المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الاستعارة التصريحية وبعد هذه الإفاضة في الحديث عن الاستعارة المكنية يأتي - البلاغة ١ - البيان والبديع - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 علوم البلاغة الثلاثة: أهميتها، والفرق بينها - علم البيان

- ‌مقدمة في أهمية علوم البلاغة

- ‌موضوع علوم البلاغة، والفرق بينها، وأثرها في النفس

- ‌علم البيان

- ‌الدرس: 2 التشبيه (1)

- ‌تعريف التشبيه

- ‌أركان التشبيه

- ‌أقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية

- ‌الدرس: 3 التشبيه (2)

- ‌تعريف وجه الشبه

- ‌أحوال وجه الشبه

- ‌وجه الشبه باعتبار ذكره وحذفه، وباعتبار ظهوره وخفائه

- ‌الدرس: 4 التشبيه (3)

- ‌أدوات التشبيه

- ‌أغراض التشبيه

- ‌الدرس: 5 التشبيه (4)

- ‌بيان مكانة التشبيه من خلال نماذج من روائع التشبيه

- ‌كيف يُكتسب وجه الشبه من الأمور الدقيقة في أطراف التشبيه

- ‌الدرس: 6 المجاز اللغوي

- ‌تعريف الحقيقة، وبيان أقسامها باعتبار المصطلح

- ‌تعريف المجاز

- ‌المجاز بين التقرير والإنكار

- ‌أقسام المجاز اللغوي باعتبار الإفراد والتركيب

- ‌المصطلحات التي تطلق على أنواع المجاز "مجاز الاستعارة

- ‌الدرس: 7 الاستعارة

- ‌أقسام الاستعارة

- ‌الاستعارة المكنية والتخييلية

- ‌الاستعارة التصريحية

- ‌الدرس: 8 تابع: الاستعارة

- ‌الاستعارة الوفاقية، والاستعارة العنادية

- ‌الاستعارة المطلقة، والمجردة، والمرشحة

- ‌الاستعارة العامية والخاصية

- ‌الاستعارة باعتبار حسية وعقلية طرفي المستعار منه والمستعار له

- ‌الدرس: 9 المجاز المرسل

- ‌المجاز المرسل وعلاقاته "السببية والمسببية

- ‌علاقة: الجزئية، الكلية، اعتبار المكان

- ‌علاقة: اعتبار ما يكون، الحالية، المحلية، الآلية، المجاورة

- ‌الدرس: 10 تابع: المجاز المرسل

- ‌خصائص وأسرار الاستعارة

- ‌خصائص وأسرار المجاز المرسل

- ‌الدرس: 11 الكناية

- ‌تعريف الكناية

- ‌أقسام الكناية

- ‌تقسيم الكناية باعتبار القرب والبعد بين المعنيين

- ‌الدرس: 12 تابع الكناية - التعريض

- ‌أمثلة على الكناية البعيدة

- ‌التعريض

- ‌بلاغة وأثر وقيمة الكناية والتعريض

- ‌الدرس: 13 علم البديع: مفهومه، ومراحل تطوره

- ‌تعريف علم البديع

- ‌نشأة البديع، ومراحل تطوره

- ‌استعراض لأهم جهود المعنيين بعلم البديع

- ‌الدرس: 14 منزلة البديع، ومدخله في الإعجاز القرآني - الطباق (1)

- ‌منزلة البديع بين الدراسات البلاغية، ومدى تبعيته للمعاني والبيان

- ‌مدخل البديع في الإعجاز القرآني

- ‌الطباق، وأقسامه

- ‌الدرس: 15 الطباق (2)

- ‌تعريفات أخرى للطباق، وصوره

- ‌أقسام الطباق من حيث الإيجاب والسلب

- ‌أقسام الطباق باعتبار التضاد والاتفاق في المعاني

- ‌الدرس: 16 الطباق (3)

- ‌أقسام الطباق باعتبار الظهور والخفاء

- ‌أثر الطباق وبلاغته في الكلام

- ‌الدرس: 17 المقابلة

- ‌تعريف المقابلة لغةً واصطلاحًا

- ‌أثر المقابلة في بلاغة الكلام

- ‌الدرس: 18 تأكيد المدح بما يشبه الذم، والعكس

- ‌(تأكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌تأكيد الذم بما يشبه المدح

