المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علاقة: اعتبار ما يكون، الحالية، المحلية، الآلية، المجاورة - البلاغة ١ - البيان والبديع - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 علوم البلاغة الثلاثة: أهميتها، والفرق بينها - علم البيان

- ‌مقدمة في أهمية علوم البلاغة

- ‌موضوع علوم البلاغة، والفرق بينها، وأثرها في النفس

- ‌علم البيان

- ‌الدرس: 2 التشبيه (1)

- ‌تعريف التشبيه

- ‌أركان التشبيه

- ‌أقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية

- ‌الدرس: 3 التشبيه (2)

- ‌تعريف وجه الشبه

- ‌أحوال وجه الشبه

- ‌وجه الشبه باعتبار ذكره وحذفه، وباعتبار ظهوره وخفائه

- ‌الدرس: 4 التشبيه (3)

- ‌أدوات التشبيه

- ‌أغراض التشبيه

- ‌الدرس: 5 التشبيه (4)

- ‌بيان مكانة التشبيه من خلال نماذج من روائع التشبيه

- ‌كيف يُكتسب وجه الشبه من الأمور الدقيقة في أطراف التشبيه

- ‌الدرس: 6 المجاز اللغوي

- ‌تعريف الحقيقة، وبيان أقسامها باعتبار المصطلح

- ‌تعريف المجاز

- ‌المجاز بين التقرير والإنكار

- ‌أقسام المجاز اللغوي باعتبار الإفراد والتركيب

- ‌المصطلحات التي تطلق على أنواع المجاز "مجاز الاستعارة

- ‌الدرس: 7 الاستعارة

- ‌أقسام الاستعارة

- ‌الاستعارة المكنية والتخييلية

- ‌الاستعارة التصريحية

- ‌الدرس: 8 تابع: الاستعارة

- ‌الاستعارة الوفاقية، والاستعارة العنادية

- ‌الاستعارة المطلقة، والمجردة، والمرشحة

- ‌الاستعارة العامية والخاصية

- ‌الاستعارة باعتبار حسية وعقلية طرفي المستعار منه والمستعار له

- ‌الدرس: 9 المجاز المرسل

- ‌المجاز المرسل وعلاقاته "السببية والمسببية

- ‌علاقة: الجزئية، الكلية، اعتبار المكان

- ‌علاقة: اعتبار ما يكون، الحالية، المحلية، الآلية، المجاورة

- ‌الدرس: 10 تابع: المجاز المرسل

- ‌خصائص وأسرار الاستعارة

- ‌خصائص وأسرار المجاز المرسل

- ‌الدرس: 11 الكناية

- ‌تعريف الكناية

- ‌أقسام الكناية

- ‌تقسيم الكناية باعتبار القرب والبعد بين المعنيين

- ‌الدرس: 12 تابع الكناية - التعريض

- ‌أمثلة على الكناية البعيدة

- ‌التعريض

- ‌بلاغة وأثر وقيمة الكناية والتعريض

- ‌الدرس: 13 علم البديع: مفهومه، ومراحل تطوره

- ‌تعريف علم البديع

- ‌نشأة البديع، ومراحل تطوره

- ‌استعراض لأهم جهود المعنيين بعلم البديع

- ‌الدرس: 14 منزلة البديع، ومدخله في الإعجاز القرآني - الطباق (1)

- ‌منزلة البديع بين الدراسات البلاغية، ومدى تبعيته للمعاني والبيان

- ‌مدخل البديع في الإعجاز القرآني

- ‌الطباق، وأقسامه

- ‌الدرس: 15 الطباق (2)

- ‌تعريفات أخرى للطباق، وصوره

- ‌أقسام الطباق من حيث الإيجاب والسلب

- ‌أقسام الطباق باعتبار التضاد والاتفاق في المعاني

- ‌الدرس: 16 الطباق (3)

- ‌أقسام الطباق باعتبار الظهور والخفاء

- ‌أثر الطباق وبلاغته في الكلام

- ‌الدرس: 17 المقابلة

- ‌تعريف المقابلة لغةً واصطلاحًا

- ‌أثر المقابلة في بلاغة الكلام

- ‌الدرس: 18 تأكيد المدح بما يشبه الذم، والعكس

- ‌(تأكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌تأكيد الذم بما يشبه المدح

