الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صعود الجنرال ديغول الى الحكم
كان المفكرون من الفر نسيين الأحرار ينظرون الى هذا الرجل الذي نادت به الأغلبية من الشعب نظرة تختلف عن نظرة الفريقين معا فكانوا يرون فيه القائد المحنك والمنقذ الوحيد لفرنسا مما تتخبط فيه من أزمات حادة ووطنية متحجرة وعقليات رجعية بغيضة زجت بالشعب الفرنسي في حروب دامية متواصلة الحلقات طويلة الأمد أودت بزهرة الشباب وبثروته المالية وبسمعته وشرفه، وكان داهية حقا ذا وطنية عميقة وطموح كبير، ففطن الى خطة الجيش الذى دبر الانقلاب، وما يعتزمه من الأعمال التي لا تتفق مع الأوضاع الديمقراطية، ولا تتلاءم مع الظروف الحالية، وكان على علم تام لما يرمي إليه الجيش من الأهداف البعيدة، وأدرك أن عهد الاستعمار قد انقضى وولى، وكان عازما على اصلاح الجهاز الإداري المتعفن، وتوسيع الاقتصاد وتطور الصناعات حتى تلتحق فرنسا بمصاف الدول العظمى، ورسم خطة محكمة للمستعمرات التي هي تحت الحكم الفرنسي لتصبح مرتبطة بفرنسا رباطا وثيقا وتتعاون معها في جميع الشؤون
…
لهذا استجاب للنداءات المتكررة وقبل الحكم، ولكنه اشترط أن تفوض اليه جميع الأمور، فرضى الجميع بهذا الشرط، وفي 2 حزيران 1958م منحت الجمعية الوطنية الثقة للجنرال ديغول بأغلبية ساحقة، وعلى إثر إعلان هذه النتيجة طالب الجنرال الجمعية الوطنية بمنحه سلطات خاصة أكثر من التي حصل عليها أسلافه في الحكم لمعالجة الثورة الجزائرية التي مضى على نشوب الحرب فيها أكثر من ثلاثة أعوام ونصف، وفي الثالث من هذا الشهر صادقت الجمعية الوطنية على إصلاح الدستور الذى قدمه الجنرال ديغول
…
ولما تسلم الجنرال الحكم قصد مقر رئاسة الوزراء، فكان أول المهنئين له مجرم الحرب (لاكوست) الوزير المقيم في الجزائر
…
والآن ألقى نظرة على قصد الجنرال ديغول هل كان حقا يريد تطبيق سياسة تقرير المصير على الجزائر منذ صعوده الى الحكم، ولم يعلن عنها الا من بعد أن واتته الظروف وقضى على المعارضة؟ أم أنه كان يريد مثل سابقيه من حكام فرنسا أن يحل القضية الجزائرية حلا عسكريا تدريجيا تحت ضغط الحوادث التي انتهت بتقرير المصير
…
وعلى كل حال فلكل من النظريتين شواهد تدل على صحتها وإنى أمضى مع هذا الرجل منذ توليه للحكم ومعالجته لمشكل الجزائر الى الاستقلال وأبين الحوادث التي وقعت في عهده والقارئ الكريم يحكم بصفة نظرية من هاتين النظرتين وفي اليوم التالي من توليه للحكم طار الى الجزائر، وهناك استقبل من الفاشيست والعسكرين استقبال الفاتحين، وأحاطوه بهالة كبيرة من التقديس والاجلال، وكان متقمصا شخصية "نابليون العظيم" فألقى خطابا موجزا في المفوضية العامة قال فيه:(سأجعل جميع الجزائريين فرنسيين: وسأعمل على إيجاد جنسية فرنسية واحدة لكل سكان الجزائر، واعترف بشجاعة الجزائريين)، وقال:) ان البطولة لم تكن غريبة عن أرض الجزائر (.
وفي اليوم السادس من شهر حزيران 58 - زار وهران وأكد لمستقبليه أنه سيتولى بنفسه إدارة شؤون الجزائر حتى يضمن النجاح التام لانتصار فرنسا في حربها ضد الثوار، وزار عدة مدن وقرى، وألقى عدة خطب كثيرة كلها تحث على إرجاع السلم والهدوء، وكلامه على مصير الجزائر كان غامضا ومبهما، وغلاة المعمرين كانوا يريدون منه أن يصرح بأن الجزائر فرنسية، ولكنه امتنع ولم يتلفظ بها أبدا الا مرة واحدة في مدينة مصطفى غانم
…
علقت القيادة العليا للثورة الجزائرية على خطابه فقالت:) ان خطاب الجنرال الذى يعد فيه بالمساواة والادماج بين الشعبين
جاء بعد أربع سنوات من الثورة الوطنية، ولا يشكل سوى خطوة أخرى في القتال المستمر)، ورد كذلك القادة من جيش التحرير على خطابه الذى ألقاه في مدينة وهران ببيان جاء فيه) سنتابع الحرب حتى النهاية ضد ديغول المتنكر في زي بيتان (.
