الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب المفلس]
قال:
باب المفلس ش: المفلس في عرف الفقهاء من فلسه الحاكم بالحجر عليه، وسببه أن يكثر دينه على ماله، ويطلب ذلك الغرماء، على ما يأتي إن شاء الله تعالى، والفلس في اللغة ذهاب المال غير الفلوس، قال ابن فارس: يقال: أفلس الرجل. إذا صار ذا فلوس، بعد أن كان ذا دراهم، وقيل: هو العدم، يقال: أفلس بالحجة إذا عدمها، وقيل: هو من قولهم: تمر مفلس. إذا خرج منه نواه، فهو خروج الإنسان من ماله، وعلى هذا سمي المفلس مفلسا، وإن كان له مال يضيق عن دينه، لأن ماله مستحق للصرف، أشبه من لا مال له، أو باعتبار ما يؤول إليه، لأنه يؤول إلى أنه لا شيء له.
2039 -
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله إن المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: «ليس ذلك المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد ظلم هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم فرد عليه،
ثم طرح في النار» فأخبرت الصحابة رضي الله عنهم عن المفلس في عرفهم ولغتهم، وهو الذي لا شيء له، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا الفلس كلا فلس، إنما الفلس المعتبر، الذي معه الحسرة العظيمة، والفقر الدائم، هو فلس الآخرة، حتى إن فلس الدنيا عنده بمنزلة الغنى.
2040 -
ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس» والله أعلم.
قال: وإذا فلس الحاكم رجلا فأصاب أحد الغرماء عين ماله فهو أحق به.
ش: إذا ثبت على شخص دين حال ببينة أو إقرار، وماله أقل منه - قال ابن حمدان: أو قدره، ولا كسب له، ولا ما ينفق عليه منه، أو خيف تصرفه فيه. انتهى - فسأل
غرماؤه - قال في التلخيص: أو بعضهم ودينهم أكثر من ماله، وحكى ابن حمدان ذلك قولا. انتهى - الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع ماله [في دينه.
2041 -
فروى البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ بن جبل ماله، وباعه] في دين كان عليه، وكان معاذ شابا حليما سمحا، من أفضل شباب قومه، ولم يكن يمسك شيئا، فلم يزل يدان، حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلم غرماءه، فلو تركوا أحدا من أجل أحد لتركوا معاذا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ماله، حتى قام معاذ بغير شيء» .
2042 -
وكذلك حجر عمر رضي الله عنه على الأسيفع، أسيفع جهينة.
فإذا حجر الحاكم عليه - وهو معنى تفليسه له - ترتب بذلك أحكام (أحدها) تعلق حق غرمائه بماله، فلا يقبل إقراره عليه، ولا يصح تصرفه المستأنف فيه، إلا بالعتق على رواية، وخرج بقيد «المستأنف» الرد بالعيب فيما اشتراه قبل الحجر، والفسخ لخيار مشترط كذلك، فإن تصرفه في ذلك صحيح، لكن هل يتقيد بالأحظ؟ وفي التلخيص أنه قياس المذهب بناء على إجبار المفلس على اكتساب المال بما لا منة عليه فيه، أو لا يتقيد بذلك، وهو المشهور، لعدم استقرار العقد إذا؟ فيه قولان، وبقيد «المال» التصرف في الذمة، وكذلك التصرف في البضع، وفي الدم، وفي
النسب، (والحكم الثاني) بيع الحاكم ماله، وقسم ثمنه بين غرمائه لما تقدم، (الثالث) : انقطاع المطالبة عنه ما دام كذلك، لظهور عسرته، ووجوب إنظاره إلى ميسرته.
(الرابع) : أن من وجد من الغرماء متاعه بعينه عنده فهو أحق به من بقية الغرماء، بمعنى أن له فسخ البيع، وأخذ سلعته، بشروط تذكر إن شاء الله تعالى، وهذه مسألة الكتاب.
2043 -
وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، أو إنسان قد أفلس فهو أحق به» وفي رواية متاعه بعينه متفق عليهما.
