الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عوامل ثورة الجزائر الكبرى
كانت الأمة الجزائرية مضطهدة منذ الاحتلال الفرنسي الذى وطئ أرضها سنة 1935 م، ومنذ ذلك الوقت وهى محرومة من جميع حقوقها الطبيعية والشرعية بعيدة عن وسائل الحياة، وكانت تعامل معاملة سيئة من طرف الاستعمار، كالاحتقار والإهانة والازدراء بكرامتها وشرفها، ونزع أملاكها وتسخيرها للعمل، وعدم احترام مقدساتها، وغطرسة الحكام وتجبرهم.
كل هذا كان يترك آثارا سيئة في نفسها، ولن تستطيع أن تفرج عن كبتها لا بكلام أو دفاع أو رد فعل، لأن سيف الاستعمار كان مصلتا دائما فوق رأسها، ولهذا ما كادت تعلن ثورة 54 حتى انفجرت كالبركان، ونفرت الى ميادين القتال خفافا وثقالا.
ومن العوامل القوية التي نشرت الوعى الوطني في الشعب ودفعته الى الثورة هي الأحزاب السياسية الوطنية التي تأسست من أجل هذا الغرض فكانت تهدف الى مقاومة الاستعمار وتحرير الوطن، فنبهت الرأي العام، وأيقظته من سباته فدبت الحياة في أوصاله
…
وتأسيس الأحزاب يرجع الى ما بعد الحرب العالمية الأولى ان المحاضرة الأولى للحركة الوطنية وقعت في سنة 1924م ألقاها الامير خالد في باريس حضرها عدد كبير من مهاجري شمال افريقيا، وعلى عقبها تفرق الجمهور وهو يهتف (تحيا شمال افريقيا حرة مستقلة)، وفي شهر سبتمبر من نفس السنة تأسس نجم شمال افريقيا في باريس، وكان الغرض منه أنه يدافع عن مصالح العمال المادية والمعنوية والاجتماعية، ومن بعد تولدت منه حركة تهدف الى استقلال أقطار شمال افريقيا، الرئيس الأول لهذه الحركة هو السيد محمد جفال مع أعضاء مكتبه، وفي سنة 1929م حلت هذه الحركة من طرف السلطة الفرنسية غير أنها تابعت سيرها في تسر تام، وفي نفس السنة اعتقل رئيسها مصالي الحاج وغادر التراب الفرنسي، والتجأ الى جنيف حيث التقى
بالمسلم الغيور الذى كان يشرف على جميع حركات العالم الإسلامي ورائد النهضة الحديثة السيد: شكيب أرسلان رحمه الله ..
وكان الهدف من تأسيس حزب الشعب هو تأسيس دولة حرة مستقلة عن فرنسا، وكان يحارب الاندماج، واتباعه هم الذين قاموا بتنظيم ثورة 54.
حزب البيان والحرية الذى يرأسه السيد: عباس فرحات الذى كان فيما بعد رئيسا للجمهورية الجزائرية المؤقتة وكان عامة أعضائه لهم ثقافة أجنبية عالية، وبعضهم مثقفون بالثقافة القومية.
بدأ السيد: عباس فرحات حياته السياسية بنشر مقالات عن حالة الجزائر التعساء في جريدة (ترى دونيون) أي صلة الوصل، وذلك في سنة 1924م يندد بسياسة الاستعمار الغاشمة، ويطالب بإصلاحات عامة تدخل على الوضع الجزائري منها احترام الاسلام، فمن العبث محاربته لأنه قادر على الصمود في وجه كل تخريب وتهديم، وفي وجه كل عدو وباغ، كما يقول السيد عباس فرحات، ويواصل كلامه ويقول: إن سياسة المساواة في الحقوق هي التي وحدها الكفيلة بضمان مستقبل مشترك، ان التمسك بفكرة الغالب والمغلوب يقتضي حتما الى الويلات والنكبات.
