الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تخطيط للعمليات العسكرية الفرنسية
بدأ قادة الجيش الفرنسي عملياتهم الحربية الواسعة النطاق ضد الثوار باتباع حرب تقليدية، وهي القضاء على الثورة بقتلهم أو أسرهم، ففشلوا في هذه الخطة، ولم ينجحوا، فرجعوا أسباب هذا الفشل الى نقص في العتاد، فضاعفوا من قوتهم وعتادهم الثقيل وزيد في الجيش.
هكذا كلما خسروا في حربهم مع الثورة يطلبون المزيد من الجند والسلاح وحكومة باريس لا تبخل عليهم بالإمدادات الضخمة فوضعت تحت تصرف قاداتها في الجزائر كلما كان لها من قوة ومن قوة حلفائها أيضا، وكانت دائما تلبى نداء ضباطها لا ترفض لهم طلبا أبدا حتى بلغ عدد قواتها في الجزائر - بعد عام واحد من اندلاع الثورة - خمسين ألف جندي مزودين بأحدث الأسلحة.
جرب جنرالات فرنسا برامج القتال وأنواعه في هذا الوطن وجميع المخططات الحربية الحديثة، واستخدموا جميع أنواع الأسلحة من قديم وحديث، وثقيل وخفيف، ومع هذا كله كانوا يقاسون العجز والفشل والخيبة أمام قوات الثوار المتواضعة وبقي هذا العجز ملازما لهم الى مفاوضة (إيفيا (.
كل هذه الأساليب من البرامج الحربية المحكمة، والهجومات العنيفة، واستعمال الآلات الجهنمية على اختلاف أنواعها وأشكالها، والتخريب والتدمير اللذين سلطا على البلاد، والبطش والفتك اللذين استعملا ضد المسلمين لم تغن عنهم هذه القوات كلها
…
عندئذ أفاق جنرالات فر نسا على الحقيقة التي لا تقبل الشك بأنهم يخوضون حربا حقيقية، ويقاتلون شعبا قويما عتيدا عقد العزم على استرجاع سيادته المغصوبة وكرامته المهدورة أدرك جنرالات فرنسا هذا كله، وأدركوا أيضا أن عدوهم الذي يقاتلهم ليس بعصابات ثائرة أو من الذين رفعوا راية العصيان
والتمرد لغرض ما، وإنما هو جيش نظامي له كيانه وعقائده وأهدافه، جيش مدرب يتقن فنون القتال، والشعب بأجمعه يحتضنه ويأتمر بأوامره، ويمده بكل ما يحتاج اليه
…
وعلى هذه الحقائق الناصعة التي لا موارة فيها أعاد جنرالات فرنسا تخطيط برامجهم الحربية بعد اجتماعات عديدة ودراسات عميقة أسفرت هذه الدراسات عن برنامج حربى يهدف الى استئصال شأفة الثوار، ونشر الخراب والدمار في الوطن، يبدأ هذا البرنامج بهجوم عام شامل على مواقع جيش التحرير، عرف هذا البرنامج باسم المربعات (الكدرياج) أي القتال عن طريق المربعات
…
بدئ في تطبيق هذا البرنامج سنة 1955م - توزعت القوات الفرنسية في كامل القطر الجزائري على شكل مربعات تنتشر على طول مواقع الثوار من غربي الجزائر الى شرقيها مع ضرورة تقارب المراكز العسكرية لكى يتسنى نجدة أي مركز يفاجأ بالهجوم حتى تتمكن القوات الفرنسية من إبادة المهاجمين بسرعة
…
ولما شنت القوات الفرنسية الهجوم العام على مراكز جيش التحرير، توقف زحف هذه القوات الفرنسية أمام مناعة خطوط الدفاع للثوار، وأخذ جيش التحرير يشن هجوما معاكسا على مراكز المربعات، بحيث كان يشغل بعض المراكز بمناوشات رمزية تقوم بها وحدات صغيرة، وبقية الثوار يكمنون له في الطريق المؤدية الى هذه المراكز
…
