المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في سورة براءة - الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌ترجمة المصنف

- ‌وصف المخطوط

- ‌مطلب في الفرق بين الخلق والكسب

- ‌وقد بقي الكلام بين الجبرية والكسبية:

- ‌مبحث العموم والخصوص

- ‌القول في الفاتحة

- ‌القول في سورة البقرة

- ‌القول في سورة آل عمران

- ‌القول في سورة النساء

- ‌القول في سورة المائدة

- ‌القول في سورة الأنعام

- ‌القول في سورة الأعراف

- ‌القول في سورة الأنفال

- ‌القول في سورة براءة

- ‌القول في سورة يونس

- ‌القول في سورة هود

- ‌القول في سورة يوسف

- ‌القول في سورة الرعد

- ‌القول في سورة إبراهيم

- ‌القول في سورة الحجر

- ‌القول في سورة النحل

- ‌القول في سورة سبحان

- ‌القول في سورة الكهف

- ‌القول في سورة مريم

- ‌القول في سورة طه

- ‌القول في سورة الأنبياء

- ‌القول في سورة الحج

- ‌القول في سورة المؤمنون

- ‌القول في سورة النور

- ‌القول في سورة الفرقان

- ‌القول في سورة الشعراء

- ‌القول في سورة النمل

- ‌القول في سورة القصص

- ‌القول في سورة العنكبوت

- ‌القول في سورة الروم

- ‌القول في سورة لقمان

- ‌القول في السورة السجدة

- ‌القول في سورة الأحزاب

- ‌القول في سورة سبأ

- ‌القول في سورة الملائكة

- ‌القول في سورة يس

- ‌القول في سورة الصافات

- ‌القول في سورة ص

- ‌القول في سورة الزمر

- ‌القول في سورة غافر

- ‌القول في سورة فصلت

- ‌القول في سورة الشورى

- ‌القول في سورة الزخرف

- ‌القول في سورة الدخان

- ‌القول في سورة الجاثية

- ‌القول في سورة الأحقاف

- ‌القول في سورة محمد

- ‌القول في سورة الفتح

- ‌القول في سورة الحجرات

- ‌القول في سورة ق

- ‌القول في سورة الذاريات

- ‌القول في سورة الطور

- ‌القول في سورة النجم

- ‌القول في سورة القمر

- ‌القول في سورة الرحمن

- ‌القول في سورة الواقعة

- ‌القول في سورة الحديد

- ‌القول في سورة المجادلة

- ‌القول في سورة الحشر

- ‌القول في سورة الممتحنة

- ‌القول في سورة الصف

- ‌القول في سورة الجمعة

- ‌القول في سورة المنافقين

- ‌القول في سورة التغابن

- ‌القول في سورة الطلاق

- ‌القول في سورة التحريم

- ‌القول في سورة الملك

- ‌القول في سورة (ن)

- ‌القول في سورة الحاقة

- ‌القول في سورة المعراج

- ‌القول في سورة نوح

- ‌القول في سورة الجن

- ‌القول في سورة المزمل

- ‌القول في سورة المدثر

- ‌القول في سورة القيامة

- ‌القول في سورة الإنسان

- ‌القول في سورة المرسلات

- ‌القول في سورة عمّ

- ‌القول في سورة النازعات

- ‌القول في سورة عبس

- ‌القول في سورة التكوير

- ‌القول في سورة الانفطار

- ‌القول في سورة المطففين

- ‌القول في سورة الانشقاق

- ‌القول في سورة البروج

- ‌القول في سورة الطارق

- ‌القول في سورة الأعلى

- ‌القول في سورة الغاشية

- ‌القول في سورة الفجر

- ‌القول في سورة البلد

- ‌القول في سورة الشمس

- ‌القول في سورة الليل

- ‌القول في سورة الضحى

- ‌القول في سورة ألم نشرح لك صدرك

- ‌القول في سورة التين

- ‌القول في سورة اقرأ

- ‌القول في سورة القدر

- ‌القول في سورة البينة

- ‌القول في سورة الزلزلة

- ‌القول في سورة العاديات

- ‌القول في سورة القارعة

- ‌القول في سورة التكاثر

- ‌القول في سورة العصر

- ‌القول في سورة الهمزة

- ‌القول في سورة الفيل

- ‌القول في سورة قريش

- ‌القول في سورة الماعون

- ‌القول في سورة الكوثر

- ‌القول في سورة الكافرين

- ‌القول في سورة النصر

- ‌القول في سورة «تبت»