هذان الحزبان الوطنيان أي حزب الشعب وحزب البيان متفقان في الغاية والأهداف، ومختلفان في الوسائل والأساليب، فسار كل حزب في اتجاهه على حسب الخطة التي رسمها لنفسه، والطريق الذى اختار سلوكه حتى يصل الى غايته المنشودة ألا وهو الاستقلال عن فرنسا، وكل حزب كان يبث دعاته في كل ناحية من نواحي الوطن لينشروا المبادئ الوطنية والوعى بين المواطنين، وأنشأ كل حزب جرائد كانت تصدر باللسان العربي والفرنسي، فكانت تطلع على الشعب بأفكار جديدة وآراء قيمة، وكانت توزع نشرات في الفينة بعد الفينة تحث المواطنين على مواصلة السير جنبا الى جنب ويدا في اليد
…
وكان كل حزب يعقد اجتماعات جهوية ومؤتمرات عامة وندوات صحفية في الداخل والخارج تطالب بحقوق الشعب وتندد
بأعمال الاستعمار نحو المواطنين الأحرار، وأكثر ما كانت تقع مشادة عنيفة بينه وبين المناضلين ومصادمة دامية تسفر عن جرحى ونفى وامتلاء السجون والقتل والتعذيب ومصادرة الأموال حتى أصبحت هذه الاحوال عادية.
وبجانب هذين الحزبين تأسست حركة دينية إصلاحية وإذا قلنا حركة دينية فهي عبارة عن الروح الوطنية الخالصة والقومية الصميمة، لأن الدين لا يفرق بين الأخلاق والاقتصاد، ولا في السياسة والاجتماع، فهذه الأشياء كلها جزء لا يتجزأ منه.
هذه الحركة هي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أنشئت سنة 1931م تحت رئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس تغمده الله برحمته، فكانت على رأس هذه الهيئة نخبة من العلماء العاملين منهم الشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ العربي التبسي الشهيد، والشيخ مبارك الميلي، والشيخ الطيب العقبي، وخير الدين، وتوفيق المدني وغيرهم كثيرون.
فمبادئ هذه الهيئة هي مبادئ الاسلام نفسه، وكانت تعمل على تنقيته من الخرفات والبدع التي طرأت عليه لتربط ماضي الأمة الاسلامية بحاضرها لأن المسلمين الحاليين ركنوا الى الجمود والغفلة وعدم الاهتمام بالدين الذى هو مطية الى الدار الاخرى، والمتدينون منهم من توغل في الزهد، واستسلموا للواقع، وتشبثوا بالبدع والعادات السيئة التي حجبت حقائق الاسلام.
أخذت هذه الهيئة على عاتقها أن تحارب الأفكار الدخيلة والعوائد الفاسدة، والانحراف الشنيع، وتنشر الدين الصحيح الخالص من جميع الشوائب لتعود روحه الطاهرة الى النفوس فتصلحها مما طرأ عليها من مخلفات العصور المظلمة، وترجع الى اللغة العربية مكانتها في هذا الوطن بعد ما كادت أن تضمحل منه، وصارت أجنبية وغريبة عنه، فبدأت هذه الهيئة تنشر العلم وتحارب الجهل الذى خيم على هذه الأمة، وتحيي تاريخ المسلمين وتراثهم المجيد ليطلع الأحفاد على ما كان لهم من ماض مجيد، وأدب قيم نفيس وحضارة مزدهرة
…
أعضاء هذه الجمعية كلهم، لهم عقيدة راسخة وقدم ثابت في العلوم والمعارف والفنون، وشهرة واسعة في الأخلاق والتربية، وأنهم يمثلون السلف الصالح في عقيدته أحسن تمثيل، تحملوا مسؤولية الدعوة الاسلامية ليبلغوها وينشروها بين الناس كافة، وكانوا شاعرين بما يعترض سبيلهم من العراقيل والصعوبات التي ينصبها لهم الاستعمار، والذين يمتصون دماء الأمة باسم الدين، ولكنهم عازمون على تبليغ رسالتهم مهما كان الثمن ومهما كانت الأحوال والظروف.
كان يرأس هذه الجمعية الشيخ عبد الحميد بن باديس قدس الله روحه، فكان نابغة عصره في العلوم والمعارف وداهية في السياسة، وآية في الإخلاص والجرأة والإقدام، له مواقف مشهورة لا زالت ماثلة في الأذهان الى الآن
…
أنقل بعض الفقرات التي قالها فيه صديقه وزميله في الكفاح الشيخ البشير الإبراهيمي طيب الله ثراه قال فيه: (باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر، ووضع أسسها على صخرة الحق، ومنشئ مجلة الشهاب مرآة الاصلاح وسيف المصلحين، ومربي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدي المحمدي، وعلى التفكير الصحيح، ومحى دوارس العلم بدروسه الحية، ومفسر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن، وغارس بذور الوطنية الصحيحة، وملقن مباديها علم البيان وفارس المنابر.
