الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنيه
لا أذكر المعارك الحربية التي دارت رحاها طيلة سبع سنوات ونصف في هذا الوطن، من تخوم صحرائه من الجنوب الى البحر في الشمال ومن الحدود المغربية من الغرب الى الحدود التونسية من الشرق.
كل هذه البقاع الفسيحة بما فيها من جبال وسهول وصحاري، ومدن وقرى كانت مسرحا للاشتباكات الكثيرة، والمعارك الدامية، والاغتيالات والتخريب والهدم
…
ولا أذكر أعمال المعمرين الأوربيين وبطشهم الشديد بالمسلمين، ولا المنظمة الإرهابية التي اقترفت أكبر الجرائم وأشنعها، وتكالبها على الأبرياء العزل من السكان، وأعمالها الوحشية التي تجاوزت كل حد، فكانت تدخل المنازل ليلا، وتخطف الشخصيات، وتخرج منها الكلام بالقوة، ومن بعد تقتلها أو تدفنها حية حتى تموت، ومن بعد صارت تستعمل القتل الجماعي على مرأى ومسمع من الحكومة الفرنسية، ولا أعمال الفرقة الأجنبية، وجنود المظلات الذين كانوا يرفعون الشباب والشيوخ في الشاحنات الى مراكز التعذيب ليستنطقوهم وينكلوا بهم حتى مر الشعب على أشد العذاب وأقساه هولا، ولا الخسائر التي لحقت المسلمين في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وكذلك لا أتعرض للخسائر التي ألحقها الثوار بالمعمرين من الأوربيين الذين كانوا عرضة للشعب في جميع مطالبه وحقوقه الشرعية وخطفهم للغلاة منهم والضباط من الجيش الفرنسي، وذبح الخونة والجواسيس، ومصادرة أموالهم، ولا العزائم التي تسلح بها الشعب، ولا الاستماتة التي أبداها في مقاومة الاستعمار حتى أحرز على النصر، ولا الدعاية التي جهز لها الطرفان المتحاربان كل إمكانيتهما، فكل طرف كان يستعمل أساليب وأنواعا من الدعاية ليجلب الشعب الى جانبه، ولا الأموال التي كانت تنفق على هذه الحروب الاستعمارية، ولا البرامج التي سطرت للقضاء والتغلب على الجانب المعادي فهذا كله لا أتعرض
له، لأن الثورة الجزائرية عمت الوطن كله، وهزت كيان الشعوب المستعمرة للمطالبة بحقها، فأصبحت تقاوم الاستعمار بالسلاح حتى أحرزت على استقلالها.
وتفصيل حوادث الثورة ليس في مقدور أي فرد كان أن يقوم به وحده، لأنها اجتاحت البلاد كلها وطالت مدتها. ولهذا لا يستطيع أحد أن يحصي حوادثها الكثيرة. اللهم إلا إذا تألفت لجان من جميع الولايات التي كانت إبان الثورة - عندئذ - يستطيع رجال كل ولاية أن يسجلوا حوادثها على حدة محافظة على التراث النفيس الذي هو شرف الآباء والأجداد، ووفاء للشهداء الأبرار، والمجاهدين الأبطال.
فبذلك يكون للجزائريين تاريخ طريف أضافوه الى تاريخ أمتهم التليد قديما وحديثا
…
وإنما أذكر الخطوط الرئيسية للثورة والحوادث الهامة، والمراحل التي اجتازتها، وأتبع سيرها من بدايتها الى نهايتها، ولا أدخل في التفاصيل وإنما أشير الى بعضها لأنها متعددة النواحي مترامية الأطراف، لعبت فيها الشجاعة والبطولة دورا هاما، هذا قوي بسلاحه معتمد عليه. والآخر قوي بحقه وبإيمانه وإرادته التي لا تخضع ولا تلين.
من الذي كان يظن أن الشعب يقف في وجه أعظم دولة وأضخم جيش مسلحا تسليحا عصريا ينتزع منه استقلاله، ولا أحد كان يعلم أن في الشعب عباقرة.
يستطيعون أن يسيروا العالم، ومن كان يتكهن أن الفدائيين يغوصون على الموت غوصا، وهم غض الشباب رطب الإهاب، كل هذا لم يستطع أحد أن يعرف قبل الثورة، وإنما الفضل يرجع إليها هي التي اكتشفت المواهب التي كان منطويا عليها هذا الشعب.
نترك تفصيل حوادث الثورة لغيرنا، وإنما قصدنا الوحيد - في هذا الكتاب هو بيان مفعول الدين كيف حوك الجماهير الى الجهاد في سبيل الله، فأصبح هو العامل البارز فيها، فوحد بين صفوف الشعب فصار كل فرد من أفراده لا يدخر جهدا ولا وسعا
في سبيل ما يقدمه الى الثورة، وأمد المجاهدين بقوة معنوية فعالة لا ينضب لها معين في جميع مراحلها وأطوارها واستجاب الشعب له من صميم أعماقه، واستهان بما كان له من نفس ومال في سبيل الله، وفضل الموت على الحياة، ولولا الدين لما حالف النجاح الثورة أبدا، ولم تستطيع أي قوة في العالم أن تزحزح الاستعمار من هذا الوطن.
الدين هو القوة الفعالة في هذا الوطن، فكل من استمسك به فقد فاز ونجا، وكل من ابتعد عنه فقد ارتكس وهلك، ولهذا اعتمد عليه قادة الثورة في دفع الشعب الى الجهاد والتفاني والإخلاص في سبيله، وكان العدة والزاد، والحصن الحصين الذي يلجأ إليه المجاهدون في كل زمان ومكان.
لولا النهضة الأخيرة للشعوب الاسلامية لانسلخت عن الاسلام ومنها برهنت على أنها لا زالت متأثرة به.
وهنا يبدو بوضوح وجلاء أن أشد الأديان مراسا في إباء الاستعباد هو الاسلام الحنيف.