الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثورة الشعوب الاسلامية الحديثة على
الاستعمار الغربي أينما كان
من أحرج الساعات في حياة الامم وأشدها الساعة التي تفقد فيها الحرية والقيادة الرشيدة، ومقومات الحياة كالعلم والسياسة والاقتصاد وغيرها فتظهر عليها أمارات الشيخوخة فتصبح بعيدة عن النظم الاجتماعية فتصير مسخرة للعمل والطاعة العمياء لأسيادها.
تخسر هذه الأمة المستعمرة كل شيء في حياتها، تخسر الوحدة التي هي سبب النجاح والفلاح، تخسر المعارف والعلوم التي تهديها الى طريق السعادة والنجاة، تخسر التعاون والتربية والأخلاق الحميدة التي لولاها لما كانت أمة معتبرة في الوجود، تخسر القدرة على السير الى الأمام.
وهذا ما اعترى الأمة العربية الاسلامية في فترة الانحلال، فركدت أفكارها وجمدت عقولها ومواهبها لأن الاحتلال كان قتلا لمعنوياتها، وطمسا لكيانها وتشويها، لسمعتها، وتلطيخا لتاريخها ومجدها.
وكل دولة أجنبية استعمرت بلدان المسلمين الا وحاولت مرارا وتكرارا أن تقتل الطموح فيها، ولكن الطموح لا يموت موتا نهائيا، فهو كالنار تبقى جذوته ضئيلة غير أنها عاملة نشيطة.
وكل دولة احتلت أقطار المسلمين الا وحتمت عليهم عوائدها وأخلاقها ولغتها وجنسيتها ليعتنقوها، ويذوبوا فيها شيئا فشيئا حتى تبتلعهم.
دخل الاستعمار أرض العرب ووطن الاسلام ومنازل الوحى ومدارس القرآن، فدنس بأقدامه الغليظة مقدسات الشرق، وامتهن البقاع المقدسة فمسك منافذ الحياة فيها، واستولى على مرافق العيش منها، فامتص خيراتها كما امتص روحها وحياتها،
وصادر عقولها وأفكارها، وحارب العقائد والمبادئ السامية، وعفر وجه المسلمين، في الرغام والأوحال، ومزق الصحف، ومنع الشعوب من اتصال بعضها ببعض، وسادها الاقطاع جميعا، وتحالف عليها الفقر والجهل، واستعمل معها جميع وسائل الفناء فكابدت من هذا الاحتلال الملعون جميع المحن والمصائب.
كانت روح القسوة التي جبل عليها، والتشفي التي هي سليقة فيه واضحة في انتصار الاستعمار على المسلمين، فلم يكن ما أحرزه من نصر في المعارك نهاية المطاف وإنما كان بدء المجاور الشنيعة، وازهاق الأرواح بالآلاف، وأسكب فيضا من الدماء الغزيرة، وشملت هذه القسوة الأطفال والنساء والعجزة، وجرت هذه الويلات الخراب والدمار على البلاد، وكان السفاكون يحتسون الخمر، ويرقصون طربا للنصر وتعذيب المواطنين وإبادتهم وتدميرهم.
وقد كتب الجنرال نيكلسون الإنكليزي يقول: (يجب علينا أن نسن قانون يبيح لنا أن نحرق أو نسلخ جلود المسلمين وهم أحياء لأن نار الانتقام تتأجج في صدورنا ولا تخمد بالشنق وحده)، وكان هذا الجنرال حسن النية لأنه فكر في سن قانون لسلخ المواطنين أحياء، أما غيره من الجنرالات الأخرى فقد فعلوا هذا وأكثر دون أن يحتاجوا الى سن قانون، وقد كتب المؤرخون الافرنج أنفسهم هذا التاريخ الشنيع وانتقدوا الأعمال البربرية التي قام بها الصليبيون ضد المسلمين انتقادا مرا.
لقى الأحرار والمفكرون من العالم الإسلامي أسوأ المصير في حكم الاستعمار من الظلم والعسف والسجن والنفي والتشريد والتقتيل، وانفق ثروات البلاد على جيشه وعلى المبشرين الذين يحاربون الاسلام، ويحسنون للمسلمين اعتناق المسيحية.
