الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عملية التطهير المعروفة بعملية (جوميل)
بدأت القيادة العليا للجيش الفرنسي تفكر في خطة أخرى للقضاء على الثورة بعد ما فشلت في جميع برامجها وخططها الحربية، وراح جنرالات فرنسا يعصرون أفكارهم مرة أخرى، وبعد عدة من الشهور بذلوا فيها جهدا غير قليل من التفكير، وأخيرا استطاع الجنرال شال القائد العام للقوات الفرنسية في الجزائر أن يعثر على برنامج جديد وسرعان ما أبدا ارتياحه التام وإعجابه الشديد بهذه الخطة وقال الآن أصبنا الهدف، وبدأ يختار لهذا البرنامج من الأسماء وكلما أطلق عليه اسما من الأسماء لا يعجبه فيبدله باسم آخر فمرة يسميه الشرارة، وبعد حين يعدل عن هذا الاسم ويسميه التوأمين الى غير ذلك من الأسماء التي توافق النتائج المرجوة منه
…
ولما عزم على تطبيق هذا البرنامج أعلن عنه أنه سيسحق الثورة ويبيد جيش التحرير.
مهد الجنرال شال لبرنامجه هذا بحملة كبيرة في الصحف وأشاد بهوله وخطورته، وراحت الدعاية الفرنسية تعظم من شأنه، وقد أشرف الجنرال ديغول على إعداد ما يلزم لنجاح هذا البرنامج الخطير فزاد في عدد القوات المقاتلة في الجزائر من خمسمائة الى سبعمائة ألف جندي
…
حرص الجنرال شال على تجنب الأخطاء التي كشف عنها فشل البرامج السابقة عند تطبيقها في ميادين القتال، وأهم هذه الأخطاء هو تشتيت القوى المقاتلة، وبرنامج شال يحرص على جمع القوات الفرنسية والهجوم بها على مواقع جيش التحرير، ويكون على موقع بعد موقع، وبعدما ينتهى من تطهير منطقة من مناطق الثوار، ينتقل الهجوم الى المنطقة المجاورة، وهكذا حتى يقضي على قوة جيش التحرير الموزعة بين الولايات والممتدة من غرب الجزائر الى شرقها
…
بدأ الجنرال شال بتطبيق برنامجه على الولاية الخامسة في وهران، زحفت القوات الفرنسية على امتداد الولاية دون أن
تصطدم بوحدات جيش التحرير، انتهت العملية في هذه المنطقة، واعتقد الجنرال شال قد نجح، وأن منطقة وهران قد تطهرت من الثوار، وأخذت صحف الاستعمار تشيد بهذه الانتصارات الباهرة، وتغنى راديو باريس بهذه العمليات الحربية الموفقة الناجحة التي قام بها الجنرال شال في 17 من أفريل 1959م، نشرت الصحيفة الاستعمارية (الجنرال ديغول) يهنئ القادة العسكريين على عملياتهم الأخيرة في وهران وفي الحال وجه الجنرال شال كل ما لديه من قوات للولاية الرابعة، وما كادت قواته تخطو أولى خطواتها داخل الولاية الرابعة حتى نشط جيش التحرير الذي كان في الولاية الخامسة الذي كان مختفيا حتى ذهبت الحملة العسكرية وأخذ يهاجم قوات شال من خلف، ولم يكن شال يتوقع هذا، لأن الولاية الخامسة قد تم تطهيرها، وتوهم شال أن هذه الوحدات الصغيرة هي كل ما لدى الثوار من قوات في هذه المنطقة فواصل زحفه على الولاية الرابعة، ولم يكد يتغلغل فيها حتى فوجئ بهجمات جيش التحرير تنهال عليه من الولاية الخامسة، فوقعت القوات الفرنسية في مأزق لم تكن لها به علم، وتحتم على القائد العام للقوات الفرنسية ان يختار من أمرين واحدا إما أن يطلب النجدة من فرنسا ليرد بها هجمات جيش التحرير، وإما أن يقسم قواته ليدافع بها في الجهات التي فتحها له الثوار
…
أما طلب النجدات من فرنسا فقد كان مستحيلا تقريبا لأن القوات الاحتياطية من الجنود التي كانت في الجزائر، قد دفع بها الجنرال شال الى الولاية الرابعة، وكانت حكومة الجنرال ديغول قد رفضت جميع الإمدادات العسكرية الى الجزائر، فلم يبق الا تقسيم قواته
…
وهكذا وجد الجنرال شال نفسه في الخطأ الذي حرص على تلافيه، فقد أجبره جيش التحرير على تشتيت قواته، وأصبحت برامجه لا تختلف عن سابقتها من البرامج الأخرى. لقد بدئ برنامج شال في وهران، والونشريس، ثم الحضنة وأخيرا في بلاد القبائل وفي المنطقة انتهى برنامج شال ولم يعد صالحا للعمل
…
كانت عملية (جوميل) تمثل في نظر فرنسا المرحلة الخامسة، ونظرا للدعاية التي أثيرت حولها، والآمال الكبيرة التي علقتها عليها حكومة فرنسا والرئيس ديغول.
