الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعمال جبهة التحرير
اتخذت جبهة التحرير لجيشها جبال الجزائر محطة رحالهم، ومراكزها الرسمية لحصانتها ومناعتها ووفرة السكان فيها، فمنها كان جيش التحرير يوالى هجوماته على العدو، ويواصل كفاحه ضد المحتل، وهو في مأمن ومنجاة منه ويستعين بالسكان على أعماله الشاقة واختلط بهم اختلاطا تاما.
قررت جبهة التحرير تعبئة جميع موارد الشعب سواء كانت مالا أو إنسانا، أو غير ذلك من الأشياء الأخرى التي تحتاج اليها الثورة، لأن الثورة من الشعب والى الشعب، فيجب أن تستمد قوتها منه.
وقفت الأمة الجزائرية من الثورة في أول الأمر موقف حذر وتربص حتى تبين أمرها وبعدما اتضح شأنها، اندفعت في تيارها، وارتمت في أحضانها بغضها وغضيضها وأصبحت تبذل كلما كان في وسعها من قوة وجهد، وكل فرد كان يقدم لها الاعانة اللازمة التي يستطيع عليها عن طيب قلب وهو راض بالمسؤولية التي تناط بعهدته، وأنه على علم بما ينجم عنها من أخطار، ولربما ذهبت بحياته، ولكن في سبيل الوطن تهون كل تضحية حتى دهش قادة الثورة من هذه الأعمال المشجعة والتضحيات الجسيمة، فوجدوا كل إعانة وتأييد من طرف الشعب الذى كان يرى لهؤلاء القادة فضلا كبيرا عليه لأنهم فتحوا له طريق الحياة الحرة، ونفسوا عن كبته الذى لازمه دهرا طويلا، ومحوا عنه ذل العار والمذلة التي لحقته من طرف الاستعمار
…
كان سلاح الثوار في أول الأمر سلاحا تافها فأغلبيته من بناديق الصيد وبعض المسدسات، وشيء قليل من الرشاشات، وبعض المتفجرات من الصنع المحلى، والباقي من الجنود ليس لهم سلاح، وإنما كانوا يحملون الأدوات المنزلية كالفؤوس والشاغور، والخناجر والعصي يلوحون بها في الهواء والخرطوش كان لديهم قليلا جدا غير أن هذا لم يكفهم عن القتال
…
كان الفدائيون من جهتهم ينسفون منشآت الحكومة، ويتلفون انتاج المعمرين، وجيش التحرير كان يتعرض للجند الفرنسي في كمائن فيباغتونه بضربات هائلة فيتملكه الرعب فيلوذ بالفرار، والبعض منهم يسقط موتى فيغنم المجاهدون غنائم كثيرة من السلاح والذخيرة، ويجردون الموتى من السلاح وكذلك الأسرى، وكانت لهم مهارة فائقة في ابتكار الأساليب الحربية، واستخراج السلاح من ثكنات الجند الفرنسي ليسلحوا به من لا سلاح لهم، ولهم مندوبون في الشرق والغرب لشراء السلاح، وجلبه الى الجزائر. اعتمدت الثورة على المتطوعين من الشعب، سواء كانوا كبارا أم صغارا، غير أنهم كانوا يرغبون في جنود المسلمين الذين يعملون في الجيش الفرنسي، وأصحاب الحرف والمهن
…
انتشر الثوار في شرق قسنطينة وشمالها، وبلاد القبائل، واعتصموا بالجبال الشامخات، مثل جبال أوراس، والقل، والحروش، وسكيكدة، وميلة وغيرها
…
أصبحت هذه النواحي كلها مسرحا للحوادث الكثيرة والمعارك الدامية وانقطعت الصيلة فيها، ما بين الحكومة وسكان هذه المناطق، واذا أرادت أن تتصل بهم، فتصحب معها قوة كبيرة من الجند، فأصبح سكان هذه المناطق في حيرة من أمرهم، فالثوار يأتونهم ليلا، ويدعونهم الى مؤازرة الثورة، وإعانتها بما لديهم من طعام، ومال ورجال، وحكموهم حكما اداريا منظما، وكل من يخالف أوامرهم يعاقب في الحال، والحكومة الفرنسية من جهتها تأتيهم نهارا، فتأمرهم بأن يعتزلوا عن الثوار، ويقطعوا كل إعانة وصلة بهم، والويل لمن لم يتمثل لهذا الأمر، وثبتت عليه الاعانة والتأييد للثوار، فتعاقبه في الحال بنسف منزله بالقنابل أو المدفع وتارة بالقتل أو السجن، فاضطر السكان الى أن يكونوا مع الثوار في الليل فيعملون لهم كل ما يطلبونه منهم، وفي النهار يصبحون خاضعين للحكومة الفرنسية، هذه الكيفية سادت القطر كله. كثر هجوم الثوار على منشآت الحكومة فكانوا ينسفون المعامل والجسور ويقطعون أعمدة التليفون، والمواصلات السلكية، والسكك الحديدية ويفجرون قنوات الماء، ومحطات الكهرباء، ويتلفون منتوجات المعمرين كالكروم
