الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاحتلال الفرنسي للجزائر
كانت الجزائر - في ابان الاحتلال وقبله - دولة مزدهرة وقوية ومنظمة في جميع الميادين، في الداخل والخارج وكانت دول أوربا تخشى بأسها وسطوتها، ولا سيما في البحر الأبيض المتوسط، وتجارتها الخارجية كانت تصدر الى أوربا وغيرها، والزراعة والصناعة والثقافة كانت على أحسن ما يرام
…
قال السيد عباس فرحات في كتابه ليل الاستعمار، ان الجيش الفرنسي استأصل مدينة عريقة في القدم، وفكك هيئة اجتماعية لها نظام محكم القواعد حكم نظام حياتها
…
كل المؤرخين يشهدون بأن الجزائر قبل الاحتلال كانت دولة عصرية آخذة في التصاعد الحضاري
…
قال العالم الفرنسي م دوبار ادى: (ان الجزائر العاصمة تطلق على جميع القطر الجزائري، وكانت مقر الحكم وقاعدة الدولة، ولم توجد في التاريخ أي دولة أشد حرصا على مال الدولة من حكومة الجزائر) ان بيت المال كان يدار بنزاهة وأمانة لا مزيد عليهما، ومن ناحية الادارة كانت الجزائر مقسمة الى أربعة مناطق: منطقة الجرائر العاصمة، ثم منطقة تيترى أي المدية، فمنطقة وهران، فمنطقة قسنطينة، وكان على رأس كل منطقة عامل يسمى الباي
…
وقال المؤرخ الفرنسي: (شارل أندرى جوليان في تاريخ شمال افريقيا كانت التجارة الخارجية في الجزائر مزدهرة، وكانت تقدر في ذلك العهد بعشرة ملايين ذهبا، واللغة العربية هي لغة البلاد الرسمية، والتدريس بها منظما) وقد لاحظ الجنرال فيالار سنة 1834م أن الجزائريين يتقنون القراءة والكتابة كلهم، في كل قرية توجد فيها معاهد، وجامعات في العاصمة، وقسنطينة، ومازونة وتلمسان، ووهران ما عدا التعليم في الزوايا الكبرى وكان مزدهرا. وكان لكل طريقة دينية عدة مدارس منتشرة في القطر.
المواد التي تدرس في هذه المعاهد لم تكن تختلف عن المواد التي كانت تدرس في باقي أنحاء العالم الإسلامي.
أما الصناعة فكانت مزدهرة أيضا ان زرابي مدن سطيف والقرقور، وجبل عمور وتلمسان كانت مشهورة، وأما صناعة النحاس والفضة والذهب فكانت الأساس للصناعة الجزائرية، وكذلك الفلاحة كانت راقية ومزدهرة، قال الجنرال كافينياك:) كان لزما علينا أن نقدر الويلات حق قدرها التي جرتها الحرب على العرب الى يومنا هذا أن العربي متمسك بأرضه أشد مما تتصوره، ملكيته منظمة أحسن مما يقال عنها، وفى هذا الباب اننا محتاجون الى الكثر من الدروس من طرف العرب (.
بدأ الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830 م، وكان الأتراك هم الذين يحكمون البلاد، وسبب هذا الاحتلال هي الديون المترتبة في ذمة فرنسا، فلما طلبت الحكومة الجزائرية بتسديدها أعلنت فرنسا على هذه الحكومة حربا شعواء وهجمت جيوشها على عاصمة البلاد، وتمركزت قواتها في ساحل البلاد، والحكومة الجزائرية كانت لا تتوقع هذا أبدا ولما عجزت عن صد هذا الهجوم السافر، وقع حسين داي باشا صك الاستسلام وقبل الشروط التي أملاها عليه قائد الحملة الفرنسية وغادر البلاد وذلك في شهر تموز من السنة المذكورة، فدخلت الجيوش الفرنسية الى العاصمة فنهبت وسلبت كما هو شأنها من غير وازع ولا رادع
…
ولما استولى الغزاة الجدد على العاصمة وتمركزوا في بعض النقاط من الوطن فأول شيء بدأوا به هو القضاء التام على كل ما كان للجزائريين من اقتصاد زاهر ومدينة راقية، وانحصر حربهم في العقيدة التي يحملها الشعب بين طياتها طيلة إقامتهم في هذا الوطن حتى طردوا منه سنة 1962 م.