- ‌الدرس: 19 التورية

- ‌معنى التورية لغةً واصطلاحًا، وعناصرها

- ‌الفرق بين المجاز والتورية

- ‌الفرق بين التورية والكناية

- ‌أقسام التورية

- ‌الدرس: 20 السجع

- ‌تعريف السجع لغةً واصطلاحًا، والسجع عبر العصور

- ‌آراء في أسلوب السجع، وهل يطلق على ما جاء في القرآن

- ‌شروط حسن السجع، وأنواعه

- ‌بلاغة السجع

- ‌الدرس: 21 الجناس باعتباره أحد المحسنات اللفظية

- ‌معنى الجناس في اللغة والاصطلاح، وجهود البلاغيين في إبرازه

- ‌تقسيم المحسنات البديعية إلى: معنوية، ولفظية

- ‌أقسام الجناس

- ‌بلاغة الجناس

الفصل: ‌ ‌الاستعارة التصريحية وبعد هذه الإفاضة في الحديث عن الاستعارة المكنية يأتي

‌الاستعارة التصريحية

وبعد هذه الإفاضة في الحديث عن الاستعارة المكنية يأتي الدور على الاستعارة التصريحية، وإنما بدأت بالمكنية؛ لأنها الأقوى في تأكيد المعنى، لما بها من إثبات لازم المشبه به للمشبه على سبيل التخييل، ولأن ثمة اتجاها قد تبناه السكاكي يرى ردَّ الاستعارة التصريحية التبعية إلى المكنية، وهو وإن اعترض عليه الخطيب وردَّه إلا أن ذلك على أي حال استلزم الحديث عن المكنية أولًا؛ إذ لا يمكن تصور التبعية على هذا الرأي إلا بالتعرف على المكنية أولًا.

ولعلك وقبل أن نفيض في الحديث عن الاستعارة التصريحية تكون قد عرفت كيف تجري الاستعارة، وأزيدك هنا فأقول: إن طريقة الغوص وراء إيحاءات الاستعارة، وهذا على الرغم من أهميته يُدرك بملاحظة السياق الذي تأتي الاستعارة ترجمة له، وبمراعاة اختيار اللفظ وحسن توظيفه في السياق، لكن إدراك هذا أمر موكول لصفاء القريحة، والدربة في تذوق الأساليب، وهذا يتوقف على إدراك البنية الطبيعية للاستعارة، فتحليل الاستعارة يجعلنا نحاول استدعاء المعنى المتخيل باللفظ المستعار، وباستدعاء المعنى نكون قد ظفرنا بالطرفين اللذين تقع فيهما المشابهة.

فإذا ظفرنا بهما أدركنا صنيع الخيال في صهر الطرفين، وإدخال أولاهما في ثانيهما، ثم استعمال ذلك الثاني مرادًا به الأول، هذا إذا كان المستعار من الثوابت التي لا يلحق بها تغيير الاشتقاق، وهو ما يُعبَّر عنه بقولهم اسم جنس جامد، فإن كان مما يلحق به تغيير الاشتقاق كالأفعال، والأسماء المشتقة جرت الاستعارة أولًا في المصدر، ثم تبع ذلك اشتقاق الفعل أو الاسم المشتق من المصدر.

ص: 163

من النوع الأول قول شوقي يرثي سعد زغلول:

شيعوا الشمس ومالوا بضحاها

وانحنى الشرق عليها فبكاها

جلل الصبح سوادًا يومها

فكأن الأرض لم تخلع دجاها

فماذا يقصد شوقي بالشمس المشيعة هنا؟ إن من ينظر إلى قرينة الرثاء يُدرك أن الشمس مرادًا بها هنا سعد زغلول، زعيم مصر في عهده، وبهذا يكون المتلقي قد استدعى الطرف الأول وهو المشبه الذي هو سعد زغلول، وصار في يديه الطرفان: الطرف المستدعى وهو المشبه، والطرف المصرح به وهو المشبه به، وهنا يُدرك كيف صهر خيال أمير الشعراء الطرفين فيتراءى له الخيال وهو يتناسى التشبيه. ويدخل سعد في أفراد الشمس، ويجعل الشمس مرادًا بها ذلك المرثي، وموجز التحليل على هذا النسق نقول فيه:

أولًا: شبه الشاعر سعدا بالشمس بجامع قوة النفع، وشدة الحاجة في كل منهما.