ومما يسر على جيش التحرير وسهل مهمته تبعثر الجيش الفرنسي وتشبثه فوق أرض الوطن الشاسعة الواسعة الأطراف والأرجاء الممتدة من الغرب الى الشرق، والذى أعانه على تسديد ضرباته الى القوات الفرنسية هو وجود بعض القرى والمدن داخل نطاق هذه المربعات، فكان جيش التحرير يتسلل إليها، ويختفى بين السكان، فلم يستطع العدو أن يميز بين سكان هذه القرى، وبين المجاهدين، فكان يضع الألغام في الطرق والقنابل في المنشآت العمرانية فتنسف المنازل والمصانع
والجسور، وكل من يمر عليها من سيارات ودبابات فأصبحت القوات الفرنسية عرضة لأعمال الفداء داخل خطوطها حتى اضطرت القيادة العليا أمام هذه الأعمال المتواصلة الى إخلاء مناطق العمليات العسكرية من السكان وحشدتهم داخل معسكرات محاطة بأسلاك شائكة، تظن أنها بهذا العمل تضمن عدم تسلل الفدائيين الى المراكز الفرنسية، وأنها في نفس الوقت تقطع التموين على جيش التحرير، فبهذه الخطة تعزل الثوار عن الاتصال بالشعب فيسهل العثور عليهم والتمكن من إبادتهم لهذا جمعت سكان القرى، وحشدتهم في معسكرات الاعتقال.
وبعد أن أصبحت مناطق العمليات خالية من السكان تقابلت القوتان وجها لوجه، ودارت المعارك ليلا ونهارا دامت أربعة أشهر لم يتوقف القتال خلالها ولو يوما واحدا. فكانت المعارك تدار حتى بالسلاح الأبيض، فظهر حينئذ لجنرالات فرنسا قصور برامجهم عن تحقيق الأهداف التي رسموها فأصبحت القوات الفرنسية مرة ثانية عرضة لهزيمة محققة لوعرة السلوك والدروب، وسرعة حركة الثوار فعدل جنرالات فرنسا عن هذه البرامج، ورجعوا الى برامجهم التقليدية لقد جلب حرب المربعات (الكدرياج) الى جانب الفضيحة العسكرية العار والخزي لفرنسا لأنه لطخ سمعتها ومرغ شرفها في الأوحال، لقد استفاد جيش التحرير من برامج المربعات وإخلاء السكان من مناطق العمليات، كان جيش التحرير يقلل ما استطاع من هجوماته على العدو في المناطق الأهلة بالسكان خوفا من انتقام الجيش الفرنسي من الأهالي فلما أخليت المناطق من السكان تجرد للقتال بلا خوف، وفي النهاية تغلب الثوار على أكثر مراكز العدو.
كان الجنرال ديغول منذ الساعة التي تسلم فيها الحكم يشارك في الخطط والبرامج الحربية لسحق الثوار، وقد خط برامج كثيرة شارك فيها القادة العسكريون والمدنيون من المتطرفين وغلاة الاستعمار على السواء، فالعسكريون من جهتهم كانوا يستعملون القوة بجميع أنواعها وأشكالها الفظيعة من التنكيل والتخريب والقتل الجماعي، وكانوا مخيمين في جميع القرى والمدن والأحواز يحصون على السكان أنفاسهم وحركاتهم
وسكناتهم
…
والمدنيون من ناحيتهم يبرقون ويلوحون بالوعود الكاذبة والحلول الزائفة والدعاية المغرية لكن سرعان ما تخبط ديغول وأتباعه وقواده وسائر مؤيديه من الطغاة الذين يستعبدون الناس فوجدوا أنفسهم جميعا يتخبطون في متاهات لا حد لهما ودوامة لا قرار لها، فلم يكن الجنرال ديغول أسعد حظا من أسلافه الذين كانوا في الحكم إذ لقيت مشروعاته الحربية نفس المصير من الخيبة والهزيمة الذى لقيته البرامج السابقة، وقد أدرك حينئذ أن عجز الحكومات السابقة عن قمع الثورة لم يكن نتيجة تقصير كما يشاع، وإنما قوة الثورة هي التي كانت سببا في فشل الحكومات
…