وحسبة أنه أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغير ودنيا لابستها المحدثات والبدع، ولسانا أكلته الرطانات الأجنبية، وتاريخا غطى عليه النسيان، ومجدا اضاعه ورثة السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب)، عيون البصائر.
توزع اعضاء هذه الهيئة المحترمة على عواصم القطر وأخذوا يبينون للناس تعاليم الاسلام الصحيحة التي نزل بها الوحى الشريف، وكانوا يفسرون القرآن الكريم تفسيرا سلفيا لو فهمه الأعاجم لدخلوا في الاسلام، فكانوا يستخرجون منه الأحكام والنواهي والوعد والوعيد، ويشرحون أحاديث الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويلقون سيرته المطهرة للناس، وسيرة
خلفائه الراشدين، وصحابته الأبرار وفتوحات الاسلام في الشرق والغرب، وتاريخ المسلمين العام والخاص، ويعلمون اللغة العربية وآدابها وفنونها وكانوا يهيبون بالأمة أن تتمسك بالكتاب والسنة وتترك البدع والخرافات اللتين لم تكونا من الدين في شيء
…
اختار الإمام عبد الحميد بن باديس الاقامة في عاصمة النهضة العلمية وهي مدينة قسنطينة وكانت مسقط رأسه للتدريس، وتصدر لتعليم الطلبة في الجامع الأخضر واعتنى رحمه الله بتربيتهم عناية كبيرة حتى تأثروا بسيرته السلفية، وكان يتولى بنفسه شؤونهم الخاصة من نفقة وكسوة ومسكن، وكان يعدهم ويهيئهم ليكونوا في المستقبل دعاة للإسلام، وكان يحرر جريدة البصائر التي هي لسان حال جمعية العلماء المسلمين، ويقوم بدروس الوعظ والارشاد للكبار، فكان يبين حكم القرآن السامية ومعانيه القيمة بأسلوب سلفي محكم جذاب، وقد فسر القرآن بهذه الطريقة في ربع قرن من الزمن الا أن هذه الثروة العلمية النفيسة قد ضاعت - لا شك - أنها لو كانت موجودة لأحيت أمة، والسبب في ضياعها هم تلامذته لأنهم لم ينقلوها عنه، وكان يجول في القطر للدعوة وتأسيس المدارس والمساجد وإلقاء المحاضرات والدروس، ويتصل بالشخصيات والجمعيات، وينشر الاصلاح، ويحذر من الغفلة والجمود والبدع والخرافات الى غير ذلك من نشر الدين.
حل العلامة الجليل والحافظ الكبير، والنابغة في المنقول والمعقول، والأديب الشهير، والكاتب البارع الذى لانت له اللغة العربية فكانت أداة طيعة في يده فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي طيب الله ثراه وجعل الجنة متقلبه ومثواه - بعاصمة تلمسان، فأخذ ينشر العلم والمعرفة والاصلاح في هذه المدينة العريقة، فأحيا ما كان دارسا منها ورجع إليها سمعتها التاريخية، وكان يجول رحمه الله في دائرتها يؤسس المدارس لتعليم اللغة، وينشئ المساجد لإقامة شعائر الدين ونشره. وأنشأ مدرسة في مدينة تلمسان، وسماها دار الحديث، وكان يعلم فيها كتاب الموطأ للإمام مالك رحمه الله وأنشأ مدرسة أخرى للبنات، وسماها مدرسة عائشة رضي الله عنها ومسجدا.
