الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن عشر
(تأكيد المدح بما يشبه الذم
، والعكس)
تأكيد المدح بما يشبه الذم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
فنعيش مع لون آخذ بالألباب من ألوان البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، والعكس تأكيد الذم بما يشبه المدح.
أسلوبٌ يقوم على مفاجأة السامع بصفةٍ من صفات المدح، حيث كان يتوقع صفة ذم وذلك باستخدام أداة من أدوات الاستثناء أو الاستدراك. كقول النابغة الذبياني:
ولا عيبَ فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قِراع الكتائب
فالعيب صفة ذم، وقد نفاها الشاعر عن ممدوحه، ثم استثنَى منها صفةَ مدح، وهي أن سيوفهم بها فلول من قراع الكتائب، وذلك ينم عن شجاعتهم وكثرة قتالهم، فهؤلاء لا عيبَ فيهم سوى الشجاعة إن كانت الشجاعة عيبًا، وكون الشجاعة عيبًا محال، فيكون ثبوت العيب لهم من المحال. ويتحقق التأكيد والمفاجأة بهذا الأسلوب سواء أكان المستثنى منه مثبتًا أو منفيًّا، وسواء وجد المستثنى منه أو كان الاستثناء مفرغًا، كما يتحققان أيضًا سواء أكان الاسثتناء متصلًا أم منقطعًا؛ لأن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلًا، ومثل تأكيد المدح بما يشبه الذم تأكيد الذم بما يشبه المدح.
وعليه، فإن وجه تسمية هذا اللون -بتشبيه المدح بما يشبه الذم والعكس- يكمن في أن هذا الأسلوب ألف الناس سماعه في الذم؛ لأن المتكلم عندما يذكر صفة ذم منفية أو صفة مدح مثبتة ثم يعقب بأداة استثناء أو استدراك، يتوقع السامع أن
المستثنى أو المستدرك سيكون ذمًّا؛ لأن هذا ما قد ألفه واعتاده من مثل هذا الأسلوب، ولكن المتكلم يعدل عن ذكر ما قد ألِفَ إلى ذكر صفة مدح يؤكد بها المدح الأول، ولهذا سمي الأسلوب تأكيد المدح بما يشبه الذم. ومثل ذلك يقال في تأكيد الذم بما يشبه المدح. وتأكيد المدح بما يشبه الذم مما سجله ابن المعتز في كتاب (البديع) وأطلق عليه هذا المصطلح، غير أنه نكر المدح فقال:"ومنها تأكيد مدح بما يشبه الذم"، ثم أطلق الحاتمي عليه الاستثناء، وتبعه على هذا المصطلح جماعة من العلماء.
وربما كان سبب ذلك أن الاستثناء يمثل في هذا الفن ركيزته الأساسية، وهناك من أطلق عليه تأكيد المدح بما يوهم الذم، وربما كان ذلك مأخوذًا من ابن فارس الذي عقد بابًا في كتابه (الصاحبي) أسماه: باب إخراج الشيء المحمود بلفظ يوهم غير ذلك، وقد أخذه الثعالبي وحور فيه قليلًا فقال:"فصل في إخراج الشيء بلفظ يوهم ضد ذلك". وسار أبو العباس الجُرجاني وراء ابن فارس، وبعضهم سماه: ذكر المدح في معرض الذم، ولكن سعد الدين التفتازاني اقترح في (المطول) أن يطلق عليه تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه؛ ليتسع لهذه الصور وغيرها مما ليس فيه مدح وذم، مما يدخل في باب التعليق بالمحال، ومن هنا ذهب إلى أن مصطلح تأكيد المدح بما يشبه الذم، قائم على الأعم الأغلب، وإلا فقد يكون ذلك في غير المدح والذم، ويكون من محسنات الكلام، كقول الله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 22). يعني: إن أمكن لكم أن تنكحوا ما قد سلف فانحكوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض هو المبالغة في تحريمه. والمعنى: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد مات من زوجات آبائكم فانكحوهن، فهذا النوع الوحيد المحلل لكم من أزواج آبائكم، وهذا من باب التعليق بالمحال.