اختصت هذه العملية بتطهير منطقة بلاد القبائل من جيش التحرير تمتد مساحة هذه العملية من مدينة دلس الى شرقي مدينة بجاية ساحل البحر ومن الجنوب تمتد من مدينة البويرة الى قرية قنزات، واستعملت القيادة العليا الفرنسية في هذه العملية أكبر قوة مسلحة كما صرح بذلك الجنرال ((زلير)) القائد العام فقال:(لقد وضع في متناول الجنرال شال كل القوى اللازمة لنجاح عملية "جوميل") وأجمعت الصحف الفرنسية على أنها أضخم وأكبر عملية حربية نظمت في الجزائر منذ بداية الثورة
…
بدأ الهجوم بمحاصرة بلاد القبائل وفق الخطط التالية، قامت الطائرات العمودية بنقل جنود المظلات الى جبل "أكلفادو" شرقي العزازقة، وهو مركز من مراكز الثوار الهامة، وفي نفس الوقت كانت سفن الأسطول تنقل الجنود الى الشاطئ الصخري عند رأس (سيقلي) غربي مدينة بجاية، وانطلقت الجنود تتسلق الجبال وتتخذ مواقعها عند المسارب والدروب الجبلية الضيقة بينما قامت أربعة آلاف سيارة مصفحة، ومائتا دبابة بمحاصرة الطرق الكبيرة، ولم تقتصر عملية "جوميل" على محاصرة جيش التحرير بمنطقة القبائل فحسب بل شمل الحصار مآت المدن والقرى الواقعة في نطاق العملية وعدم الدخول إليها والخروج منها وكان الجند يفتش جميع المنازل والأكواخ، وكان يساعد القائد العام الجنرال شال في هذه المعركة الخامسة التاريخية الجنرال فور وآخرون
…
بادر جيش التحرير الى تجزئة وحداته الى وحدات صغيرة قليلة العدد، وعمل على تجنب المعارك، وهو نفس العمل والخطة التي اتبعها في وهران، وجبال الونشريس غير أنه كلف فرقة خاصة بعمليات تخريب المواصلات، وبث الالغام في طريق السيارات الحربية، ونصب الكمائن للقوافل العسكرية.
رغم القوات الفرنسية الكثيرة لم تتمكن من اكتشاف مواقع جيش التحرير فوجدت فراغا هائلا في الجبال والغابات والشعاب،
ورغم هذا الحصار المحكم كان الفدائيون يتسللون الى داخل مدينة بجاية ويهاجمون مراكزا عسكرية، ويخطفون اثنين من المعمرين، وفي اليوم التالي من بداية العملية عثرت القيادة الفرنسية على جثث مائتين من جنود المظلات أبيدوا جميعا على أثر نزولهم من الطائرات العمودية فوق جبل "اكفادو" بينما جرح مائة آخرون أثناء هبوطهم، وفي نفس اليوم قتل جيش التحرير واحدا وعشرين جنديا من جنود فرفسا، وجرح ثلاثة وأربعين في اشتباكات خفيفة وقعت في كل من مدينة صدوق، وأقبو، وفي قرية تيقزيرت وفي جبل أنشار
…
ومع هذه العمليات كلها فإن القوات الفرنسية لم تقف على أثر لوحدات جيش التحرير، فأخذت تنتقم من السكان الأبرياء كما هي عادتها، فكانت تضرم النار في القرى والغابات الواقعة في نطاق هذه العمليات بقنابل النابالم المحرقة، وعلى هذه الخطة دارت معركة "جوميل".