ثانيًا: تنوسي التشبيه وادعي أن سعدًا من أفراد الشمس.

ثالثًا: استعيرت الشمس على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية، والمستعار كما لا يخفى اسم جنس جامد، ومن هذا النوع الثاني قول حافظ إبراهيم يحيي شباب مصر:

أهلا بنابتة البلاد ومرحبًا

جددتم العهد الذي قد أخلق

لا تيأسوا أن تستردوا مجدكم

فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى

فماذا يقصد بنابتة البلاد، لا بد أنه يقصد الناشئة من أبناء مصر بقرينة التأهيل والترحيب، فبهذه القرينة استدعينا المعنى الذي يرمي إليه حافظ، وهذا المعنى هو الطرف الأول، وهو المشبه. والطرف الثاني هو المصرح به في النص وهو نابتة البلاد المشبه به، وقد صهر الشاعر الطرف الأول والثاني؛ حيث تناسى التشبيه،

ص: 164

وادَّعى أن النشء داخل في جنس المشبه به وهو النبت، ثم استعار النبت للنشء، ثم اشتق منه نابتة بمعنى ناشئة على سبيل الاستعارة التبعية، والقرينة هي الضمير المستكن في ناشئة العائد على المخاطبين بالتأهيل والترحيب، ونوجز التحليل على هذا النحو التالي:

أولًا: نقول: أنه شبه النشء بالنبت بجامع الأمل المرتقب في كل منهما.

ثانيًا: تنوسي التشبيه وادعي أن النشء من أفراد النبت، ثم استعير النبت للنشء، ثم اشتق من النبت بمعنى النشء نابتة بمعنى ناشئة على سبيل الاستعارة التبعية، والقرينة ما عرفنا، ولا يخفى أن الاستعارة قد جرت أولًا في المصدر، ثم في اسم الفاعل تبعًا؛ ولذلك تُسمى تصريحية تبعية، هذا إذا كانت الاستعارة تصريحية، فإذا كانت مكنية كان الاستدعاء للطرف الثاني عن طريق خاصته الموحية به، وذلك مثلًا مثل قول ابن الرومي في بعض روائعه يقول:

حيتك عنا شمال طاف طائفها

بجنة نفحت روحًا وريحانا

هبت سحيرًا فناجى الغصن سرابها

وتداعى الطير إعلانًا

ففي هذه الصورة الفاتنة نرى ريح الرياح رسولًا ينهض بإبلاغ التحية إلى من يصطفيه، وبهذه الرؤية تم استدعاء الطرف الثاني وهو الرسول، وقد أعاننا على هذا الاستدعاء خصيصة التحية التي يتمنى الشاعر أن تنهض بها ريح الشمال.

وهنا يطلعنا خيال الشاعر على صنعته، وهو يصهر الطرفين بتناسي تشبيه الشمال بالرسول، وادعائه أنها من أفراده، ولا يقف عند هذا الحد، وإنما يسعى إلى إخفاء تلك الصنعة؛ فيحذف الطرف الثاني بعد استعارته للطرف الأول، لكنه إخفاء يتودَّد به إلى المتلقي، ويشوقه إلى التعرف على ما أخفاه، فيضع أمام عينيه أمارة دالة عليه، وهو خصيصة من خصائص المستعار المحذوف، ثم لا يدفع به

ص: 165

إلى حافة اليأس منه، وإذا بدت لك إجاز التحليل فإننا نسارع إلى تلبية تلك الرغبة فنقول:

أولًا: شبهت الشمال بالرسول بجامع إيصال المراد في الطرفين.

ثانيًا: تنوسي التشبيه، وادعي أن الشمال من أفراد الرسول، ثم حُذف المستعار وهو الرسول، ورمز إليه بشيء من خصائصه، وهو إبلاغ التحية للشمال، قرينة هذه الاستعارة كما عرفنا، وكما هي عند أرباب البيان استعارة تخييلية، هذه هي الطريقة التي نتعرف بها على طبيعة الاستعارة، ونقف منها على عبقرية الشاعر وهو يصهر طرفيها ويصوغ منها تلك الحلية الساحرة المبهرة.

