الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تركيا والغرب
رجعت الخلافة الاسلامية - من بعد ما عصفت بها الأحداث من الداخل والخارج - ولكنها لم ترجع الى العرب ولا الى قريش، بل استولى عليها الأتراك، ودخلوا الى أرض المسلمين باسم الاسلام، فانظم اليهم المسلمون أينما كانوا الا قليلا ممن لازم الحياة، شهد القرن السادس عشر الميلادي دولة إسلامية كبرى - هي تركيا - تقيم إمبراطورية اسلامية من أكبر الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، ويأخذ سلطانها لقب الخليفة، وأصبح مركز الخلافة في القسطنطينية عاصمة البيزنطيين سابقا، فانضم الى هذه الخلافة الجزيرة العربية ومصر والشام، والعراق والجزائر وتونس. وشهد هذا القرن تلك الإمبراطورية الاسلامية القوية التي أصبحت تهدد أوربا، واحتلت منها جزءا غير قليل، وهو ما يعرف الآن باسم (رومانيا وبلغاريا واليونان، ويوغسلافيا وألبانيا، والمجر)، وجعلت لها كلا من البحر الأسود والبحر الأبيض بحيرة اسلامية، وقد كان لها أسطول بحر كبير، وجيش قوى عتيد، وتسمت باسم الخلافة العثمانية، وأصبحت مصدر رعب لأوربا وذعر للمسيحيين، كيف كان موقف الغرب أمام هذه الإمبراطورية الاسلامية الكبرى، وأوربا إذا شاهدت دولة عظمى للمسلمين لا يستقر لها قرار حتى تقضي عليها.
يقول الأستاذ محمد حبيب تألبت الدول الأوربية على الخلافة الاسلامية، واجتمعت كلمة المسيحيين على الوقوف في وجه التيار الاسلامي الجارف، وعقدت المعاهدات وتظافرت القوى والجهود لهذا الغرض، وكان من سوء حظ الخلافة الإسلامية أن ظهرت هذه الحركة الأوربية في وقت كان سلاطين آل عثمان قد انغمسوا في الترف واستسلموا للدعة والنعيم والشهوات.
وقد اتخذ الصراع ضد تركيا شكلا دينيا واضحا اذ تكون ضدها حلف مقدس من النمساويين وبولندة والبندقية، وكان لهذا
الحلف أثر كبير في التغلب على تركيا حتى تضعضعت قوتها، ثم دخلت روسيا في حرب معها باسم الدين، هذه الحرب تؤيدها جميع الدول الأوربية وأشعلوا فيها الفتن والثورات من الداخل حتى من العرب أنفسهم، وألبوا عليها كل الممالك التي كانت تحت يديها فبعضها استقل عنها كمصر والجزيرة العربية وبعضها في طريق الاستقلال، وأنزلت هذه الحروب والفتن التي كانت من الداخل والخارج بالخلافة الاسلامية ضربات قاصمة وخسائر فادحة، وكانت نتيجة هذه الأحداث العظيمة أن هوت تركيا من شاهق وهان أمرها وضعف شأنها حتى أصبحت تعرف بالرجل المريض .... وهكذا حطم الغرب المسيحي الخلافة العثمانية، واستولى على الأقطار العربية التي كانت تكون أكبر جزء في جسم الخلافة.
احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830م وتونس 1881م ومراكش 1911م وان كانت هذه الأخيرة لم تكن تابعة لتركيا وأذنت الدول الأوربية لفرنسا ان تحتل لبنان سنة 1860م ثم سوريا سنة 1918م.
واحتلت انجلترا مصر سنة 1982م واحتلت إيطاليا طرابلس سنة 1911م ثم فلسطين من طرف الانكليز عقب ذلك.
وسبب هذا الاحتلال هو أن رجال الكنيسة والمبشرين من رجال الدين المسيحي مهدوا الطريق الى هذا الاحتلال الشنيع لأنهم كانوا في الأقطار جواسيس وعيونا يطلعون الاستعمار على عورات المسلمين وينقلون اليه كلما هب ودب فيها باسم الدين والتظاهر بالشفقة والرحمة على الفقراء والعجزة والمساكين.