وعاد الجنرال ديغول مرة أخرى الى الجزائر وخطب في اليوم الرابع من تموز 58 قائلا: (ستبدأ حكومتي في تقديم من المال للمصانع والمزارع، ومشاريع الاسكان والمدارس في الجزائر وقد خصصنا مبلغ 15 مليارا فرنك قديم تصرف فورا على تعمير الجزائر اقتصاديا، ولكن لا تنتهى هذه السنة دون ان أعلن عن المشاريع الكبرى ومواريد الطاقة التي ستؤمن لإدارتها واختتم كلامه قائلا بالتوجه الى العرب "سيدمج الجزائر وفرنسا كما سيعطى حقوقا متساوية في التصويت، وستمنح نساؤهم حق التصويت" وأعلن في الدستور الجديد بأن كلا من الجزائر وفرنسا دولة واحدة
…
وكان لهذا الانقلاب الفاشي وتولى الجنرال الحكم صدى كبير ومهرجانات عظيمة في الأوساط الاستعمارية ألقيت فيها الخطب الرنانة، وتخللتها التصفيقات الحادة، وتبودلت فيها التهاني بين غلاة المعمرين والجيش
…
وفي الحقيقة أنها فترة راحه من الحمى الشديدة التي تعترى المنهوك القوى. ولذا لما تفرق المجتمعون ورفعت الستائر وأطفئت الأنوار، وجد المعمرون أنفسهم كما كانوا قبل الانقلاب، والثورة الجزائرية أشد لما كانت عليه من القوة والضراوة والشعب أكثر تماسكا واتحادا وأمضى عزيمة وصلابة علق الملاحظون السياسيون آمالهم على هذا القائد العظيم في حل هذه القضية الشائكة، وجعل حدا لهذه الحرب المجرمة لأنه هو الرجل الوحيد الذى يقدر على فصل هذه القضية نظرا لشخصيته القوية ونفوذه الكبير، وكان بعض الشخصيات عالمية وفرنسية يتمنون رجوعه الى الحكم من قبل أن يتولى ليريحهم من عناء هذه المشكلة العويصة
…
لكنه ويا للأسف أذهبت هذه الآمال أدراج الرياح، فكان يفكر منذ اللحظة الاولى التي تولى فيها الحكم كيف يقمع الثورة الجزائرية بالقوة، أو الانتهاء منها في أسرع وقت ممكن بعد ما أحرز لنفسه على موافقات الدستور وسلطات واسعة فحشد أقصى ما يمكن من قوة حربية وجابه بها الثورة ليستأصل شأفتها ويقضى عليها تماما حتى يفرض الحل الذى يريده للشعب الجزائري.
ولهذا لما تسلم الحكم فبدلا من أن يعترف بالاستقلال الذي تكون فيه بالطبع حقوق الجالية الأوربية مضمونة، بالأقل يتفاوض مع قادة جبهة التحرير على خطة ما ترضي الطرفين لتكون العلائق مع فرنسا حسنة فهذا وحده فقط يجعل للأحزان والآلام التي تسلطت على هذا الشعب منذ الاحتلال والدماء تسيل، ولكنه قرر الاستمرار في الحرب، وزاد في قوة الجيش، وفرض عليه أن يسكن في قمم الجبال، وكان يكثر الاجتماعات مع قادة الجيش لدراسة خطط الحرب دراسة دقيقة على الخرائط ودراسة طبيعة الأرض التي يدور فيها القتال، وكان بين آونة وأخرى يأتي الى الجزائر ليتفقد الجند، وصمم على أن يقف في وجه الثورة موقفا إيجابيا وحازما فاستعمل كل ما يملك من قوة ودهاء، وكان سلاحه ذا حدين فيبرق ويرعد عن الثورة، ولكن هيهات أصبح الشعب لا ينخدع بالوعود الكاذبة بل ازداد ثقة بنفسه وبثورته العارمة وتمسكا بقيادته واتحادا في صفوفه. وضاعف صبره على العذاب الذي أفرغ على أم رأسه
…
وكان هذا القائد يرى نفسه فوق أقطاب العالم سياسة ودهاء وتقدما، ويرى فرنسا هي أم الحرية والديمقراطية في العالم، ولهذا منع كل من أراد أن يتوسط في حل القضية من الدول المحبة للسلام منعا باتا، ولم يقبل أي نصيحة من أي انسان كان، ولم يعترف بأن هذه القضية خارجة عن نطاق فرنسا
…
كان العالم ينتظر من هذا الجنرال أن يحل القضية، ولكنه كان مشغولا بمواصلة المعارك وتخطيط البرامج، وتجهيز الجزائر اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا لتحسين أحوال السكان وزيادة الانتاج والعتاد الحربي في فرنسا، والحلف الأطلسي يشد أزره ويؤيده في محاربة الثوار
…
أمقت العالم هذا الادعاء بالعظمة الموهومة، والشرف المزعوم، فتركه يتيه في أحلامه وأوهامه، ولم يبق مواليا له من الدول الا الدول الاستعمارية التي تسير على غراره في السيطرة على الشعوب الضعيفة، واتجهت شعوب العالم الثالث الى مؤازرة الشعب الجزائري في كفاحه التحريري والوقوف بجانبه
…
وأحبطت الثورة الجزائرية جميع البرامج والخطط الحربية التي ينظمها الجيش الفرنسي بإشراف الجنرال ديغول نفسه، وجميع المؤامرات والدسائس التي كانت تحاك في الخفاء، ووصلت الثورة مرة أخرى الى تهديد الشعب الفرنسي بالانقسام والحرب الأهلية، وعندئذ عرف غالب الفرنسيين أن استعمال القوة لن يجدى شيئا، ولم يكن الجنرال أفضل من سابقيه من الحكام الذين سبقوه، ولهذا أصبحت الأغلبية الساحقة من الفرنسيين تنادى بحل القضية حلا عادلا
…