ولما تم الاستيلاء على الجزائر، فتحت فرنسا باب الهجرة من جميع أقطار أوربا ليستوطن الغربيون هذا الوطن، وكانت تساعد كل من يأتي إليه من الجاليات الأوربية بكل وسيلة ممكنة من المال وغيره كنزع الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة من أيدي السكان المسلمين، وإعطائها الى المهاجرين، فجمعت بذلك ذل الاستعباد
وذل الفقر عليهم، فضح الجزائريون من هذه الحالة، فأصبحوا غرباء في بلادهم محرومين من خيراتها، بحيث طردوا الى قمم الجبال او الى الصحارى القاحلة، وكانت فرنسا ترمى من وراء هذه السياسة تحطيم كل أمل للمسلمين.
ومن بعد ما ملك الأوربيون المهاجرون الأراضي الصالحة، أصبح المسلمون مسخرين للعمل فيها بأجر زهيد جدا لا يسمن ولا يغنى من جوع.
وبعد ما استقر الاستعمار في هذه الأوطان بدأ يحطم الدين الإسلامي فأسقط حكمه الذى كان يحكم بين العباد، واستبدله بقوانينه، ومنع علومه من أن تدرس وجعل المساجد وشؤونها تحت يده بعد ما خرب أكثرها، واستعمل بعضها كنائس وثكنات للجند، وصادر الأموال المحبسة عليها الى خزائنه العامة، وأغلق المدارس التي كانت تعلم الدين واللغة، وأصبح يعاقب كل من يعلم هذه المواد الا برخصة وشجع ذوى الأهواء والبدع والخرافات، لتضليل الشعوب وإفساد الرأي العام، وكون جيشا من المسلمين للدفاع عن وطنه الأصلي، وفتح المستعمرات له، وسن قانونا خاصا للمسلمين سماه قانون الأهالي بحيث لو تخاصم مواطن مسلم مع أوربى لا يعطى الحق للمسلم أبدا، ولو كان صاحب حق، ويعاقب لتجرعه ووقوفه في وجه سيده الأوربي، واذا رأى مسلم أوربيا سائرا في الطريق ينبغي للمسلم أن يرفع كلتا يديه الى السماء والويل له ان لم يرفعهما.
أسس الاستعمار مدارس لتعليم الناشئة الاسلاميه لغته وعوائده وأخلاقه، والباعث على ذلك لا التثقيف كما يفهم من ذلك،، وإنما لفهم كلامه في العمل وقضاء المصالح ولكي يتخلقوا بأخلاقه وعوائده ولينسلخوا من الاسلام ولغته وأخلاقه وعوائده، كما هو مشاهد في عواصم الجزائر، أما أن يتلقوا علوما صحيحة عالية فلا سبيل إلى ذلك الا أن يخلع هذا المتعلم جنسيته ودينه، ويعتنق جنسية فرنسية، فبهذا فقط يسمح له بمتابعة التعليم العالي.
والجزائريون - تقريبا - كلهم تعلموا في مدارسه، فكان هذا التعليم سببا في صدهم عن كل ما كان لهم من تراث نفيس،
وقطع الصلة بينهم وبين ماضيهم المجيد، وقتل الإحساس والشعور بقوميتهم الاسلامية، وتاريخ أمتهم العظيمة، ولو كان الاستعمار صادقا في تعليم هؤلاء الناشئة لما فرق بين الأوربيين والمسلمين في التعليم، ولعلمهم العلوم الحية كالعلوم التجريبية بكل فروعها من كيماوية وميكانيكية وتطبيقية لأسدى معروفا لهؤلاء المتعلمين وللوطن، لأن البلاد من بعد خروج الاستعمار منها أصبحت في حاجة شديدة الى من يتقن هذه العلوم ولم تجد من هؤلاء المثقفين من يقوم بحاجيات البلاد بعد ذهاب الأوربيين منها، فأصبحت الحكومة تستورد الخبراء من الخارج، فتعليم الاستعمار لأبناء المسلمين لغته كان القصد منه هو القضاء على الاسلام عن طريق التعليم الأوربي.
فثقافة هؤلاء المتفرنسين كانت في غاية الخطورة على الاسلام، فجردوه من روحه وقيمه وأخلاقه، وأصبحوا يناصبونه العداء ويتهمون أحكامه بأنها رجعية.
وان كان بعض الأفراد استفادوا من هذا التعليم وهم أقلية جدا، فشذوا عن البرامج المحكمة التي ضربها الاستعمار حول الشبيبة الاسلامية في التعليم، فهؤلاء على كل حال يحملون علما صحيحا، وثقافة لا باس بها وان كان غالبهم يجهل الاسلام.