- ‌الدرس: 19 التورية

- ‌معنى التورية لغةً واصطلاحًا، وعناصرها

- ‌الفرق بين المجاز والتورية

- ‌الفرق بين التورية والكناية

- ‌أقسام التورية

- ‌الدرس: 20 السجع

- ‌تعريف السجع لغةً واصطلاحًا، والسجع عبر العصور

- ‌آراء في أسلوب السجع، وهل يطلق على ما جاء في القرآن

- ‌شروط حسن السجع، وأنواعه

- ‌بلاغة السجع

- ‌الدرس: 21 الجناس باعتباره أحد المحسنات اللفظية

- ‌معنى الجناس في اللغة والاصطلاح، وجهود البلاغيين في إبرازه

- ‌تقسيم المحسنات البديعية إلى: معنوية، ولفظية

- ‌أقسام الجناس

- ‌بلاغة الجناس

الفصل: ‌علاقة: اعتبار ما يكون، الحالية، المحلية، الآلية، المجاورة

من هذا القبيل قول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (طه: 74) ففي الآخرة لا يكون المرء مجرمًا؛ لأن الوصف بالإجرام يكون قبل الصيرورة إلى موقف الجزاء، وإنما أوثر لفظ المجاز لإيمائه إلى استحقاق العقاب الذي ينزل به.

‌علاقة: اعتبار ما يكون، الحالية، المحلية، الآلية، المجاورة

من علاقات المجاز المرسل اعتبار ما يكون، وهو تسمية الشيء باسم ما سيكون عليه في المستقبل، ومما يتمثل فيه المجاز على هذا النسق قول الله تعالى يحكي قولة صاحب يوسف عليه السلام في السجن:{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} (يوسف: 36) والمجاز كائن في لفظ الخمر، وواضح أنه غير مستعمل في معناه الحقيقي بقرينة قوله:{أَعْصِرُ} لأن الخمر لا تعصر فهي بطبيعتها عصير وهو لا يعصر، ومؤدى هذا أن المراد بهذا اللفظ العنب أو ما كان على شاكلته مما يمكن عصره وتخميره، وإنما لم يعبر عن هذا المعنى المراد باللفظ الموضوع له في عرف اللغة وعبر عنه بالمجاز؛ لبيان المقصود من العصر، وهو أن يصير في المآل خمرًا.

ومما يتراءى فيه المجاز على هذه الشاكلة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (البقرة: 178) إذ المراد بالقتلى في هذا النسق الأحياء الذين سيصيرون بالعدوان عليهم قتلى، والذي دل على هذا المراد هو ذكر القصاص؛ لأنه لا يقتص لإنسان من أحد قبل أن يقتل، وإنما عبر عنه بالقتلى لإيمائه بسبب القصاص وعلته.

ص: 215

ويتجلى مثل هذه الصورة من المجاز في قول الله تعالى على لسان نوح عليه السلام يدعو على قومه، وقد أعنتوه في الدعوة:{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح: 26، 27).

ومن ينظر إلى هذه الدعوة ينعكس على مرآة بصيرته دخيلة قوم نوح، وقد لقى عليه السلام من المشقة والعنت منهم ما لاقى، ففاضت بهذا النسق التعبيري الذي يحمل في طياته المجاز الموحي بحالته، فقد بلغ به الضيق حدًا جعله يتصور أن هؤلاء المناهضين للدعوة لا يمكن أن يسمعوا لصوت الحق، وأن أولادهم إن ولدوا لا ينتظر منهم الاستماع إليه وأنهم سيكونون كفارًا، ولشدة يقينه بما سيكونون عليه في المستقبل اعتبرهم كفارًا منذ ولادتهم، ولو عبر عن هذا المعنى بلفظه الحقيقي لقيل: ولم يلدوا إلا من سيكون فاجرا كفارًا، لكن التعبير على نسق الحقيقة يكون مغسولًا؛ لأنه لا يوحي بمراده ولا بما يعتمل في نفسه بمثل هذه القوى، ويقوي هذا الإيحاء إفراغ المجاز في قالب القصر.

