الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشأة البديع، ومراحل تطوره
ومن المعلوم بالبداهة أن الأدب العربي جاء منذ الجاهلية صورة حية لحياة العرب وصدقهم في نقل مشاعرهم وأحاسيسهم، كما جاء معبرًا عن طبيعة القوم وميلهم إلى الاسترسال والطبع، والبعد عن التكلف والصنعة، فهو يصور البداوة وما فيها من خشونة وشظف ورعونة واضطراب، وما فيها من رقة المشاعر وإرهاف الملكات ودقة الحس، فأدبهم مِرآة صادقة انعكست عليها أخلاقهم، وتمثلت فيها حقيقة حالهم، ولذا كان له سحر أخذ بالألباب وبالعقول، فهم إذا خطبوا أثاروا المشاعر وأيقظوا الوجدان وألهبوا النفوس، وإذا نظموا القصيد أخذوا بمجامع القلوب وسحروا الألباب والأفئدة، سالكين أقرب السبل لا يتعملون ولا يتكلفون ولا يتأنقون.
يقول الجاحظ: كل شيء للعرب إنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمنح على رأس بئر أو يحدو ببعير، فما هو إلا أن يصرف همه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني إرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا.
وعلى الرغم من وجود طائفة من الشعراء عنوا بشعرهم وحرصوا على تجويده، فلا يخرج على الناس إلا بعد تثقيفه وتهذيبه، فإن حِرص هؤلاء وعنايتهم ليست إلا إعادة نظر في الشعر بعد إنشائه، حتى إنهم كانوا يدعون القصيدة تمكث عندهم حولًا كاملًا يرددون فيها النظر ويقلبون فيها الرأي، فلم يخرج صنيعهم هذا عن دائرة الطبع. وكان من هؤلاء زهير والنابغة والحطيئة وأطلق عليهم اسم عبيد الشعر.
وانسياق الشعراء مع الطبع ونبذهم التكلف جعلهم لا يهتمون بالصنعة البديعية، فلم يتعمدوا جناسًا ولم يقصدوا إلى تورية ولم يتكلفوا طباقًا ولم ينقبوا عن سجع، عدا طائفة من الكهان اشتهرت بحرصها على نوع من السجع أطلق عليه "سجع الكهان".
ومع ذلك قد كثر في أدبهم ألوان البديع التي جاءت عفو الخطر من غير أن يعرفوا لها أسماءها التي أطلقت عليها فيما بعد، فقد جاء الطباق في قول امرئ الق يس:
مكر مفر مقبل مدبر معًا كجلمود
…
صخر حطه السيل من عل
وجاءت المشاكلة في قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلين
كما جاء اللف والنشر في قول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا
…
لدى وكرها العناب والحشف البالي
وجاء التقسيم في قول زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث
…
يمين أو نِفار أو جلاء
وجاءت المبالغة في قول مهلهل:
فلولا الريحُ أسمع من بحجر
…
صليل البيض تقرع بالذكور
وكان بين حُجر هذه وبين مكان الوقعة التي يتكلم عنها المهلهل مسيرة عشرة أيام.
وجاء أيضًا في كلامهم تأكيد المدح بما يشبه الذم في قول النابغة مثلًا:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فُلول من قراع الكتائب
وغير ذلك من الألوان التي تناثرت بكثرة، وكثرت أمثلتها في الشعر الجاهلي، ولم يقصد الشعراء إليها قصدًا وإنما جاءت عَفْوَ الخاطر دون تعمل أو تكلف.
ولما جاء الإسلام ونزل القرآن الكريم كان للدين الجديد والقرآن الكريم أثرهما الذي لا يجحد على عواطف العرب ومشاعرهم، وجميع مناحي حياتهم، فهدأ عواطفَهم الثائرة، وأرهف مشاعرهم وتشربت جوانب حياتهم روح القرآن ومعانيه، ولا عجبَ إذا ظهر أثر القرآن ومعانيه وروحه في أدبهم، فهو الآية والغاية وإليه المنتهى في بلاغة القول.
ومن آثاره في أدباء العرب: أن جاء شعرهم مهذبًا في لفظه وأساليبه، فرَقَّتِ الألفاظ وأحكمت الأساليب، فضلًا عن المعاني والأغراض التي دارت حول الدعوة وصاحبها، وحول القرآن الكريم الذي أدهشهم ومَلَكَ عقولَهم، وإن كان الطابع العام للشعر الإسلامي بقي كما كان في العصر الجاهلي، فلم يبتكر شعراء الإسلام مذهبًا جديدًا في الشعر، كما بقيت الصناعة اللفظية كما هي موضع اهتمام القوم دون تعمل أو استكراه.