والقاعدة في كل هذا وفي إجراء أية استعارة مكنية كانت أم تصريحية أن تضع في ذهنك أن المستعار منه هو المشبه به، وأن المستعار له هو المشبه، ولنسترسل إذن في الحديث عن الاستعارة التصريحية؛ لنتمم بها الأقسام الرئيسة للمجاز اللغوي لعلاقة المشابهة، ولندرب أنفسنا على كيفية إجراء الاستعارة أكثر فأكثر، وعلى كيفية التعامل مع هذا الضرب من فنون القول.

الاستعارة التصريحية، كما ذكر البلاغيون: ما صرح فيه بلفظ المشبه به أي: بلفظ المستعار منه كقولك مثلًا: رأيت أسدًا يخطب الناس، فالمعنى المراد -كما ترى- هو الرجل الشجاع، وهو المشبه، وهو إن حذف إلا أن له تحقق ووجود ليس متخيلًا ولا متوهمًا، ولذا تسمى التصريحية بأنواعها تحقيقية، وفيها يصرح عادة بلفظ المشبه به، كما عندنا هنا في لفظ الأسد في المثال الذي ذكرنا، ومن ثم فقد أطلق عليها استعارة تصريحية.

والاستعارة التصريحية تنقسم باعتبار اللفظ المستعار إلى أصلية وتبعية:

ص: 166

فالأصلية: ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس يدل على واحد غير معين من جنسه، سواء كان اسم عين، أو اسم معنى، أو اسم علم، فاسم عين مثلًا كالأسد، والثعلب، والبحر، والغيث، والسهل.

واسم المعنى: وهي المصادر، كالقتل، والنوم، واليقظة، ويدخل في الاستعارة الأصلية أسماء الأعلام التي اشتهرت بصفة معينة؛ لأنها صارت لشهرتها بالصفة كاسم الجنس بالتأويل، وذلك نحو حاتم الذي اشتهر بالكرم؛ فصح استعارته لكل رجل كريم، لأن شهرته بالكرم جعلته كالموضوع لمطلق ذات متصفة بالكرم، فصار بهذه الشهرة اسم جنس تأويلًا، وعندئذٍ يجوز استعارته كما تستعار أسماء الأجناس.

فنقول في استعارة اسم العين: ضمت الأم زهرتها إلى صدرها، تريد طفلتها، فتشبه طفلتها بالزهرة، وتقول: أسود المعركة أي: الشجعان، وبحور العلم أي: العلماء، وثعالبة الاستعمار أي: الماكرين، فتشبه الشجعان بالأسود، والعلماء بالبحور، والأعداء بالثعالب؛ فالمستعار في كل هذه الأمثلة اسم عين، وتقول في استعارة اسم المعنى، وهو المصدر: آلمني قتل فلان أباه، وذبحه أخاه، تريد الأذى والإذلال، وليس معنى القتل على الحقيقة، ولا الذبح؛ فتشبه الأذى والإذلال بالقتل، والذبح؛ لبشاعة الجرم في كلٍّ.

ويقال في إجراء هذه الاستعارة: شبه الأذى والإذلال بالقتل والذبح بجامع الإيلام الشديد في كلٍّ، ثم ادعي أن الأذى والإذلال داخلان في جنس القتل والذبح، وفردان من أفرادهما، ثم استعير القتل والذبح للأذى والإذلال.

