الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسباب تدهور المجتمع الإسلامي الأول
جاء الرسول صلى الله عليه واله وسلم بدين الاسلام الذى هو من عند الله، ولم يجئ بنظريات علمية معقدة، أو أراء فلسفية شائكة تبعث في النفوس شبها وحيرة وفي العقول شكوكا وريبا، وانما جاء بدين سماوي معالمه واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار، ومبادئه في غاية السهولة والبساطة، جاء بدستور رباني ينظم علاقة الانسان بربه وبأن الواجب على المخلوق نحو خالقه، ثم يربط علاقة الإنسان بالمجتمع الذى يعيش فيه.
ومن أجل هذا بعث الله رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الى الناس كافة موجها اهتمامه لإصلاحهم اصلاحا جذريا على مقتضى الدين الحنيف ومحذرا لهم من العوائد السيئة والمعتقدات الفاسدة التي كانت مسيطرة عليهم حينذاك، وأمرهم بالتمسك بهذا الدين، وترك الجدل والخوض في الآيات المتشابهات، ويفوضون علمها الى الله لأن عقول الناس قصيرة، ولا علم لهم بالغيب، فربما يؤولون آية على غير مقتضى ما أراد الله فيهلكون، لهذا كان يحث صلى الله عليه وسم على الأخذ بالآيات المحكمات من الكتاب، وبين لهم أن الجدل في الدين تنشأ عنه المذاهب المتطرفة التي لا طائل تحتها، والدين من عند الله لا اختلاف فيه وما هلكت الأمم السابقة الا بهذا الجدل العقيم فإنهم اشتغلوا بالآراء والنظريات القصيرة البعيدة عن المقصود، وتركوا ما ترشدهم إليه الكتب السماوية فتفرقوا أوزاعا ومذاهب واختلفوا طوائف وأمما وتقطعوا أحزابا وشيعا كل حزب بما لديهم فرحون.
فضلوا طريق الهدى التي رسمها لهم الانبياء عليهم السلام فضعفوا وذهبت ريحهم وتشتتوا وعجزوا عن أداء رسالتهم السماوية، وأصبحوا هم والأمم المشركة على سواء ولما دخل الناس في هذا الدين واطمأنت نفوسهم إليه تهذبت أخلاقهم واستقام سلوكهم، وذهبت السلبيات التي كانت سائدة على
المجتمع الجاهلي وكونوا مجتمعا راقيا تظله راية التوحيد، ورائده الكتاب والسنة، تسوده العدالة والمحبة والإخاء، والمساواة، فتحلى بالعلم والعرفان، وكان هدفه التقوى ونشر الدعوى الاسلامية بين الأمم والجهاد في سبيلها، لهذا سبقوا غيرهم في التقدم والحضارة وملكوا أعظم دولتي العالم لذلك الوقت، وبقي على ذلك هذا المجتمع زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وزمن خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين.
ولكن ما كاد يلتحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حتى بدأ الخلاف بين المسلمين أول ما بدأ في أمور اجتهادية كالخلاف الذي وقع في سقيفة بني ساعدة في تولية من يخلف الرسول في الحكم بعد وفاته، لأنه لم يوص الى أحد الى غير ذلك من الخلافات التي وقعت بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على المسائل التي طرأت على المجتمع الإسلامي من بعد وفاة الرسول الأعظم لكنها لم تكن خطيرة ينجم عنها التفرق أو وقوع الفتنة.
كان اختلاف في السياسة، واختلاف على الشخص المتولى، واختلاف في بعض المسائل الاجتهادية من هذا الاختلاف لم يتجاوز الرأي المحمود الى الرأي المذموم الذى لا يتفق وقواعد الشرع.
ظل الامر على ذلك الى أن قامت الأحزاب السياسية، وظهرت الأغراض الشخصية والطموح الى السيادة هنا بدأ المسلمون يتفرقون أحزابا متعادية بعد ما كان يجمعهم حزب واحد الا وهو حزب الله الا أن حزب الله هم المفلحون.