ولما بدأت القوات الفرنسية في تطبيق برنامج شال في بلاد القبائل أكثرت من التصريحات قبل العملية بتأكيد الانتصارات والقضاء على الثورة، فأكد الجنرال شال عدة مرات بأنه سيتمكن عن قريب من القضاء على التورة (بالقوة العسكرية) وصرح ناطق بلسان القيادة الفرنسية الى صحيفة "لورور" الفرنسية في عددها الصادر 31 - 7 - 1959 قائلا سنعرف في أقل من شهر إن كانت هذه الحرب ستستمر الى ما لا نهاية لها أم انها ستنتهي في القريب، وأستطيع أن أؤكد أنها ستنتهي في القريب
…
ولما فشلت هذه العملية، وخاب الجنرال شال في برنامجه في بلاد القبائل خيبة تامة كما خاب سابقا في المناطق الأخرى، أخذ جنرالات فرنسا يحاولون أن يستروا هزيمتهم الشنيعة بأقوال جوفاء، فصرح الجنرال فور يوم 3 أب - 1959م قائلا: (الواقع أن عملية جوميل ليست شيئا خارقا للعادة، إنها ليست إلا استمرارا للعمليات، وظروف الحرب في الجزائر تفرض علينا أن نغير في كل يوم نفس العمل الذي قمنا به أمس، هذه الحروب تتطلب منا .. أن يكون السكان في معونتنا، وإذا لم نحصل على
تأييد السكان ومعونتهم لنا، فإن هذه الحرب لن تكون لها نهاية، وفي اليوم التال نشرت الصحف الفرنسية تصريحا للجنرال شال قال: (الواقع أن عملية جوميل صعبة وشاقة إلا أننا نعرف ذلك منذ البداية، فالعدو يذوب بكيفية عجيبة كالزئبق لكننا سنتمكن من الانتصار عليه (
…
وإذا قارنا هذا الهجوم بالهجوم الذي وقع في شهر نوفمبر سنة 1958م الذي قاده الجنرال فور، فنجد أن هجوم شال لا يعد شيئا بالنسبة إليه، الجنرال فور في هجومه العام حشد كل ما كان في الجزائر من قوات مسلحة وقاد في هجومه سبعة عشر جنرالا من بينهم ماسو، راؤول سالان، ميزروج الخ
…
واستمر الهجوم شهرين من القتال المتصل، وانتهى بالفشل التام
…
ولقد فشل برنامج شال في مناطق وهران، وتجمد في بلاد القبائل كما تجمدت صخورها.
وإني أسوق الى القراء الكرام ما قاله أحد الضباط الفرنسيين الذى كان مشاركا في عمليات جبال الونشريس نشرته صحيفة (لي مانيته) الفرنسية في عددها الصادر في 8 شهر تموز 1959م قال الضابط الفرنسي "الحقيقة أن جبهة التحرير منظمة حتى داخل مراكز التجمع، ويجب أن نعرف ما يختفي وراء البلاغات الفرنسية من حقائق، فقد سمعتم من غير شك عن العمليات الكبرى التي جرت في الونشريس، وعن نجاحها، الواقع إننا لم نتعمق في المناطق المنيعة أكثر من 25 كلم، ولم نحصل على أية نتيجة جديدة من الناحية العسكرية، أما الجبال فهي محرمة على جنودنا، فلا يضع فيها واحد منا قدمه، وفرق الكوماندوس الخاصة بعمليات المطاردة لا تتوغل بعيدا، أما عدد القتلى في بلاغاتنا نعد فيها جميع الضحايا المدنيين بما فيهم من نساء وأطفال، وقد تمكن الثوار من أن ينتزعوا منا السلاح خلال هذه العمليات لكننا نحن لم نتمكن من العثور على سلاح واحد للثوار مما أعاد الى أذهاننا ذكرى الهند الصينية
…
لقد خاب برنامج شال في جميع خطواته رغم أنه عزز برنامجه باختيار القادة الذين لهم دربة ومهارة أمثال ((بيجار)) كلما أتى بوحدات خاصة من جنود المظلات لمطاردة جيش التحرير في الجبال
…
وأسوق بعض آراء العسكريين الفرنسيين قال ((بيجار)) يوجد في الجيش الفرنسي بالجزائر جنرالات أكثر من اللازم مع أن المعارك تربح في الميدان لا في مكاتب الجنرالات، وكذلك كثرة السيارات والدبابات فإنها تعرقل الجيش عن خفة الحركة وتعوقه عن سرعة القتال
…
سافر الجنرال ديغول بعد ما مضى على عمليات ((جوميل ((شهران الى الجزائر، واجتمع بشال وجميع القادة العسكريين والضباط المشرفين على تسيير العمليات، وأخذ يبحث معهم على النجاح الذي أحرزوا عليه في هذه العملية الواسعة، فوجد مظاهر الفشل أكثر من مظاهر النجاح، وإذا كان ثم نجاح في هذه العمليات فسرعان ما يتلاشى.