هؤلاء المتعلمون هم الذين أسسوا الأحزاب الوطنية، وكانوا في طليعة المجاهدين غيرة عن الوطن، وهكذا أراد الاستعمار أن يقضي على كل ما كان للمسلمين من خصائص ومميزات، لأنه يعلم علم اليقين إذا ترك لهم اسلامهم وأخلاقهم فإنه لا يضمن وجوده وبقاءه في أوطان المسلمين لأنهم يقظون حساسون يتدفق ماء القوة في عروقهم ونخوة الماضي تدفعهم الى أخذ الحق المسلوب، وتحطيم الاستعباد الذي يرسفون في قيوده يحرك مشاعرهم الى الاستقلال والسيادة حتى يستردوا مجدهم التليد.
ولما كانت هذه الشعوب تحب الحرية أصبحت في أيام الاحتلال تشعر بالحرمان من الحياة الحرة الكريمة، فكانت تثور في كل مناسبة، وتخوض المعارك الدامية ضد المحتل بكل ضراوة وشدة حتى اكتسبتها هذه المقاومة الباسلة التمرس بالآفات والصمود في وجه القوة مهما كانت، والتهيؤ لمنازلتها في كل زمان ومكان
وهكذا كانت ولا زالت، فلا الاستعمار يفنى ولا هي تستريح.
والأمة المستعمرة لا تبقى تحت الذل والعبودية الى الأبد، فمن السنن الالهية أن يرفع هذا ويخفض الآخر والعكس {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ولا سيما أمة كأمة الاسلام صاحبة العقيدة الربانية والمبادئ الصحيحة الخالدة الوارثة لرسالات السماء الخاتمة لأنبيائه ورسله، ولا يعزين عن البال أن الدين لم يزل طول هذه المدة محفوظا من التحريف والتبديل مهيبا بالمسلمين ناعيا عليهم انحرافهم عن طريقه، ولم يزل مناره عاليا وضوؤه مشرقا {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) ولم يزل الكتاب والسنة يبعثان في نفوس المسلمين ثورة على الشرك والبدع وعلى الجاهلية والضلالة، وثورة على أخلاق الجاهلية وعوائدها، وثورة على ترف المترفين واستبداد الملوك، ولم يزل تأثيرهما في كل دور من أدوار التاريخ الإسلامي، وفي كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي رجال يقومون بهديه على طريق الأنبياء من الله بهم على المسلمين يحفظ بهم شرف الاسلام وعزته، ويعيد بهم الحياة الى هذه الأمة عندما تضعف أو تنهار، فهم امثلة كاملة، وأقيسة تامة للدين يجددون لها أمر دينها، وينفخون فيها روح الجهاد ويسعون لإقامة حكومة إسلامية على منهج الخلافة الرشيدة، وهم مصداق للحديث الشريف (لا تزل طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) فان الاسلام فيه من أثر الله ما يعصمه وعليه من اشراف النبوة ما يحفظه.
وفعلا وجد الدعاة الربانيون، والمجددون لهذه الأمة دينها، وهؤلاء المجددون هم الذين أهابوا بالأمة بالرجوع الى الاسلام، والاعتصام بحبله المتين.
وهؤلاء الدعاة الربانيون هم ثلة من العلماء العاملين الذين هم من بقية السلف الصالح.
وإذا كان صلاح الدين وملوك المسلمين الذين كانوا معه في ذلك الوقت حاربوا الصليبيين حتى أطردوهم من البلاد، فقد
(1) سورة المائدة.
كانت لهم حكومات قارة، ونظام محكم وجيوش جرارة مدججين بالسلاح، أما محاربة المسلمين للاستعمار في الوقت الحالي فليست لهم حكومات قارة ولا نظام ولا جيش ولا مال ولا سلاح، إنما حاربوا باسم الدعوة الى الجهاد في سبيل الله في أمة مبعثرة مشتتة مغلوبة على أمرها لا تملك من وسائل الدفاع شيئا، ومع هذا لبث نداء الدعوة، ونفرت الى ميادين الجهاد عزلاء غير مبالية بما يعترض سبيلها، وفي النهاية انتصر المسلمون وأخرجوا المعمر مطرودا من بلادهم.