ومن هناك بدأ الخلاف يخرج عن دائرة الرأي المحمود الى دائرة الرأي المذموم، واستفحل في هذه الآونة، وتعصب كل فريق الى حزبه، والدعاية له والدفاع عنه ولا يستطيع أي حزب أن يسلم للآخر فتصدعت الوحدة الاسلامية الى أحزاب مختلفة وفرق متناحرة التي بناها الرسول صلى الله عليه وسلم وشادها الخلفاء الراشدون من بعده.
لم يظهر هذا التفرق بكل ما فيه من خطر على المسلمين إلا في عصر الدولة العباسية، أما قبل ذلك فقد كان المسلمون يدا
واحدة، وعقيدة واحدة إذا استثنينا ما كان من المنافقين الذين ينتسبون الى الاسلام وهم يضمرون الكفر ولأهله العداء.
أما ما وقع بين سيدنا علي كرم الله وجهه وبين معاوية رضى الله عنه من خلاف لم يكن له مثل هذا الخطر الذى وقع المسلمون فيه من القرون المتأخرة من حياة المسلمين وإن كان النواة التي قام عليها التحزب، ونبت عنها التفرق والاختلاف.
بعد ما انتهى عصر الخلفاء الراشدين استقرت السلطة العامة في أيدى بني أمية وأصبح التنافس عليها بين حزبين كبيرين وهما بنو هاشم وبنو أمية ولكل منهما أتباع ومن بعد آلت الى بني هاشم ولكن كان الدين مسيطرا على الجميع الا في الحكم فإنه انحصر في هذين الحزبين ولم يعد المسلمون هم الذين يعينون خليفتهم وإنما أصبح القوى من الحزبين هو الذى يتولى على السلطة ومن ثم يبايعه المسلمون بيعة عامة، لم يكن الحكم شورى كما نص عليه القرآن وكما كان في زمن الخلفاء الراشدين، تفرق المسلمون الى أحزاب متعادية بعد ما كان يجمعهم حزب واحد ألا وهو حزب الله ألا ان حزب الله هم المفلحون، وذلك بسبب العناصر التي انشقت عن الخلافة العباسية في بغداد واستلاء العنصر التركي على وظائف جيش الخلافة والذي فعل ذلك هو، الخليفة المعتصم وهو ثامن خلفاء العباسيين، لأنه واجه حروبا كثيرة في الداخل والخارج، فاتخذ جيشا من الترك خوفا من الجيش العربي ونفوذ العنصر الفارسي، فعين قادة الجيش منهم ليضمن لنفسه التفوق والنصر، ونسي المعتصم أنه بعمله هذا وضع السلاح في يد مجرم مأفون عاث في الارض فسادا بعد ما تمكن هؤلاء الأتراك من الجيش بدأوا يتصرفون في الخلفاء أنفسهم بتولية هذا ونزع هذا حسب مصلحتهم وأهوائهم، ومن بعد أصبحوا ينكلون بهم تنكيلا شنيعا، يقول الامام الشيخ محمد عبده رحمه الله: (فلم يكن بين عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء، واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم، ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الاسلام والقلب الذى هذبه الدين بل جاء إلى الاسلام بخشونة الجهل، يحملون ألوية الظلم لبسوا الاسلام على أبدانهم ولم ينفد منه شيء الى
وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل الهه معه - يعبده في خلوته ويصلي مع الجماعة لتمكين سلطانه) وقد كان لهذه الحالة التي سيطرت على الخلاقة في بغداد أثر خطير في العالم الإسلامي كله لان كثيرا من ولاة الأقاليم أدركوا أن الخلافة فقدت سلطانها، ولم تكن لها الهيبة التي كانت من قبل.
أصبح الأمراء في قبضة قادة الجيش فأنف ولاة الأقاليم من هذه الحالة التي صارت إليها الخلافة، فكثرت حركة الاستقلال في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، وأعلنوا استقلالهم اللهم إلا ما كان من صلة تربطهم بالخليفة لأنه أصبح رمزا ليس له من النفوذ شيء.
وبهذا الاستقلال والخروج عن الخلافة الشرعية تصدعت الوحدة الاسلامية، وتشتت المسلمون شرقا وغربا.