ومن هذا قول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر: 30) يريد أن مآله إلى الموت وهم كذلك بقرينة الخطاب؛ لأن من مات لا يخاطب بالفعل، وكذا قوله جل وعلا:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (الصافات: 101) وفي حق إسحاق عليه السلام: {قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (الذاريات: 28) أي بغلام أو مولود مآله أن يكون كذلك.

من علاقات المجاز المرسل أيضا الحالية، وهو أن يعبر بالشيء ويقصد المكان الذي يحل فيه، أو هي كما يقولون: إطلاق لفظ الحال وإرادة المحل، ومن التعبير الذي يحمل هذا النسق من المجاز قول الله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31) ففي هذا التوجيه الإلهي إلى السلوك

ص: 216

القويم المظهر والمخبر يطالعنا لفظ الزينة مرادًا به المحل الذي يوجد فيه؛ لأن الزينة تعني التجمل، والتجمل إنما هو أمر عقلي، ولا بد أن يكون له ما يوفره أو ييسره وهو هنا الثياب الساترة للعورة إذ هي محل الزينة.

والقرينة الدالة على أن المراد بالزينة الثياب الساترة للعورة دون غيرها مما يوفر الزينة، قوله تعالى:{عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) فالمراد بالمسجد الصلاة، وقد تجاوز البيان القرآني الدلالة على هذا المعنى بلفظه الموضوع وهو الثياب؛ للإيماء إلى ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمن من الأناقة وجمال المظهر، ويكشف عن هذا الإيحاء قوله صلى الله عليه وسلم لمن ظن أن التجمل بالحسن من الثياب والنعال قرين الكبر عندما قال:((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، إن الله جميل يحب الجمال)).

ومن المجاز الذي جاء على هذه الصورة قول الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران: 106، 107) فالمراد بالرحمة هنا الجنة، والجنة -كما لا يخفى- حال هذه الرحمة، والقرينة الدالة على أن لفظ الرحمة أطلق على المحل الذي توجد فيه حرف الجر في، وهو دال بأصل وضعه على الظرفية، والرحمة ليست مكانا يحل فيه من ابيضت وجوههم، وإنما لم يعبر عن الجنة باسمها؛ لأن في لفظ الرحمة إيماء إلى أن دخولهم الجنة إنما هو بفضل الله لا باستحقاقهم له. وشبيه بهذه الصورة قول الله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (الانفطار: 13). كذا قول الشاعر يرثي معن بن زائدة:

ألما على معن وقولا لقبره

سقتك الغوادي مربعا بعد مربع

ص: 217

الغوادي يعني بها السحاب، وهو هنا يدعو لقبره بالسقيا أربعة أيام يتلوها أربعة أخرى كناية عن الكثرة، فالنزول بمعن غير ممكن؛ لأنه ميت وهذا يعني أنه أطلق الحال، وهو معن، وأريد به المحل وهو القبر، وفي ذلك إيحاء بقوة المحبة له وللمكان الذي يقيم فيه، ولولا وجود معن في القبر لما دعا له بالسقيا. من ذلك أيضا قول الشاعر:

قل للجبان إذا تأخر سرجه

هل أنت من شرك المنية ناجي

يريد إذا تأخر فرسه إذ السرج حال، والفرس محل له.

من هذه العلاقات التي هي للمجاز المرسل المحلية، وهي أن يعبر بالمحل ويراد الحال فيه، أو كما يقولون: إطلاق المحل وإرادة الحال فيه.

ومما يجلي هذه الصورة من المجاز قول الله تعالى على لسان إخوة يوسف عليه السلام وقد انطلى عليهم تدبير يوسف: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (يوسف: 81، 82).