هؤلاء الدعاة الربانيون هم الذين أهابوا بالأمة الى أن تتخلق بأخلاق أسلافها وتسير على مقتضى عقيدتها، هؤلاء الأعلام هم: جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان يرأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس والعلامة الشيخ البشير الإبراهيمي، والفيلسوف الكبير محمد إقبال في البكستان، والشيخ رشيد رضا، وحسن البنا بمصر والشيخ السنوسي بليبيا، والملك محمد الخامس في المغرب والشيخ الطاهر بن عاشور في تونس، وزعماء الرابطة الدينية في الهند وغيرهم من الدعاة، والمجددين كثيرون من بناة النهضة الحديثة في أنحاء الأقطار الاسلامية.
وأم النهضة الحديثة هي مصر حرسها الله - فكانت مركزا للقيادة والتوجيه للعالم الإسلامي بما حفظت عليه من تراث إسلامي أصيل، وبما أحرزت عليه من تقدم ورقي في العلوم والمعارف، فبفضل دعايتها توحدت الشعوب الاسلامية ودب فيها الوعى، وبإعانتها المعنوية والمادية تحررت بعض الأقطار الاسلامية من ظلم الاستعمار، فكانت مأوى كل ثائر وموئل كل لاجئ ومستغيث كل مظلوم، ومدافعة عن كل مغبون، فتعرضت للخطر مرار وتكرارا من أجل تبني النهضة والدفاع عن المسلمين، وبالتالي فلها أيادي بيضاء على النهضة الحديثة المباركة، ولما رأى الدعاة الربانيون صولة الأجانب على الأمة المحمدية، فسدوا عليها منافذ الحياة وأفسدوا عليها معاني الرجولة، ونزعوا منها المثل العليا التي هي مناط الطموح، فأصبح معظمها يعيش بلا حياة حقيقية وبدون أمل ..
قاموا لاستنهاض همم هذه الأمة، ليحركوا ما كان ساكنا منها، فناشدوا ضمائرها لتنبعث عقلية مشبعة بالروح الإسلامي في نفوس الأفراد والجماعات ولتبرز الحياة من داخل النفس.
فتحافظ على الكيان الاجتماعي من القلق الدائم، واضطرابات النفوس المستمرة ونبذ الخصومات والمنازعات من بين المسلمين، والعداوة المستحكمة الحلقات بينهم، واحلال محلها الأخوة والوئام، والاتحاد والانسجام ليقضى على التفرق ونزعات الطوائف، وعلى ما نجم من الثقافات الأجنبية والحضارة الدخيلة المتعاقبة على أوطان المسلمين، والمبادئ الهدامة التي غرسها الاستعمار في الأمة أيام الاحتلال، لأن المسلمين عاشوا قرونا كثيرة وهم بعيدون عن تعاليم الاسلام وإن كانوا متشبثين به دائما رغم أنف الاستعمار.
وهؤلاء الدعاة يعلمون علم اليقين أن المسلمين اذا تمسكوا بالإسلام يكونون أقوياء ما في ذلك شك ولا ريب، وقادرين على البناء والتشييد في جميع مجال الحياة، أيام كان المسلمون متمسكين به كان لهم مجد يعنو لجلاله وعظمته كل مجد وقادة وأبطال فتحوا العالم غربا وشرقا، وأعلام نبغوا في كل علم وفن، فكانوا هداة العالم، وكوكب عليائه، وان أقدس تراث للمسلمين هو الدين الحنيف الذى بين طريق السعادة، وعلم الأخلاق الفاضلة، فعليه قام المسلمون وبه فازوا على جميع الأمم، وعليه شايعتهم وعلى كلمته تابعتهم.
هذه النهضة التي وقعت في القرن الرابع عشر الهجري حصلت على أيدى نخبة من علماء المسلمين، تبلورت في حركة اصلاحية شاملة مناهضة لسياسة الاستعمار ومحركة لجمود المجتمعات الاسلامية وركودها، هذه الحركة كانت هي السبب في تحرير المسلمين من نير الاستعباد.