- ‌القول في سورة الإخلاص

- ‌القول في المعوذتين

الفصل: ‌القول في سورة براءة

‌القول في سورة براءة

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اِسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} (6)[التوبة: 6] يحتج به الصوفية، وقد سبق القول فيه.

{فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (11)[التوبة: 11] يحتج به من رأى تكفير تارك الصلاة تكاسلا، وهو مذهب أحمد، وتقريره أنه علق كونهم إخواننا في الدين على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بحرف إن، والمعلق بها عدم عند عدم ما علق عليه عملا بموجب مفهوم الشرط، فكونهم إخواننا في الدين منتف عند انتفاء إقامتهم الصلاة، وذلك يقتضي كفرهم؛ لأن المؤمنين إخواننا وهؤلاء ليسوا إخواننا، فهؤلاء ليسوا مؤمنين، وأكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«بين العبد والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر» حديث صحيح؛ ولأنه ركن يدخل في الإسلام بفعله فخرج منه بتركه كالشهادتين.

واعترض عليه بأن الآية في الكفار الأصليين ونحوهم بعلة الكفر، وترك الصلاة وغيرها من أعمال الكفار، فلا يلزم مثله في غيرهم.

وعن الحديث بحمله على التغليظ أو كفر النعمة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة» (2) ونحوه من العمومات المانعة من تكفير تارك الصلاة.

وعن القياس: بأنا لا نسلم دخوله في الإسلام بفعل الصلاة، سلمناه لكن لا نسلم أن كفره بترك الشهادتين معلل بأنه يدخل في الإسلام بهما، بل لأن امتناعه منهما دل على كفر باطن؛ فحكم بكفره لذلك.

وقد نقل عن أحمد أنه رجع عن هذا القول إلى موافقة باقي الأئمة.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ}

ص: 312

{عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (28) / [99 أ/م][التوبة: 28] فيه أن شعائر الله-عز وجل-يجب تعظيمها، ولا يتسامح فيها بجعل يؤخذ من الكفار، وقد جرت عادة اليهود ببيت المقدس أن يدخلوا المسجد فيصلون إلى قبة/ [212 ل] الصخرة آمنين يرفعون أصواتهم بكتابهم يجعل يبذلونه لولي الأمر، وهذه الآية نص أو كالنص في منع ذلك.

{وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ اِبْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ} (30)[التوبة: 30]، اليهود فهاهنا طائفة مخصوصة منهم يقال لهم: العنابة فيما أقول، وليس ذلك قولا لجميعهم، وإنما زعموا ذلك في عزير؛ لأن بخت نصر لما أحرق التوراة أملاها عزير من حفظه، فقالوا: ما حفظها إلا وهو ابن الله، تعالى الله عن قولهم.

ويحكى عن ابن كمونة شارح التلويحات السهروردية أنه مر على قارئ يقرأ {وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اللهِ} [التوبة: 30] فقال والله، ما قالت اليهود هذا، فتبعه من سمعه من المسلمين ليقتلوه، فأعجزهم وتحصن منهم.

وهذا جهل منه من وجهين:

أحدهما: حمل اللام في اليهود على الاستغراق، وإنما هي للعهد كما قلنا.

الثاني: جهله بمقالات أهل دينه وفرقهم، ولو عرف أن ذلك مقالة طائفة من اليهود لما أنكر.