انثلمت وحدة الخلافة وانقسمت على نفسها: خلافة عباسية في بغداد وكانت هذه الخلافة في آخر عهدها تقنع بالاسم فقط، وليس لها من النفوذ شيء، وخلافة فاطمية في المغرب العربي ومصر، وخلافة أموية في أطراف الأندلس، تفرقت بهذه الخلافات كلمة المسلمين، وانحطت رتبة الخلافة الى وظيفة ملكية فسقطت هبيتها من النفوس، فتفرق العالم الإسلامي الى دويلات، فتغلب بنو بويه على فارس، ومحمد بن إلياس على كرمان، ونصر بن احمد السلطاني على خرسان، والبريديون على واصل والبصرة والديلم، وأبو طاهر القرمطي على اليمامة والبحرين، ومحمد بن ظغج الاخشيدي على مصر والشام، كما كان المغرب العربي في أيدى الفاطميين، والأندلس في أيدى عبد الرحمان الناصر، ولم يكن هذا التقسيم ليضير المسلمين فقد بقيت هناك وحدة اسلامية لا تعترف بالحدود السياسية. وقد كان المسلم من أي قطر كان يستطيع أن يتنقل من مكان الى مكان آخر دون أن يجد أية صعوبة أو عنت.
أصبح طلاب الملك والرئاسة يعتمدون في الوصول الى الحكم على قوتهم وحدها معولين في ذلك على عصبيتهم الخاصة وبطانتهم وحاشيتهم. لا على المحبة والمشاورة من جماعة المسلمين، سن هؤلاء
الملوك والأمراء دساتير للحكم مخالفين بذلك أوامر الاسلام تبيح لهم ولأسرتهم وحاشيتهم الحكم المطلق الأبدي، وتجعل البلاد والعباد ملكا للجالس على العرش يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يسأل عما يفعل، ولا يحب الانتقاد في شخصيته ولا في كلامه ولا في سلوكه، ولا يستطيع أحد من رعيته أن يحاسبه على أموال الرعية التي تتدفق عليه وعلى من يلوذ به من الأمراء وحاشيتهم ضارين بذلك أوامر الاسلام عرض الحائط تطورت الأحزاب السياسية التي نشأت في صدر الاسلام الى فرق دينية متعصبة لآرائها متطرفة متنابذة مع بعضها بعضا من شيعة، وخوارج، ومعتزلة وباطنية، ومرجئة، وقرامطة وغيرهم.
غرق العالم الاسلامي - حينذاك - في طوفان جامع غصوب من الجدل والخصام والثورات الدامية، ومحاربة بعضهم لبعض، فقضت هذه الفتن الداخلية على وحدته وأذهبت بقوته فكانت السبب الأكبر في انهيار أممه، وسقوط دوله وجمود مجتمعه وتخلفها عن الحياة الحرة الكريمة، وعزلها عن التقدم في العلوم والصناعات.
الحقيقة أن العالم الإسلامي لم يستقر منذ سقوط الخلافة العباسية، من ذلك الوقت، وهو في أخذ ورد، فدولة تسقط، وأخرى تطلع، وشعب ينفجر وآخر يجمد ويستكين، ودولة تسعى لجمع شتات المسلمين فتجد المقاومة الشديدة منهم ويرفعون راية العصيان في وجهها، ودولة تبرز لمحاربه دولة أخرى تستولي عليها بالقوة وتنكل برؤسائها وأمرائهما، وأخرى تعقد حلقا مع دولة أجنبية على محاربة المسلمين، وكل هذه الدول تزعم الاسلام.
الحياة الاقتصادية - في هذا العصر - كانت تعبيرا عن الفساد المنتشر فكانت هناك ثلاثة أنظمه مستعملة، أولا: نظام الالتزام أو الضمان، ثانيا: مصادرة الأموال، ثالثا: اقطاع الأراضي للتجار الاثرياء.