وتقول أيضًا: سباحة الفكر التنقل في شتى العلوم بالسباحة في جنبات اليم، وتشبيه سرد الدرع بالخياطة، والتنبه لأداء الواجب باليقظة، ومن ذلك قوله

ص: 167

-عز وجل {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (الأنفال: 49)، ويقال في كل ما سبق في إجراء الاستعارة ما قيل في سابقتها، ولكن لماذا سميت هذه الاستعارة بالاستعارة الأصلية؟ الجواب: أنها أكثر وجودًا في الكلام من التبعية، ولأن التبعية مبنية عليها، وتابعة لها، فهي لها أصل، كما هو واضح ومعروف، ومن ذلك بالإضافة لما سبق قول الشاعر:

فتًى كلما فاضت عيون قبيلة

دمًا ضحكت عنه الأحاديث والذكر

استعار الدم، وهو اسم جنس للدموع التي تفيض من العيون، وتُفيد هذه الاستعارة فداحة الخطب وشدة ما حلَّ بالقبيلة، فقد فاضت عيونها دماء لا دموعًا من هول الموقف، وهذا بالتالي ينبئ بعظم الممدوح الذي يبدد تلك الأحوال ويغيرها بكرمه وشجاعته إلى أمن وسرور. من ذلك أيضًا قول كثير عزة:

رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر

ظواهر جلد وهو للقلب جارح

حيث شبه النظرة الثاقبة التي رمته بها فتاته بالسهم النافذ، وهو اسم جنس بجامع قوة التأثير في كلٍّ، ثم حذف المشبه، وادعي أنه فرد من أفراد المشبه به، فاستعير له لفظه على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية.

النوع الثاني من الاستعارة التصريحية: الاستعارة التبعية، وهي ما كان اللفظ المستعار فيها فعلًا أو اسمًا مشتقًّا أو حرفًا، فمن استعارة الفعل قولنا مثلًا: نطقت الحال بكذا، وطار فلان إلى المعركة، ونام عقل فلان، فالمراد دلت الحال، وأسرع فلان، وغفل عقله، وتوقف عن الفهم، فاللفظ المستعار هنا فعل، وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت الدلالة الواضحة

ص: 168

بالنطق في إيضاح المعنى، ثم استعير النطق للدلالة الواضحة، فصار النطق بالاستعارة معناه الدلالة الواضحة، ثم اشتق من النطق نطق بمعنى دلَّ على سبيل الاستعارة التبعية. وكذا القول في طار ونام.

ومن استعارة المشتقات قولنا: فلان عقله نائم، وفلان فكره يقظان، فالمراد فلان عقله غافل، وفلان فكره منتبه، وتقول أيضًا: عظيم فعالك ناطق بكل حالك، وهذا مقتول فلان، والمراد عظيم فعالك دالٌّ بحاله، وهذا مأذى فلان. ومنه قوله جل وعلا:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (الأنبياء: 35) والمراد كل نفس تحس بشدة الموت عند الاحتضار، كما يحس الذائق للشراب المر ما فيه من مرارة.

ويقال في إجراء الاستعارة في هذه المشتقات شُبهت الغفلة بالنوم بجامع عدم الإدراك في كلٍّ، ثم استعير النوم للغفلة فصار النوم بالاستعارة معناه الغفلة، ثم اشتق من النوم نائم بمعنى غافل، وكذا القول في يقظان، وفي ناطق ومقتول، وفي قوله تعالى:{ذَائِقَةُ} .

ومن استعارة الحروف قولنا: فلان في نعمة، والمراد أنه متمتع بالنعمة تمتعًا تامًّا، كأنه في داخلها، وإنما كانت الاستعارة في الأفعال والمشتقات والحروف تبعية؛ لأن الاستعارة قائمة على التشبيه، والتشبيه يقتضي أن يكون المشبه والمشبه به موصوفين بوجه الشبه؛ لأن الوجه وصف جامع بين الطرفين، إلا الحقائق الثابتة في الخارج كالجسم واللون والأسد، أو في العقل كالعلم والجود والذكاء، كما ذكرنا في الاستعارة الأصلية، فيقال مثلًا: جسم صغير وعلم واسع.

أما الأفعال والمشتقات فلا ثبوت لها لا خارجًا ولا عقلًا؛ إذ هي متجددة متغيرة لدخول الزمن المتغير في مفهوم الأفعال ولزومه للمشتقات؛ ولذا لا تصلح أن تكون موصوفًا، وبالتالي لا تصلح للتشبيه، ويتحتم أن يجري التشبيه أولًا في

ص: 169

المعاني الثابتة القابلة للوصفية، وهي المصادر، ثم يستعار المصدر المشبه به للمصدر المشبه، ويشتق منه الفعل أو اسم الفاعل، أو اسم المفعول بعد أن يحمل المعنى الجديد لمصدره الذي انتقل إليه بالاستعارة، فيكون الفعل أو المشتق حينئذٍ تابعًا لمصدره في حمل المعنى الجديد، كما رأينا في إجراء الاستعارات السابقة.