وأما النصارى فقد سبق القول معهم غير مرة {اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} (31)[التوبة: 31] أما المسيح فاتخذوه ربا معبودا بالحقيقة، وأما الأحبار لليهود والرهبان للنصارى؛ فإنما اتخذوهم أربابا مجازا، لأنهم أمروهم بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وإنكار رسالته، فأطاعوهم، وغير ذلك مما أطاعوهم فيه، فصاروا كالأرباب لهم بجامع الطاعة.

والنصارى يزعمون أن المسيح قال لتلاميذه عند صعوده عنهم ما حللتموه فهو محلول في السماء، وما ربطتموه فهو مربوط في السماء فمن ثم إذا أذنب أحدهم ذنبا جاء

ص: 313

بالقربان إلى البترك أو الراهب، وقال. يا أبونا، اغفر لي: بناء على أن خلافة المسيح مستمرة فيهم، وأنهم أهل الحل والعقد في السماء والأرض، على ما نقلوه عن المسيح، وهو من ابتداعاتهم في الدين {اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} (31) [التوبة: 31] بدليل قول المسيح: {وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النّارُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ} (72)[المائدة: 72].

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33)[التوبة: 33] أي على جميع الأديان والملل بالحجة والسيف حيث انتهى حكمه. وتأول/ [213/ل] عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-هذه الآية في موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن رسول الله لم يمت ولن يموت حتى يظهر الله على الدين كله، كما وعده، وكان تأويلها إظهار أمته بدينه على الأمم والأديان/ [99 ب/م] لأن الكلمة والدعوة له صلى الله عليه وسلم والأمة بسيفه يضربون وببركته ينتصرون، فقد تحقق وعد الله-عز وجل-له ولو كره الكافرون.

{إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا} [التوبة: 40].

احتج به أهل السّنّة على فضل أبي بكر-رضي الله عنه-من وجوه:

أحدها: النص على ثبوت صحبته حتى قال بعض العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر؛ لتكذيبه النص المتواتر القاطع بإثباتها، بخلاف من أنكر صحبة غيره لعدم ذلك، وفيه نظر؛ لأن غيره كعمر وعثمان وعلي وباقي العشرة ثبتت صحبتهم بالتواتر، وهو قاطع أيضا فإنكار مدلوله كفر.

الوجه الثاني: قوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا} [التوبة: 40] فكان له في هذه المعية اختصاص لم يشاركه فيها صحابي. وقد يقال بأن هذا التشريف حصل لجميع الصحابة

ص: 314

بقوله-عز وجل: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ} (35)[محمد: 35] غير أن لقائل أن يقول: معية أبي بكر [رضوان الله عنه] أخص من هذه، فيمتاز بها.

الوجه الثالث: {ثانِيَ اِثْنَيْنِ} [التوبة: 40] قالوا: فيه إشارة إلى شيئين:

أحدهما: أنه ثانيه من بعده في الإمرة.

الثاني: أن اسمه لم يفارق اسمه؛ إذ كان يقال له: خليفة رسول الله، حتى توفي، فقيل لمن بعده-وهو عمر-رضي الله عنه: أمير المؤمنين، وانقطعت خصيصة {ثانِيَ اِثْنَيْنِ} [التوبة: 40].

الوجه الرابع: {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] قال بعضهم: الضمير في (عليه) لأبي بكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تفارقه السكينة أبدا حتى يحتاج إلى نزولها عليه، وإنما أنزلت على أبي بكر-رضي الله عنه-وهو ضعيف، أما أولا فلقوله-عز وجل:

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (26)[الفتح: 26] فقد أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم السكينة مع ما ذكروه من عدم مفارقتها له، ولا امتناع من أن يزاد سكينة على سكينة، ونورا على نور، وأما ثانيا:

فلأن ذلك يقتضي أن الضمير في {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها} [التوبة: 40] لأبي بكر أيضا، وهو خلاف الظاهر/ [214/ل] بل القاطع، ولا أظن أحدا قال بذلك.