أما نظام الالتزام أو الضمان: هو أن يدفع شخص ما خراج ناحية الى الخليفة وهو يأخذه من سكان هذه الناحية، أو الاقليم، أكثر مما أعطى، أما مصادرة الأموال فقد أصبحت من الأمور المألوفة فشملت كافة رجال الدولة، فكل مسؤول يصادر
من هو دونه، ووصف المقديسي ضرائب فارس فقال:(لا تسأل عن ثقل الضرائب وكثرتها، وأهل فارس هم أنجع الناس بطاعة السلطان، وأصبرهم على الظلم وأثقلهم خراجا وأذلهم نفوسا، وهم لم يعرفوا عدلا قط).
ووصف أيضا خراب بغداد فقال: (فأما المدينة فخراب، وهي في كل يوم الى الوراء مع كثرة الفساد والفسق، وجور السلطان، ويلخص حال العراق وفارس تحت حكم البويهيين بهذا القول البالغ الدلالة) فقال: (الرعية هامون والدور خراب والاقوات معدومة والجند متهاوجون).
أما اقطاع الأراضي للتجار الأثرياء فالدافع إليها حاجة الدولة الى المال وقد أقطعت للتجار أراضيها لقاء دفع قسط من غلتها إليها.
لقد كان هذا النظام الإقطاعي مع أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد سن قاعدة تقول: (سواد العراق ملك مشترك بين المسلمين)، لم يكن الخلل في النظام الاجتماعي يقل عن الخلل الذي رأيناه في الحياة السياسية والاقتصادية، ولم يكن للمسلمين وحدة اجتماعية متماسكة في هذا العصر. أو على الأقل شيء من التجانس، بل كانوا منقسمين إلى أحزاب وفرق وشيع يكره بعضهم بعضا، فقواد الجيش يقفون في القمة مطلقي التصرف في العباد والبلاد، وبلاط الملوك يعج بالنساء التي أوجدن كثيرا من الاضطرابات في توجيه السياسة ويأتي بعد هذا طبقة الاقطاعيين الذين عنوا بالزراعة واسترقوا المزارعين الصغار، ثم تأتي طبقة التجار الأغنياء. وأخيرا طبقة العامة التي يستثمرها كل الطبقات السابقة، وهكذا كانت البلاد في حالة استبداد سياسي، وخراب اقتصادي، وتفكك اجتماعي.
لقد دخل المسلمون العظماء وهم في أوج حضارتهم في عصر جاهلي تموج بهم الشهوات القاهرة، وتعصف بهم الأنانية الجامحة، امتلأت قلوبهم بالحقد والكراهية لبعضهم بعضا.
هذه العوامل وغيرها كانت سببا في انحرافهم عن الدين، والبعد عن تعاليمه السمحاء، فزادتهم تخاذلا وضعفا، فمن ذلك
الوقت الى الآن لم يستطيعوا أن يتعاملوا بالإسلام فيما بينهم، وأن يحققوا الاتحاد والأخوة والمحبة المنشودة ليكونوا لهم كيانا، حتى يقوموا بشؤونهم وجمع شملهم وشتاتهم لينقذوا أنفسهم مما تردوا فيه من الفوضى، والاضطرابات الخطيرة.
فبسبب خروجهم عن تعاليم الدين الحنيف بدأوا يفقدون الحياة الاجتماعية فأصبحوا فارغين من جميع النظم الراقية، ولم يبق لهم من مقومات الحياة الا تقليد المجتمعات الجاهلية التي لا تؤمن بدين فصاروا يعملون بمقتضاها، ولم يدروا أنهم بذلك تنكروا للبقية الباقية من الاسلام.
بهذا الاعراض عن تعاليم القرآن أخذت عوامل الفساد والتحلل من أوامر الدين تعظم وتستشري حتى كادت تقضى على العقيدة الاسلامية من النفوس، وكان الفساد ينتشر بسرعة في هذه المجتمعات المائعة الماجنة، حتى قضى على الخلافة الشرعية التتار المتبربرون وتركت وراءها أمما مبعثرة من دويلات صغيرة تتوق الى الوحدة وتتوثب الى النهوض.