وليس هذا هو الوجه الوحيد في معنى الآية وإن كان أرجحها عند أبي السعود. أما عند العلوي فنجد تأكيد المدح بما يشبه الذم وتأكيد الذم بما يشبه المدح أحد وجهي التوجيه، ذلك المصطلح الفضفاض عنده الذي جمع في جعبته عدة فنون بلاغية، وعلى الرغم من ذلك فإن مصطلح تأكيد المدح بما يشبه الذم ظل هو المصطلح المرضي عند جمهرة علماء هذا الفن، وفي مقدمتهم السكاكي والخطيب وشراح (التلخيص). والذي يُفهم من دلالة هذا المصطلح الشائع أن صورة المدح المراد توكيدها تأتي في معرض ما يشبه الذم، ولو لم ترد في هذه الصورة لخرجت من هذا الباب، فإذا ما نظرنا في البيت العلم الذي يعد عمدةً في هذا الباب؛ لأنه هو الذي فتح القولَ فيه، وهو قول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
فما الذي نره؟ إنك تجده يبدؤك بنفي جنس العيب عنهم، فينفي أن يكون فيهم عيب أي عيب، فلا هنا نافية للجنس، وقبل أن تستقر في وعيك هذه الحقيقة -وهو أنهم قوم لا شيء من العيب فيهم- جاءتك أداة الاستثناء غير، وأنت لا تستثني مما مضَى إلا ما هو داخل فيه، وفي هذا إيهام بأن هناك شيئًا من العيب يمكن أن يَلحق بهم، ويستمر هذا الوهم معك وهو ينشد ما بعد أداة الاستثناء:"أن سيوفهم بهن فلول".
ويظل وهمُك باقيًا مع هذا الاستمرار حتى إذا ما وصل إلى آخر العبارة الماضية، وهو لا يصل إليها في إنشاد الشعر إلا بعد وقت طويل بالمقارنة بقراءة الجملة النثرية، ويزيد في زمن الإنشاد أن هذه الفقرة موزعة بين شطري البيت، ومن المحتمل أن يكون إنشاد الشعر عندهم كان قائمًا على أساس من إنشاد كل شطر وحده. أقول: إن وهمك يظل باقيًا مع استمرار الإنشاد ويظل ذهنك مترقبًا لهذا
العيب الذي سيجيء، وتظل في حالة شوق إليه ولهفة عليه، حتى إذا ما انتهى من إنشاد الفقرة الماضية ووصل إلى آخرها، أدركتَ أن هذا العيب المستثنى بـ"غير" من جنس العيب المنفي سابقًا، ففلول السيف في الأصل عيب، وإذا كانت سيوفهم بهن فلول فإن هذا يعيبهم، وهنا يستقر ذهنك وينتهي ترقبك ويهدأ بالك، ولكن قبل أن تطمئن إلى ذلك يأتي قوله:"من قراع الكتائب"، فيتبين لك أن ما توهمته عيبًا، وأوحَى إليك الشاعر به وعمد إلى تقريره في نفسك على أنه من صفة العيب المستثناة، لم يكن كذلك، وإنما هو تثبيت لنفي جنس العيب وترسيخ له.
فأن يكون فلول السيوف بسبب الحرب والنزال ومقارعة الأعداء فهذا إثبات للشجاعة بالدليل الحسي المشاهد، فلا تفل السيوف إلا من شدة المنازلة وقوة المقارعة. فانظر كيف تلاعب الشاعر بتصوراتك وكيف قاد وهمك وذهنك بين المدح بنفي العيب نفيًا مطلقًا فأوهمك أن هناك عيبًا لاحقًا به، فالارتداد بك إلى ما بدأك به، وما كنت تتقلب هذا التقلب وتنتقل هذه الانتقالات، لو أن الشاعر اكتفَى بالاستثناء وحده ثم فاجأك بالصفة المستثناة التي يتبين لك سريعًا أنها من قبيل المدح الصراح. إن فلول السيف عيب حقيقي وإثباتها للممدوحين إثبات حقيقي، ولكن الذي قلب ما أوحت به هذه الصورة رأسًا على عقب، هو أن هذا لم يكن لإهمالهم السيوف أو عدم انتقائها عند الشراء بحيث يختارون أردأها، ولكن هذا كان من الحرب ومنازلة الأعداء، فانتفت حينئذ صفة العيب وثبت في الوقت نفسه ضدها، وهو أن فلول السيوف على هذه الصورة من المفاخر. ومن هنا تجيء الخلابة في هذا الباب، ويأتي توجيه الذهن إلى وجهات متناقضة في لحظات متتابعة متلاحقة. وانظر أيضًا إلى شاهد ابن المعتز في الإثبات
وهو علم في الضرب الثاني من ضروب تأكيد المدح بما يشبه الذم، غير أنه دون ما سبقه شهرةً وذيوعًا، يقول:
فتًى كملت أخلاقه غير أنه
…
جواد فما يبقي من المال باقيا
إن الشاعر هنا أثبت لممدوحه كمال الأخلاق، وهذا وصف يتنافَى معه إثبات أي صورة من صور النقص، فلما جاء الاستثناء وقع في وهمك أن هناك شيئًا من النقص يمكن أن ينقض ما استقر في وهمك وثبت فيه، ثم جاء قوله:"جواد" ليردك عن هذا الوهم، فليس الجود صفةً من الصفات المذمومة التي يصح أن تستثنَى من كمال الأخلاق، وبهذا لا يستقر الوهم عندك كما استقر في البيت الماضي. ولا يتطلع ذهنك إلى صفة العيب المثبتة كما تَطَلَّع هناك، وحتى هذه اللحظة يكون إيهام الذم قد تلاشى بسرعة واختفى أثره قبل أن يتمكن من النفس، لكن قوله:"فما يبقي من المال باقيًا" التي تلت صفة الجود قد ترجعك مرة أخرى إلى إيهام الذم، فالجود له حدود ولكن إذا تجاوز حدوده اتهم صاحبه، ولو ممن قد يصيبهم هذا الكرم البالغ مداه بالضرر كالزوجة والأولاد وهذا حديث شرحه يطول.