وموطن المجاز هنا هو قول الله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وسؤال القرية بمعنى الدور ودروبها أمر غير ممكن إذ كيف يسأل الجماد، وهذا قرينة تدل على أن لفظ القرية مراد به غير معناه الحقيقي، وهو أهلها المقيمون فيها. وإنما عبر بلفظ القرية، ولم يعبر بلفظ الأهل مع أنه هو المراد؛ لأن في المجاز إيماء إلى الاستقصاء في السؤال حتى لو أمكن سؤال المكان لكان ليعقوب أن يسأله؛ ليكون شاهدًا بصدق ما يقوله أولاده، ولو أنه قيل: واسأل أهل القرية لما كان فيه الإيحاء بالاستقصاء وذيوع أمر السرقة، وفيها شهادة بصدقهم، وبراءتهم مما وقر في نفس يعقوب من احتمال تدبيرهم للتخلص منه كما فعلوا بيوسف من قبل.

ص: 218

وانظر إلى مصداق ذلك في قولهم: {يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} (يوسف: 81).

ومن المجاز الذي هو على هذا النسق قوله تعالى في تهديد أبي جهل الذي كان يتصدى للنبي صلى الله عليه وسلم محاولًا منعه من الصلاة في المسجد الحرام: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (العلق: 15 - 18).

وبتأمل هذا النسق التعبيري نجد أن لفظ النادي في هذا السياق لا يراد به مكان اجتماع القوم، وإنما المراد به هم القوم أنفسهم بقرينة أن المكان ليس أهلًا لأن توجه إليه الدعوة، أي أنه مجاز أطلق فيه المحل وأريد الحال فيه، وإنما سلك هذا المسلك المجازي للإيماء إلى الاستقصاء من دعوة من يناصره في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو أمكن أن يدعو المكان لهذه الغاية فله ذلك، ومهما احتشد معه المحتشدون فلن تكون لهم النصرة؛ لأنهم سيواجهون بقوة لا تنهض لها قوة البشر جميعا، وما يتصورونه ذا أثر في قهر محمد صلى الله عليه وسلم ومنعه مما يدعو إليه، ومما جاء على هذه الصورة قول الشاعر:

إن العدو وإن تقادم عهده

فالحقد باق في الصدور مغيب

فالمراد بالصدور هنا القلوب التي تحل بها تسمية للشيء باسم محله، ومنه قول ابن الرومي يكشف عن خوفه من ركوب السفن:"لا أركب البحر إني" يقصد بالبحر هنا السفن التي تكون في البحر:

لا أركب البحر إني

أخاف منه المعاطب

طين أنا وهو ماء

والطين في الماء ذائب

لينظر القارئ أو السامع معنى لفظ بحر، فإنه سيدرك أن المراد به السفن بقرينة أن البحر لا يركب، ومؤدى هذا أنه أطلق المكان أو المحل وأراد به الحال فيه، وفي

ص: 219

لفظ البحر إيماء إلى الرهبة والخوف لما هو معروف عنه من التقلب واضطراب الأمواج، بخلاف لفظ السفينة فإنها لا توحي بشيء من خوف أو فزع.

من هذه العلاقات التي تخص المجاز المرسل علاقة الآلية، وهي أن يطلق اسم الآلة التي يكون بها الشيء، ويراد الشيء نفسه. وبعبارة أوضح: أن يطلق اسم الآلة، ويراد به الأثر الناشئ عنها.

ومن أعذب ما جاء على هذا النسق من مجاز قول الله تعالى يحكي دعاء إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (الشعراء: 83، 84) ففي هذا الجزء من الدعاء نجد إبراهيم عليه السلام يدعو بأمور يتصل بعضها بالحياة الدنيا، وهو الحكمة والصلاح، ويتصل بعضها الآخر بما بعد الموت وقبل النشور، وهو أن يكون له لسان صدق فيمن يأتي بعده من الأجيال، ولا معنى لأن يبقى لسانه الناطق بعد موته فيمن يعقبه من الناس، وإنما المراد به الذكر الحسن الذي يتوارثونه ويشيع فيهم، وبذا يكون قد أطلق اللسان وهو الآلة التي يحدث بها الذكر وينشأ عنها، وأريد به الذكر نفسه.

وإنما سلك هذا المسلك لبيان أهمية اللسان في حدوث الذكر الحسن وأهمية تنقية اللسان، فلا يصدر عنه إلا ما هو حسن من القول، ففي عفة القول، وتخلص اللسان من القدح في الأعراض ما يجعله مرغوبا فيه، وفيما يصدر عنه -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

ومن المجاز الذي علاقته الآلية أيضا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إبراهيم: 4) فقد أطلق اللسان وأراد الأثر الناشئ عنه وهو اللغة، وسلك هذا المسلك لبيان أهمية اللسان في صدور اللغة عنه. ومثله قوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (الروم: 22) فقد أطلقت الألسنة وأريد بها اللغات.

