له، ثم باقي الآية لنا وهو {كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] دل على [أن ابتلاءهم] بذلك عقوبة على فسق صدر عنهم باختيارهم/ [198/ل] وهم علته التامة.
وجواب الكسبية/ [93 أ/م] والجبرية عنه قد عرف.
ثم إن في ضمن هذه القصة احتيال أصحاب السبت على الصيد المحرم بأن نصبوا
المصائد يوم الجمعة فوقع فيها الحيتان، ثم أخذوها يوم الأحد، وغالطوا أنفسهم وظنوا أن ذلك [يخلصهم من اللائمة] فلم يخلصوا ولم يعذروا، ولم يعد ذلك منهم كياسة وتلطفا في حصول المقصود، بل عد منهم مكرا قوبلوا بمثله {اِسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً} (43) [فاطر: 43] فمسخوا قردة؛ لأنهم مسخوا حكم الله فأحالوه عن صورته بحيلتهم فأحال الله-عز وجل-صورهم بحوله.
ويحتج بهذا من منع الحيل في أحكام الشرع، وهو مالك وأحمد ومن تابعهما، خلافا للباقين في إجازتها، كالمخالعة والتحليل والمعاملة الربوية، ونحوها، ولعلهم رأوا أن المنع من مثل ذلك تضييق في شرع من قبلنا من قبيل الآصار والأغلال التي كانت عليهم، واستباحته لنا من باب الرخصة والتوسعة علينا؛ لأن آصارهم وأغلالهم رفعت عنا ببركة نبينا صلى الله عليه وسلم كما سبق في هذه الصورة قريبا، ولعل الخلاف مبني على مسألة شرع من قبلنا شرع لنا.
وأيضا العقود لها صور ومعان فاعتبار صورة العقد ومعناه كالعزيمة كما في النكاح والبيع المجمع عليهما، واعتبار صورته فقط كالرخصة كما في التحليل وبيع المعاملة، ونظيره من العقليات الحد التام من الجنس والفصل جميعا، والفصل وحده حد ناقص، ولأن الصورة أمارة يدور الحكم عليها.
ولما قيل لهم: الحيلة قنطرة الحرام، قالوا: فقد حصل مقصودنا؛ لأن القنطرة إنما وضعت لتمنع من الوقوع في الماء فالحيلة تخلصنا من الحرام.
واعلم أنهم غلطوا في هذا الفهم أو غالطوا؛ لأن أولئك إنما أرادوا أن الحيلة قنطرة إلى الحرام: موصلة إليه لا أنها قنطرة عليه مخلصة منه، وفي هذه المسألة بحث طويل هذا حاصله، وتعظيم الشعائر والحرمات في طرف من حرّم الحيل المخيلات.
{وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (164)[الأعراف: 164] تدل على وجوب إنكار المنكر على من أصر عليه وعلم أنه لا يزدجر بشرط أمن المفسدة الراجحة؛ وتفصيله أن الإنكار إن خلا عن مفسدة أصلا وجب، وإن استلزم مفسدة/ [199/ل] راجحة لم يجب، وإن تضمن مفسدة مساوية لمصلحة احتمل الخلاف والتخيير والأولى الترك؛ لأن تحريك الساكن يخشى منه التفاقم.
{فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} (165)[الأعراف: 165] اعلم أن أصحاب السبت انقسموا إلى: مباشر للمعصية/ [93 ب/م] ومنكر لها ناه عنها، ولا مباشر ولا منكر، فلم ينج من العذاب إلا الناهون، وأما العصاة فعوقبوا بمعصيتهم والساكتون عنها عوقبوا لتركهم الإنكار الواجب. وتعلقت الشيعة بهذا؛ إذ زعموا أن الصحابة انقسموا إلى: مؤذ لأهل البيت ومعين له، وساكت عن الإنكار والنصرة مع القدرة، ومنكر منتصر بلسانه أو قلبه. قالوا: والفرق الثلاث الأول هالكة والناجية هي الرابعة وهم الشيعة أولا وآخرا كما في أصحاب السبت.
وأجاب أهل السّنّة: بأنا لا نسلم أن أحدا من الصحابة رضي الله عنهم آذى أهل البيت، ولو سلمناه لكن القرآن ورد بمدحهم، وذم أصحاب السبت فلا يصح قياس أحدهما على الآخر؛ إذ هو قياس ضد على ضد، أو جمع حيث فرق النص، وهو فاسد الاعتبار.