تلك هي خطوات إجراء الاستعارة التبعية، وقد أعدتها عليك؛ لتتعرف كيف تجري الاستعارة في الأفعال، أو في الأسماء الأصلية، وكما كانت الاستعارة في الأفعال والمشتقات تبعية؛ لأن جريان الاستعارة في الأفعال والمشتقات تابع لجريانها في مصادرها؛ إذ الأفعال والمشتقات لا تنفك معانيها عن معاني أصولها، وهي المصادر، وإذا تغير معنى الأصل بالاستعارة تغير تبعًا لذلك معنى الفرع المشتق منه.

وقد اعتبر البلاغيون التشبيه والاستعارة في المصدر قبل اعتبارهما في الفعل والمشتقات؛ لأن المصدر هو المعنى القائم بالذات، فهو الجدير بأن يعتبر فيه التشبيه والاستعارة قبلان.

أما الحروف فقد عُدَّت الاستعارة فيها تبعية؛ لأن الحرف لا يدل على معنى مستقل، بل يدل على معنى في غيره، ولذا لا يصلح للتشبيه ولا الاستعارة؛ بل يقع التشبيه والاستعارة في متعلق معناه أولًا؛ لأنه هو الذي يستقل بالدلالة، ومتعلق معنى الحرف عند الخطيب هو مدخوله، وعند الجمهور هو المعنى العام الذي نفسر به الحرف.

ويتضح ذلك في قولنا: فلان في نعمة. فالخطيب يشبه مدخول الحرف وهو النعمة بظرف تحل فيه الأشياء بجامع مطلق ارتباط وتعلق في كلٍّ، ويدل على التشبيه بلفظ في الذي هو لازم من لوازم المشبه به وهو الظرف.

ص: 170

والجمهور يشبه الارتباط الحاصل بين النعمة وصاحبها بالظرفية التي هي ارتباط حاصل بين الظرف والمظروف، ثم يسري التشبيه من هذا العام إلى أفراده؛ فيستعار اللفظ فيه من مفرد من أفراد المشبه به لفرد من أفراد المشبه على سبيل الاستعارة التبعية في الحروف يعني: مثلًا قوله صلى الله عليه وسلم ((خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه، كلما سمع هيعة طار إليها))، ترى أن الحديث شبه العدو بالطيران بجامع قطع المسافة بسرعة في كلٍّ، ثم استعير الطيران للعدو، فصار العدو بالاستعارة معناه الطيران، ثم اشتق من الطيران طار بمعنى عدا على سبيل الاستعارة التبعية، والهيعة كما هو معروف هي الصيحة المفزعة، وأصلها من هاع يهيع إذا جبن، والمراد: أنه رجل مستعد للجهاد كلما سمع صيحة مستغيث من المسلمين أسرع إليه ليقاتل معه.

ومثل الحديث في استعارة الطيران للعدو قول امرأة ترثي قتيلًا فارسًا تقول:

لو يشا طار به ذو ميعة

لاحق الآطال نهد ذو خصل

كلمة ميعة يعني: نشاط لاحق الآطال أي: ضامر الخاصرة، نهد أي: القوي، ذو خصل جمع خصلة، وهو الشعر المجتمع، أرادت عدا بهذا الفرس مسرعًا، ومنه قول الآخر:

فَطِرتُ بِمَنصَلى في يَعمُلاتٍ

دَوامي الأَيدِ يَخبِطنَ السَريحا

أراد أنه قام بسيفه مسرعًا إلى نوقه، فعقرها؛ لأن كلمة الصريحا: السير الذي يُشد على أرجل الناقة، والمنصلي هو السيف، واليعملات هي النوق المطبوعة على العمل، فهو أراد أنه قام بسيفه مسرعًا إلى نوقه فعقرها، وسالت الدماء على أيديها وأخذت تضرب بأقدامها القيود المقيدة بها من شدة الجراح؛ فالاستعارة في البيتين تبعية كما هي في الحديث، من ذلك أيضًا قول البحتري من الاستعارة التبعية في مادة الفعل قول البحتري:

ص: 171

يتراكمون على الأسنة في الوغى

كالفجر فاض على نجوم الغيهب

يريد أنهم بواسل يندفعون بشدة وصبر إلى مواطن الموت كما ينبسط الفجر دفعة، فينشر ضوءه على الكون، وقد استعار الفيض لانبساط الفجر؛ إذ شبه انبساط الفجر وسرعة انتشار ضوئه بفيضان الماء، ثم استعاره له، واشتق منه فاض بمعنى انبسط وانتشر بسرعة.