الرهبان منذ القرن الثامن الهجري الموافق للقرن الرابع عشر الميلادي حتى الى القرن الثامن عشر ما انفكوا في مراكش، والجزائر، وتونس ومصر والشام يعملون للاستعمار حتى تمكنوا فعلا من احتلال هذه الأوطان.
ففي سنة 1911م عقد مؤتمر للمبشرين المسيحيين في لنكاو في الهند ونظر في حالة المسلمين، فوجد فيها الاضطرابات الخطيرة، والانقسامات الى طوائف متناحرة قال أحدهم: (ان هذا الانقسام
السياسي الحاضر في العالم الإسلامي لدليل بالغ على عمل يد الله في التاريخ، واستشاراته لديانة المسيحية لكي تقوم بالعمل (يشير بذلك الى كثرة الابواب التي أصبحت مفتحة في العالم الإسلامي على مصاريعها، ان ثلاثة أرباع العالم الإسلامي تعتبر الآن سهلة الاقتحام على الارساليات التبشيرية ان في الإمبراطورية العثمانية، وفي غرب شبه جزيرة العرب وفي ايران، والتركستان والأفغان، وطرابلس الغرب، ومراكش سدودا في وجه التبشير، ومن هناك مائة وأربعون مليونا من المسلمين في الهند، وجاوة والصين، ومصر وتونس والجزائر يمكن أن يصل اليهم التبشير بسهولة.
وكانت الغطرسة التي جبل عليها الاستعمار تمنعه من أن يتساوى مع غيره من شعوب العالم التي هي من غير جنسه، فكان يرى أن هذه الشعوب ناقصة في خلقها وتكوينها الفسيولوجي لأنها لم تكن على درجة كبيرة من الذكاء والخلق اللذين يخولانها بتسيير شؤونها والقيام على مصالحها قياما كاملا بخلاف الجنس الاوربي.
هذه هي فلسفة التي يتبجح بها في استعباد الشعوب التي هي من غير جنسه، وحجته في ذلك العروق الجنسية، لأنه يرى أن عرقه أفضل من جميع العروق البشرية في الذكاء، ولهذا فهو أحق بالإشراف على مصالح هذه الشعوب.
حاول الاستعمار بكل ما أوتي من قوة ودهاء أن يبدل طباع هذه الشعوب وخلقها حتى تلتحق بطباعه وخلقه فمنع منعا باتا تعليم لغتها وتاريخها وآدابها القومية من الدراسة في المعاهد واستبدالها بلغته وتاريخه وآدابه.
ولم يدر الاستعمار بأن القواعد التي تقوم عليها حياة المجتمع هي وليدة الخلق، والخلق يتألف من امتزاج مختلف عناصر الشخصية التي يطلق عليها اسم المشاعر، وقد تتغير الصفة الذهنية بالتربية تغيرا قليلا.
أما الصفة الخلقية فإنها تتقلب من سلطان التربية تقلبا تاما، والتربية عندما تؤثر في الصفات الخلقية لا يكون هذا التأثير إلا عند ذوي الطبائع المحايدة لدى الأفراد، وقلما توجد في أمة
كاملة، وإذا وجدت في أمة لا يكون وجودها الا في أيام انحطاطها، ومن السهل أن ينتقل الذكاء من أمة إلى أخرى، أما الصفة الخلقية فلا تنتقل، الخلق كالصخرة الثابت التي تلطمها الأمواج يوما بعد يوم في عدة قرون.
وللأخلاق نفوذ كبيرة على حياة الأمم، والخلق هو الأساس الحقيقي للمزاج الشخصي، والأمة اذا تغيرت لغتها ومعتقداتها وفنونها بغته، وتغيرات كهذه لا تكون حقيقة في هذه الأمة الا إذا استطاعت أن تحول روحها، ولهذا لم ينجح الاستعمار في تبدل طبائع الشعوب وخلقها، وباء بالفشل التام رغم المجهودات التي بذلها أنظر الى أحلامه كيف كذبها الواقع وبددتها الحقائق الناصعة باستقلال هذه الشعوب.