ولكن عند التحقيق لا ترى في هذا شيئًا من العيب، ولم يصل حاتم الطائي إلى ما وصل إليه إلا بأنه كان لا يبقي من المال باقيًا، ولم يبلغ أبو بكر الصديق رضي الله عنه من المنزلة في العطاء ما بلغ إلا حين ما ذهب بكل ما يملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبقِ لأهله وأولاده إلا الله ورسوله. والرسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى الذي لا يدانَى في هذا الميدان، ولو كان العطاء الذي يأتي على المال كله عيبًا، لَمَا صنع التاريخ من هذه النماذج المُثل العليا في هذا الباب، فليس إذًا في إفناء المال في الجود شيء يتناقض مع كمال الأخلاق الذي أثبته في صدر هذا البيت. ولكن هذا لم يثبت إلا
بعد عَرْضه على العقل والوقائع والمثل العليا في هذا الباب، ولم يؤخَذ من نص في كلام. وبهذا ترى فرقا بين البيت الماضي:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
وهذا البيت:
فتى كملت أخلاقه غير أنه
…
جواد فما يبقي من المال باقيا
يتمثل هذا الفرق في أن البيت الأول بدأ بنفي جنس العيب ثم استثنى ما يُوهِم أنه عيب، وأن الأخير بدأ بإثبات كمال الأخلاق، ثم استثنى صفة مدح صريحة واضحة ليس فيها إيهام عيب كسابقه. ثم أعقبه ببيان درجة هذا الجود وهو أنه لا يبقي من المال باقيًا. وليس هذا هو الفرق فقط وإن كان فرقًا واضحًا، ولكن هناك فرقا آخر وهو أن إثبات صفة المدح بعد الاستثناء ورَفع الوهم الذي فيه أُخِذَ في البيت الأول من نص الكلام، وهو أن فلول السيوف من قراع الكتائب، أما في البيت الثاني فإنه لم يؤخذ من نص مذكور في البيت، فالوهم جاء من الاستثناء، ثم دفعه إثبات صفة الجود ثم رده إلى مكانه بيانُ درجة هذا الجود، وهو أنه لا يبقي من المال باقيًا، ثم تركك عند هذا الحد لترتد إلى المثل العليا ووقائع التاريخ، حتى يتبين لك أن هذا ليس من العيب في شيء، وأن النماذج الفذة في العطاء لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا لأنها لم تكن -أي: تلك النماذج- تبقي من المال باقيًا. وبهذا الاستنتاج العقلي يدخل الممدوح في الإطار الذي دخلت فيه هذه النماذج الخالدة، وهذا أقصى ما يطمح إليه إنسان. ونظيره البيت السابق:
فتى كملت أخلاقه غير أنه
…
جواد فما يبقي من المال باقيا
قول ابن المقرب:
وسلاب أرواح الكماة لدى الوغى
…
ولكن مرجيه لدى السلم سالبه
فما قبل لكن وصفٌ للممدوح بالجرأة والشجاعة لدى الوغى، وما بعد لكن وصف آخر بالكرم وتحقيق الرجاء. ونلاحظ أن الذي ذُكِر في البيت أداة استدراك وليس أداة استثناء. ومنه قول بديع الزمان الهمذاني:
هو البدر إلا أنه البحر زاخر
…
سوى أنه الضرغام لكنه الوبل
وقول الآخر:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله
…
ولكنه قد يهلك المال نائله
ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم -وهذه صورة ثالثة يأتي عليها هذا الضرب من ألوان البديع- ما يوهم ظاهره أنه ذم خالص، كقول بعضهم:
ولا عيب فيهم غير شح نسائهم
…
ومن المكارم أن يكن شحاحا
فقراءة الشطر الأول لا تدل على مدح، فالشح عيب ولا خيرَ فيه، وفي القرآن الكريم:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) هكذا على الإطلاق لا فرق بين الرجال والنساء في ذلك، وعلى هذا يكون ما استثناه عيبًا بل عيبًا شنيعًا، وناهيك بالشح عيبًا وشناعةً، ولكن الشاعر حينما قال:"ومن المكارم أن يكن شحاحًا". مَحَا ما وقع في وهمك أولًا، وبين أن هذا من المكارم، ولولا ما جاء في الشطر الثاني لما كان الشطر الأول إلا ذمًّا خالصًا. وربما عنَى بذلك أنهن يحافظن على أموال أزواجهن فلا يسرفن في الإنفاق كما هو الشأن في المرأة، ولا يبذرن ولا يخرجن منها إلا ما أذن فيه الأزواج، فسمى ذلك شُحًّا؛ مبالغةً في صورة المحافظة على المال، وهو في الحقيقة ليس كذلك، وهذا نوع جديد غير ما مضى. ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم قول حاتم الطائي:
وما تتشكى جارتي غير أنني
…
إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
فيبلغها خيري ويرجع أهلها
…
إليها ولم تقصر علي ستورها
ففي صدر البيت الأول ينفي شكوى جارته منه، والشكوى إنما تكون من أمر غير مرضي من قبل الشاكي، وأن تفعل مع جيرانك ما يرضيهم ولا يشكون منه فهذا أمر حسن تُحمد عليه، وهو من حسن الجوار الذي تدعو إليه مكارم الأخلاق وشرائع السماء. وفي هذا مدح للنفس وفخر بفعالها، فلما جاء الاستثناء "غير" أوقع في وهمك أن هناك شيئًا تشكو منه الجارة، وبالتالي فإنه يوهم أنك فعلت معها ما لا يرضيها، فلا تكون الشكوى إلا من ذلك، وهذا يقلل من مدحه لنفسه الذي بدأ به. ومع هذا الوهم الذي يتبعه ترقب ما فعله معها وانتظار خبره، واللهفة المصاحبة لذلك، يستمر في إنشاده:"إنني إذا غاب عنها بعلها" فنحن حتى هذه اللحظة لا نعرف ماذا يفعل معها حينما يغيب عنها بعلها وهو ما تشكوه منه، وقد يذهب بك الظن كل مذهب في تقدير هذا الذي يفعله مع جارته في غياب بعلها. ولكن حينما يأتي إلى نهاية البيت تعرف جوابَ الشرط وهو:"لا أزورها". وعدم زيارة الجارة في غيبة الزوج ليس من العيب في شيء، بل هو مما يتمدح به العربي قبل الإسلام؛ دلالةً على حفظ الجوار وحفظ غيبة جاره. وقد يُظن أن هذه الصورة قريبة من بيت النابعة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
في طريقة البِناء، ونوع الخَلابة، واتجاه الظنون، وقيام الوهم، ولكن الأمر ليس كذلك، ذلك أن بيت النابغة وصل إلى مداه بمعرفة سبب فلول سيوف الممدوحين، وانتهى الأمر عند هذا الحد. ولكن الوصول إلى جواب الشرط هنا هو الذي يرفع الوهم ولكن لا يرفع الإشكال كله، وإن كان قد نفَى الوهم القائم، فعدم الزيارة لجارته قد يوهم إهمال أمرها، وعدم برها، والانصراف عن رعايتها، وقطع حبال الجوار قطعًا كاملًا، وهذا يعيبه وينتقص من قدر مدحه لنفسه وافتخاره بفعاله، على الرغم من أن نفي الزيارة في غياب البعل مدح له
ومَكرُمة تحمد له. ومن هنا اضطر حاتم الطائي أن ينفي هذا الوهمَ الذي طرأ بالبيت التالي:
سيبلغها خيري ويرجع أهلها
…
إليَّ ولم تقصر علي ستورها
لا تلازم إذًا بين الزيارة وبين وصول الخير إليها، فالخير يمكن أن يصلها بدون زيارة، فالصلة والمودة والمعروف ورعاية المصالح وقضاء الحاجات والدفاع عنها عند الحاجة، وما شاكل ذلك، يتحقق له من غير الزيارة، ومن هنا ارتفع الوهم الذي جاء به الشرط في البيت الماضي. والملاحظ هنا: أنه نفَى أن تقصر عليه ستورها، وهو بذلك يعني نفي الزيارة المريبة، وهذا لا يمنع أن يرى جارته خارجَ الستور إذا كان هناك ما يدعو إلى ذلك من طلب حاجة، أو دفع مضرة، أو ما يجري مجرى ذلك، وبهذا ترى أن الوهم هنا وهم يبدو ويختفي، ويتجدد وينتهي على التوالي والتكرار، وليس الأمر كذلك فيما مضى من شواهد وأمثلة. وبهذا تختلف هذه الصورة عما مضى. ومما يقرُب من هذه الصورة في الحاجة إلى البيان والإيضاح والشرح، قول أبي هفان وهو المستحسن عند الحاتمي في هذا الباب:
فإن تسألي عنَّا فإنَّا حلا العلا
…
بني عامر والأرض ذات المناكب
ولا عيب فينا غير أن سماحنا
…
أضر بنا والبأس من كل جانب
وأفنَى الردى أعمارنا غير ظالم
…
وأفنى الندى أموالنا غير عائب
أبونا أب لو كان للناس كلهم
…