ولو فتشنا عن ألوان البديع في هذا العصر لوجدنا أن القرآن الكريم اشتملت آياته على كثير من الألوان البديعية، التي جاءت في أعلى درجات الروعة والجمال.
فمن الطباق جاء قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (آل عمران: 26) ومن المقابلة قوله: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} (التوبة: 82) ومن مراعاة النظير جاء قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 5، 6) ومن الإرصاد قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت: 40) وغير ذلك كثير في القرآن الكريم.
وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم جاءت المقابلة الرائعة في قوله مثلًا صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع)) وجاء العكس والتبديل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((جار الدار أحق بدار الجار)) وجاء الجمع في قوله: ((مَن أصبح آمِنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها)).
وهذا قليل من كثير من الألوان البديعية التي زخر بها الحديث النبوي الشريف.
كما جاء الأدب الإسلامي شعره ونثره، وقد تناثرت فيه ألوان البديع التي جاءت على سجية القوم وفطرتهم، ولا غرابة أن تبقى الفطرة العربية الخالصة هي المسيطرة وهي الموجهة، فالقوم ما زالوا يعتزون بعروبتهم ويفخرون بها، ولا تزال الصحراء هي مقام الكثيرين منهم، ولم يكن قد بعد عهدهم بها، كما كانوا يأنفون من مخالطة غيرهم من الأعاجم.
فمن ألوان البديع العكس والتبديل في قول عبد الله بن الزبير:
فردَّ شعورهن السود بيضًا
…
ورد وجوههن البيض سودا
والطباق في قول الفرزدق:
لعن الإله بني كليب إنهم
…
لا يغدرون ولا يفون لجار
يستيقظون على نهيق حمارهم
…
وتنام أعينهم عن الأوتار
وجاء الجناس في قول جرير:
وما زال معقولًا عِقال عن الندى
…
ومازال محبوسًا عن المجد حابس
والإرصاد في قول عدي بن الرقاع:
تسجي أغنك أن إبرة روقه
…
قلم أصاب من الدواة مدادها
وجاء التقسيم في قول قتيبة بن مسلم الباهلي: مَن كان في يده من مال عبد الله بن حازم شيء فلينبذه، وإن كان في فمه فليلفظه، وإن كان في صدره فلينفثه.
ومنه قول أعرابي وقف على مجلس الحسن البصري فقال: رحم الله عبدًا أعطى من سعة أو أسى من كفاف أو آثر من قلة، فقال الحسن: ما ترك لأحد عذرًا.
وغير ذلك من الألوان البديعية التي كثرت كثرة فائقة في الأدب الإسلامي، لكنها -كما أشرنا- لم تأت عن تعمل أو تكلف، ولكنها سايرت الطبع العربي السليم والفطرة النقية المستقيمة.
ثم أخذت الحياة العربية تسير بخطًى واسعةٍ، وتقفز قفزات سريعة، فما أن جاءت الدولة العباسية حتى وجد العرب أمامهم أبوابًا من الرفاهية والترف والحضارة صبغت حياتهم بصبغة جديدة، ووجدوا أمامهم علوم الأمم التي فتحوها وثقافات تلك الأمم، فانكبوا عليها يحصلونها جادين متلهفين، كما زاولوا صناعات تلك الأمم ومهاراتهم ونقلوها عنهم، كل ذلك جعلهم في أسمى درجات الحضارة وفي أرفع قِمم المدنية، فعم الأمن وكثر الخير وتعددت مناحي الرزق، فرتعوا في بحبوحة العيش، ورفلوا في أبهى أنواع الحلل، وارتدوا الخز والديباج، واستبدلوا بالعباءة المطارف والغلائل.
كما تغيرت أصول عاداتهم وأخلاقهم، ففشا المجون وانتشرت الزندقة، وشاع الجهر بالفسق وتعقدت الحياة العربية، وطغت عليها أساليب المدنية والتحضر، والشعر كما هو معروف مرآة تنعكس عليها حياة الأمم، ولسان يترجم عن أحوالها وجوانب حياتها، ومن الطبعي أن يتأثر الشعر بهذه الحياة الجديدة فيلبس حُللًا من الزخرف والزينة والتنميق، ونظر الشعراء في شعر أسلافهم الأقدمين، فوجدوا أن الأقدمين صرفوا هممهم إلى المعاني، وكان لهم بها فضل عناية، فمعاني الفخر والمديح والغزل والرثاء وغيرها طُرقت منذ قرون، كما وجدوا أن الأقدمين سبقوا إلى الألفاظ القوية والعبارات الجزلة والأساليب المرضية، فصرفوا
هممهم إلى الصياغة ليلبسوها أبهى حلل البيان، وأسمى صفات الكلام، وذلك لا يتأتَّى إلا بالزخرف والزينة والبهرج والتوليد في المعاني، فكلفوا بها وتعمدوها.