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَاّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (169)[الأعراف: 169] تضمنت أن الكذب على الله-عز وجل-وكتبه ورسله حرام لا يجوز أخذ الأجرة عليه، فيحتج به على أن تحريف التأويل والنصوص من الكتاب والسّنّة والأحكام والفتاوى لا تجوز بعوض ولا محاباة ولا غيرهما، خلافا لما حكي عن بعض الفقهاء أنه يفتى الأجانب بالعزائم والأقارب والأصدقاء بالرخص، وإن ضعف مستندها في النظر.
قوله-عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ} (172)[الأعراف: 172] دلت على أن الذرية أخذت من ظهور بني آدم، والتفسير بأنها أخذت من ظهر آدم، وكلاهما حق؛ لأن الذرية استخرجت في هذا المقام على ترتيبها وتفصيلها ذرية آدم من ظهره، ثم ذرية كل واحد من بنيه من ظهره؛ كما إذا فرضنا ألف صندوق بعضها في بعض في كل صندوق شيء من الجوهر فاستخرجنا بعضها من بعض.
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ} (172)[الأعراف: 172] تقرير لهم بالتوحيد والربوبية {قالُوا بَلى} [الأعراف: 172] المشهور أن بلى حرف إيجاب يجاب به النفي، فيقرر خلاف مضمونه، فلست بربكم مضمونه سلب الربوبية، وبلى قررت خلاف هذا السلب وهو إثبات الربوبية ونعم لكونها مقررة لمضمون ما قبلها لم تصلح هاهنا، وإلا كان تقريرا لسلب الربوبية/ [200/ل] وإنه كفر.
ويحكى أن ابن الأنباري (1) دعي في جماعة ليشهد على شخص، فقال بعضهم للشخص: ألا [نشهد عليك؟ فقال: نعم، فشهدوا عليه إلا ابن الأنباري امتنع، فقيل له في ذلك؛ فقال: هذه الشهادة لا تصح على موجب اللغة؛ لأنه إنما قرركم على ألا] تشهدوا عليه، كأنه قال: نعم لا تشهدوا علي.
واعلم أن حكم هذه الشهادة على موجب الفقه أنها تصح على عامي لا يفرق بين بلى ونعم دون عالم يفرق بينهما، فلعل ابن الأنباري أخذ بالأحوط الذي لا يعترض فيه/ [94 أ/م] احتمال خلاف، أو أنه أراد بيان هذا الحكم اللغوي لأصحابه.
وقد ذكر ابن الأنباري في بعض كتبه أن بلى مركبة من بل الإضرابية ولا النافية، ويتضح معناها في مواردها مطردة على ذلك، فإذا وقعت في جواب السلب كان معناها سلب سلب ما بعدها، وسلب السلب إيجاب؛ فمعناها الإيجاب، مثاله في هذه الآية لما قيل:(ألست بربكم قالوا بلى) أي بل لا لست ربنا وهو في قوة. بل أنت ربنا؛ لأن لا للسلب و «لست» للسلب وسلب السلب إيجاب، فسلب سلب الربوبية إيجاب لها، فاعلم ذلك، ثم في الآية سؤلان أحدهما أنه لو سبق للناس مقام شهدوا فيه بالتوحيد، وأخذ إقرارهم به لكانوا الآن يذكرون ذلك، وجوابه: أنهم كانوا حينئذ نفوسا، أو أرواحا مجردة، والذكر إنما هو بحاسة بدنية أو متعلقة بالبدن، والبدن وقواه ومتعلقاته إنما حدث بعد ذلك، فلذلك لم يذكروا ذلك المقام الآن، وإنما هذا السؤال كمن يقول: لو كان زيد حضر عند السلطان لكان ثوبه عليه، وهو غير لازم لجواز حضوره مجردا عن لباس،
ويحتمل أن يكون تجرد النفس شرطا في ذكر ذلك، أو تعلقها بالبدن مانعا منه، فإذا تجردت بالموت كشف عنها غطاؤها فأبصرت ما بين يديها ووراءها.