أبًا واحدًا أغناهم بالمناقب
فجنس العيب المنفي جاء بعده الاستثناء؛ ليوهمك بأن هناك شيئًا من العيب، ثم أثبت للسماح والبأس إيقاع الضرر بهم من كل جانب، والضرر على هذه الصورة ضرر شامل، وهذا يردك مرة أخرى إلى التوهم والترقب والانتظار؛ لتعرف طبيعةَ هذا الضرر، وجاء البيت التالي ليبين لك طبيعة الضرر، فإذا به
يثبت للناس والأرواح وللندى أفناءَ الأموال، وهذا عند التأمل ومراجعة التاريخ والوقائع والمثل والنماذج، قمةُ الفخر في هاتين الصفتين، غير أن الشاعر أعانك على هذا الاستنتاج وراح يتركك؛ لتتأمل ولتراجع ما قاله. وإنما نَفَى الظلم عن البأس في إفنائه للأرواح، ونفى العيب عن الندى في إفنائه للأموال، أي: أن ما أراد أن يوهمك بأنه ضرر ثابت للبأس والندى، عاد هو نفسه ونفى ما أثبته أولًا. ولولا البيت الثاني لبقي الوهمُ قائمًا في النفس، وإثبات البأس والسماح لنفسه ولقومه لا يكفي مطلقًا في إزاحة هذا الوهم والقضاء عليه، فكان لابد من البيان والإيضاح في البيت الثاني. ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم قول ابن نباتة:
ولا عيب فيها غير سحر جفونها
…
وأحبب بها سحارة حين تسحر
ففتاتُه لا عيبَ فيها سوى الجمال وسحر الجفون، لو عد سحر الجفون عيبًا، وكونه عيبًا محال، والملاحظ أن أداة الاستثناء المستخدمة هنا في كل ما مضى هي "غير" وهي الأداة الغالبة في معظم ما ذكر من صور هذا الباب، ولكنها ليست الأداة الوحيدة المستخدمة، فقد استخدم بعض الشعراء "سوى" في قليل مما ورد. فمن ذلك قول أبي تمام:
تنصل ربها من غير جرم
…
إليك سوى النصيحة والوداد
فنفى مطلق الجرم هنا نفيًا عامًّا، ثم استثنى بـ"سوى" فأوهمك أن هناك شيئًا من الجرم، ثم جاء بعد ذلك بما ليس من الجرم في شيء وهو النصيحة والوداد، ومثل هذه الصورة التي يكون ما بعد أداة الاستثناء فيها ليس من قبيل ما يوهم الذم، وإن كانت غير مذهب ابن رشيق الذي سبق، فإن فيها إيهامًا بالذم بمجرد ذكر أداة الاستثناء، ولكنها وإن دخلت هذا الباب فإنها لا تبلغ مبلغ الصور التي يوهم فيها ما بعد أداة الاستثناء الذم. وكلما كان زمن الإيهام أطولَ كان أبلغَ؛
ولأنه حينئذٍ يبلغ بالخَلابة مداها، ويبلغ بتلاعبه بتصوراتك غايته، وكلما كان زمن الإيهام أقصرَ كان أقل بلاغة. ومما ورد فيه استخدام "سوى" أيضًا قول الآخر:
ما فيه من عيب سوى فتور عينيه فقط
…
وفتور العينين يوهم العين
ولكنه عند التحقيق لا تراه كذلك، فإنه مما يستحسن في النساء، وبهذا تكون هذه الصورة غير ما سبقها فيما يلي أداة الاستثناء، وهكذا ترى في كل صورة خاصية ليست في غيرها. ومن ذلك قول صفي الدين الحلي:
لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم
…
يسلو عن الأهل والأوطان والحشم
فكون النزيل بهم يسلو عن الأهل والوطن والحشم ليس عيبًا، بل هو دليل كرمهم وبرهان حسن ضيافتهم. ومنه قول ابن الرومي:
ليس له عيب سوى أنه
…
لا تقع العين على شبهه
فجعل انفرادَه بالحسن وعدم وقوع العين على شبيه له عيبًا، فزاد بهذا من حسنه وأكد جماله. أما "إلا" -وهي عمدة باب الاستثناء- فإن ما ورد منها في صور الإثبات ليس بشيء على الإطلاق، وانظر إن شئت إلى قول بديع الزمان الهمذاني يمدح خلف بن أحمد الساجستاني:
هو البدر إلا أنه البحر زاخر
…
سوى أنه الضرغام لكنه الوبل
أو قول ابن قلاقس:
هو الثغر إلا أنه البدر طالع
…
على أنه الكافور لكنه الوبل
وفتش عما فيه ما من صور الخلابة التي رأيتها فيما سبق من صور، أو مقدار الإيهام الذي لا بد منه في هذا الباب، بل فتش إن شئت عن الجمال والبيان في أي