وقصدوا إلى الشعر القديم يلتمسون منه هذه الألوان، ويتفننون فيها، فاجتمع لهم منها الكثير من طباق إلى جناس إلى تورية إلى مشاكلة وغير ذلك، وأطلقوا على كل ذلك اسم البديع، وشتان بين هذه الألوان في شعر الأقدمين وشعر المحدثين، فقد جاءت في شعر الأقدمين تساير الطبع وتقع موقعها دون قصد لها أو تكلف، بينما جاءت في شعر المحدثين عن تعمد وقصد وتكلف.
قال صاحب (الوساطة): فلما أفضى الشعر إلى المحدثين ورأوا مواقع تلك الأبيات من الغرابة والحسن، وتميزها عن أخواتها في الرشاقة واللطف، تكلفوا الاحتذاء عليها فسموه البديع، فمن محسن ومسيء، ومحمود ومذموم، ومقتصد ومفرط، وأصبح البديع بذلك صنعة لها روادها من أمثال بشار بن برد ومسلم بن الوليد والعتابي ومنصور النمري وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وعبد الله بن المعتز، فقد كان الواحد من هؤلاء يقصد إلى تلك الأصباغ ويكثر منها في شعره، ولكنهم لم يكونوا سواء في تلك الصنعة من حيث الإقلال والإكثار والتسهيل والتوعر والطابع والاتجاه، فمنصور النمري من شعراء البديع استقى من بديع العتابي وذهب مذهبه وأربى عليه في المبالغة.
قال صاحب (الأغاني): كان منصور شاعرًا من شعراء الدولة العباسية من أهل الجزيرة، وهو تلميذ كلثوم بن عمرو العتابي وراويته، وعنه أخذ ومن بحره استقى ومن مذهبه تشبه، فمن طباقه ومبالغاته قوله يمدح الرشيد:
إذا رفعت أمرًا فالله يرفعه
…
ومَن وضعت من الأقوام متضع
مَن لم يكن بأمين الله معتصمًا
…
فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن أخلف الغيث لم تخلف أنامله
…
أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع
طابق في البيت الأول بين الرفع والوضع، وفي الثالث بين الضيق والاتساع والاختلاف وعدمه، في أسلوب مسرف في المبالغة إسرافًا شديدًا، لا يجاوزه سوى قول أبي نواس في مدح الرشيد أيضًا وفيه المطابقة:
لقد اتقيت الله حق تقاته
…
وجاهدت نفسك فوق جهد المتقي
وأخفت أهل الشرك حتى إنه
…
لتخافك النطف التي لم تخلق
وبضاعة الشعراء إن أنفقتها
…
نفقت وإن أكسبتها لم تنفق
طابق بين الإنفاق والإكساء في أسلوب يعتمد على المغالاة، وقد أدَّى هيام الشعراء بهذه الألوان وإفراطهم في تناولها إلى تركهم جانب المعاني، وعدم اكتراثهم بجزالة الألفاظ واستقامتها. مما حَدَا بكثير من علماء اللغة والأدب أن ينتصروا للقديم، وأن يتعصبوا له، وأن يقفوا في وجه كل جديد موقفًا متشددًا، مقللين من شأن ما يأتي به المحدثون، منكرين عليهم إكثارهم من ألوان البديع وكلفهم بها. وقد بالغ كثير من النقاد وعلماء اللغة في التعصب للقديم والمَيل إليه، حتى إن بعضهم كان يستحسن القديم لقدمه، ويستهجن المحدث لحداثته، دون نظر لعناصر الجمال أو القُبح في هذا أو ذاك.
وإلى جانب هذه الطائفة التي تعصبت للقديم، طائفة أخرى من الشعراء والنقاد تعصبوا للمحدثين، وانتصروا للبديع وعدوا الإكثار منه في الشعر تفننًا في ضروب القول ودليلًا على شاعرية الشاعر.
وعلى أي حال، فإن هذه المعركة بين أنصار القديم وأنصار الحديث لم تذهب أدراج الرياح، بل أثمرت ثمرة طيبة كان لها قيمتها في تاريخ هذا الفن، ذلك أن أحد المولعين بالأصباغ البديعية وهو الشاعر الخليفة عبد الله بن المعتز، المتوفى سنة 296، عنّ له
أن يسجل ألوان البديع التي كثرت في الشعر، وأن يحولها إلى قواعدَ وأصول، فكان له ما أراد بكتابه الذي يعد بداية التأليف في هذا العلم وهو كتابه (البديع).