سبب هذا التدهور هي الخلافات السياسية والدينية وتنازع الرئاسة والانصراف عن العقيدة الى ألفاظ ميتة لا روح فيها والانغماس في أنواع الترف والنعيم، والاقبال على لذائذ الشهوات وإهمال العلوم العلمية، والمعارف الكونية وإضاعة الوقت فيما لا ينفع ولا يفيد، وتضيع الجهود في للهو والعبث والحياة الماجنة. والغرور بسلطانهم، والانخداع بقوتهم، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم حتى أخذت في الاستعداد والأهبة فباغتتهم على غرة، وقد أمرهم القرآن الكريم باليقظة، وحذرهم من مغبة الغفلة والفرقة.
كان القرن الرابع الهجري مثلا واضحا على التغيرات الظاهرية والخفية التي عبثت بمقومات الأمة الاسلامية في هذا القرن.
هذا القرن كان هو العصر الذهبي الذى نضجت فيه الثقافة الاسلامية، وكان في الوقت نفسه قرن زوال مجد الخلافة، وانقسام الدولة الكبرى المترامية الاطراف الى دويلات متعددة.
توالت على المسلمين ظلم الحكام وبطشهم الشديد بالعلماء الاحرار، ومحاربتهم للعلم، وعدم تقيدهم بالكتاب والسنة، فضعف أمر الدين، وانطفأت مصابيح الهداية، وبالتالي فصل الدين عن السياسة وعدم صلاته بها. وكان هذا الخطأ في الفهم والسلوك في التطبيق كارثة المسلمين التاريخية.
كان الخليفة في صدر الاسلام رئيس الدولة. والمهيمن على شؤونها الادارية والسياسية والاقتصادية لكن في دائرة الدين الحنيف، وتطبيق للشورى ولما ضعف أمر المسلمين نشأت فكرة الخضوع للحاكم وإن كان مخالفا للعدالة القانونية الاسلامية.
ترك الملوك والرؤساء التشريع الإسلامي الذي هو روح الأمة وقلبها النابض ومكون شخصيتها ومجدد أخلاقها ومجدها ومنظم شؤونها، والموجه لها.
ولم يدر هؤلاء الحكام أت تحطيم التشريع الإسلامي هو تحطيم كامل لحياة الأمة ولجميع معنوياتها، وانهيار شامل لأخلاقها وتاريخها ومجدها كأمة بارزة لها كتاب سماوي، ودين هو خاتم الأديان، وعقيدة صحيحة سليمة من البدع والخرافات الوثنية.
المؤمنون الذين يقولون آمنا بالله وبرسوله ويكتفون بهذا الايمان، فإذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم تولوا وهم معرضون. فما أولئك بالمؤمنين، بل في قلوبهم مرض لأنهم ارتابوا أو خافوا من أن يظلمهم الله ورسوله، إنما كان قول المؤمنين اذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون، هذا الاعراض الشنيع الذي صدر من المسلمين عن كتاب الله وشرائعه، واستبدال الأدنى بالذي هو خير، أنه لمن اتباع الهواء المضلل، وإذا كان الدين لا يصلح للحياة ولا يؤدي لها نفعا ولا يقدم للمجتمع فائدة أيبقى بعد ذلك دنيا مقدسا كلا؟.
أما الطائفة التي اتبعت النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالته ونشر هديه فهي قائمه بالحق لا يضرها من خالفها وإنها
باقية الى يوم الدين، هذه الطائفة هم العلماء العاملون، هم المسلمون الحقيقيون الذين تمسكوا بما ورثوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم هي الصفوة المختارة من الأمة حافظت على الاسلام ونشرته بين الشعوب، وحاولت الاصلاح بين الحكام المتكالبين على حطام الدنيا، والمتعطشين الى سفك الدماء في سبيل الوصول الى أغراضهم الشخصية. وحاولت التوفيق بين الجموع الهائجة والطوائف المارقة، والأحزاب المتنافرة ليوحدوا صفوفهم ويجمعوا كلمتهم ويلتفوا حول الاسلام ليقفوا صفا واحدا في وجه أعداء الله الذين يريدون أن يطفئوا نور الله ولكن بدون جدوى.