منهما، فإنك لا تجد من ذلك شيئًا. أما في صور النفي فإن للأداة "إلا" باعًا واتساعًا ليس لغيرها من الأدوات الأخرى، وفي الاستثناء المفرغ على وجه الخصوص تتبدى فيه أسرار عديدة وعجيبة، وفي القرآن الكريم من صوره الكثير، وليس الأمر على ما ذكر ابن أبي الإصبع من أنه لم يجد منه في كتاب الله إلا آية واحدة احتال على تأويلها؛ ليدخلها في هذا الباب، وهو قوله -جل شأنه:{قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} (المائدة: 59) وأضاف السيوطي إلى هذه الآية في هذا الباب قولَه تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (التوبة: 74) وقوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (الحج: 40) وينقل أيضًا عن التنوخي في (الأقصى القريب) استشهاده في هذا الباب بقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (الواقعة: 25، 26).
وهذا الذي أجهد ابن أبي الإصبع نفسه ودَعَا السيوطي إلى الاستدراك عليه والاستعانة بالنقل عن التنوخي، تعرض له الزمخشري في تفسيره، وأدخله في هذا الباب صراحةً، وتوقف عند ما ذكره هؤلاء من الآيات وما لم يذكروه كآية النساء:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وقد سبق الكلام فيها. وآية الأعراف: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} (الأعراف: 126)، وآية مريم:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} (مريم: 62) وآية البروج: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (البروج: 8). وسار على طريق الزمخشري في هذه الآيات أبو السعود في تفسيره، والشوكاني في (فتح القدير) فالموضوع قديم إذًا وضع هذه الآيات المتعددة في إطار تأكيد المدح بما يشبه الذم، أو في باب:"ولا عيبَ فيهم" قديم أيضًا. بل إن الأمر أقدم من
هؤلاء المفسرين، فقد نقل الشوكاني اختلافَ النحويين في قوله تعالى:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (الحج: 40) فذهب سيبويه: إلى أنه استثناء منقطع، وذهب الفراء والزجاج: إلى أنه متصل، والتقدير: الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق إلا بأن يقولوا ربنا الله، فيكون مثل قوله سبحانه:{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا} وقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
وإذا أرجعنا البصرَ إلى ما ينقمه الكفار من المؤمنين وجدنا أنه الإيمان، وهو بالنسبة إلى الكفار عيب حقيقي، بل عيب قاتل في جماعة الإيمان، وإن كان عند المؤمنين مفخرة المفاخر. وهذا يختلف عما مضى من أن إيهام العيب هناك ونفيه لا يختلف النظر فيه بين إنسان وإنسان، أما هنا فالقضية مختلفة، وأن ما نقمه الكفار هو موضع للنقمة عندهم فقط وفي نظرهم فقط، ولكنه عند المؤمنين موضع للفخر. وهذا فرق أساسي. أما ما نقمه المنافقون فهو أن أغناهم الله ورسوله من فضله، وقد يبدو أن هذا ليس من قبيل ما ينقم في نظر المنافقين، فهو خير إسداء لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أغناهم بعد فقر، ولكن عند إمعان النظر نجد أن هذا أيضًا من قبيل ما مضى، فالمنافق يؤذيه أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم عليه يد أو فضل، وبهذا يكون إغناءُ الرسول له موضعًا للنقمة عنده، وكلما زاد الرسول عطاءً زاد هو غيظًا وحقدًا أو حسدًا وبغضاءً، وهذه هي طبيعة النفاق وشأن المنافقين دائمًا، فعطاء الرسول لهم موضع للنقمة كذلك عند المنافقين، وإن كان بالنسبة إلى رسول الله جزاء من طبيعته وأخلاقه، وعلى هذه الطريقة جاء قول عبد الله بن قيس الرقيات:
ما نقموا من بني أمية
…
إلا أنهم يحملون إذا غضبوا