كان جمال الدين الأفغاني - طيب الله ثراه - أنبغ عقلية، وأقوى شخصية في العالم الاسلامي، وأثبت من غيره من نوابغ الشرق على مواجهة طغيان حضارة الغرب والفلسفة المادية الالحادية التي بدأت تغزو المسلمين حينذاك فأهاب بالمسلمين الى التمسك بالدين الحنيف لينقذوا أنفسهم من التيارات الغربية
التي تجتابهم ومن سلطان المادة الطاغية، وله دور كبير في رفع الدين والتمسك بأوامره في نفوس المسلمين، وكان رضى الله عنه يعتمد على القرآن في توجيه المسلمين مع بقية الأعلام الآخرين الذين أصبح حبهم والانتصار لهم شعار المثقفين الأحرار.
أراد هؤلاء الأعلام أن يصلوا حاضر هذه الأمة بماضيها المجيد الذى وضع المتكبرين الذين كانوا يفسدون في الارض ولا يصلحون، ورفع المحرومين المضطهدين من الحضيض حتى يصبحوا سادة بعد ما كانوا عبيدا والله سبحانه وتعالى قد حقق عزمهم وسعيهم وجهادهم باستقلال هذه الشعوب وطرد المعمر منها.
قال الشيخ البشير الإبراهيمي في هؤلاء الدعاة: (أسسوا هذه النهضة المباركة على صخرة الحق، وقادوا زحوفها الى الغايات العليا فربوا الأجيال على هداية القرآن والهدي المحمدي وعلى التفكير الصحيح وأحيوا دوارس العلم بدروسهم الحية وغرسوا بذور الوطنية فأحيوا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغير، وحالفها الخنوع والذل ردحا من الزمن، ولسانا عربيا فصيحا أفسدته الرطانات الأجنبية وتاريخا عف الزمن عليه ومجدا أضاعه الأحفاد).
قام العلماء الربانيون، وهم روح الأمة وقواد الملة المحمدية ينبهون المسلمين على ما أوجبه الله عليهم فأيقظوا النائمة قلوبهم عما فرض عليهم الدين، فعلموا الجاهل وأزعجوا الجامد، ذكروا الجميع بما أنعم الله على آبائهم، واستلفتوهم الى ما أعد الله لهم - ولو استقاموا - وحذروهم سوء العاقبة، إن لم يتداركوا أمرهم بالرجوع الى ما كانوا عليه أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فأزالوا اليأس بتذكير وعد الله، وكان وعده حقا:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (1)، وكانوا يعلنون للجميع بقولهم: (ان للعقائد الراسخة آثارا تظهر في العزائم والأعمال، وتأثيرا في الأفكار والإرادات لا يمكن للمعتقدين أن
(1) سورة النور
يزيحوها عن أنفسهم ما داموا معتقدين هذا الايمان في جميع شؤونه وأطواره).
الايمان بالله له خواص لا تفارقه، ونزعات لا تزايله، وصفات جليلة لا تنفك عنه وأخلاق عادلة سامية لا تباينه، وكانوا يلقنون الجماهير سيرة سلفهم الصالح ليقتدوا بها فيقولون (صبر المسلمون الأولون في نار الامتحان والابتلاء حتى ظهر ايمانهم ذهبا إبريزا خالصا من كل غش، وأعد الله لهم جزاء على صبرهم نعيما مقيما، ما أصعب ابتلاء الله!، وما أشد فتنته!، وما أذق حكمته في ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، ان ابتلاء الله هو تحمل الصعوبات، وبذل الأموال والأرواح، كل خطر فهو تهلكة ينبغي البعد عنه الا في الايمان، فكل تهلكه فيه فهي نجاة، وكل موت في المحاماة عنه فهو بقاء، وكل واجب في أداء حقوق الايمان فهو سعادة أبدية.
إن الفرار من محنة الله مجلبة للخزي الأبدي، ان الفرار من صدمة جيش الضلال وان بلغت أقصى ما يتصور موجب للشقاء السرمدي، لا سعادة الا بالدين ودون حفظه تتطاير الأعناق).