اختل نظام الحكم في البلاد بعد مغادرة الداي، فاستقلت كل ناحية بنفسها وأخدت تنظم السكان للدفاع عن الوطن فسكان قسنطينة قد التفوا حول الحاج أحمد باي وحصنوا - مدينتهم تحصينا محكما، وأما سكان غرب الجزائر فقد اجتمع رؤساء
القبائل والعشائر المختلفة في مؤتمر عام بايعوا بيعة شرعية الأمير عبد القادر بن محي الدين الهاشمي، وعاهدوه على السمع والطاعة، وكان الأمير يومئذ في الرابعة والعشرين من عمره عالما فاضلا تقيا نقيا شاعرا فصيحا شجاعا باسلا بعيد النظر عميق التفكير ولد سنة 1807م وبويع بالإمارة سنة 1832م فأنشأ دولة فتية قوية عاشت سبعة عشر عاما، ولو كان يشرف على الأمة من قبل الاحتلال لما آل أمره الى الاستسلام ولما استطاع الجيش الفرنسي أن يحتل البلاد
…
يقول المؤرخ الفرنسي (أوستان برنار) عن أخلاق الأمير وصفاته ودينه وشجاعته - والفضل ما شهدت به الأعداء - قال ان الأمير عبد القادر قد حج مع والده سنة 1827 م، ولما استولى الفرنسيون على وهران قام الشريف محي الدين والده يقاتلهم، وفي تشرين الثاني من سنة 1832 م، اجتمعت في سهل (ايغريسن) ثلاث قبائل وهى: هاشم، وبنو عامر، وغرابة منادية بعبد القادر أميرا على البلاد
…
وقد بدأت ثورة الأمير صغيرة ولكنها ما لبثت أن اشتدت واتسعت بسبب ترددنا وحاجة البلاد الى حكومة تقضى على الفوضى العامة التي انتشرت في كل مكان وكنا عاجزين على القضاء عليها
…
ولقد أظهر الأمير بعد أن أسند اليه الأمر على الرغم من أنه ابن الزوايا والطرق حنكته السياسية وبراعته العسكرية كانتا فائقتين، وكان يتمتع بصفات تدل على أنه خلق ليحكم، كان بسيطا في لباسه، متواضعا في معشره أنيقا جميلا فصيحا شجاعا فارسا. وبالتالي فقد كان له هدوء الدبلوماسي المسلم وسكينته ولباقته، وكان متدينا عن اخلاص ومن صميم فؤاده، ولم يطلب الامارة لإشباع أطماع نفسه، بل طلبها ليقود أمته في طريق الفلاح، كان قاسيا عند اللزوم رحيما عند الاقتضاء، وكانت شدته ولبنه بحسان وتقدير، وقليل مثله في المسلمين من كان يدرك معنى الدولة ادراكا تاما كما كان يدركها هو بكل تفصيلاتها وجزئياتها من حيث النظام والإدارة، وجباية الضرائب، وتنظيم
الجيش، وكان أجل وأبرز أعدائنا في الجزائر واذا كان قد فشل في بناء إمبراطورية اسلامية واسعة، فليس مرد ذلك كله الى مناهضتنا اياه، بل كان السبب تفرق المسلمين عنه، وعدم اتحادهم تحت لوائه لحرمانهم من الشعور الوطني والقومي، وتفرقهم هذا كان له أوفى نصيب في سبب فشله (انتهى (.
بايعت الأمة الجزائرية الامير بن شيخ طريقة القادرية واضطلع بالمسئولية الكبرى التي أنيطت به فأخذ يعد العدة اللازمة لمواجهة العدو ومنازلته، فبدأ يجمع الأعراش والقبائل ليكون منهم جيشا منظما يدافع عن الوطن، وكان يحث على الجهاد والصبر، فنفرت الأمة الى ميادين القتال والمعارك واستجابت الى ندائه ودعوته، واستطاع الامير أن يجمع قبائل وهران وقبائل تيتري، وقضى على جماعة التيجانية الذين كانوا يوالون الفرنسيين ونظم البلاد تنظيما إداريا، وكان جيشه منظما ومدربا على فنون الحرب والقتال، وعدده إحدى عشر ألف جندي ما بين راجل وفارس، وأنشأ مصنعا لصنع المدافع وآخر لصنع البارود، وبنى حصونا وأقلعة على حدود بلاد القبائل التي كان يخشى انتفاضها ضده، ووحد منافسين له انحازوا الى صفوف العدو رغبه منهم في التوصل الى مطامعهم الشخصية.