ولا يتوقف الأمر في هذا الباب عند أدوات الاستثناء، فقد جاء توكيد المدح بما يشبه الذم بـ"لولا" ومما ورد من ذلك قول عمر في علي رضي الله عنهما:"لله دره لولا دعابة فيه". فالدعابة لا تعيب الرجال العظام، ولا تنافي الخلافةَ وتولي أمور المسلمين، ولو كان في علي صفة ذم على الحقيقة لكانت أولى بالذِّكر في هذا المقام. وهكذا نرى أن هذا الباب يكون بأدوات الاستثناء وبغيرها، وإن كانت أدوات الاستثناء هي الأصل في هذا الباب، حتى سماه الحاتمي وأصحابه باسم الاستثناء -كما سبق أن ذكرتُ- وأن "غير" هي المقدمة في هذا الباب على كل الأدوات في الإثبات والنفي على السواء، وأن "إلا" لم يصل إلينا من صور الإثبات منها إلا ما لا قيمةَ له، وأما في صور النفي وخاصة الاستثناء المفرغ فإن لها مكانةً ومنزلةً، وناهيك بآيات القرآن في هذا الباب. وأما الاستدراك الذي أنزلوه منزلةَ الاستثناء، فإن ما ورد منه هو نفس ما ورد في "إلا" في الإثبات، وهو بيت بديع الزمان الهمذاني، وبيت ابن قلاقس الماضيان، وهما على الترتيب:
هو البدر إلا أنه البحر زاخر
…
سوى أنه الضرغام لكنه الوبْل
وقول ابن قلاقس:
هو الثغر إلا أنه البدر طالع
…
على أنه الكافور لكنه الوبل
ويعنون بالاستدراك ورود "لكن" التي جاءت في آخر البيتين: "لكنه الوبل". وهو أيضًا ليس بشيء -كما سبق أن ذكرنا- ونحن هنا لا نتحدث حديثًا نظريًّا، وإنما نتحدث في إطار الواقع الفعلي لصور هذا الباب كما ورد في فصيح الكلام، على أن هذا لا يعني أن الباب في صور "إلا" في الإثبات والاستدراك وأدوات الاستثناء الأخرى التي لم نعثر على شواهد لها قد أغلق، لكنه قد تكون هناك صور أخرى لهذه الأدوات ولم تصل إلى علمنا، وقد يتاح لها من مقتدري الشعراء والأدباء
مَن يصل بها أو بإحداها إلى ما وصلت إليه "غير" و"إلا" في الاستثناء المفرغ، وليس هذا ببعيد.
أما وجه التوكيد فإنه في إثبات صفة المدح أو نفي صفة الذم إذا ما أتت بعد أي منهما أداة استثناء أو ما يشاكلها، فإنها تردك عما استقر في ذهنك من إثبات ما ثبت أو نفي ما نفي، والشأن فيما يأتي بعد أداة الاستثناء أن يكون مخالفًا لما قبلها، أي: أن يكون من قبيل الذم، فإذا ما جاء بعدها صفة مدح كان ذلك تثبيتًا لمَا مضى من المدح وتأكيدًا له، فلو كانت هناك صفة ذم على الحقيقة لكانت أولى بالذكر في هذا المقام، فلَمَّا لَمْ يجد المتكلم ما يستثنيه من صفات الذم أثبت صفةَ مدحٍ أخرى ترسخ ما سبق من وصف، وعلى هذا يكون مجرد ذكر أداة الاستثناء كافيًا في هذا المقام، وإن كان ابن رشيق يذهب مذهبًا آخرَ سبق الكلام عليه. لكنه مع التسليم بأن مجرد ذكر أداة الاستثناء يوهم بأن ما سيأتي من صفات مخالف لِمَا سبق، فإن طول أمد هذا الوهم بأن يذكر بعد أداة الاستثناء ما يوهم أنه من صفات الذم من حيث ظاهره، يعطي لهذا اللون سحرًا بلاغيًّا خاصًّا -كما سبق تفصيل القول فيه.
ثم إن صورة النفي لها وجه آخر من وجوه التوكيد، وهو أن تقدير الاتصال في الاستثناء يحوله إلى باب التعليق بالمحال، وإلى هذا فطِن العلماء قديمًا وصرحوا به، قال الزمخشري في آية النساء:"فإن قلت: كيف استثنى ما قد سلف مما نُكِح آباؤكم؟ قلت: كما استُثني: غير أن سيوفهم من قوله: ولا عيب فيهم". يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سبق فأنكحوه فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض -كما قلنا- المبالغة في تحريمه، وسد الطريق إلى إباحته، تمامًا كما يعلق بالمحال في التأييد في نحو قولهم: حتى يبيض القار، و {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (الأعراف: 40).