واتخذ الشيخ العربي التبسي مدينة تبسة مقرا لدروسه الاصلاحية، وأنشأ مسجدا ومعهدا لتعليم الطلبة الكبار ومدرسة للأطفال لتعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن، وكان ينشر الاسلام في تلك النواحي الفيحاء وتمركز الداعية الكبير الشيخ الطيب العقبي في عاصمة الوطن، واتخذ نادى الترقي مركزا لدعوته ومحاضرته ودروسه الاصلاحية، وحل المؤرخ الجليل الشيخ مبارك الميلي عاصمة الجنوب - الأغواط - وكان داعية للإسلام في تلك النواحي، وله تآليف جليلة منها تاريخ الجزائر، والشرك ومظاهره، وكذلك بقيت الأعضاء الآخرين، كل واحد منهم اتخذ ناحية ينشر فيها الاصلاح والتعليم، ويحارب البدع والخرافات، وكل عضو من أعضاء هذه الجمعية المحترمة كان يجول في دائرته ويعقد اجتماعات يوجه فيها الأمة الى الدين، فسرعان ما اقبلت على هذه المعاهد السلفية لترتوي من منابعها الصافية وكانت الجمعية تعقد اجتماعات عامة وخاصة سنويا في العاصمة، فالاجتماع العام يحضره جمع غفير من الناس من كل ناحية من نواحي الوطن، يقدم فيه رئيس الجمعية أعمالها التي أنجزتها في بحر السنة الماضية بالتفصيل، ويطلعهم على الأعمال التي تكون في المستقبل فيعاهدون بعضهم بعضا ويجددون العزم على مواصلة السير الى الأمام -
…
ومن بعد تحضر الجماهير الغفيرة الى الحفلة العامة التي تقيمها الجمعية ليتكلم فيها الخطباء والشعراء، فكان الحاضرون يسمعون البيان العربي يتدفق من ينبوعه صافيا، فيثير هؤلاء الخطباء حماس الجماهير بفصاحتهم ويتأثرون بكلامهم ونصائحهم، فكان هذا الاجتماع أشبه شيء بسوق عكاظ في الجاهلية.
سادت هذه الحركة الدينية القطر كاملا حتى أصبح المدرسون في كل ناحية يفتحون المدارس والنوادي ويؤسسون الجمعيات ويحثون الأمة على التمسك بالدين الحنيف والرجوع الى العمل به لتعيد مجدها وعزها، وكانت مقالات الارشاد والتوجيه الصحيح تنشر على صفحات جرائد الجمعية وتفضح أعمال المستعمر
…
صادفت هذه الحركة الاصلاحية ميلا في النفوس،
وهوى من القلوب، وأعجب بها الشعب أيما اعجاب، فأقبل عليها من كل ناحية ولا سيما سكان المدن.
وصارت الأمة تتسابق الى انشأ المساجد والمدارس الحرة، وكانت تتعاون على نشر العلم والمعارف، والتضحية في سبيل اصلاح الأمة بكل نفس ونفيس، فأصبحت الأمة تعتني بتربية أبنائها تربية علمية عصرية وطنية فكانت ترسل الكبار منهم الى الخارج ليتعلموا العلوم على اختلاف أنواعها، إما الى فرنسا أو الى تونس، أو الى المغرب الأقصى أو الى الأزهر الشريف بواسطة جمعية العلماء وبإرشادها، وأنشأت معهدا سمته باسم رئيس الجمعية في مدينة قسنطينة، فانتشر الاصلاح الديني واللغة العربية في أنحاء الوطن، فبدأت الحركة العلمية تسود المواطنين، فصارت المدارس تعد بالعشرات والتلاميذ بعشرة الآلاف.
رجعت هذه الحركة الدينية الأمل في النفوس والثقة بالمستقبل، والاعتزاز بالشرف القومي.
الشعب الجزائري مسلم يستجيب للدين إذا وجد من يوجهه ويحافظ على تقاليده وعوائده، ولا يتفاد الا به، ولا يخضع الا له غير أن الأغلبية منه جاهلية بتعاليمه، ولم يبق لها من الدين الا العاطفة، ولهذا لما دعاه قادة الثورة باسم الدين فلب النداء في الحال وقدم في سبيل الدعوة الى الثورة كل ما يملك من نفس ومال وجهد.
أسفرت هذه الدعوة المباركة أي دعوة الاصلاح عن استيقاظ الرأي العام.
هذه الهيئة هي التي بعثت الاصلاح والوطنية من جديد في الأمة الجزائرية، وشمل الاصلاح جميع الميادين من سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية.
حاربت هذه الجمعية الجهل المتفشي في المجتمع والفساد بجميع أنواعه وألوانه، وآلت على نفسها ألا تترك العمل حتى تنهض الأمة مما تردت فيه، وتتخلص من العوائد السيئة والتقاليد المنافية لتعاليم الدين حتى يعود الاسلام واللغة العربية الى هذا الوطن من جديد ..