أما الشيعة فطعنوا على أبي بكر-رضي الله عنه-من الآية بوجه واحد، وهو قوله:

{لا تَحْزَنْ} [التوبة: 40] دل على أنه حزن لأجل طلب الكفار لهما مع أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعين الله تحت رعاية الله، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بأنه سيظهر على أعدائه ويظهر دينه على جميع الأديان؛ فحزن أبي بكر والحالة هذه، إما شك في هذا الخبر، أو ضعف منه وخور.

قالوا: وإنما الشجاع المؤمن واللبيب الموقن علي بن أبي طالب-رضي الله عنه حيث كان حينئذ نائما على فراش النبي صلى الله عليه وسلم/ [100 أ/م] معرضا نفسه من أيدي الكفار لشرب كؤوس الحمام، فما شك وما خار، ولا تبلد ذهنه ولا حار.

وأجاب أهل السّنّة بأن حزن أبي بكر-رضي الله عنه-لم يكن ضعفا ولا شكا، وإنما

ص: 315

كان رقة غالبة وشفقة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك عن شك أو ضعف لكان أولى ما صدر منه يوم بدر حين قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد» (1) وأبو بكر آخذ بردائه يقول: كفاك مناشدتك ربك، إن الله سينجز لك ما وعدك. وهذا غاية الشجاعة، والإيمان ثبوت الجنان عند قراع الأقران.

{عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ} (43)[التوبة: 43] يحتج بها على أمرين:

أحدهما: كرامة النبي صلى الله عليه وسلم على ربه؛ حيث بدأه بالعفو قبل العتاب. وقيل: لولا ذلك لتقطع قبله صلى الله عليه وسلم فرقا وخشية من الله-عز وجل.

الثاني: الخطأ في الاجتهاد حيث أذن لهم في التخلف عن الغزو في غير موضع الإذن، بدليل أنه عوتب عليه؛ وجوابه ما سبق في آخر الأنفال.

{* وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ اِنْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ} (46)[التوبة: 46] فيه مسائل:

الأولى: إثبات الكراهة صفة لله-عز وجل-ثم هل هي ذاتية أو فعلية؟ فيه خلاف، ويحتمل أن كراهته للشيء عبارة عن سلب إرادته له، أو عن إرادة/ [215/ل] سلبه.

الثانية: أن تثبيط هؤلاء هو تحليل عزائمهم بما يخل [ق: في قلوبهم] من دواعي القعود والصوارف عن الخروج، ثم إن تثبيطه لا بد وأن يكون مؤثرا، إما وحده فيكون حجة للمجبرة، أو مع فعل العبد كما يقوله المعتزلة؛ فيلزم المقدور بين قادرين واستحقاق جزء من التجويز، بحسب للتثبيط من التأثير وهما باطلان، وقد سبق تقرير هذا في آخر الأعراف.

الثالثة: {وَقِيلَ اُقْعُدُوا} [التوبة: 46] ظاهره التناقض مع قوله لهم {اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً} [التوبة: 41] وجوابه: أن قوله {اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً} [التوبة: 41] بلسان التكليف، و {وَقِيلَ اُقْعُدُوا} [التوبة: 46] بلسان التقدير والتكوين؛ فلا تناقض.

{قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (51)[التوبة: 51] هذا أصل في التفويض والتسليم لتقدير العزيز العليم،

ص: 316

وهو عام في مصائب الدنيا والدين غير أن ما لا كسب للعبد فيه، كالمرض والموت-لا لائمة عليه فيه، وما له فيه كسب كالمعاصي تلحقه فيه اللائمة باعتبار كسبه على ما عرف من رأى الكسبية والمجبرة.

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ} (66)[التوبة: 65 - 66] قوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة: 66] يحتمل أنه إخبار عن كفرهم بأسباب معروفة، ويحتمل أنه إنشاء للحكم بكفرهم عقب استهزائهم/ [100 ب/م] فيحتج به على أن من استهزأ بالله أو رسول من رسله أو بشيء من كتبه المنزلة-كافر، ولا نعلم فيه خلافا.

{فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ} (77)[التوبة: 77] فيها إشارة إلى أن الكذب وخلف الوعد الحرام يعقب النفاق؛ [لأن هؤلاء عقبوا النفاق] بخلف الوعد والكذب، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم:«أربع من كن فيه فهو منافق، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق: من إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» وانظر إلى هذه المناسبة، وهي أن الأربع المذكورة فيها معنى النفاق من مخالفة الظاهر للباطن، وهو ظاهر في الثلاث الأول، وأما الرابعة فلأن الإنسان في حال/ [216/ل] اعتداله وعدم الخصومة يعتقد فيه تقوى وعفاف واقتصاد باطن، فإذا فجر في خصومته تبين ظاهره مخالفا لما اعتقد في باطنه.

{وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] يستدل به على أن الجملة الشرطية خبرية يلحقها الصدق والكذب؛ لأن كذبهم وإخلافهم إنما هو في قوله: {*وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصّالِحِينَ} (75)[التوبة: 75] وهي قضية شرطية، وقد سمى تركهم مضمونها إخلافا وكذبا، وذلك من خواص الخبر فدل على ما قلناه.

ص: 317

{إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] يحتج به على رؤية الله-عز وجل-وقد سبق نظائره.

{اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} (80)[التوبة: 80].

هذا ونحوه من المقادير العددية نحو {إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} (4)[يوسف: 4].

و{*وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} (12)[المائدة: 12].

و{إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} (23)[ص: 23].

و{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} (4)[النور: 4] يتضمن من حيث هو مفهوما عدديا، وهو انتفاء الخبر أو الحكم عما زاد عليه أو نقص على خلاف في هذا المفهوم، أما هذا الموضع بعينه فلم يرد به المفهوم؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر لهم لزدت» (1)، وإنما خرج مخرج المبالغة والتكثير؛ لأن العرب لهجت بالسبعين كثيرا حتى تداولوها في معرض التكثير.

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ} (81)[التوبة: 81] فيه إشارة إلى فقه العباد والمجتهدين والمجاهدين أنفسهم في ذات الله-عز وجل-المتجشمين متاعب الدنيا خوفا من متاعب الآخرة. وذلك مستفاد من قياس العكس؛

ص: 318

لأنه جعل من عرض نفسه لنار الآخرة بالسلامة من حر الدنيا لا يفقه، فاقتضى أن عكسه وهو من صبر على حر الدنيا في الطاعة خوفا من حر الآخرة فقيه، وهو كذلك.

{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} (82)[التوبة: 82] / [101 أ/م] احتج بها الفريقان أما المعتزلة؛ فلأنه جعل بكاءهم بعلة من جهتهم، وهي أفعالهم، فدل على أنهم خالقوها وموجدوها.

وأما الجمهور/ [217/ل] فقالوا: هو جزاء على كسبهم كما صرح به في الآية، ولا يلزم من الكسب الخلق.

{فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ} (83)[التوبة: 83] أي لعلة رضاكم بالقعود، فيحتج به وبأمثاله نحو:{وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ} (43)[النمل: 43] و: «إنها من الطوافين» (1) على أن «إن» تفيد التعليل.

{وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} (85)[التوبة: 85] دلت على أن المال والولد عذاب في الدنيا على خلاف ما في ظن الناس أنها نعمة وراحة، ثم يستفاد من هذه، ومن قوله-عز وجل:{الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (46)[الكهف: 46] أن زينة الدنيا عذاب وينتظم القياس هكذا: المال والبنون زينة الدنيا والمال والولد عذاب. أو: ليس براحة في الدنيا ينتج أن زينة الدنيا عذاب. أو: ليس براحة في الدنيا.

ولقائل أن يقول: العذاب إنما هو سياسة المال، وأما الانتفاع به فهو نعيم لا عذاب، والتقدير حينئذ: إنما يريد الله أن يعذبهم بسياستها وحفظها في الدنيا، وحينئذ لا ينتج

ص: 319

القياس؛ إذ يبقى هكذا: المال والولد زينة، وسياسة المال والولد عذاب، فلا يتحد الأوسط فلا ينتج.

{وَالسّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100)[التوبة: 100] والأخرى السابقة: {لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (88)[التوبة: 88] احتج بها الجمهور على فضل الصحابة-رضي الله عنهم-وأنهم مرضي عنهم، ومن أهل الجنة لتصريحها بذلك وعمومها فيهم.

واعترض الشيعة [أبعدهم الله] بأن عمومها مخصوص بمن عادى أهل البيت وخالف الإمام المنصوص عليه منهم، وأجيب بأن أحدا من الصحابة لم يعاد أهل البيت ولا خالف إماما منصوصا عليه منهم.

{وَقُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (105)[التوبة: 105] فيه إشارة إلى معنى قوله-عز وجل: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} (143)[البقرة: 143] وإلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم:

«أنتم شهداء الله في الأرض» (1).

{وَقُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (105)[التوبة: 105] فيه إثبات المعاد.

{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}

ص: 320

(106)

[التوبة: 106] التردد هاهنا بالنسبة إلى السامعين، أي: لا تدرون أي الأمرين يفعل بهم، أما المتكلم سبحانه وتعالى فلا يلحقه التردد في شيء، ولا يخفى عليه شيء، وهذه/ [101 ب/م] ترجع إلى صفة العلم.

{ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} (113)[التوبة: 113] إلى {وَما كانَ اِسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ} (114)[التوبة: 114] فيه احتراز المتكلم في كلامه عما يرد عليه في حكاية أو تعليل أو نظم أو قياس، وإجابته عن سؤال يتوقع وروده، وبيانه أنه عز وجل-لما نهى النبي والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين قدر أن قائلا قال: فهذا إبراهيم استغفر لأبيه المشرك بقوله: {وَاِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ} (86) [الشعراء:

86] أفلا نتأسى به؟ ويقال: إن هذا وقع من بعض الناس، فأجاب الله-عز وجل-عنه بأن ذاك كان لأن أباه وعده أن يؤمن، فلما أصر على كفره تبرأ منه وترك استغفاره له، وقد يقال: إن إبراهيم لم يرد باستغفاره لأبيه حقيقة الاستغفار، إنما دعا له بما هو لازم المغفرة، وهو الإيمان، كأنه قال: اهد أبي ليصير أهلا للمغفرة، يدل على هذا قوله:

{وَاِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ} (86)[الشعراء: 86] فلما علل بضلاله دل على أنه إنما دعا له بضد الضلال، وهو الهدى والإيمان.

{وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (115)[التوبة: 115] احتج بها الفريقان، أما الجمهور فلأنه-عز وجل-أسند الإضلال والهداية إلى نفسه.

وأما المعتزلة فلأنه أخبر أن حجته قائمة عليهم بأنه بين لهم ما يتقون، فخالفوا ولم يتقوا، وقد عرف الجواب. وهذا من المتشابه في أحكام الأفعال.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ} (119)[التوبة: 119] يقال:

إن أبا بكر-رضي الله عنه-يوم السقيفة لما طلبت الأنصار الإمرة استدل عليهم بهذه الآية. وتقريره: إننا نحن الصادقون وقد أمرتم أن تكونوا مع الصادقين، فأنتم أمرتم أن تكونوا معنا؛ فتكونون تبعا لنا.

ص: 321

أما الأولى/ [219/ل] فلقوله عز وجل في سورة الحشر في صفة المهاجرين:

{لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} (8)[الحشر: 8].

وأما الثانية/فلهذه الآية.

واعترض على هذا الاستدلال بوجوه: أحدها: لا نسلم أن الصدق وصف خاص بالمهاجرين، بل هو وصف عام للصحابة وغيرهم من أهل التقوى: إذ كل متق صادق، لقوله- عز وجل:{*لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَاِبْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ} [البقرة: 177].

فذكر خصال التقوى، ثم قال:{أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. وقال-عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (23) [الأحزاب:

23] وكان أكثرهم من الأنصار يوم أحد.