2044 -
ومن ثم قضى بذلك عثمان رضي الله عنه، رواه عنه البيهقي، ولقد بالغ إمامنا رحمه الله في اتباع السنة كما هو دأبه، فقال: لو أن حاكما حكم أنه أسوة الغرماء، ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث، رد حكم الحاكم. ومقتضى كلام الخرقي أن الفسخ والرجوع لا يفتقر إلى حكم حاكم، وهو كذلك، لثبوت ذلك بالنص، فهو كخيار المعتقة ومن ثم أجاز أحمد نقض حكم من حكم بخلاف ذلك، وعموم كلامه يشمل البيع، والقرض، والدابة، والأرض المؤجرة إذا أفلس المستأجر قبل مضي مدة لمثلها أجر، وكذلك الصداق، كأن يصدق امرأة عينا، ثم يستحق الرجوع فيها أو في نصفها، بأن ينفسخ النكاح لسبب من جهتها كردتها، أو من جهته - كطلاقه - وقد أفلست فإنه يرجع في عين ماله بشرطه.
وقوة كلام المصنف يقتضي أن الرجوع في عين المال مختص ببيع ونحوه وجد قبل الفلس، فيخرج ما وجد بعده فلا يرجع فيه، وهو أحد الوجوه، لدخوله على بصيرة أو تفريطه، (والثاني) : يرجع أيضا، لإطلاق الخبر، (والثالث) : يفرق بين العلم بالفلس وعدمه، وهو حسن.
(تنبيه) : «الأسيفع» تصغير «أسفع» والسفعة في اللون السواد، والله أعلم.
قال: إلا أن يشأ تركه، ويكون أسوة الغرماء.
ش: يعني أن البائع إذا وجد ماله بعينه عند من أفلس، فإنه يخير، إن شاء رجع فيه لما تقدم، وإن شاء لم يرجع، وكان أسوة الغرماء، لأن الشارع جعله أحق به وأولى به، ولم يحتم ذلك عليه، وظاهر كلام المصنف أنه لو بذل له الغرماء الثمن، لم يلزمه القبول، لأنه لم يستثن ذلك، ونص عليه أحمد، لظاهر الخبر، ودفعا للمنة عنه، [نعم إن بذلوا الثمن للمفلس فبذله له امتنع عليه الفسخ، لزوال سببه وهو عجزه عن أخذ الثمن] ، ومن ثم لو أسقط الغرماء حقوقهم، أو وهب له مال بحيث يمكن أداء الثمن زال الفسخ، والله أعلم.
قال: فإن كانت السلعة قد تلف بعضها، أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها، أو نقد بعض ثمنها، كان البائع فيها كأسوة الغرماء.
ش: قد تقدم أن أحد الغرماء إذا وجد متاعه بعينه عند من فلسه الحاكم أنه أحق به، لكن ذلك بشروط (أحدها) أن يكون المتاع باقيا بحاله، لم يتلف بعضه، فإن تلف بعضه - كأن تلف بعض الدار، أو الثوب، أو الثمرة المبيعة
مع الشجرة، أو قطعت بعض أطراف العبد، ونحو ذلك - فلا رجوع للبائع، بل يكون أسوة الغرماء، نظرا للخبر، فإنه لم يجد المتاع بعينه، فلو تعدد المبيع، كعبدين أو ثوبين، فتلف أحدهما فهل يمتنع الرجوع رأسا، أو يرجع في الموجود، ويضرب مع الغرماء بقسط التالف من الثمن؟ فيه روايتان، ولعل مبناهما أن العقد هل يتعدد بتعدد المبيع أم لا؟ وحكم انتقال البعض ببيع ونحوه حكم التلف، نعم إن عاد المنتقل إلى ملك المفلس فهل هو كالذي لم يزل، أو كالذي لم يعد؟ فيه وجهان مشهوران، وحكى أبو محمد وجها ثالثا: إن عاد بسبب جديد - كبيع أو هبة، ونحوهما فكالذي لم يعد، وإن عاد بفسخ كالإقالة، والرد بالعيب - فكالذي لم يزل، وجعل أبو محمد من صور تلف البعض إذا استأجر أرضا للزرع، فأفلس بعد مضي مدة لمثلها أجرة، تنزيلا للمدة منزلة المبيع، ومضي بعضها بمنزلة تلف بعضه، وقال القاضي، وصاحب التلخيص: له الرجوع، ويلزمه تبقية زرع المفلس بأجرة المثل، ثم هل يضرب بها
مع الغرماء - وهو المحكي عن القاضي - أو يقدم بها عليهم - وهو الذي في التلخيص -؟ على وجهين.