سقنا هذا الكلام النفيس من العروة الوثقى، اعتمد هؤلاء الأعلام في تحريك الجماهير وإنهاض عزائمهم على الدين الحنيف، فكانوا يخاطبون الأمة بالتمسك به، والالتفات حوله، وأن تعتصم بحبله المتين، ففيه الشفاء العاجل لأمراضها الاجتماعية وعللها المزمنة الفاسدة، ولا شيء ينقذها من هذه الحالة التعساء، والهوة السحيقة التي سقطت فيها الا الاسلام، فهو وحده يوحد بين أجزائها وطوائفها، ويكون فيها التعاون الصادق لتنهض من كبوتها وتخرج من غفلتها وجمودها، وتتناسى الأضغان والأحقاد حتى ترمى عن كاهلها مخلفات القرون المظلمة قبل أن تتحطم وتنقرض من الوجود لا قدر الله. تابع هؤلاء الدعاة الربانيون دعوتهم بقولهم (الأمة الاسلامية لا يسوغ لها أن ترضخ للذل والعبودية، وترضى بالإهانة والظلم، وتتقاعس عن اعلان شأنها وبناء مجدها واسترجاع سيادتها، ولها ملك عظيم على وجه الأرض، ورحمة الله مفتحة لها وما عليها سوي أن تلجها، وروح الله نافحة لها فما عليها الا أن تستنشقها، والفرص
المواتية لها دائما تمد إليها يدها تتطلب إنهاضها فأي موجب لليأس؟ ولماذا هذا القنوط؟ وبين أيديها كتاب الله الناطق بأن اليأس من أوصاف - الضالين، وهي من بقية الرجال، وخلف الأبطال معاذ الله - أن ينقطع أمل الزمان فيها، والاسلام متمكن من قلوبها، وسلطان القرآن متحكم فيها، فمن أصابه نصيب من حمده فهو محمود، ومن أصيب بسهم من مقته فهو ممقوت (راجت هذه الدعوة المباركة في أوساط العالم الإسلامي فاستيقظ على صيحاتها الداوية من غفلته وسباته، فكانوا يتلقون هذا الكلام الرباني بكل شوق ولهفة، يرهفون أسماعهم اليه ويتدارسونه فيما بينهم حتى وعته القلوب، وصادف من النفوس هوى، فاستجاب الناس الى صوت الحق الداعي الى الجهاد في سبيل الله فرجع الناس الى الدين الحقيقي، ونبذوا عنهم الدين التقليدي الخرافي فصاروا يمتثلون لأوامره القيمة، وأقبلوا على تأسيس المدارس الحرة لتعليم أبنائهم اللغة العربية والدين لأنهما متلازمان، وهما الرابطان بين المسلمين، وموحدانهم - في جميع أهدافهم وغاياتهم والمحافظان على تراثهم المجيد وتاريخهم الجليل.
أنشئت في أنحاء الأقطار الاسلامية جرائد ومجلات تدعو الناس الى الاسلام والعمل به والاعتصام بحبله المتين، فكانت تنشر تعاليم الدين، وترشد وتوجه وتعظ، وتنشر المحاضرات العلمية المتنوعة في شتى الميادين، والبحوث التاريخية ودروس التفسير وشرح الأحاديث النبوية وبيان الحكمة واستخراج الأحكام منها على صفحات المجلات ليطلع المسلمون على ما كان لهم من كنوز قيمة.
وأعلنت الجمعيات الاسلامية التي تأسست في أنحاء الوطن حربا شعواء على الجمود والتخلف والانحطاط الخلقي والمادي والخرفات التي ألصقت بالدين زورا وبهتانا حتى حجبت الدين الصحيح عن الأمة بواسطة الجرائد الحرة، وكانت منبرا لصوت الحرية والمرآة التي تنعكس عليها أعمال المجتمع.
ولما فطن المسلمون الى حالتهم التي هم فيها فوجدوا أنفسهم مجردين من جميع الحريات وأنهم يتخبطون في ذل كبير وظلم
عظيم يقاسون منه جميع الويلات، فتكون منهم زعماء وطنيون قادرين على مجابهة الاستعمار ومنازلته في كل ميدان، فبدأوا يغرسون المبادئ الوطنية الصحيحة في نفوس الجماهير. فكان تعاون صادق مع جميع الهيئات والأحزاب الوطنية.
فبهذه الدعوة الربانية، والأحزاب السياسية التي كانت سببا في وحدة الأمة ويقظتها، وبهذا الإحساس والشعور بالمسؤولية أصبحت تتجاوب مع بعضها بعضا وتتقارب فيما بينها شيئا فشيئا حتى صارت تتألم بألم واحد، وتحس بشعور واحد، والاستعمار لا يخشى من أية قوة كانت إلا من قوة الدين هي التي وحدها تهدد وجوده في هذه الأوطان.
