الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس: 1 علوم البلاغة الثلاثة: أهميتها، والفرق بينها - علم البيان
.
بسم الله الرحمن الرحيم
الد رس الأول
(علوم البلاغة الثلاثة: أهميتها، والفرق بينها - علم البيان)
مقدمة في أهمية علوم البلاغة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
فنبدأ بثمرات هذا المحتوى، الفائدة من وراء ذلك التعرف على أهمية الدرس البلاغي في فهم نصوص الوحي من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي فهم كلام العرب شعره ونثره.
الأمر الثاني: التعريف على مكونات الدرس البلاغي، والعلوم التي تندرج تحت هذا الدرس البلاغي.
الأمر الثالث: التمييز بين هذه العلوم ومعرفة ما يختص به كلٍّ.
الأمر الرابع: البدء بتعريف علم البيان، وما يستلزمه هذا التعريف من شرح وتفصيل، وذلك بضرب الأمثلة، وتقديم النماذج التي تُعين على الفهم.
نبدأ بهذه المقدمة في أهمية علوم البلاغة:
من الأمور المسلم بها أن لعلمي البيان والمعاني مزيد اختصاص بتفسير كلام الله العزيز؛ لأنهما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية، وما تشتمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني، وإظهار وجه الإعجاز، ولذلك كان هذان العلمان يُسميان في القديم علم دلائل الإعجاز، ذلك أن ربَّ العزة -سبحانه- قد منَّ على هذه الأمة بنزول هذا القرآن العظيم، وجعله لها المعجزة العظمى الخالدة، وذلك بعد أن تحدَّى به يقول سبحانه:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51).
وعليه، فلا مناص من تدبره، وتعلمه، وفهم معانيه، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بتعلم علوم البلاغة. ومن هنا فقد ذكر جُلُّ أهل العلم من المفسرين والمعنيين بعلوم القرآن أن تعلُّم علوم البلاغة هو من أهم ما ينبغي لطالب العلم الشرعي أن يوليه اهتمامه، وأذكر ممن نصُّوا على ذلك بصريح العبارة الإمام الزمخشري، وقد ذكر في كتابه (الكشاف) نقلًا عن الجاحظ في كتابه (نظم القرآن):"أن الفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه -علك اللغات يعني: هضمها وأجادها وفهمها حق الفهم- لا يتسطى أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما: علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتمهل في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة".
هذا كلام الزمخشري، ويقول السيوطي مشيرًا في كتابه (الإتقان في علوم القرآن)، وقد جعله في ثمانين مطلبًا، يذكر في المطلب الثامن والسبعين كلام أهل العلم في العلوم التي تُشترط للمفسر أن يكون ملمًّا به، وأنها تأتي في خمسة عشر علمًا، الخامس، والسادس، والسابع منها المعاني والبيان والبديع. قال:"لأنه يُعرف بالأول منها خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى -هو علم البيان، وبالثاني -هو البيان- خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث -هو البديع- وجوه تحسين الكلام".
يقول: "وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة، وهي من أعظم أركان المفسر؛ لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما هو يدرج بهذه العلوم".
ويسوق السيوطي قول السكاكي: "اعلم أن شأن الإعجاز يدرك، ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة، إلا التمرن، وعلى علمي المعاني والبيان"، كما يسوق قول ابن أبي الحديد: "اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدلالة عليه.
وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة والفقه يكون من أهل الذوق، وممن يصلح لانتقاد الكلام، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان، وراضوا أنفسهم بالرسائل، والخطب، والكتابة، والشعر، وصارت لهم بذلك دربة، وملكة تامة، فإلى هؤلاء ينبغي أن يُرجع في معرفة الكلام، وفضل بعضه على بعض".
ويسوق السيوطي أيضًا قول الزمخشري: "من حق مفسر كتاب الله الباهر، وكلامه المعجز أن يتعاهد بقاء النظم في حسنه، والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليمًا من القادح؛ حتى لا يطعن فيه طاعن، كما ساق قول غيره معرفة هذه الصناعة بأوضاعها، يقصد بها ملكة الذوق هي عمدة التفسير، المطلع على عجائب كلام الله تعالى، وهي قاعدة الفصاحة وواسطة عقد البلاغة".
ثم أفصح السيوطي رحمه الله تحت عنوان "ما يجب على المفسر أفصح عن قول العلماء: إنه يجب على المفسر أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر، وأن يتحرز في ذلك من نقص عما يحتاج إليه في إيضاح المعنى أو زيادة لا تليق بالغرض، وعليه بمراعاة المعنى الحقيقي والمجازي، ومراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام.
قال: "ويجب عليه البداءة بالعلوم اللفظية، وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة يتكلم عليها من جهة اللغة، ثم التصريف، ثم الاشتقاق، ثم
يتكلم عليها بحسب التركيب؛ فيبدأ بالإعراب، ثم بما يتعلق بالمعاني، ثم بالبيان، ثم بالبديع، ثم يبين المعنى المراد" هذا كلام يقوله السيوطي؛ ليبين أن تفسير كلام الله سبحانه وتعالى لا بد له من هذه الأمور، وأنه ليس لكل أحد أن يفسر ما شاء بما شاء.
وبنحو ما ذكر السيوطي نطق الزركشي في كتابه (البرهان في علوم القرآن) وذلك من قبل السيوطي، ممن أشاد أيضًا بعلوم القرآن صاحب (كشف الظنون) الحاجي خليفة، فذكر ويسرد أسامي العلوم والفنون، ويعزيها لأصحابها:"أن ملاك الأمر في المعاني هو الذوق، ومن طلب البرهان عليه أتعب نفسه".
