الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فشل فرنسا واعترافها بتقرير المصير
منذ تسلم الجنرال ديغول الحكم، وهو يعمل ليلا ونهارا من أجل الوصول الى أهدافه التي رسمها من أول صعوده الى منصة الرئاسة، وهو القضاء على الثورة في أقرب وقت ممكن ولذا سن للجزائر برامج كثيرة ومشاريع واسعة من اقتصادية واجتماعية وسياسية وعمرانية والمؤتمرات الحربية التي كان يعقدها لدراسة الوضع الحربى على الخرائط وعلى طبيعة الأرض التي تدار فيها المعارك ومواصلة تدريب الجيش على تسلق الجبال ليكون قادرا على حرب العصابات، وتنظيمه تنظيما ثوريا حتى يباغت الثوار في أماكنهم.
فعل الجنرال هذا كله وأكثر من ذلك فبذل مجهودات جبارة في ميدان الحرب لأنه علق آمالا كبيرة على العمليات الحربية وخصوصا برنامج شال، وكان يأمل أن يكون عام 1959م نهاية الحرب، ولكنه أصيب بخيبة كبيرة، ولا سيما بعد فشل معركة (جوميل (فتحقق حينئذ أنه يقاتل قوة لا تقهر قوة شعب يطالب بحقه تسانده شعوب كثيرة
…
ولما تحقق عجز القوات الفرنسية عن إبادة الثورة وتحطيمها راح يفتش عن حل سياسي يضمن به حضور فرنسا في الجزائر وارتباطها بأم الوطن ارتباطا وثيقا
…
هذا الحل الذي يعتزمه الجنرال ما هو الا حل استعماري جديد مقنع يخفى به وجهه القديم السافر، ومع هذا كان يخشى من الجهر به خوفا من معارضة الجيش، وغلاة المعمرين المتطرفين أصحاب اليمين الذين لا يزالون يحلمون بالإمبراطورية العظيمة
…
رأى الجنرال قبل إعلانه لهذا الحل أن يستشير رجاله في الجزائر، فطار اليهم في زيارة قصيرة، واجتمع بقادة الجيش وبعد ما عرض عليهم مشروعه هذا قفل راجعا الى باريس
…
ولما كانت الثورة تطير من نصر الى نصر والجيوش الفرنسية في حالة انهزام أخد الجيش الفرنسي ينتقم من المواطنين انتقاما شديدا، فضج العالم من هذه الأعمال المنكرة فكان يضغط على الحكومة الفرنسية بواسطة المظاهرات والجرائد لعلها تعلن الحل الصحيح لتجعل حدا لهذه الحرب المجرمة القذرة، وتوجه الرأي العام العالمي الى هيئة الأمم المتحدة أن تتدخل في القضية الجزائرية حتى تطبق فرنسا قرارات الجمعية التي تنص على تقرير المصير لجميع الشعوب
…
خشى حلفاء فرنسا من هذا التدخل الذى تكون عاقبته سيئة الى الغاية لربما تصدر هذه الهيئة حكمها على فرنسا في دورتها المقبلة
…
كان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (المستر ازنهاور (يجول في عواصم غرب أوربا، وزار باريس واجتمع بالجنرال ديغول، وعرض عليه هذا الاخير الحل الذى يعتزمه لإنهاء الحرب في الجزائر، وتباحثا وتشاورا في القضايا العالمية الهامة، ولم يصدر أي بيان عنهما في قضية الجزائر الا أن رئيس الولايات المتحدة قال بعد ما يصرح الجنرال فإنى أعقب عليه.
وأحيط هذا المشروع بالكتمان التام حتى عن أقرب المقربين إليه، وكان العالم قاطبة ينتظر هذا الحل بفارغ الصبر وكامل الاشتياق.
وفي السادس عشر من أيلول 1959 م صرح الجنرال بمشروعه وأذاع تفاصيله التي تضمنت الحل لقضية الجزائر، فقال ان الشعب الجزائري هو الذى يقرر مصيره بنفسه بعدما تتم التهدئة ويتوقف القتال والمعارك الحربية، ويتلخص هذا المشروع في ثلاث نقط.
أ- توقيف القتال فورا.