وتحول البديع بهذا المؤلف من أصباغ تتناثر في الشعر ويهتم بها الشعراء وحدهم إلى قواعد وأصول، يضمها كتاب مستقل، ويعضدها جامعها بالشواهد والأمثلة التي توضح معانيها، وتبين طرائقها، وكان الباعث على تأليف هذا الكتاب هو الدفاع عن أنصار البديع، وأن يثبت ابن المعتز أن هذه الألوان معروفة في العربية منذ القديم، وأن كثيرًا منها ورد في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وقد صرَّح بهذا الهدف في مقدمة كتابه بقوله: إنما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع، وفي دون ما ذكرنا مبلغ الغاية التي قصدنا إليها.
ويذهب صاحب (البيان العربي): إلى أن بديع ابن المعتز هو أول كتاب في البلاغة العربية بالمعنى الصحيح، حيث لم يجاوز في موضوعاته وفنونه دائرة البحث البلاغي، ويصرح في موضع آخر من كتابه: بأن كتاب (البديع) أثر من آثار (البيان والتبيين) للجاحظ. فقد كان ابن المعتز واحدًا من علماء اللغة والأدب الذين أثارهم بيان الجاحظ بعد أن وعوه وفهموه، فقدم لنا كتابه (البديع) وأودعه ثقافته البيانية، وما تأثر به من المسائل البيانية والبلاغية التي أثارها الجاحظ في كتابه.
وقد استقصى ابن المعتز ما في الشعر من محسنات بديعية على ما أمكنه واتسع له وقته وهُدي إليه، وأثبت ما جمعه في كتابه. فكان مجموع ما ذكره في هذا المؤلف سبعة عشر نوعًا من المحسنات، جعل منها الاستعارة والكناية وقال: ما جمع قبلي فنون البديع أحد ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف، ومَن رأى أن يقتصر على ما اخترنا فليفعل، ومن رأى إضافة شيء من المحاسن إليه فله اختياره.
ثم جاء معاصره قدامة بن جعفر الكاتب المتوفى سنة 237 فجمع منها عشرين لونًا في كتابه (نقد الشعر) وقد توارد مع ابن المعتز على سبعة منها، وسلم له ثلاثة عشر، فتكامل لهما ثلاثون نوعًا.
ثم اقتدَى الناس بهما في التأليف في البديع، فأفرد أبو هلال العسكري المتوفى سنة 295 جزءًا من كتابه (الصناعتين) لألوان البديع، وكان غاية ما جمعه أبو هلال سبعة وثلاثين نوعًا، ثم جاء ابن رشيق القيرواني، المتوفى سنة 463 فجمع في كتابه (العمدة) مثلما جمع أبو هلال، وأضاف إليها ثلاثة وثلاثين بابًا في فضائل الشعر، وصفاته، وأغراضه، وعيوبه، وسرقاته، وغير ذلك من أنساب الشعراء وأحوالهم مما لا تعلق له بالبديع، ثم تلاه شرف الدين التيفاشي، المتوفى سنة 651 فبلغ بهذه الألوان السبعين، ثم تصدَّى للبديع الشيخ زكي الدين بن أبي الإصبع، المتوفى سنة 654 فأوصلها إلى التسعين، وأضاف إليها من مستخرجاته ثلاثين، سلم له فيها عشرون، وباقيها مسبوق إليه أو متداخل عليه، وكتابه المسمى (تحرير التحبير) أصح كتاب ألف في هذا العلم؛ لأنه لا يتكل على النقل دون النقد، قد كان كثير النظر والتعليق لكل ما جمعه في كتابه من ألوان البديع.
ثم جاء صفي الدين الحِلي، المتوفى سنة 750 فأوصلها إلى مائة وأربعين، ونظم قصيدة ميمية في مديح المصطفى صلى الله عليه وسلم وذكر في كل بيت من أبيات هذه المنظومة اسم نوع من أنواع المحسنات، ومن بعده جاء عز الدين الموصلي، المتوفى سنة 789، فذكر مثلما ذكره صفي الدين، مع زيادة بعض الأنواع من ابتكاره.
وهكذا ارتقت المؤلفات في البديع وصارت قدمًا بألوان مختلفة وتفن في التأليف وجمع للأنواع والتمثيل لها، وزيدت الأنواع، وكثرت البديعيات، ولعل بديعية ابن حجة الحموي المتوفى سنة 837 تُعد أشهر هذه البديعيات، وقد شرحها في مؤلف كبير سماه (خزانة الأدب).