الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع عشر
(التورية)
معنى التورية لغةً واصطلاحًا، وعناصرها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
التورية في اللغة: مصدر ورَّى الشيء، إذا ستره وأخفاه كالمواراة، يقال: وريت الشيءَ وواريته، وفي (اللسان): وريت الخبر جعلته ورائي وسترته. وفي الحديث: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرًا ورى بغيره)) أي: ستره وكَنَّى عنه، وأوهم أنه يريد غيره. وأصله من الوراء أي: ألقى البيان وراء ظهره. وفي التنزيل: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} (الأعراف: 20) أي: ستر على وزن "فعل" وقرئ: "وُرِّيَ عنهما" بمعنًى. ووريت الخبر أوريته توريةً: إذا سترته وأظهرت غيرَه، كأنه مأخوذ من وراء الإنسان؛ لأنه إذا قال: وريته، فكأنه يجعله وراءَه حيث لا يظهر. فالمادة إذًا تدور حول الستر والإخفاء، قال الله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} (الأعراف: 26) أي: يسترها ويخفيها. والورى: الأنام الذين على وجه الأرض في الوقت، ليس من مضى، ولا من يتناسل بعدهم، سموا بذلك؛ لأنهم يسترون الأرض بأشخاصهم.
أما في عرف البلاغيين واصطلاحهم: فإن التورية تعني: أن يُذكر لفظ له معنيان؛ أحدهما: قريب يتبادر معناه إلى الذهن، والآخر: بعيد دلالة اللفظ عليه خفية، والمراد هو البعيد منهما. وقد وُري عنه بالمعنى القريب، فيتوهم السامع لأول وَهلة أن المتكلم يريده وهو ليس بمراد له. والمقصود بالقرب والبُعد هنا هو سرعة حصول المعنى في الذهن عند سماع اللفظ أو عدم حصوله، فالقريب يكون أسرعَ إلى الذهن تردادًا وحصولًا من المعنى البعيد. كما نرى هذا في قول الشاعر:
حملناهم طِرًا على الدهم بعدما
…
خلعنا عليهم بالطعان ملابسا
فالتورية في لفظ "الدهم" فإن لها معنيين؛ معنى قريب غير مراد وهو الخيل، ومعنى بعيد هو المراد وهو قيود الحديد. ومثل ذلك قول سراج الدين الوراء:
أصون أديم وجهي عن أناس
…
لقاء الموت عندهم الأديم
ورب الشعر عندهم بغيض
…
ولو وافَى به لهم حبيب
فلفظ "حبيب" في البيت الثاني له معنيان؛ أحدهما: المحبوب وهو المعنى القريب الذي يتبادر إلى الذهن، والثاني: اسم أبي تمام، وهو حبيب بن أوس الطائي، وهذا هو المعنى البعيد الذي أراده الشاعر، وقد وَرَّى عنه بالمعنى القريب. ومن ذلك قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (الأنعام: 60) فلفظ: {جَرَحْتُمْ} في الآية الكريمة له معنيان؛ قريب ظاهر غير مراد، وهو إحداث تمزق في الجسد، والثاني: بعيد خفي المراد، وهو ارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي. ومن ذلك قول أبي العلاء المعري:
وحرف كنون تحت راء ولم يكن
…
بدال يؤم الرسم غيره النقط
فألفاظ هذا البيت مبنية على التورية، إذ معناه: أن هذه الناقة لضعفها وهزالها قد انحنت وتقوست، وصارت شبيهةً بحرف النون في تقوسها، تحت رجل يضرب رئتيها ولا يَرفق بها في السير فهو غير دال، يؤم بها دارًا غيَّر المطر رسمها، فالمعنى القريب الظاهر غير المراد للحرف أحد حروف الهجاء، وللراء والدال الحرفان المعروفان، وللرسم رسم الأحرف وكتابتها، وللنقط تنقيط الأحرف، والمعنى البعيد لهذه الألفاظ الحرف النقط، والراء: اسم فاعل من رأى أي: ضرب الرئة، والدال اسم فاعل من دَلَى يدلو: إذا رفَق في المسير، والرسم: أثر الديار، والنقط: المطر. وتلك المعاني البعيدة هي المرادة، وقد ورَّى عنها الشاعر بالمعاني القريبة، فبدت في صورة حسنة لطيفة كما يبدو وجه الحسناء من وراء البُرقُع.
وبهذا يتبين أن التورية لفظ مفرد له معنيان: إما بالاشتراك أو التواطؤ، أحد المعنيين قريب ظاهر غير مراد، آخر بعيد خفي مراد، والمتكلم يوهم السامع أول الأمر أنه يريد الأمر القريب، وعند التأمل يتضح أنه يريد المعنى البعيد. ولذا سمي هذا النوع أيضًا باسم الإيهام. وواضح من الأمثلة السابقة أن التورية تكون من ثلاثة عناصر؛ الأول: لفظ له معنيان. الثاني: معنى قريب ويسمى المُوَرَّى به. الثالث: معنى بعيد، ويسمى المُوَرَّى أو المُوَرَّى عنه.
ففي بيت: "حملناهم طرًا على الدهم" نجد لفظ الدهم له معنيان، هذا اللفظ هو العنصر الأول، والمعنى القريب لهذا اللفظ وهو الخيل هو العنصر الثاني، معناه البعيد وهو القيود الحديدية، هو العنصر الثالث، ولا بد في التورية من تفاوت المعنيين في القرب والبعد، فإن تساويَا فيهما فلا تورية، مثل كلمة جون، فإن لها معنيين أبيض وأسود، إلا أنهما متساويان في القرب والبعد ما لم تدل قرينة على أن المراد منهما، لذا فإن هذه الكلمة لا توريةَ فيها لعدم تفاوت المعنيين. وعليه، فالتورية إذا خلت من قرينة دالة على أن المراد باللفظ هو المعنى البعيد، وأن المعنى القريب ليس إلا مخفيًا وساترًا للمعنى البعيد، إذا خلت من ذلك كانت ضربًا من التعمية والإلغاز، وكلاهما قبيح، فضلًا عن كونهما ليسَا من المحسنات البديعية، فلا بد في التورية إذًا من قرينة تدل على أن المراد هو المعنى البعيد للفظ، وقد تكون هذه القرينة عقلية تفهم بقرينة المقام والأحوال، وقد تكون القرينة لفظية كما نجد ذلك في قول الشاعر -وقد مر بنا:
حملناهم طرًا على الدهم بعدما
…
خلعنا عليهم بالطعان ملابسا
فإن قوله: "خلعنا" يدل على أن الحمل على الخيل، وهو نوع من التكريم غير مراد، وأن المراد هو القيود الحديدية، إذ إنها هي التي تناسب خلع الطعان عليهم ملابسا، وهي ملفوظة -كما ترى.