ب- أن يتوفر السلام لمدة أربع سنوات، ويقطع هذه المدة إذا ما بلغ مجموع الضحايا والاشتباكات بين الشعب الجزائري والشعب الفرنسي من عسكريين ومدنيين أكثر من مائة قتيل في السنة
…
ج- أن يجرى ختام السنوات الاربع استفتاء الشعب الجزائري حول اختيار المصير من ثلاث نقط.
أ- أن يندمج شعب الجزائر في الشعب الفرنسي، وفي هذه الحالة يكون ما له ما للفرنسيين من الحقوق والواجبات.
ب- أن يكون الشعب الجزائري حكومة مشتركة مع فرنسا أي تابعة للاتحاد الفرنسي
…
ج- أن يستقل عن فرنسا استقلالا تاما ويسمى الجنرال هذا الاستقلال بالانفصال- يقول: يجب أن يرجم هذا الانفصال - لأنه شيطان، واذا وقع فهناك الطامة الكبرى
…
وفي هذه الحالة يجب أن يقسم التراب الجزائري الى مناطق، فالمناطق الصحراوية التي يوجد فيها البترول تكون فرنسية محضة، وكذلك المناطق التي يريد سكانها أن يبقوا فرنسيين موالين لحكومة باريس. وتابع كلامه قاتلا: نظرا للمعطيات الجزائر، والقومية والدولية، فإنى أرى من الضروري أن يعلق من الآن على الالتجاء الى تقرير المصير، فباسم فرنسا، وباسم الجمهورية، ونظرا للسلطة التي يخولها لي الدستور في استشارة المواطنين، فإنى أتعهد إن بقيت حيا واستمع لي أن أطلب من جهة الجزائريين في ولايتهم الاثني عشر أن يعبروا عما يريدون عن مصيرهم في آخر الامر. وإنى أطلب من الفرنسيين من جهة أخرى أن يصادقوا على اختيارهم. وسأحدد تاريخ تقرير المصير حينما يحين الوقت وهو لا يتجاوز على أكثر تقدير أربع سنوات بعد استتباب السلم استتبابا فعليا أي بعد أن توجد وضعية لا تتسبب فيها الاغتيالات والكمائن على أكثر من مائة قتيل في السنة
…
ويمضي في كلامه فيقول: ومن الطبيعي أن يلقى هذا السؤال على الجزائريين بصفتهم أفراد لأنه مند أن وجد العالم لم توجد وحدة جزائرية فضلا عن وجود دولة جزائرية.
ويقول اعادة التجمع والاسكان لقسم من سكان الجزائر ممكنان، فالجزائريون الذين يفضلون الاحتفاظ بالجنسية
الفرنسية ستنظم فرنسا تجمعهم واقامتهم ان لزم الأمر
…
ومن جهة أخرى ستتخذ جميع الاحتياطات حتى يكون استثمار ونقل البترول الصحراوي الذي هو من عمل فرنسا الذى يهم الغرب أمرا مضمونا مهما تكن الأحوال
…
ان انفصال الجزائر عن فرنسا سيؤدى الى بؤس مدقع وفوضى سياسية مخيفة ومجزرة شاملة
…
ويمضى في كلامه ويقول: نظام داخلي للجزائر من الاتحاد يعتمد على فرنسا ويتحد معها في ميادين الاقتصاد والدفاع والتعليم والعلاقات الخارجية
…
هذا هو الحل الذى كان يخفيه رئيس الحكومة الفرنسية حتى عن أقرب المقربين إليه
…
اعترف الجنرال ديغول بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم، وتقرير المصير هذا الذى اعترف به رئيس الحكومة لم يغير شيئا من الحالة التي كان عليها من قبل نظرا للصعوبات التي أحاطه به، والعراقيل التي وضعها أمامه، والمشاكل التي خلقها في سبيله، وهذه الصعوبات والعراقيل بعبارات لطيفة ظاهرها فيها الرحمة، وباطنها فيها العذاب الأليم
…
وتقرير المصير بهذه الكيفية لم يكن حلا صحيحا ينهى المعركة المشتعلة الأوار، وتنتهى معه جميع الآلام والأحزان، لأن أعمال الجنرال وأقواله وتصريح رجال حكومته وقادة جيشه كلها تدل دلالة واضحة على أن الغاية الحقيقية من دعوى تقرير المصير بهذا الشكل المقترح إنما هو كسب للوقت لينمو جيل جديد متشبع بفكر وعقل فرنسي حتى اذا ما وقع الانتخاب فاز الذين ينتمون للفرنسيين