السؤال الثاني: كيف قامت عليهم الحجة الآن بذلك الإقرار وهم لا يذكرونه؟
وجوابه: أن المراد ليس إقامة الحجة عليهم الآن، بل تقوم يوم القيامة {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ} (172) [الأعراف: 172] وهم يومئذ يذكرون ذلك المقام إما بخلق الذكر فيهم أو بإزالة الموجب للنسيان، ثم لا يمتنع قيام الحجة عليهم بما لم يذكروا كما لزمهم الإيمان بما لم يدركوا، ولأن الصادق أخبرهم بوقوع ذلك المقام فلزمهم تصديقه ثم تقوم/ [201/ل] الحجة عليهم بذلك، كما لو علم الشاهد أن هذا خطه ولم يذكره.
ثم ربما ظن ظان أن الذرية إنما تكون للرجال دون النساء؛ لقوله-عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] ولم يقل من بناته، ولا من ولده، وليس كذلك بدليل قوله-عز وجل:{فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ} (36)[آل عمران: 36] وإنما قال: بني آدم، تغليبا لجانب الذكورية على ما هو المعتاد فيه.
{مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} (178) [الأعراف:
178] يحتج به الجمهور في أن الهدى والإضلال من فعل الله-عز وجل-وخلقه وأنهما ينسبان إليه من هذه الجهة.
والمعتزلة يتأولون ذلك على أنه يهدي ويضل بفعل الألطاف أو منعها، ثم إذا قيل لهم:
منع اللطف إما موجب/ [94 ب/م] للضلال فيلزمكم المحذور كما لو كان هو الخالق له، أو غير موجب له فلا يؤثر. قالوا: منع اللطف واسطة بين ما ذكرتم، وهو أنه مرجح للضلال غير موجب له، وإنما الموجب له اختيار العبد وفعله، وحينئذ يقال لهم: الموجب له فعل المكلف وحده أو مع منع اللطف، الأول باطل؛ لأنه إنما فعل شيئا يرجح وقوعه فاستحال استقلاله به بعد ذلك فتعين الثاني، وهو أن الموجب للفعل العبد مع منع اللطف؛ فيلزمكم إيقاع المقدور من قادرين، وأن ينسب إلى الله-عز وجل-من الجور الذي
تفرون منه بقدر تأثيره في الفعل بمنع اللطف.
أو يقال لهم: العبد هو الموجب الكامل للفعل، أو يشاركه فيه منع اللطف ويعود ما ذكرناه، وهذا تحقيق مع المعتزلة في البحث، وهو صعب عليهم.
{وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} (179)[الأعراف: 179] يحتج به الجمهور أيضا، وتقريره أن هذا يقتضي أن الإرادة والعلم تعلقا بأن هؤلاء للنار ثم خلقوا لأجلها، فكان تعلق الإرادة والعلم بأنهم للنار موجبا لصدور المعاصي التي هي أمارة العقاب منهم، وإلا انقلب العلم الأزلي جهلا والإرادة غير مؤثرة وإنه محال.
ويجاب بأن اللام في: «لجهنم» للعاقبة، أي: ذرأناهم للجنة على تقدير أن يطيعوا فعصوا فكانت عاقبتهم إلى النار، ثم لا نسلم أن تعلق العلم والإرادة بشيء ما يكون موجبا له؛ إذ شأن العلم الكشف، وشأن الإرادة التخصيص وإنما الإيجاب والتأثير/ [202/ل] للقدرة فلا يعترض عليها غيرها من الصفات؛ إذ لكل صفة وظيفة تختص بها، ويعترض على هذا الجواب بأن لام التعليل أكثر من لام العاقبة، فحمل هذا اللازم على الأكثر أولى.
وأما قولهم: العلم والإرادة ليسا موجبين، قلنا: نعم لكنهما يستتبعان تعلق القدرة على وفق ما تعلقا به، وإلا تناقض مقتضى الصفات الأزلية أو الأحوال أو الذات على الخلاف في ذلك، وإنه محال، مثاله: لو تعلق العلم والإرادة به بأن زيدا في النار، فالقدرة إن تعلقت بذلك فهو المطلوب، وإن تعلقت بخلافه تناقضت الصفات في مقتضاها ولزم النقص في [هذه الصفة] التي لا يوجد متعلقها أو الجمع بين المتعلقات المتنافية وأنه محال هذا بحث جيد فتدبره.
الحسنى كلها أسماء بالاصطلاح النحوي، وعلى التفسير اللغوي ليس فيها اسم إلا الله والباقي صفات: إما ثبوتية، أو سلبية، أو إضافية، أو مركبة من ذلك.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (182) [الأعراف:
182] إن قيل: استدراجهم إما إلى كمال المعصية، فتكذيبهم الآيات كفر عظيم، فلا فائدة للاستدراج، [أو إلى الإهلاك فالله-عز وجل-قادر على إهلاكهم مجاهرة على كفرهم في الحال، فلا فائدة للاستدراج].