ومن الاستعارة التبعية أيضًا في مادة الفعل قول أبي الطيب يمدح أبا فراس الحمداني:

نثرتهم فوق الأحيدب نثرة

كما نثرت فوق العروس الدراهم

أراد أن ممدوحه هزم أعداءه شر هزيمة، فشتت شملهم وفرقهم، فانتشروا في غير نظام كما تنثر الدراهم فوق العروس، فقد شبه تفرق أجسامهم وتساقطها بتفرق الأجسام الصغيرة ونثرها، بجامع التفرق والتساقط على غير نظام في كلٍّ، ثم استعير النثر من المشبه به للمشبه، واشتق منه نثر بمعنى: فرق على سبيل الاستعارة التبعية في الفعل.

من ذلك أيضًا قول شاعر آخر:

لم تَلقَ قوماً هُمُ شَرِّ لاخوتهم

................

ويريد إخوتهم هنا أعداءهم على سبيل التهكم.

لم تَلقَ قوماً هُمُ شَرِّ لاخوتهم

منا عَشيةً يجري بالدَّمِ الوادي

نَقربهُمُ لهذمياتٍ نَقُدُّ بها

ما كان خاطَ عليهم كُلَّ زَرَادِ

والزراد: هو صانع الزرد، وهو الدرع، فهو هنا يصف قومه بالشجاعة، وأنهم أشد خطرًا على الأعداء عند احتدام المعركة، واشتداد القتال، ويريد بذلك أنهم يطعمونهم سيوفًا تشق دروعهم، وتفري ضلوعهم، وقد استعار؛ لذلك القرى للضرب بالسيف بجامع الترحيب والإكرام في كلٍّ، واشتق منه نقري بمعنى: نضرب على سبيل الاستعارة

ص: 172

التبعية التهكمية، ثم استعار الخياطة للزرد أي: الدرع من الحديد بجامع ضم الأطراف في كلٍّ، واشتق منها الفعل خاطى بمعنى سرد على سبيل الاستعارة التبعية في الفعل.

ومن ذلك وهي كسابقتها تبعية تهكمية قول الله عز وجل: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الانشقاق: 24) فمعلوم أن البشارة إنما تكون بأمر طيب، أو بأمر فيه سرور، لكنه هنا نزَّل الإنذار منزلة التبشير؛ لقصد التهكم والسخرية، فشبه الإنذار بالتبشير بجامع إدخال السرور في كلٍّ، ثم استعير التبشير للإنذار، واشتق منه الفعل بشَّر بمعنى أنذر على سبيل الاستعارة التبعية التهكمية.

ومن التبعية في الفعل قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} (الأعراف: 168) فقد شبَّه التفريق بالتقطيع بجامع إزالة الاتصال في كلٍّ، ثم استعير التقطيع للتفريق، واشتق منه الفعل قطع بمعنى فرَّق.

ومنه قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) فالمراد بل نورد الحق على الباطل فيُذهبه ويمحوه، فإذا هو ذاهب؛ فقد استعير القذف للإيراد والدمغ للمحو والإزالة، والزهاق للذهاب، ثم اشتق منها نقذف، ويدمغ، وزاهق على سبيل الاستعارة التبعية.

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود: 87) فالمراد السفيه الغوي، كما هو سياق الآية؛ حيث شبه السفه والغي بالحلم، والرشد، ثم استعير الحلم والرشد للسفه والغي، واشتق منهما حليم ورشيد بمعنى سفيه وغوي على سبيل الاستعارة التبعية التهكمية.

فإلى أن ألتقي وإياكم على خير أستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 173