…
وقد استطاع الجنرال أن يخدع كثيرا من رجال السياسة العالمية بسياسته هذه في تقرير المصير، فاستبشر العالم وفرح بانتهاء الحرب، ولكنه لم يستطع أن يخدع الجزائريين
…
لا يعترف الجنرال ديغول في حله هذا بواقع الأمة الجزائرية من قبل الاحتلال ولا بالدولة التي كانت قائمة، ولا بوحدة القطر الجزائري، ويقول في كلامه منذ أن وجد العالم لم تكن هناك وحدة جزائرية بل السيادة الجزائرية، وإنما تعاقب على البلاد
القرطاجيون، والرومان، الوندال، البيزنطيون وعرب سوريا، وعرب قرطبا، والأتراك والفرنسيون من غير أن توجد في البلاد في أي وقت، وبأي شكل من الاشكال دولة جزائرية
…
وكان الجنرال يلوح في خطابه الى تقسيم الجزائر اذا ما فشلت المحاولات، ويقول ان انفصال الجزائر عن فرنسا سيؤدى حتما الى بؤس مدقع وفوضى سياسية مخيفة، ومجزرة شاملة. ونحن اذا نظرنا الى المجازر البشرية الموجودة في كل مكان من القطر الجزائري منذ الاحتلال من الذي ارتكبها؟ بدون شك هم الفرنسيون أنفسهم، والعالم يشهد بذلك كله، ان المجازر التي وقعت في الجزائر لم يسبق لها نظير، والقسوة التي ارتكبها غلاة الاستعمار، وقادة الجيش الفرنسي. وحكم الاستبداد الذي فرضته فرنسا على الشعب لم يكن معمولا بد في أي بلد من بلدان العالم
…
الجنرال يرفض المفاوضة مع من يسميهم العصاة في خطابه على مشروعه، بل يطالب بتسليم أنفسهم بدون قيد ولا شرط ويجعل مشروعه قابلا للمناقشة لأنه يريد الاستلاء على الجزائر بقرار ينتزعه من الجزائريين أنفسهم حبوا أم كرهوا
…
ويقول في خطابه أنا شخصيا واثق من أن مخرجا مثل هذا يكاد يكون غير متوقع ألا وهو انفصال الجزائر عن فرنسا وهى في وضعها الحاضر فيكون وبالا كبيرا لا يؤدي إلا للبؤس المخيف من الغرض السياسي والتذبيح، ثم الى دكتاتورية الشيوعية العاتية، ومثل هذا الشيطان يجب أن يطرد، وأن يطرده الجزائريون أنفسهم الخ
…
فالجنرال يريد أن يحفظ الجزائريين من الفوضى السياسية والتذبيح والاغتيالات ممن يحفظهم يا ترى؟ أيحفظهم ممن يستميتون في الدفاع عن الوطن لينقذوا الشعب من الحرب المبيدة التي تسلكها فرنسا في هذه البلاد؟ أو من الفناء الذي جعله قادة الجيش الفرنسي هدفا لهم في هذه الديار؟ أو من تكالب المعمرين على خيرات هذا الوطن. واستثمار موارده الطبيعية وأخذهم ذلك بالقوة؟
…
من أين يحمي الجنرال المسلمين؟ أيحميهم من مكائد ومؤامرات غلاة المعمرين، أو من اليد الحمراء التي أطلق لها العنان في العبث بالشخصيات حتى كانت تفعل ما سولت لها نفسها من المناكر والقتل الجماعي والتخريب والتهديم؟
…
ان هذا التمويه والتضليل ومجانبة الحق وعدم الصراحة والاعتراف بالواقع من أشنع وأقبح ما سمع به في العالم
…
ومن سخافة القول: (قول بعض المسؤولين الفرنسيين اننا لا نستطيع أن نترك الجزائر ونسلمها الى الثوار ليقتلوا أهلها ويستبيحوا خيراتها، بل لا بد من الاطمئنان على مصيرهم (
…
انهم يتظاهرون بهذه الرحمة والشفقة الكاذبة والانسانية المنافقة وهم في كل يوم يقتلون ويحرقون المآت من النساء والأطفال والأبرياء بلا ذنب اقترفوه، ولا جرم ارتكبوه اللهم الا أنهم يقولون إننا جزائريون.