ص: 220

ومن المجاز الجاري على هذه الطريقة قول قوم إبراهيم كما يحكيه عنهم، وقد أرادوا التنكيل به جزاء تحطيمه لأصنامهم:{فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} (الأنبياء: 61) فقد أطلقت الأعين وأريد بها الأثر الناشئ عنها وهو الرؤية، فهم يريدون: فأتوا به على مرأى ومشهد، أي رؤية ومشاهدة، والقرينة المانعة من إرادة الباصرة حرف الجر "على" فإنه دال على الاستعلاء الحسي، وحين يؤتى بإبراهيم فإنه لن يعلو على أبصارهم، وإنما تتمكن منه رؤيتهم كما يتمكن الراكب على دابته، والتعبير بالمجاز في هذه الصورة يومئ إلى قوة الآلة وشدة أثرها في حدوث الفعل.

من علاقات المجاز المرسل المجاورة، وهو أن يذكر الشيء ويراد به ما يجاوره لشدة الاتصال بينهما، كأنهما متلازمان لا ينفرد أحدهما عن الآخر وجودًا وعدمًا، ومما هو متوارث مشهور مما جاء على هذا النمط من المجاز قول عنترة في منازلته خصمه وصرعه إياه:

ومدجج كره الكماة نزاله

لا ممعن هربا ولا مستسلم

جادت له كفي بعاجل طعنة

بمثقف صدق الكعوب مقوم

فشككت بالرمح الأصم ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرم

فتركته جذر السباع ينشنه

يقدمن حسن بنانه والمعصم

وإذا نظرت إلى البيت الثالث وما قبله وما بعده؛ لتبين لك أن قوله: فشككت بالرمح ثيابه، ينطوي على المجاز في لفظ الثياب؛ لأن الشك بالرمح في الثياب لا يعني به مجرد مس الثياب أو شقه، ومؤدى هذا أن لفظ الثياب يراد به جسد خصمه بقرينة البيت السابق: جادت له كفي

إلى آخره، والبيت اللاحق: فتركته جذر السباع

إلى آخره.

ص: 221

وقد قصد عنترة من وراء هذا المجاز الإيماء إلى سهولة صرعه وقتله، وإن كان له من القوة ما له. ومنه إطلاق لفظ الراوية على المزادة أي: قربة الماء في قولنا: شربنا من الراوية، أو في قولك مثلا: خلت الراوية من الماء، والراوية اسم للبعير الذي يحمل عليه الماء، فلما كثرت مجاورة المزادة لظهر الراوية أطلق على المزادة اسم الراوية مجازًا مرسلًا علاقته المجاورة.

ومنه قولنا: ركب الفرسان سروجهم، تريد خيولهم فسميت الخيول سروجًا لكثرة مجاورتها لظهور الخيل، وقولنا كذلك: أصابتنا السماء، تريد الغيث المجاور عادة لجهة السماء، وقولنا كذلك: جر الغلام الحفض، تريد البعير الهزيل المخصص لحمل الأمتعة الحقيرة، والحفض: اسم للحقير التافه من متاع البيت، فسمي البعير باسم ما يحمله لعلاقة المجاورة. من ذلك أيضا قول ليلى الأخيلية:

رموها بأثواب خفاف فلا ترى

لها شبها إلا النعام المنفر

فقد ذكرت ليلى الأثواب وأرادت الرجال الذين ركبوا الإبل فرموها بأنفسهم، وذلك على طريق المجاز المرسل أيضا لعلاقة المجاورة. ومنه قول الآخر:

إن لنا أحمرة عجافا

يأكلن كل ليلة إكافا

فأطلق لفظ الإكاف: وهي البردعة التي توضع على ظهر الحمار على العلف الذي تأكله هذه الأحمرة للمجاورة؛ لأن العلف يحمل على الإكاف.

فإلى الملتقى أستودعكم. الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 222