فوقف الجنرال ديغول في مركز القيادة (أرتوى) فعملية)) جوميل)) كانت تسير من هذا المركز، وحاول أن يتعرف على كيفية تطبيق برنامج شال على هذه المساحة الشاسعة التي يمتد طولها الى أكثر من ألف وخمسمائة كلم، قال الجنرال شال هذه هي خريطة الجزائر، وكلما نجحنا في تهدئة جهة من الجهات طوينا الجانب الذي تقع فيه هذه الجهة، إننا بدأنا هجومنا على معاقل الثوار من الحدود المغربية من ناحية غرب الجزائر وسنواصل هذا الهجوم الى الحدود التونسية من الشرق ونضمن أن لا نرجع الى الوراء مطلقا، فإذا ما وصلنا الى الحدود التونسية بهذا الزحف تكون التهدئة قد نجحت، وعندئذ نستطيع أن نعلن للعالم أن الحرب في الجزائر قد انتهت
…
وعلى ضوء هذه الخطة المسطرة استعرض الجنرال ديغول كل مراحل هذه البرامج منذ أن بدئ بتنفيذها في أوائل فبراير سنة 1959م - فوجد أن البرنامج بدأ من الغرب أي من الولاية الخامسة من مقاطعة وهران، ثم تقدم الى الونشريس، فجبال
الحضنة، ثم واصل سيره الى بلاد القبائل حيث توقف تماما وعجز عن مواصلة زحفه الى بقية مناطق الثورة شرقا عندئذ أدرك الجنرال ديغول الفشل الذى أصاب برنامج شال لأنه لم يستطع أن ينتهى من أعماله الحربية من الناحية الغربية حتى عاد نشاط الثوار من جديد الى مقاطعة وهران كما كان من القوة والاتساع، وكذا عاد نشاط الثوار الى جبال الونشريس، وجبال الحضنة وقتل جنرال كبير وهو ((جارو)) واثنان من ضباطه الكبار خلال إحدى المعارك.
وفي اليوم الذى غادر فيه الجنرال ديغول تلقى تقريرا رسميا عن العمليات الحربية فوجده مليئا بهجمات جيش التحرير امتدادا من الغزوات في غرب الجزائر الى القالة في شرقها، كان يتلو أنباء المعارك التي دارت في ذلك اليوم في وهران، والونشريس والحضنة وقسنطينة، وسوق أهراس حتى فوجئ بمصرع الجنرال جارو في إحدى المعارك
…
ولمس الجنرال ديغول تغير نغمة ضباطه بحيث صار الجنرال شال يطالب بمزيد من الامدادات.
ولما سأل الجنرال ديغول القائد العام في الجزائر وأركان حربه عما إذا كان بوسعهم تحديد موعد انتهاء عمليات التهدئة أجابوا بأن ذلك متروك للظروف الحربية وحدها، ولا يمكن التنبؤ به ولو بصفة تقديرية لصعوبة الموقف، وعلى إثر ذلك صرح الجنرال ديغول قائلا: إذن لا يزال الطريق أمامنا طويلا
…
هذا ما كان من برنامج شال القائد العام للقوات المسلحة في الجزائر فإنه باء بالفشل التام والخيبة المريرة، وتبخرت آمال جنرالات فرنسا في الهواء، لقد عجزوا عن تحقيق أي انتصار عسكري على جيش التحرير، وأفلسوا في جميع برامجهم وخططهم الحربية بحيث أحبطت لهم الثورة جميع الهجومات العنيفة.