وأوضح -عليه رحمة الله- أن العلوم المتداولة على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات والحكميات هذه مطلوبة بالأساس، وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم الأولى هي الشرعي، كالعربية والمنطق، ثم ذكر في مطلب علوم اللسان العربي أن أركانها أربعة هي اللغة والنحو والبيان والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة بما سبق من أن مأخذ الأحكام الشرعية عربي، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة به.
من هؤلاء أشادوا بعلوم العربية الإمام أحمد بن عبد الكريم الأشموني؛ إذ ذكر في كتابه (منار الهدى في الوقف والابتدا)، وتحت عنوان "فوائد مهمة تحتاج إلى صرف الهمة" ذكر عن ابن الأنباري قوله:"أنه لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن إلا بمعرفة الفواصل، وهو أمر وثيق الصلة بباب الفصل والوصل في علم المعاني"، وكان قد ذكر قبل ذلك، وبعد أن أوضح أن الله ذم اليهود عندما قرءوا التوراة من غير فهم، كما جاء في
قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (البقرة: 78)، ذكر أنه على العاقل الأديب والفطن اللبيب أن يربأ بنفسه عن هذه المنزلة الدنيئة، فيقف على أهم العلوم وآكدها المتوقف عليها فهم الكتاب والسنة، وهو بعد تجويد ألفاظه خمسة، هكذا يذكر الأشموني "علم العربية، والصرف، واللغة، والمعاني، والبيان".
الإمام الشوكاني في كتابه (طلب العلم وطبقات المعلمين) يقول: "ينبغي لطالب العلم بعد ثبوت الملكة له نحوًا وصرفًا أن يشرع في علم المعاني والبيان"، وأشار فيما بعد إلى أهمية تعلم علم البديع أيضًا، وهذا هو الطاهر بن عاشور ينقل في المقدمة الثانية لتفسيره (التحرير والتنوير) عن الإمام السكاكي قوله "وفيما ذكرنا ما ينبه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم تعالى" وندير بالنا نحو كلمة الحكيم هذه، قد علق عليها الشريف الجرجاني، وعلق عليها ابن عاشور أيضًا يقول:"وفيما ذكرنا ما ينبه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم تعالى مفتقر إلى هذين العلمين: المعاني والبيان كل الافتقار، فالويل كل الويل لمن تعاطى التفسير، وهو فيهما راجل" ويقصد بكلمة راجل يعني: لم يحزم أمره ليكون فارس ميدانهما.
كما ينقل الطاهر عن السيد الجرجاني تعليقه على ما جاء في كلام السكاكي فيقول: "ولا شك أن خواص نظم القرآن أكثر من غيرها، فلا بد لمن أراد الوقوف عليها إن لم يكن بليغًا سليقة من هذين العلمين"، وقد أصاب السكاكي المحذ؛ إذ خص بالذكر اسم الحكيم من بين الأسماء الحسنى؛ لأن كلام الحكيم يحتوي على مقاصد جليلة، ومعاني غالية لا يحصل الاطلاع على جميعها أو معظمها إلا بعد التمرس بقواعد بلاغة الكلام المفرغة فيه.
وقوله "فالويل كل الويل" تنفير؛ لأن من لم يعرف هذين العلمين إذا شرع في تفسير القرآن واستخراج لطائفه؛ أخطأ غالبًا، ويشير ابن عاشور ضمن ما يشير إلى أن في مراد السكاكي من قوله "تمام مراد الحكيم" ما يتحمله الكلام من المعاني
الخصوصية، فمن يفسر قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) بإن نعبدك؛ لم يطلع على تمام المراد ليس هذا هو مراد الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أهمل ما يقتضيه تقديم المفعول من القصد، وتقديم المفعول هذا مبحث من مباحث أحوال متعلقات الفعل.
يُشير الطاهر أيضًا إلى أن القرآن كلام عربي، فكانت قواعد العربية طريقًا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع اللغط وسوء الفهم لمن ليس بعربي بالسليقة.
ويقول: "ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي، وهي متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان" كل هذا يريد أن يؤكد على أن مراد البلاغيين ومنهم السكاكي من تمام مراد الحكيم أن يفهم الإنسان مراد الله على حقيقته، وليس هكذا كما هو مثَّل بقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) فليس المراد بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) إنا نعبدك هذا معنى يقوله أي إنسان، لكن إياك نعبد لا بد للبليغ، أو للمفسر، أو للبياني أن يعرف أن تقديم المفعول إياك إنما أفاد الاختصاص أي: لا نعبد سواك، فهو اختصاص لعبادة الله وحده لا شريك له، على أن السكاكي الذي لا يزال الطاهر يسوق كلامه لا يكفُّ عن ترداد كلامه السالف الذكر، فنراه يؤكد عليه، ويقول في أخر كلامه عن علم البيان:"لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء لمراد الله من كلامه من علمي المعاني والبيان، ولا أعون على تعاطي تأويل متشابهاته ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه منهما".
هذا ويذكر الإمام الألوسي في ثالث ما يحتاج المفسر من أمور، علم المعاني والبيان والبديع قائلًا "ويعرف بالأول خواص التراكيب من جهة إفادتها المعنى، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام، وهو الركن الأقوم واللازم الأعظم في هذا الشأن، كما لا يخفى ذلك على من ذاق طعم العلوم، ولو بطرف اللسان".