وهذا يفتح لنا مجالًا واسعًا يمكن أن تدخل منه صور من تأكيد المدح بما يشبه الذم ليست على الطريقة التي مضت، نذكر منها هنا ما رواه اليزيدي في أماليه عن ابن الأعرابي، قال:"لما مات عامر بن الطفيل جعل حول قبره حِمًى ميلًا في ميل، لا يرعَى، ولا يدفن فيه أحد، فقدم ابن عمه جبار بن سلمى بن مالك، فقال: أين دفنتم أبا علي؟ فأروه قبره، فقال: لقد ضيقتم على أبي علي، إن أبا علي بان بخِصال كان لا يضل حتى يضل النجم، ولا يعطش حتى يعطش الجمل، ولا يبخل حتى يبخل البحر، ولا يجبن حتى يجبن السيل".
فابن عم عامر بن الطفيل نفَى عنه الضلالَ والعطشَ والبخلَ والجبنَ، وكان يأتي بـ"حتى" بعد كل نفي، فتتوهم أن ما نفاه عنه له غاية ينتهي عندها، وأنه لا يستمر أبدًا، وأنها صفات معلقة وليست مطلقة، صفات مفارقة وليست بلازمة، صفات لها أمد تنتهي عنده لا تتعداه، فهذا هو ما توحي به "حتى". فإذا جاء بعدها ما هو أصل فيما وُصِفَ به صاحبُه، رجعتَ إلى ما بدأك به من إثبات ما أثبت بطريقة مطلقة؛ لأنه علق الأمر على ما لا يكون، وإذا كان من المحال أن يضل النجم وأن يبخل البحر وأن يجبن السيل عن الاندفاع، فهل من المحال أن يعطش الجمل حتى يكون من باب التعليق بالمحال؟ إن التعليق هنا ليس بمحال وإنما بما يمثل الغاية العظمى عند العرب في تحمل العطش، فَوَصْف صاحبه بالجمل في هذا الباب يعني أنه يصل إلى أقصى الغايات في تحمل العطش، وليس الهدف أنه لا يعطش أبدًا، فإن هذا لا يكون، وهذا هو وجه التعليق في هذه الصور. وبهذا تدخل عندنا أداة جديدة من أدوات توكيد المدح بما يشبه الذم وهي "حتى" الغائية، وما جرى مجراها، وبهذا تتسع دائرة هذا الباب.
ونقف عند آية مريم، وهي قوله تعالى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} ، وعند آية الواقعة:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (الواقعة: 25، 26)
فقد ذهب الزمخشري في آية مريم: إلى أن الاستثناء فيها يمكن أن يكون منقطعًا على الأصل، فيكون وجه التأكيد فيه هو ما ذكرناه أولًا من أن ذِكْر أداة الاستثناء تُوهِم أن ما يأتي بعدها مخالف لِمَا سبق، فإذا أتى مجانسًا له من صفات المدح كان توكيدًا على توكيد؛ لأنه صفة جاءتْك في اللحظة التي كنت تترقب نقيضها، وهذا الوجه تشترك فيه صور الإثبات وصور النفي.
ويمكن مع انقطاعه أن يقدر متصلًا، فيكون من باب التعليق بالمحال، وهو الوجه الثاني من وجوه التوكيد، وهو الذي يأتي في صور النفي فقط، وهو الذي يكون كالتعليق بمحال. وهناك وجه ثالث وهو أن يكون هذا الاستثناء من أصله متصلًا، فيكون ما بعد "إلا" داخلًا فيما قبلها، ووجهه أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، ودار السلام هي دار السلامة، وأهلها من الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام، ولكن ابن النمير يرفض هذا الوجه الثالث، حيث يقول:"وفي هذا الباب بُعدٌ؛ لأنه يقتضي البتَّ بأن الجنة يُسمع فيها لغوٌ وفضولٌ، وحاشا لله، فلا لغو ولا فضولَ هناك"، ولو رُدت آية مريم إلى آية الواقعة لانتَفَى هذا الوجه الثالث الذي ذكره الزمخشري؛ لأنه في آية الواقعة عطف التأثيم على اللغو:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} ووقوع السمع المنفي عليهما معًا في هذه الآية يجعل اتصالَ الاستثناء هنا مستحيلًا، فلا يدخل السلام في اللغو ولا التأثيم بحال من الأحوال. وإذا صح هذا الأمر هنا صح هناك في آية مريم، ويكون السلام شيئًا غير اللغو، ويبقى للتوكيد وجهان في آية مريم كما هو في آية الواقعة، وكما هو في كل صور النفي في هذا الباب.