وقد فهم من كلام الخرقي بطريق التنبيه فيما إذا تلف المبيع جميعه، فإنه لا رجوع، وكذلك لو انتقل عنه، وفهم من كلامه أيضا أن نقص الصفات - كالهزال، ونسيان صناعة ونحو ذلك - لا يمنع الرجوع، وهو كذلك، لأن المتاع موجود بعينه، وإذا أخذ إنما يأخذ بجميع حقه، واختلف في وطء البكر، وجرح العبد، هل هو من فقد الصفات فلا يمنع الرجوع - وبه قطع أبو بكر - أو من فقد الأجزاء فيمنع؟ على وجهين، أما وطء الثيب فبمنزلة فقد الصفات على المشهور، وأجرى ابن أبي موسى فيه الوجهين، وإذا قيل بالرجوع مع الجرح، فإن كان الجرح مما لا أرش
له، كالحاصل بفعل بهيمة أو المفلس، ونحو ذلك فلا شيء له مع الرجوع، وإن كان مما له أرش كالحاصل بفعل أجنبي، نظر ما نقص من قيمته، فرجع بقسطه من الثمن، قاله أبو محمد، وقياس جعله من باب فقد الصفات، أنه لا شيء له مطلقا.
(تنبيه) : إذا خلط المبيع أو بعضه بما لا يتميز منه - كأن كان زيتا فخلطه بمثله، ونحو ذلك - فقال أبو محمد: يسقط حقه من الرجوع، لأنه لم يجد عين ماله، [وقد يقال: إنه ينبني على الوجهين في أن الخلط هل هو بمنزلة الإتلاف أم لا؟ ولا نسلم أنه لم يجد عين ماله] ، بل وجده حكما.
(الشرط الثاني) : أن لا يزيد المتاع زيادة متصلة، كالسمن، وتعلم صناعة، ونحو ذلك، على اختيار الخرقي، والشيرازي، ولم يعتبر ذلك الإمام في رواية الميموني، بل جوز للبائع الرجوع بالزيادة مجانا، ومناط ذلك أن المبيع مع الزيادة المتصلة هل خرج عن أن يكون بعينه أم لا؟ وخرج من كلام الخرقي الزيادة المنفصلة، فإنها لا تمنع الرجوع في الجملة، بلا خلاف نعلمه بين الأصحاب، لوجود المتاع بعينه، ثم هل تكون الزيادة للمفلس في الجملة
ويحتمله كلام الخرقي، لمنعه من الرجوع مع الزيادة المتصلة، وهو اختيار ابن حامد، والقاضي في روايتيه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وأبي محمد، لأنها نماء ملكه - أو للبائع - وهو اختيار أبي بكر، والقاضي في الجامع، تمسكا بإطلاق أحمد - في رواية حنبل - في ولد الجارية، ونتاج الدابة، أنه للبائع، وهو محمول - عند ابن أبي موسى، وابن حامد، والقاضي، وأبي محمد - على ما إذا باعها حاملا؟ على قولين، فعلى الأول لو كانت الزيادة ولد الأمة فهل يمتنع الرجوع مطلقا، لتعذر التفرقة الممنوع منها شرعا - وهو قول ابن أبي موسى - أو لا يمتنع إلا إن امتنع البائع من دفع القيمة، - أما إن دفع قيمة الولد فله الرجوع، - أو لا يمتنع مطلقا، بل تباع الأم وولدها، ويصرف للبائع ما خص الأم من الثمن، على أنها ذات ولد؟ على ثلاثة أوجه.
ويدخل في قول الخرقي: أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها. ما إذا زادت بصناعة، كقصارة، ونحو ذلك، وهو أحد الوجهين، واختيار ابن أبي موسى، (والثاني) - وقال صاحب التلخيص: إنه المذهب - لا يمنع ذلك الرجوع،
ثم هل تسلم للبائع مجانا، - كالزيادة المتصلة على المنصوص - أم عليه الأجرة؟ فيه وجهان، وقد تحرز الخرقي بقوله: مزيدة بما لا تنفصل زيادتها. عما إذا كان المتاع بابا فسمر فيه مسامير، أو نحو ذلك، فإن الزيادة تنفصل، ويرجع البائع في عين ماله.
(الشرط الثالث) : أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئا، فإن قبض منه شيئا سقط حقه في الرجوع.
2045 -
لأن في الحديث في رواية لأبي داود «أيما رجل باع سلعة، فأدرك سلعته بعينها، عند رجل قد أفلس، ولم يقبض من ثمنها شيئا فهي له، فإن كان قضاه من ثمنها شيئا فما بقي فهو أسوة الغرماء» وفي معنى قبض البعض الإبراء منه، والله أعلم.
قال: ومن وجب له حق بشاهد فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه ويستحقوا.
ش: لأنهم غير مدعين، واليمين إنما هي على المدعي مع شاهده.