الشعب كان لا يعرف ما يدور في الجو السياسي لولا دعاية الأمير، ولما علم بدخول جيش أجنبي الى ترابه، وتمركز في السواحل، وفي العواصم الكبرى، وانهزام الحكومة المركزية أمام جيوش الاحتلال هب من نومه هبوب العاصفة لإنقاذ بلاده من شر هؤلاء الغزاة، انظم الى المقاومة المنظمة التي كانت تحت إشراف الأمير عبد القادر، فاستنزف هذا الشعب كلما كان له من ثروات مادية وطاقات بشرية لم يكن الاحتلال بالأمر السهل، ومن الغرابة أن يجرد شعب من وطنه، ومن ثرواته المادية والروحية ويبقى مكتوف الأيدي لا يدافع عن نفسه خصوصا اذا كان شعب أبى لا ينام على ضيم يحب الحرية والاستقلال حريصا على كرامته وشرفه كالشعب الجزائري.
امتازت مقاومة الشعب الجزائري للاستعمار الفرنسي
ببطولة نادرة احتلال الجزائر لم يكن نزهة عسكرية كما يدعي بعض الفرنسيين، بل كان اصطداما بقبائل قوية الجانب شديدة المراس قوية الشوكة لا كما كان يظن الاستعمار أنها قبائل متأخرة، وظن باحتلاله العاصمة أنه بذلك قد استولى على البلاد، ولما اصطدم بالشعب في المعارك الدامية تبين له خطؤه وتقديره، واقتضاه الأمر من بعد ذلك على أن يدفع ثمن الاحتلال باهضا، لأن مسلمي الجزائر كانوا لا يسلمون في شبر من أراضيهم إلا إذا سالت فيه دماء غزيرة من الجانبين، فكانت خسارة في الأنفس والأموال كبيرة جدا. فالاستعمار ضحى من ناحيته ما لا يقل عن أربعين ألف جندي، وأنفق أموالا طائلة على هذه الحرب القذرة
…
الشعب الجزائري مسلم ما في ذلك لبس ولا غموض، ورغم الحكم المحلي فإنه مكون من سلسلة متراصة قوامها العروبة والاسلام ولكن ينقصه الوعي.
كانت الشعوب الاسلامية حينذاك متخاذلة فيما بينها بسبب فقد الروح الاسلامية، والظروف كانت تعمل لصالح الاستعمار، والفرص مواتية له، فاضطر الأمير الى دخول المغرب العربي، وقد سمح له بذلك السلطان عبد الرحيم بادى الأمر بالالتجاء الى بلاده، فطلب الفرنسيون من السلطان تنفيد شروط المعاهدة التي عقدوها معه اثر معركة (إيزلي) وهى التي انتصر فيها الفرنسيون على المغاربة، وتنص هذه المعاهدة بأن السلطان يحجز الأمير في إحدى المدن الساحلية اذا ما وقعت يده عليه، ومن السلطان لم تصل يده الى الأمير قط بل كان يناحر الفرنسيين على الحدود الجزائرية المغربية وكان فريق من الجزائريين يحمل بين طياته الخيانة لأمته والغدر بمواطنيه.
انحاز هذا الفريق الكبير الى صفوف العدو، وأصبح يقاتل معه، فكان سببا في جلب الكوارث والنكبات والويلات التي حلت بهذا الوطن. فخذلت هذه القبائل الخائنة الأمير وجيشه الذي كان يدافع عن الوطن والاسلام، فأصبح مشردا ومطاردا من كل ناحية لا يستقر في مكان، فرأى أنه لا مفر من الاستسلام الى
الجيش الفرنسي بعد ما قبل جميع شروطه، فأمر الامير اتباعه بالاستسلام قبله، واشترط أن يسمح له بالذهاب الى الاسكندرية أو الى عكا، فرضى الفرنسيون بذلك.
هكذا قدم الأمير نفسه الى عدوه، وكان ذلك في شهر كانون الأول سنة 1847م على يد الجنرال لاموريسير، وقدم إليه سيفه وخاتمه كرمز للاستسلام ولما استسلم حيته حامية فرنسية التحية العسكرية.
استسلم الأمير عبد القادر لعدوه بعد ما قضى سبعة عشر عاما في الكفاح والجهاد، استسلم نتيجة تخاذل المسلمين الذين لم يبق لهم من الاسلام الا اسمه.