والأشجار وحرق صابات القمح وأدوات الفلاحة، ونسف مساكنهم ومراقبة الطرق، وتفتيش السيارات والحافلات وحرقها في بعض الأحيان اذا كان صاحبها لم يدفع الاعانة الى الثورة، ولم يمتثل للأوامر التي أعطيت له، وخطف بعض الشخصيات من غلاة المعمرين، أو من أعوان الحكومة من الذين يزعمون مسلمين، أو الخونة من منازلهم، فينفذون فيهم العقاب حالا، وكانوا يشنون الغارة الشعواء على المدن في الليل، فيطلقون الرصاص على الثكنات ومراكز الحكومة، وأحيانا يصطدم جيش التحرير مع الجيش الفرنسي في اشتباكات دامية لكن سرعان ما ينسحب جيش التحرير من ميدان المعركة بعد ما يضربون ضربتهم، واذا حصروا فيخرقون الحصار المضروب عليهم ويفلتون منه، لأنهم غير متكافئين في السلاح مع الجيش الفرنسي. دب الذعر في المناطق التي انتشرت فيها الثورة، فكثر فيها القتل، وتعطل كثير من المصالح الإدارية، وأصبح المسافر الى هذه النواحي يخشى على حياته رغم الجيش الفرنسي المنتشر فيها، من الثورة استفحلت فيها، وتفاقم أمرهما، وأخدت في الانتشار بسرعة مدهشة في نواحي الوطن، واشتهرت في العالم، فكان الأحرار منه يكتبون عنها المقالات الضافية، ويحثون الحكومة الفرنسية على منح هذا الشعب الاستقلال، والمفاهمة معه قبل فوات الأوان، وكانت محطات العالم العربي تشيد بموافق المجاهدين في الحرب، وتثنى على شجاعتهم وبسالتهم، هذه الأخبار كانت تتنزل على قلوب الشعب بردا وسلاما، وتزيده حماسا واستمساكا بقضيته العادلة.
توسعت جبهة التحرير الوطني في الحرب، وذلك بفضل السلاح الذى كانت تستورده من مصر وغيرها الى تونس، ثم الى الجزائر، وظلت هذه طريقه الوحيد مدة الثورة بخلاف السلاح الذى كان يأتي عن طريق البحر، فكانت المراكب البحرية تأتى به من أوربا، وتفرغ شحناتها على شواطئ الجزائر، كان الأسطول الفرنسي يحرس شواطئ البحر الأبيض ويفتش المراكب التي تقترب من المياه الاقليمية، وصادر كثيرا منها.
أرادت جبهه التحرير أن تبرهن على اتحادها مع المغرب، وتربط حركة النضال الجزائري بالحركة الوطنية في الشمال الافريقي، فأظهرت التضامن والاتحاد في الذكرى الثانية لعزل جلالة محمد الخامس رحمه الله عن عرشه وذلك يوم 20 أوت سنة 1955 م، فشنت هجوما على المدن والقرى الواقعة شمال قسنطينة مثل عين أعبيد، وسكيكدة، وعنابة، وغيرها من بقية المدن الأخرى.
ثارت هذه النواحي كلها على المعمرين من الفرنسيين القاطنين في هذه الجهة فقتلوا وخربوا كلما وصلت اليه أيديهم، ويقدر عدد القتلى من المعمرين بحوالي واحد وسبعين قتيلا
…
هالت هذه الحوادث السلطة الفرنسية وأزعجتها، فانتقمت من سكان هذه المناطق شر انتقام، فهجم الجيش الفرنسي على الدواوير والقبائل، ففتك بالعجزة والضعفاء والأبرياء فتكا شنيعا، فكان يحرق الدواوير بما فيها ويتبع السكان الهاربين الى قمم الجبال، والمختفيين في بطون الأودية، ويأتون بهم في شاحنات فيجمعهم في مكان واحد ويطلقون عليهم النار.