ويجاب بأن فائدته الإملاء لهم ليؤخذوا على غرة وغفلة من غير توبة؛ كما قال-عز وجل: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (183)[الأعراف: 183]{وَمِنَ الْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} (144) [الأنعام:
144] [وحينئذ يقال] للمعتزلة: أنتم توجبون رعاية الأصلح، والأصلح لهؤلاء أن يؤخذ بقلوبهم إلى الطاعة والإيمان، لا أن يستدرجوا إلى الموت على الكفر والعصيان، لكن إن كانوا لا يقولون بوجوب رعاية الأصلح مطلقا، بل بوجوبها في مقدمات التكليف وما يتوقف عليه لم يلزمهم هذا السؤال، غير أن المشهور عنهم الإطلاق حتى التزمه/ [203/ل] بعضهم في دخول النار لأهلها، وقال: هو أصلح لهم، وقد حصل. ثم يقال:
استدراجهم إلى أخذهم على غرة وغير توبة، إما موجب لمقصوده فيلزم الجبر وعدم رعاية الأصلح، أو غير مؤثر أصلا، وهو نقص في القدرة والإرادة، وهو محال أو مرجح لمقصوده من غير إيجاب، فيلزم مقدور بين قادرين، وإعانة الله-عز وجل-لهم على فعل القبيح فيستحق من الذم ونسبة الجور إليه بقدر مشاركته في ذلك، وكله محال، فدل على صحة مذهب الجبر والتفويض.
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (185)[الأعراف: 185] في هذه الجملة مسائل: الأولى: وجوب النظر على المكلفين؛ لأنه-عز وجل-أنكر تركه على هؤلاء المكذبين، وذلك يقتضي وجوبه.
الثانية: أن النظر طريق إلى العلم بالمنظور فيه، وإلا لم يكن لإيجابه وإنكار تركه معنى،
والواقع قاطع في ذلك؛ إذ قد أدرك بالنظر علوم كثيرة.
الثالثة: أن المخلوقات بأسرها من حيث هي حكمة ومن حيث هي كل فرد فرد تدل على وجود الصانع وقدمه؛ لأن/ [95 ب/م] كل فرد من أفراد المخلوقات هو إما جوهر أو عرض على رأي المتكلمين، وهو إما هيولي أو صورة أو جسم أو عقل أو نفس على رأي الفلاسفة، وعلى كل تقدير فذلك الفرد موجود فله موجد وليس موجده نفسه، وإلا لزم الدور، فهو غيره وهو إما معدوم وهو محال إذ المعدوم لا يؤثر، أو موجود، وهو إما حادث؛ فيلزم الدور أو التسلسل، أو قديم وهو المطلوب.
وهذا مستفاد من قوله-عز وجل: {وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] أي: كل شيء من المخلوقات يدل على صانعه هذه الدلالة، والنظر إما بالبصر وهو الرؤية أو بالقلب وهو العطف والرحمة، أو البصيرة وهو المراد هاهنا، وهو ترتيب أكثر من تصديق معلوم ترتيبا خاصا لاستعلام مجهول.
{مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (187) [الأعراف:
187]، يحتج بها الجمهور على رأيهم المشهور: وهو أن الله-عز وجل-خالق الضلال.
عدد أيام الأسبوع، غير أن كل يوم منها اثنان وسبعون ألف سنة، وأن المنقضي منها إلى وقت الطوفان المائي النوحي ستة أيام وقد بقي منها يوم واحد قد انقضى منه إلى عامنا هذا وهو عام «ست عشرة وسبعمائة» للهجرة ما بينه وبين الطوفان وهو نحو ثلاثة آلاف سنة تقريبا؛ فالباقي على قوله من أيام العالم نحو تسعة وستين ألف سنة، وزعم هذا القائل أن هذا أمر مبرهن، وذكر برهانه عليه في تاريخه، غير أن هذا بعيد لوجوه يستغنى عن ذكرها بأن هذا القول دهرية صغرى، فالأشبه الأول إن شاء الله، عز وجل.
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (188)[الأعراف: 188] يعني أن علم الغيب من خواص الإله لا من شأن الرسل؛ إذ إنما شأنهم التبليغ، كما قال:{إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].
