الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثانياً] آداب الذكر والدعاء
(1)
إن للذكر والدعاء آداباً مشروعة، وشروطاً مفروضة، فمن وَفَّى وُفِّي له، ومن لزم تلك السيرة على شروط الآداب أوشك نيل ما سأل، ومن أخل بالآداب استحق ثلاث خلال: المقت، والبعد، والحرمان - عياذاً بالله تعالى -.
وها أنا أذكر آداب الذكر والدعاء وشروطهما.
[1]
- فمن آدابه: أن تعلم أن سيرة الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين، إن أرادوا استقضاء حاجة عند مولاهم، أن يبادروا قبل السؤال فيقوموا بين يدي ربهم، فَيَصُفُّوا أقدامهم، ويبسطوا أكفهم، ويرسلوا دموعهم على خدودهم، فيبدؤوا بالتوبة من معاصيهم، والتنصل من مخالفتهم، ويستبطنوا الخشوع في قلوبهم، ويتمسكنوا، ويتذللوا
…
فيبدؤون بالثناء على معبودهم، وتقديسه، وتنزيهه، وتعظيمه، والثناء عليه بما هو أهله، ثم يرغبون في الدعاء.
هذا إبراهيم خليل الله عليه السلام لما أراد مناجاة مولاه في استقضاء حوائجه، واستدرار ما في خزائنه، بدأ بالثناء على ربه قبل سؤاله، فبدأ
(1) جُل هذه الآداب مأخوذة من كتاب ((الدعاء المأثور وآدابه)) لأبي بكر الطرطوشي رحمه الله وكتاب ((الأذكار)) للنووي رحمه الله، وكتاب ((الصحيح المسند من أذكار اليوم والليلة)) لمصطفى العدوي - حفظه الله - بتصرف.
فأثنى على الله سبحانه بخمسة أثنية؛ أنه الخالق الهادي، المطعم المسقي، الشافي من الأوصاب، والمحيي والمميت، والغافر.
ثم سأل خمس حوائج؛ فقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} (2).
فقضى الله - سبحانه - حوائجه إلا واحدة فقال في الأولى:
{فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (3)، وقال في قوله تعالى:
{وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (4)، {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (5).
وفي قوله في سؤاله الثناء في الأمم: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} (6).
(1) سورة الشعراء، الآيات: 78 - 82.
(2)
سورة الشعراء، الآيات: 83 - 87.
(3)
سورة النساء، الآية:54.
(4)
سورة يوسف، الآية:101.
(5)
سورة البقرة، الآية:130.
(6)
سورة الصافات، الآية:108.
وقال في قوله: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} (1)، {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} (2).
واعتذر إليه في سؤال المغفرة لأبيه بقوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} (3).
وقد شرف الله عز وجل هذه الأمة بمثلها، فأنزل عليهم فاتحة الكتاب، أولها ثناء وتمجيد إلى قوله:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وسائرها دعاء.
وهذا موسى عليه السلام قدم الثناء على الله تعالى؛ فقال: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} (4).
وروى البخاري في حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن الخلائق تسأل الأنبياء عليهم السلام الشفاعة إلى ربها في عرصات القيامة، فكل واحد يذكر ذنبه ويقول: اذهبوا إلى غيري، قال: فأقول: ((أنا لها فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت ساجداً فيدعني ما يشاء، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل تسمع، واشفع تشفع، فيلهمني محامد أحمده بها، فأحمده بتلك المحامد)) (5).
(1) سورة الشعراء، الآية:85.
(2)
سورة هود، الآية:73.
(3)
سورة التوبة، الآية:114.
(4)
سورة الأعراف، الآية:155.
(5)
رواه البخاري برقم (7510)، ومسلم برقم (193). (م).
وفي لفظ آخر: ((فأحمد ربي بتحميد يعلمني)).
فقدم بين يدي الشفاعة تحميداً وتمجيداً.
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته، لم يمجد الله، ولم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((عجَّل هذا))، ثم دعاه، فقال له أو لغيره:((إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه، والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعدُ بما شاء)) (1).
[2]
ومن آدابه: أن يكون مخلصاً راغباً، راهباً، متذللاً، خاشعاً؛ قال الله سبحانه:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (2).
أي: رغبة فيما عندنا ورهبة.
[3]
ومن آدابه: أن تسأل بعزم وجد وحزم، ولا تقل: إن شئت أعطني.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يقل الداعي في دعائه: اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة؛ فإنه لا مكره له)) (3).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني؛ فإنه لا مُستكره له)) (4).
(1) رواه أبو داود برقم (1481)، والترمذي برقم (3475)، صححه الألباني (م).
(2)
سورة الأنبياء، الآية:90.