ورغم هذا العذاب والتقتيل ضاعف سكان هذه المناطق من نشاطهم الحربي، وصاروا يتسابقون الى الجهاد في سبيل الله رجالا ونساء وكانوا يقدمون أموالهم الى الثورة قياما بواجب الوطن وحقوقه المقدسة وفي أيلول سنة 1955م أصدرت جبهة التحرير منشورا الى نواب المسلمين على اختلاف مجالسهم بأن يقدموا تسليماتهم من هذه المجالس لكي لا يتركوا للحكومة الفرنسية أي وسيلة تتذرع بها
…
فبهذا التسليم قطع الشعب صلته بالحكومة، وأصبحت جبهة التحرير الوطني تمثل الأمة تمثيلا حقيقيا، وبهذا التسليم انحل المجلس الوطني الجزائري الذى أسس من بعد الحرب العالمية الثانية.
أصبحت الهيئات والمنظمات الوطنية تذوب في الثورة، مثل النواب الذين نظموا هيئة وطنية، وطالبت من الحكومة الفرنسية
أن تتفاوض مع الثوار وفي سنة 1955م وصلت الثورة الى مقاطعة وهران تحت قيادة العربي بن المهيدي وبدأت تنتشر يمينا وشمالا.
أصدرت القيادة العليا للثورة الى الشخصيات البارزة والأحزاب والهيئات أن ينضموا الى جبهة التحرير لتوحيد الكلمة وجمع الصفوف وفي هذه السنة 1955م قدمت جبهة التحرير قضية الجزائر الى هيئة الأمم المتحدة لتنظر فيها وذلك بواسطة الوفود الأسيوية الافريقية فسجلت في جدول أعمال هذه الهيئة ولكنها لم تناقش، لأن الوفد الفرنسي امتنع عن حضور جلسات هذه الهيئة.
وفي هذه السنة 1956م ألقى القبض على السيد رابح بطاط الذى كان مسؤولا عن العاصمة من طرف السلطة الفرنسية، وتمكن كذلك الجيش الفرنسي من القبض على قائد جبل أوراس السيد مصطفى بن بو العيد، وحبسه في سجن قسنطينة.
وفي سنة 1955م عقد رؤساء شعوب أسيا وأفريقيا مؤتمرا في مدينة (باندوك) من جمهورية أندونوسيا المسلمة لتأييد الشعوب المستعمرة لهاتين القارتين، وللحد من سيطرة الاستعمار، وكان أقطاب هذا المؤتمر هم السادة: السيد جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، والسيد نهرو رئيس الولايات الهندية، والسيد شواي لاي رئيس الصين الشعبية
…
فقرر هذا المؤتمر بإجماع إعانة الشعب الجزائري على استقلاله ماديا وأدبيا ونص في لوائحه الداخلية علما أن هذا المؤتمر سيعقد في كل سنة في عاصمة من عواصم هاتين القارتين، يكون إما بطلب من أهلها، أو اللجنة الدائمة هي التي تعين مكان الاجتماع.
ونحن شاهدنا إعانة شعوب القارتين الفعالة للجزائريين كيف كانت تمد الثورة بكل ما تحتاج اليه من العتاد الحربي والذخيرة، والدفاع عنها لدى جمعية الأمم.
وفي كانون الثاني سنة 1956م تأسس الاتحاد العام للعمال الجزائريين تحت إشراف جبهة التحرير الوطني، وفي هذا الشهر استشهد السيد مصطفى بن بو العيد، وفي نيسان من هذه السنة
1956م التحق عباس فرحات رئيس حزب البيان مع السيد توفيق المدني كاتب هيئة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبعض الشخصيات من الجمعية بالقاهرة انضموا الى أعضاء الجبهة السياسية الخارجية.
وفي هذه السنة تكون اتحاد الطلبة الجزائريين ودعتهم جبهة التحرير الى مقاطعة الامتحان في الكليات الفرنسية، ولقيت هذه الدعوة استجابة واسعة من طرف الطلبة، ودعت كذلك التجار والفلاحين والشعب كله الى تموين جبهة التحرير بالمال والأشياء الضرورية، وفي هذه السنة أصدرت الجبهة مجلة عربية أسبوعية للتحدث عن أعمال الثورة، وهى مجلة المجاهد، وفي التاسع من شهر نيسان سنة 1956م - ألقي القبض من طرف السلطة الفرنسية على كاتب هذا الكتاب، وذلك في مسجد (بلكور) من العاصمة في يوم الجمعة بحيث أنزل من فوق المنبر انزالا، وخطف من المحراب خطفا، وفي الخامس من شهر تموز من هذه السنة وقع إضراب عام في الجزائر بمناسبة احتلال الجزائر من طرف الاستعمار دام خمسة أيام، وكان انتصارا عظيما لجبهة التحرير
…
توسعت أعمال الفدائيين في هذه السنة في الأرياف وخاصة في المدن، وانتشرت الدعاية بصفة واسعة في الخارج للتشهير بالقضية الجزائرية وبصفة خاصة في أمريكا الجنوبية وآسيا وشمال أروبا.