الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كتاب الحوالة والضمان]
ش: الحوالة مشتقة من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة، ولها شبه بالمعاوضة، من حيث إنها دين، وشبه بالاستيفاء، من حيث إنه يبرأ بها المحيل، ولترددها بين ذلك ألحقها بعض الأصحاب بالمعاوضة، وبعضهم بالاستيفاء، واختار أبو محمد أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليس بمحمول على غيره، إذ لو كانت بيعا للزم بيع الدين بالدين، ولما جاز التفرق قبل القبض، لأنه بيع مال الربا بجنسه، ولجازت بين جنسين كالبيع، قال: وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله (والضمان) يأتي إن شاء الله تعالى بيانه، والألف واللام فيه للجنس، فيشمل ضمان المال، وضمان النفس، والأصل في جواز الحوالة في الجملة الإجماع.
2065 -
وسنده ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع» .
قال: ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق فرضي، فقد برئ المحيل أبدا.
ش: من أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق فرضي بالحوالة، برئ المحيل، سواء أمكن استيفاء الحق، أو تعذر لمطل أو فلس، أو غير ذلك، أما مع استيفاء الحق فواضح، إذ وضع الحوالة انتقال الحق من ذمة المحيل، إلى ذمة المحال عليه، وإذا يبرأ المحيل، وأما مع تعذره فلأنه مفرط، حيث لم يشترط اليسار.
2066 -
ويروى أن حزنا جد سعيد بن المسيب كان له على علي رضي الله عنه دين، فأحاله به، فمات المحال به عليه، فأخبره فقال: اخترت علينا أبعدك الله. فأبعده بمجرد احتياله، ولم يخبره أن له الرجوع، وهذا هو المشهور في المذهب، وبه قطع أبو البركات وغيره، قال أبو محمد: وعن أحمد ما يدل على أن المحال عليه إذا كان مفلسا، ولم
يعلم المحتال بذلك، فله الرجوع، قال: وبه قال جماعة من أصحابنا، إذ الفلس عيب في المحال عليه، فكان له الرجوع، كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة.
ويستثنى من كلام الخرقي إذا شرط المحتال ملاءة المحال عليه، فإنه إذا بان معسرا يرجع على المحيل بلا خلاف نعلمه في المذهب اعتمادا على الشرط، وخرج من كلام الخرقي إذا لم يرض المحتال، ثم بانت عسرة المحال عليه، فإن المحتال يرجع على المحيل، بلا خلاف، لأنه لا تلزمه الحوالة على غير مليء لمفهوم الحديث، ومن هنا يتبين لك أن الرضا مسقط لرجوع المحتال على المحيل، لا أنه شرط لصحة الحوالة، إذ الحوالة تصح بدونه، لكن لصحتها شروط (أحدها) : رضا المحيل اتفاقا، (الثاني) : تماثل الحقين، وقد أشار الخرقي إلى ذلك، والتماثل في الجنس، كدراهم بدراهم، وفي الصفة، كناصرية بناصرية، وفي الحلول أو التأجيل، كحال بحال، ومؤجل بمؤجل، بشرط اتفاق الأجلين فإن أحاله بناصرية على دمشقية أو بالعكس، لم يصح عند أبي محمد، وكذلك عند من ألحقها بالمعاوضة، إذ اشتراط التفاوت فيهما ممتنع كالقرض، وأما من ألحقها بالاستيفاء فقال: إن كان تفاوتا يجبر على أخذه عند بذله كالجيد عن الرديء - صحت وإلا فلا.