كان الاستعمار يحصى على هذه الجمعية أنفاسها، فيلقي القبض على أعضائها، ويزج بالمدرسين في السجن، ويغلق المدارس فكان واقفا لها بالمرصاد لأن هذه الجمعية المحترمة كانت. أشد عليه من الحركات الوطنية الأخرى المجردة عن الدين، والفرق بين هذه الحركة، وحركة الأحزاب الوطنية فحركة الأحزاب الوطنية سياسية محضة، فإذا حصلت البلاد على الاستقلال لا تبالي بعد ذلك على أي شكل يكون حكم البلاد ونظامه شيوعيا كان، أم رأس مال، بخلاف الحركة الدينية فزيادة على استقلال البلاد تريد أن تكون شخصيتها بارزة في الحكم، وأن يكون مستمدا من روح الاسلام ومن القومية العربية
…
ومن العوامل التي ساعدت على تأييد الثورة في الجزائر وتشجيع الشعب على خوضها ميثاق جمعية الأمم التي أصدرته بعد الحرب العالمية الثانية، ينص هذا الميثاق على منح الشعوب المستعمرة حق تقرير مصيرها بنفسها، هذا الميثاق تحررت به شعوب آسيا وافريقيا تقريبا، وكاد ظل الاستعمار الثقيل يتقلص من هاتين القارتين، ولن يعود إليهما أبدا، ولم يبق بين الدول الكبرى المتقدمة صناعيا، والشعوب المتأخرة المغلوبة على أمرها الا المعاملات الحرة التي أساسها المحبة والمودة
…
وكذلك من العوامل التي ساعدت على إبراز الثورة الجزائرية كفاح العالم الإسلامي المتواصل في الشرق والغرب، بعثت هذه الحركة التحريرية حماسا فياضا في الشعب الجزائري، فمنذ بداية القرن الحالي والعالم الإسلامي يكافح ويناضل حتى استقلت شعوبه وتحررت من سيطرة الاستعمار بما في ذلك طرابلس الغرب من بعد الحرب العالمية الثانية، ثم جاء دور المغرب العربي الكبير، فأخذت شعوبه تستعد وتتهيأ لخوض المعركة الفاصلة معركة التحرير الكبرى، ولما لم يستجب الاستعمار لمطالبه الطبيعية وحقوقه الشرعية ثأرت تونس في سنة 1951م وتابعها المغرب العربي.
وكان أول من أعلن العصيان في وجه الاستعمار جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله، فكان يعارض القوانين التي تصدرها السلطة الفرنسية بشدة، وكان يحضر اجتماع الأحزاب الوطنية
التي كانت تطالب بالاستقلال، وكان يوجه الأمة نحو أهدافها الحقيقية، ويؤسس المعاهد العلمية، فانزعجت فرنسا من هذه الأعمال، فألقت عليه القبض، وأبعدته عن بلاده مع عائلته الى جزيرة (مدغشقر) في المحيط الهادي فبقي فيها معتقلا الى أن تم استقلال المغرب العربي على يد شعبه الباسل.
كان الشعب الجزائري في هذه الفترة - هاديا الهدوء الذى يسبق العاصفة، وكان متدمرا من هذا الهدوء الذى لا مبرر له في الوقت الذى ثار فيه شقيقاته، وأحزاب هذه الأقطار كانت متضامنة فيما بينها بحيث اذا ثار قطر من الأقطار الثلاثة فبقيت الأقطار الأخرى تثور لأن الوطن واحد والمحتل واحد
…
لكن قادة الشعب الجزائري كانوا يعرفون عقلية الاستعمار المتحجرة وتعلقه الشديد بالوطن الجزائري، ومواقفه الصلبة تجاه المواطنين لأنهم اصطلوا بناره منذ فتحوا أعينهم، واختبروا سياسته في حرب الهند الصينية رغم بعدها الشاسع، واصل الحرب فيها بضع سنوات فكيف بالجزائر التي لا تبعد عن فرنسا الا بمقدار ساعتين فقط عن طريق الجو؟ وكانوا على يقين من أنه لا يريد أن يسمع باستقلال الجزائر لأنه يعتبرها أرضا فرنسية والجزائر مصدر القوة والثراء له، وما دام يملكها يستطيع أن يسيطر على البحر الأبيض المتوسط وعلى قارة افريقيا. كان قادة الثورة متيقنين من هذا كله، وزيادة على ذلك من أنه إذا ثار الشعب فإن الاستعمار سيبطش به بطشا كبيرا.