(3)
رواه البخاري برقم (6339)، ومسلم برقم (2679). (م).
(4)
رواه البخاري برقم (6338)، ومسلم برقم (2678). (م).
وفي رواية: ((فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) (1)؛ والمعنى واحد.
يعني أن الله تعالى لا يُكرَه على الإعطاء، فإن شاء أعطى، وإن شاء منع.
[4]
ومن آدابه: أن يقوي رجاءه في مولاه، ولا يقنط من رحمة الله تعالى، وإن تأخرت الإجابة، فلا يستبطئ ما سأل، فإن لكل شيء أجلاً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل؛ فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي)) (2).
[5]
ومن آدابه: أن تسأل للمؤمنين مع نفسك؛ قال الله سبحانه:
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (3).
[6]
ومن آدابه: أن تبدأ بتوحيده، كما فعل ذو النون:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (4).
ناداه بالتوحيد، ثم نزهه عن النقائص والظلم بالتسبيح، ثم باء على نفسه بالظلم، اعترافاً واستحقاقاً، قال الله سبحانه:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} (5).
[7]
ومن آدابه: إخفاؤه سراً، فلا يسمعه غير من يناجيه، قال الله
(1) رواه مسلم برقم (2679)(8). (م).
(2)
رواه البخاري برقم (6340)، ومسلم برقم (2735). (م).
(3)
سورة محمد، الآية:19.
(4)
سورة الأنبياء، الآية:87.
(5)
سورة الأنبياء، الآية:88.
سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (1).
قال الحسن رحمه الله: ((كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، ولا يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً فيما بينهم وبين ربهم)).
[8]
ومن آدابه: إذا سألت الله تعالى في شيء فالزم التضرع والاستكانة، واعزل نفسك عن القدرة والتعاظم، ألا ترى إلى قول يعقوب عليه السلام:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (2) فتم له ما أراد، وقال يوسف عليه السلام:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3)، أي: سميع الدعاء؛ فتم له أمره حين اعترف بالافتقار، وأخرج نفسه من الحول والقوة، وفوض الأمر إلى ربه سبحانه وتعالى.
[9]
ومن آدابه: أن يكون الذاكر على أكمل الصفات، فإن كان جالساً في موضع استقبل القبلة وجلس متذللاً متخشعاً بسكينة ووقار مطرقاً رأسه، ولو ذكر على غير هذه الأحوال جاز ولا كراهة في حقه، لكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل؛ والدليل على عدم الكراهة قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ
(1) سورة الأعراف، الآية:55.
(2)
سورة يوسف، الآية:67.
(3)
سورة يوسف، الآيتان: 33، 34.
لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1).
[10]
ومن آدابه: الإلحاح في الدعاء: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم، فجاء به فنظر حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئاً، لو كانت لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون، ويميل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال:((اللهم عليك بقريش)) ثلاث مرات، فشق عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى:((اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط)) وعد السابع فلم نحفظه، قال: فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر (2).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه يذكر أن رجلاً دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً، فقال: يا رسول الله هلكت
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 190، 191.
(2)
رواه البخاري برقم (240)، ومسلم برقم (1794). (م).
المواشي، وانقطعت السبل؛ فادع الله أن يغيثنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، فقال:((اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا))، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئاً وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: والله ما رأينا الشمس سبتاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة - ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب - فاستقبله قائماً، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال:((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب والأودية ومنابت الشجر))، قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس (1).
[11]
ومن آدابه: رفع اليدين واستقبال القبلة: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ به، ثم رفع يديه فقال:((اللهم اغفر لعبيد أبي عامر)) - ورأيت بياض إبطيه - فقال: ((اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس)) (2).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مئة وتسعة عشر رجلاً،
(1) رواه البخاري برقم (1013)، ومسلم برقم (897). (م).
(2)
رواه البخاري برقم (4323)، ومسلم برقم (2498). (م).
فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه:((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض))، فما زال يهتف بربه، مادًّا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (1) فأمده الله بالملائكة.
عن أنس رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه)) (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه، أن يردهما صفراً خائبتين)) (3).
[12]
ومن آدابه: أن يكون الموضع الذي يذكر الله تعالى فيه خالياً عما يشغل نظيفاً؛ فإنه أعظم في احترام الذكر والمذكور، ولهذا مُدِح الذكر في المساجد والمواضع الشريفة.
وجاء عن أبي ميسرة رحمه الله قال: ((لا يُذْكَر الله تعالى إلا في مكان طيب)).
(1) سورة الأنفال، الآية:9.
(2)
رواه مسلم برقم (896). (م).
(3)
رواه أحمد (5/ 438)، وأبو داود برقم (1488)، والترمذي برقم (3551)، وصححه الألباني. (م).