الوجه الثاني: أن المأمور بالكون مع الصادقين هم عموم الذين آمنوا من المهاجرين والأنصار، فلو صح الاستدلال المذكور للزم إما اختصاص الأنصار بالإيمان دون المهاجرين أو أمر المهاجرين بأن يكونوا مع أنفسهم، وكلاهما محال.

والوجه الثالث: / [102 أ/م] لا نسلم أن الكون مع الصادقين يقتضي متبوعيتهم، ولا تبعية الكائن معهم، بل هما سواء.

{* وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122) [التوبة:

122] يحتج بها على أمور أحدها: قبول خبر الواحد؛ لأن الطائفة تصدق على الواحد، وقد جعل منذرا، ووجب الحذر بإخباره، ولولا قبول خبره لما كان كذلك.

واعترض عليه: بأنا لا نسلم بأن الطائفة تصدق على الواحد، سلمناه لكنها تصدق

ص: 322

عليه وعلى غيره، إما بالاشتراك أو التواطؤ أو الحقيقة والمجاز، فيكون مجملا دلالة له، ثم إنذاره وتحذيره يحتمل أنه إنما يقبل بقرينة، فلا يستقل وحده بوجوب القبول.

الأمر الثاني: صحة فرض الكفاية: وهو إيجاب الفعل على جميع المكلفين مع سقوطه بفعل بعضهم. وتقريره من الآية: أنه خص المؤمنين على نفير طائفة منهم للتفقه في الدين، وذلك يقتضي تكليف جميعهم بما يكفى فيه فعل طائفة منهم، وهو المطلوب.

الأمر الثالث: أن التفقه في الدين فرض كفاية، وهو واضح من الآية.

{وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (124)[التوبة: 124] هذه ونظائرها تدل على أن الإيمان يقبل الزيادة والنقصان؛ خلافا لقوم، وأصل الخلاف أن حقيقة الإيمان ما هي؟ إن قيل: هو التصديق المجرد لم يقبلهما؛ إذ لا تفاوت في التصديق الجازم، وإن قيل: هو التصديق مع العمل قولا وفعلا-قبلهما؛ لأن القول والعمل/ [220/ل] جزء الإيمان وهما يقبلان الزيادة والنقصان، فجزء الإيمان يقبلهما، فالإيمان يقبلهما.

ثم يعترض على المذهب الأول بأن الإيمان هو التصديق الاعتقادي لا العلمي، والاعتقادي يقبل التفاوت قوة وضعفا، وبحسب قبوله للتشكيك وعدمه. سلمنا أن الإيمان هو التصديق العلمي. لكن قد سبق في قصة إبراهيم-عليه السلام-وسؤاله أن يرى إحياء الموتى أن العلم على أضرب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وهذه مراتب متفاوته في القوة والضعف والزيادة والنقص.

وقول المتكلمين: إن العلم لا يقبل التفاوت إنما يريدون به العلم النظري، أما باعتبار مراتبه المذكورة فيقبله.

{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (126)[التوبة: 126] فيه إشارة إلى أن الفتن والبلايا والمحن قد تكون زواجر وروادع وتنبيهات للإنسان على ترك ذنبه والإقبال على ربه-عز وجل-فمن وفق فعل.

ص: 323

القرآن، والإجابة لداعي الإيمان.

وهو حجة الجمهور على خلق الأفعال بواسطة خلق الدواعي والصوارف.

قالت المعتزلة: إنه لم يصرف قلوبهم إلا بعد أن انصرفوا بأنفسهم، فكان صرف قلوبهم عقوبة على انصرافهم الاختياري.

وأجيب بأن انصرافهم مكسوب لهم، وصرف قلوبهم مخلوق لله-عز وجل-على ما عرف.

{لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (128)[التوبة: 128] الآيتين تضمنتا التوحيد والنبوة، أعني رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبرهانهما، سيأتي إن شاء الله-عز وجل-مع ما مضى به.

ص: 324