(الشرط
الثالث) أن يكون بمال معلوم كالمثليات لا بما لا يصح السلم فيه كالجوهر ونحوه، وفيما يصح السلم فيه غير المثلي كالمذروع والمعدود - وجهان، وفي الحوالة بإبل الصدقة على من عليه مثلها وجهان، وإن أحال بإبل الدية على إبل القرض صح إن قيل برد المثل في القرض، وإن قيل برد القيمة لم يصح، لاختلاف الجنس، وفي العكس كأن أحال المقرض بإبل الدية - لا يصح مطلقا، لأنا وإن قلنا يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفته، وقيمته [ومن عليه الدية لا] يلزمه ذلك (الرابع) الديون على أربعة أقسام، دين سلم، ودين كتابة، وما عداهما وهو قسمان، مستقر، وغير مستقر، كثمن المبيع في مدة الخيار، [ونحو ذلك] ، فلا تصح الحوالة بدين السلم، ولا عليه، وهل يجري هذا الحكم على رأس ماله بعد الفسخ؟ فيه وجهان، وتصح بدين الكتابة – على الصحيح دون عليه، ويصحان في سائر الديون، مستقرها وغير مستقرها، وقيل: لا تصح
على غير مستقر بحال، وإليه ذهب أبو محمد، وجماعة من الأصحاب، وقيل: ولا بما ليس بمستقر، وهو اختيار القاضي في المجرد، وتبعه أبو الخطاب والسامري، والله أعلم.
قال: ومن أحيل بحقه على مليء فواجب عليه أن يحتال.
ش: نص أحمد رحمه الله على ذلك، اتباعا لظاهر الأمر في الحديث، وفسر المليء في رواية إسماعيل العجلي بأن يكون بماله، وقوله، وبدنه، قلت: فالمال أن يقدر على الوفاء، والقول أن لا يكون مماطلا، والبدن أن يمكن حضوره إلى
مجلس الحكم، هذا الذي يظهر لي في التفسير، فإن امتنع من القبول أجبر على ذلك، لكن هل تبرأ ذمة محيله قبل أن يجبره الحاكم؟ فيه روايتان، (إحداهما) نعم، فلو هلك المحال عليه معسرا فلا شيء له، وهي التي صححها القاضي يعقوب.
(والثانية) : لا، لكن تنقطع المطالبة بمجرد الحوالة، ويصير بمثابة من بذل ما عليه من دين، فامتنع صاحبه من القبض، فإن الحاكم يجبره على القبض، ولا تبرأ ذمة الغريم قبل ذلك.
وفهم من كلام الخرقي رحمه الله أنه لا يعتبر رضا المحتال، ولا المحال عليه، وهو الصحيح، أما المحتال فللحديث، وأما المحال عليه فلأن للإنسان أن يستوفي حقه بنفسه وبوكيله، والمحتال قد أقامه المحيل مقام الوكيل، والله أعلم.
قال: ومن ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه، أو قال: ما أعطيته فهو علي فقد لزمه ما صح أنه أعطاه.
ش: الضمان مشتق عند أبي محمد من الضم، فهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، ورد بأن لام
الكلمة في الضم ميم، وفي الضمان نون، وشرط صحة الاشتقاق وجود حروف الأصل في الفرع، ويجاب بأنه من الاشتقاق الأكبر، وهو المشاركة في أكثر الأصول، مع ملاحظة المعنى، وعند القاضي من التضمن فذمة الضامن تتضمن الحق، وعند ابن عقيل: من الضمن، فذمة الضامن في ضمن ذمة المضمون عنه، والخلاف في الاشتقاق، أما المعنى فواحد، وعرفه أبو البركات بأنه التزام الإنسان في ذمته دين المديون، مع بقائه [عليه] ، وليس بمانع، لدخول كل من لم يصح تبرعه، ولا جامع، لخروج ضمان ما لم يجب، والأعيان المضمونة، ودين الميت إن برئ بمجرد الضمان عنه، على رواية.
وهو جائز في الجملة بالإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] .
2067 -
قال ابن عباس: الزعيم الكفيل.
2068 -
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الزعيم غارم» إلى غير ذلك من الأحاديث. إذا تقرر هذا عدنا إلى لفظ الخرقي رحمه الله فقوله: ومن ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه فقد لزمه. أي لزم الضامن ذلك الحق، وذلك لما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الزعيم غارم» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه.