هؤلاء العلماء الربانيون اشتغلوا بخدمة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعضهم قام بالتعليم والتدريس، وبعضهم تصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والدعوة الى الاسلام في كل مكان، وبعضهم خاض غمار الحروب ليذب عن الشريعة الغراء والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله لتكون العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وكانوا يحاربون الظلم مهما كان، ومن أي انسان صدر، فيجهرون بالحق، ويصرخون به في وجه الحكام المتغطرسين، ولا تأخذهم لومة لائم في الله، فلقوا من طرف الولاة، ومن طرف العامة الدهماء أذى كثيرا وبلاء عظيما إلا أنهم صبروا على ذلك احتسابا لربهم واقتداء بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وآخرون تصدوا للتشريع فكانوا يستخرجون الاحكام من الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين، والصحابة الكرام، فتركوا تراثا ضخما ورصيدا عظيما من العلوم النافعة يستفيد منها المسلمون وغيرهم.
ولو عمل الملوك والأمراء من ناحيتهم ما عمله العلماء العاملون لما توقف زحف الاسلام (لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
والذي يتتبع حوادث العالم، ويتدبر كيفية انقلاب الأمم.
وخاض في تاريخ الاجيال الماضية والحاضرة يحكم حكما عدلا لا يخالطه شك ولا ريب بأنه ما حاق مكر السوء بأمة وما نزل بها البلاء والعذاب، وما مسها الضر في شيء إلا كانت هي الظالمة لنفسها بسبب تجاوزها لحدود الله، وانتهاك حرماته ونبذ تعاليمه القيمة وأوامره العادلة، وانحرافها عن سنته وشرائعه.
وصلت الامة الاسلامية الى هذه الحالة المزرية بالشرف والكرامة لأنها تنكرت لنعمة الاسلام الذى جمعها على التوحيد، وبه امتازت وسادت على المماليك والشعوب شرقا وغربا. ولما بدلت وغيرت غير الله ما بها. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1)، ويقول أيضا:{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} (2).
حظ الشعوب على مقدارها من الوحدة وما انحط شأن قوم وما هبطوا عن مكانتهم إلا من بعد رزئهم بالافتراق وابتلائهم بالشقاق والنفاق فيورثهم ذلك ذلا طويلا وعذابا وبيلا.
إن جشع السلطة الزمنية لهو أسوأ شكل المطموح، فهو السبب الذي لاقت منه الانسانية في حل زمان ومكان من بلايا ومحن أكثر من أي شكل آخر، فصاحب هذه السلطة لا يتردد في اختيار الوسيلة التي يستطيع عن طريقها أن يتوصل الى غايته ولو كانت عن طريق الجريمة، ومحاولة اصطناع المعروف ومكارم الأخلاق سواء بسواء فيتخذها لتضليل الناس ليبلغ أهدافه وغاياته، وهو لا يتردد في اتخاذ الدين خادما له وحينما يرتديه لباسا يكون لا أحد أقدر منه على خلق المشاكل والمصائب التي يتفتن في صبها على رؤوس البشر، هكذا فعل طلاب الملك بالأمة ولا زالوا يفعلون بها إلى الآن.
وبهذه الوسيلة سفكوا دماء غزيرة من أبناء جنسهم كل ذلك في سبيل الوصول الى السلطة والاحتفاظ بولاء الامة، فكانوا سببا في سقوط الخلافة الاسلامية التي هي ركن من أركان الدين
(1) سورة الانفال
(2)
سورة غافر
بعد ما تم تشييدها كما هو ظاهر من التاريخ، وخروجهم عنها يعد عصيانا ومخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأنانية التي اتصف بها حكام المسلمين، وشهوة الحكم المغروسة فيهم هما كانتا سببا في انقسام المسلمين الى طوائف وأحزاب متعادية، وهما أرغمتاهم على التقهقر الى عصر الجاهلية وملوك الطوائف.
قضى الملوك والأمراء على كل ما كان للمسلمين من حضارة قيمة وعلوم نافعة كانت المصدر الرئيسي لنهضة الغرب الجبارة وعلى النظام المحكم الذي شاده المسلمون الأولون على ضوء الكتاب والسنه، ومن ذلك الوقت كانوا يخرجون من ضعف الى أضعف ومن سيء الى أسوأ.