امتلأت نفوس المصلحين والشباب بشعور ديني فياض، وحماس متقد، فبعث فيهم الحمية والأنفة والغيرة على ما أصاب أمتهم من المهانة والمذلة فعزموا على بعثها من جديد لتتبوأ مكانتها اللائقة بها بين الأمم، وآلوا على أنفسهم أن ينقذوها مما تردت فيه، ولو طارت نفوسهم في سبيلها شعاعا، واعتمدوا في الوصول الى أهدافهم على العقيدة الاسلامية التي لا زالت تجيش بها هذه الشعوب، والمواهب الكامنة فيها.
عزم المسلمون على أخذ حقهم الطبيعي والشرعي مهما كان الثمن، فأخذوا يجدون في الروابط والتضامن، لأن الحياة ليست في السياسة وحدها، ولا في الكلام والحماس الخاليين من كل معنى، بل في التكاتف وربط العلائق فيما بين الأمة على أساس المحبة الخالصة والثقة المتبادلة ظهرت الروابط بين المسلمين في هذه النهضة سليمة لم تتأثر بملابسات الحوادث والزمن، كانت هذه الشعوب تدرك الهوة العميقة والمهالك الشديدة التي بينها وبين تحقيق أمالها، والعوارض التي تعترض سبيلها في الوصول الى أهدافها، فتسلحت بالصبر والشجاعة والثبات، وكانت شاعرة بالتضحية الجسيمة، والجهد الكبير الذى تبذله الا أنها واثقه من النصر الذى ستحرز عليه في نهاية المطاف.
ولما فشلت جميع المحاولات في التفاهم مع الاستعمار صممت الشعوب الاسلاميه على الجهاد في سبيل تحرير أوطانها، والمسلم
اذا أخلصت نيته لله ووحد النظام فإنه صعب المراس شديد الوطء لا ينام على ضيم، ولا يستكين للذل، بل يسعى جاهدا لينال الشهادة في سبيل الله، ولا يخشى العدو، بل يخاف الله على ما صدر منه من التقصير في حقه، طموح للمعالي شريف النفس محب للحرية يبذل في سبيلها كل ما يملك.
عزمت الشعوب الاسلامية على أن تجعل حدا لطغيان المعمر وسيطرته ونبذت الخضوع والخنوع، ورفضت كل رأي سقيم لا ينفع، أو فكر لا يفيد.
تقدمت الطليعة الواعية من الأمة الى ميادين الكفاح في خطة محكمة من النظام وأعلنتها ثورة داميه عارمة على الظلم والاستبداد والطغيان والجبروت، وها هي الهزات تجتاح أوطان المسلمين الواحدة تلو الأخرى، فما تكاد تهدأ في وطن إلا وتشغل في وطن آخر حتى تحرر المسلمون.
مضى المسلمون في هذه الثورة المباركة ينشدون تطهير بلادهم من الاستعمار النجس عن طريق الكفاح المسلح، وكانوا لا يملكون الحرية، ولا الوسائل التي تتكافأ مع حيويتهم غير أنهم استعملوا في هذه الحرب أساليب المقاومة المنظمة التي لا يستطيع العدو أن يقضي عليها، فأخذوا يحطمون معالم الاستعمار ومنشآته العمرانية التي شادها في هذه البلاد، وأساطين الاستعمار والغلاة منهم، وكل من التف حولهم من الخونة تحطيما تاما باذلين في ذلك الدماء الزكية والأرواح الطاهرة والمهج في سبيل تحرير بلادهم من الاستبداد والسيطرة، فكانوا كالعناصر الطبيعية ينفجرون في كل مكان، والآيات القرآنية التي كان يرتلها الخطباء عليهم تتنزل على قلوب المجاهدين بردا وسلاما، والاستشهاد كان يحدوهم في سبيل الله وشعارهم (الله أكبر).
تخلص معظم العالم الإسلامي من حكم الاستعمار، وقذف به وراء البحار. وجاءت ثورة الجزائر الكبرى، فكانت في زحفها الشديد تحرق وتخرب صروح الظلم، ولا تبالى بما أمامها من قوة وجند يعد بمآت الآلاف، ولا بالأسلحة العصرية المتطورة
المختلفة الأنواع والاحجام والاشكال، فكل هذا لم يستطع أن يوقف زحف الثورة نحو غاياتها وأهدافها المرسومة لها، فشقت طريقها من بين قوة الظلم والاستبداد حتى وصلت الى النصر فتحررت هذه الشعوب وأصبحت حرة طليقة