وقوة كلام الخرقي تقتضي أنه لا بد من رضا الضامن، وهو واضح، إذ الإنسان لا يلزمه عقد لم يلتزمه، لكن لا بد مع رضاه من أن يصح تبرعه، ومقتضى كلامه أنه لا يعتبر رضا المضمون له، ولا رضا المضمون عنه، ولا معرفتهما، لحديث أبي قتادة، وقال القاضي: تعتبر معرفتهما. وقيل: تعتبر معرفة المضمون له، دون المضمون عنه وقوله أو قال: ما أعطيته فهو علي. فهذه مسألة ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، ومذهبنا الصحة فيهما، فما ثبت أنه أعطاه - ولو في المستقبل - فإنه يلزمه، للآية الكريمة، إذ حمل البعير مجهول، وغير واجب حينئذ.
وقول الخرقي: ما أعطيته. قال أبو محمد: مراده الاستقبال، دفعا للتكرار، ولأنه عطفه على الأول، فدل على أنه غيره، إذ العطف يقتضي المغايرة، واحتمل أن مراده الماضي، ويكون فائدة المسألة بيان صحة ضمان المجهول، وقد حكى الأصحاب في نحو هذا اللفظ، هل هو
للماضي أو للمستقبل وجهين، ذكرهما ابن أبي موسى، وكذلك النحاة قالوا: الفعل الماضي الواقع صلة لموصول، أو لنكرة موصوفة، يحتمل أن يحمل على الماضي، كما في قَوْله تَعَالَى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] ويحتمل أن يحمل على المستقبل، كما في قَوْله تَعَالَى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] أي يتوبوا، ويرجح الأول إعمال الحقيقة والله أعلم.
قال: ولا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن.
ش: لا يبرأ المضمون عنه بنفس الضمان، بل يثبت الحق في ذمة الضامن، مع بقائه في ذمة المضمون عنه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» .
2069 -
وفي المسند «عن جابر رضي الله عنه قال: توفي صاحب لنا، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فخطا خطوة ثم قال: «أعليه دين» ؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة فقال: الديناران علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وجب حق الغريم، وبرئ الميت منهما؟» قال: نعم. فصلى عليه،
ثم قال بعد ذلك: «ما فعل الديناران» ؟ قال: إنما مات أمس. قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الآن بردت جلدته» فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه حينئذ أي حين القضاء بردت جلدته.
وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أن المضمون عنه إذا كان ميتا برئ بمجرد الضمان عنه، استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر:«وبرئ الميت منهما» ويجاب عنه بأن هذا ليس إخبارا منه صلى الله عليه وسلم ببراءته، وإنما هو استفهام من أبي
قتادة، في أنه هل ضمن متبرعا لا ليرجع، ولهذا أجابه بنعم.
(تنبيه) : حكى أبو الخطاب وأبو محمد وغيرهما هذه الرواية في الميت مطلقا، وخصها أبو البركات بالميت المفلس والله أعلم.
قال: فمتى أدى رجع به عليه، سواء قال له: اضمن عني أو لم يقل.
ش: إذا أدى الضامن الدين لم يخل من أحوال، (الأول) ضمن بإذنه وأدى بإذنه، (والثاني) ضمن بإذنه وأدى بغير إذنه (الثالث) بالعكس، ولا خلاف عندنا أنه يرجع في هذه الصور الثلاث، (الرابع) ضمن وقضى بغير إذنه، لكن نوى الرجوع فعنه لا يرجع، لأن أبا قتادة لو استحق الرجوع لصار له دين على الميت، وإذا لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم عليه، لعدم فائدة الضمان إذا، إذ ذمة الميت لم تزل مشغولة بدين، (وعنه) وهي اختيار الخرقي، والقاضي، وأبي الخطابي، والشريف، وابن عقيل، والشيرازي وابن