ولذا يجب عليه أن يستعد استعدادا كاملا بخلاف القطرين الشقيقين، فإن لهما معه معاهدة حماية وكيانهما باق على كل حال، أما الجزائر فهي مستعمرة هذا هو سبب التريث.
والحكومة الفرنسية من جهتها كانت تعرف مسبقا أن الجزائر لن تبقى مكتوفة الأيدي أبدا أمام هذه الثورة التي تجتاح المغرب العربي الكبير، وتعلم أيضا شدة مقاومة الجزائريين وصلابة مواقفهم، ولهذا لما ثارت الجزائر سنة 1954م تساهلت فرنسا مع الشعبين الشقيقين في الاستقلال، وجمعت قوتها ورمت بها الثورة الجزائر العارمة الكبرى.
ومن العوامل التي دفعت الأمة الى اعتناق الثورة هي ضغط الحكومة الفرنسية نفسها على الشعب وتنكيلها به تنكيلا شديدا ظنا منها أنه يرهب القوى ويتراجع عن الثورة.
ففي بداية الثورة وقفت الأمة الجزائرية منها موقف الحذر والتريث حتى يتضح أمرها غير أن الحكومة الفرنسية اعتبرت الأمة كلها ثائرة من أول وهلة فكان إذا أحدث الثوار شيئا من أعمال التخريب في ناحية ما من نواحي الوطن تسلط عذابها على جميع سكان الناحية لا فرق بين البريء والمتهم، ولا بين صديقها وعدوها فتنكل بأصدقائها الخلص كما تتكل بأعدائها، ولما رأى المحايدون وأصدقاؤها هذه الحالة أصبحوا ثائرين.
وكذلك من الأسباب القوية التي أرغمت الشعب على خوض غمار الثورة، وتأييده لها بكل ما يملك من قوة وجهد المنظمة الإرهابية التي أسسها غلاة المعمرين وأطلقوا عليها اسم اليد الحمراء
…
هذه المنظمة أهلكت الحرث والنسل، وخربت الديار، والبلاد وأتلفت الأموال، وأزهقت الأرواح بالمآت، وعاثت في الأرض فسادا كبيرا، فكانت تدك المنازل دكا، وتدهم السكان ليلا، فتروع النساء والصبيان. وتخطف الشخصيات في لباس النوم.
فتنفد فيهم حكم الاعدام حالا، وكانت تفعل هذه المناكر الوحشية على مرأى ومسمع من الحكومة، فضج الناس من هذه الأعمال الوحشية، وأصبح الناس يلتحقون بالثورة رجالا ونساء وهذه المنظمة الملعونة تأسست في أول الثورة وبقيت الى نهايتها.
ولما تحققت أن الثورة في تصاعد والجيش الفرنسي في حالة عجز عن اخماد الثورة فسلحت السكان الأوربيين وتواطأت مع قادة الجيش الفرنسي على إبادة الشعب فكانت تشحن السيارات بالمتفجرات الشديدة المفعول وتضعها في مراكز العمل، أو في المحلات العامة، فتنفجر هذه المواد، فيسقط الناس بالعشرات موتى وجرحى، والسكان الاوربيون يطلقون النار من الشرفات على المارين في الطريق فيتساقطون ما ترى الا الجثث المنتشرة هنا
وهناك، وتضع القنابل لهدم المنازل ونسف المحلات التجارية وغيرها، وتخريب منشآت الحكومة وإتلاف ما فيها كالمستشفيات والمعامل والمدارس، والمكتبات العامة الى غير ذلك من التخريب العام الشامل. بحيث ما كاد الأوربيون يغادرون البلاد حتى تركوا اقتصادها مخربا ومنهارا تماما.
لهذه الأعمال الوحشية وأمثالها شجعت الشعب على خوض الثورة والدفاع عن النفس والأموال والعرض، ولا طريق له الا هذه الطريق فهو مرغم على سلوكها، ولهذا وقف كرجل واحد في وجه الاستعمار طيلة سبع سنوات ونصف، والحرب متواصلة ليل نهار، والمعارك دائرة رحاها في كل ناحية، وكان في زحفه الشديد ينتقل من نصر الى نصر. ومن قوة الى أقوى حتى اعترف الاستعمار له بحق تقرير مصيره في الحرية والاستقلال.