ورأيت بعض من ينسب إلى فضيلة ما يستشكل هذه الملازمة المذكورة [في الآية]، وهي الاستكثار من الخير على تقدير علم الغيب، وما ظننت أحدا يستشكل ذلك لوضوحه، فإن من علم الغيب/ [96 أ/م] علم أسباب الخير فتلقاها وأسباب الشر (فتحاماها)، ألا ترى أن من مر بأرض فعلم أن بها كنزا سعى في إخراجه لينتفع به، ولو علم أن فيها نارا محرقة أو بئرا مهلكا أو ثعبانا ناهشا حاد عنها، فهذا أمر واضح لا يخفى عن ذي لب.
{فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} (190)[الأعراف: 190][زعم بعضهم أن المراد آدم وحواء؛ كانا لا يعيش لهما ولد فقال لهما إبليس: سموه عبد الحارث وهو اسمه؛ فإنه يعيش. فسمياه، فعاش فنقم الله-عز وجل عليهما ذلك، ويحتج به من يجيز الكبائر على الأنبياء؛ لأن هذا كبيرة، وقد صدر من آدم وهو نبي، ولا برهان على ثبوت هذا عن آدم سمعي ولا نظري، غير أن ظاهر الآية ونظمها يقتضيه، فالله-عز وجل-أعلم].
وحمله بعض المفسرين على إشراك المشركين عموما بدليل أن في سياقه متصلا به:
{فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (191)[الأعراف: 190 - 191] وهو جمع يطابق كثرة المشركين لا تثنية آدم وحواء.
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ اُدْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} (195)[الأعراف: 195] احتج بها بعض المشبهة على إثبات الرجل واليد والعين والأذن لله- عز وجل-محتجا بأن الآية دلت على أن عدم هذه الجوارح صفة نقص للأصنام تمنعها من استحقاق الإلهية فإثباتها يجب أن يكون صفة كمال لله-عز وجل-مصححة لاستحقاق الإلهية عملا بموجب قيام العكس، ويجاب عنه بأن ليس معنى الآية ما فهمتم إنما معناه: أن الإنسان مع ثبوت هذه الجوارح قاصر عن رتبة الإلهية، والأصنام لفقد هذه الجوارح وغيرها/ [205/ل] قاصرة عن رتبة الإنسان، والقاصر عن الشيء أولى بالقصور عن ذلك الشيء، أو نقول: الصنم قاصر عن رتبة الإنسان، والإنسان قاصر عن الإلهية، فالصنم قاصر عن الإلهية. وهذا أبلغ في الاستدلال، وإذا أمكن حمل الآية على هذا الوجه التنزيهي لم يجز حملها على تفسيركم التشبيهي.
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (198)[الأعراف: 198] يحتج به المعتزلة على أن قوله-عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} (23)[القيامة: 22، 23] لا يقتضي رؤية الله-عز وجل وإبصاره؛ لأن الآية المذكورة تضمنت إثبات النظر المقرون بإلى مع نفي الرؤية والإبصار، فدل على أن الأول لا يلزمه الثاني.
وجوابه: أن المشار إليه في الآية هم الأصنام، كأنهم ينظرون إلى الإنسان إذا قابلهم، لكونهم مصنوعين على صورة الإنسان، و [هم] لا يبصرون إبصارا حقيقيا لكونهم جمادا، بخلاف الحي إذا نظر إلى شيء فإن إبصار ذلك الشيء يحل لا محالة عند انتفاء موانع الرؤية.
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} (199)[الأعراف: 199] وعيدي محكم أو منسوخ بآية السيف.
{وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (200) [الأعراف:
200] فيه إثبات الشيطان ونزغه وتعريضه بالإنسان في يقظته ومنامه، وإن الإنسان إذا وجد بعض ذلك يتعوذ بالله-عز وجل-من الشيطان وبذكر/ [96 ب/م] الله عز وجل-يذهب غيّه الشيطاني ويبصر رشده الرحماني.
{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (206)[الأعراف: 206] إشارة إلى الملائكة أو إلى الملأ الأعلى منهم.
واحتج به من رأى الملائكة أفضل من البشر؛ لأنهم وصفوا بعندية مضافة إلى الله-عز وجل-دون البشر، فكانوا أشرف وأفضل.
[ويحتج به من يثبت الجهة حملا للعندية على المكانية، وحملها خصمه على العندية المكانية القربية التشريفية، والله-عز وجل-أعلم بالصواب].
…