الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقصد بذلك فتاته، وقول آخر:
لما رآني مقبلًا هز نفسه
…
إلي حسام كلُّ صفح له حد
ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه
…
ولا رجل قامت تعانقه الأسد
فقد استعار الشموس والبدر والأسد لممدوحه، ثم بنى كلامه على تناسي التشبيه، وأمعن في التناسي، فجعل الممدوح بدرًا وشموسًا، وأسدًا على الحقيقة، ولهذا ساغ التعجب، وساغ التعجب أيضًا في قول ابن العميد:
قامت تظللني ومن عجب
…
شمس تظللني من الشمس
والنهي عنه في قول ابن طباطبا:
لا تعجبوا من بلى غلالته
…
قد زرّ أزراره على القمر
فلولا بناء الكلام على المبالغة والإمعان في تناسي التشبيه، وادعاء أنها شمس وقمر على الحقيقة؛ لما ساغ التعجب في الأول، ولا ساغ النهي في الثاني.
الاستعارة العامية والخاصية
هذا ومن تقسيمات الاستعارة الفرعية تقسيمها إلى عامية مبتذلة، وخاصية غريبة.
استعارة العامية المبتذلة: هي ما قرب فيها الجامع واتضح بحيث يدركه العامة، كاستعارة الأسد للرجل الشجاع، والبحر للكريم الجواد، والبدر للحسناء، ولوضوح الجامع وقربه في الاستعارة المبتذلة لا يهتم بها البلغاء، ولا تستحسن إلا في مقام الإرشاد والوعظ، وتقرير المسائل العلمية والمخاطبة العامة.
أما الاستعارة الخاصية الغريبة: فهي ما بعد فيها الجامع، ودق واحتاج في إدراكه والوقوف عليه إلى كثرة تفكير وإطالة نظر، ودقة ملاحظة، ودائمًا ما ترجع غرابة الاستعارة إلى أحد العوامل الآتية:
أولًا: كون الجامع مثلًا بين المستعار له والمستعار منه أمرًا عقليًّا، كإزالة الحجاب في استعارة النور للحجة الواضحة، والرأي الصائب في نحو قولنا: هذا عالم يستضاء برأيه، وتنير حجته.
ثانيًا: أن يشتمل الجامع على شيء من التفصيل والتركيب.
ثالثًا: أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند حضور المشبه، كما في قول طفيل الغنوي:
وجعلت كوريا في ناجية
…
يقتات شحم سنامها الرحل
حيث استعار الاقتيات، وهو تناول الطعام بالفم لإذهاب الرحل شحم السنام، وذلك لكثرة احتكاكه به، والجامع بينهما إزالة الأثر إزالة تدريجية مع طول الوقت، وهذا محقق في الاقتيات، وفي إذهاب الرحل شحم السنام، ومرجع الغرابة إلى التفصيل في الجامع؛ حيث لم ينظر إلى مجرد الإزالة، بل إلى حصولها بالتدريج شيئًا فشيئًا، وهذا مما يحسن الاستعارة في البيت.
ومما يحسنها كذلك أن الشحم نفسه مما يقتات، فالسامع يتخيَّل أن الاقتيات حقيقة، فإذا ما انتهى إلى آخر البيت الرحل وضح له المجاز، وبرز له الشيء من حيث لم يتوقعه، من ذلك قول ابن المعتز:
حتى إذا ما عرف الصيد الدار
…
وأذن الصبح لنا بالإبصار
فقد استعار الإذن للتمكن من الرؤية بعد العجز عنها، ومرجع الغرابة إلى ما في الجامع وهو القدرة على فعل الشيء بعد زوال المانع من فعله، من تفصيل لا يُدرك إلا بعد إدراك أن الليل كان مانعًا من الرؤية، بالإضافة إلى أن هذا الجامع أمرًا عقليًّا، والعقليات المركبة دقيقة الإدراك بالنسبة إلى المحسوسات.
ومن الاستعارات الغريبة لما بها من تفصيل أيضًا قول الآخر يصف رقة النسيم:
بعرض تنوفة للريح فيها
…
نسيم لا يروَّع في التراب
فهنا استعار الترويع بمعنى الإفزاع والإخافة؛ لإثارة الريح التراب بجامع الحركة الهوجاء في كلٍّ، ومرجع الغرابة في البيت إلى كون المستعار له بعيد الحضور في الذهن عند ذكر المستعار منه، فصار الجمع بينهما غريبًا دقيقًا، من ذلك قول ابن المعتز:
يناجيني الإخلاف من تحت مطله
…
فتختصم الآمال واليأس في صدري
فهنا الإخلاف بمعنى عدم الوفاء بالوعد، ومطله أي: التأخير في إجابة المطلوب، كما بالحديث ((مطل الغني ظلم)) فهنا في البيت استعار المناجاة للخطور في الذهن بجامع خفاء الدلالة في كل، وهو جامع عقلي لذا كانت الاستعارة غريبة، ثم استعار الاختصام لحضور الأمل في صدره مرة، ثم اليأس مرة أخرى، كأنهما يتنازعان بجانب مطلق التدافع بين شيئين متعارضين، ولنا أن نجعل الاستعارتين في البيت من قبيل الاستعارة بالكناية؛ لتشبيه الإخلاف مثلًا بإنسان يتحدث من خلف ستار، والأمل واليأس بمتخاصمين يتنازعان مكانًا للإقامة فيه، وهذا أجمل وأكثر إبرازًا للخيال الذي يريده الشاعر، من ذلك أيضًا قول الآخر يصف فرس:
عودته فيما أزور حبائبي
…
إهماله وكذاك كل مخاطر
وإذا احتبى قربوصوه بعنانه
…
علك الشكيمة إلى انصراف الزائر
العنان: هو السير الذي يُوضع في فم الفرس، وهو ما يسمى باللجام، وكلمة قربوصوه يعني: السرج الذي يوضع على الفرس، علك الشكيمة، الشكيمة: هي الحديدة المعترضة في فم الفرس، فهنا استعار الاحتباء وهو ضم الرجل ركبتيه وجمعه ظهره وساقيه بثوب؛ لضم اللجام مقدم السرج إلى فم الفرس، والجامع هو الهيئة المركبة من انضمام شيئين بواسطة شيء آخر.
وترجع غرابة الاستعارة هنا إلى ما في هذا الجامع من التفصيل، فضلًا عن كون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند حضور المشبه؛ لتباعد الهيئتين، هيئة الفرس، وهيئة الإنسان الجالس محتبيًا، فهل يمكن للبليغ أن يحول الاستعارة المبتذلة إلى استعارة غريبة؟
نعم، يمكن ذلك، وذلك بأن يتصرف في الاستعارة المبتذلة تصرفًا يحولها من الابتذال إلى الغرابة؛ بأن يتضمن الكلام الذي وردت فيه مجازًا آخر، أو تتعدد الاستعارات، أو يتعلق بها أمر يزيد من المبالغة التي أفادتها، أو يتوخى في بناء الجمل، ونظم الكلام ما يؤدي إلى دقة التصوير، وإبراز الخيال، انظر مثلًا إلى قول كثير:
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت إلى دهم المهارى رحالنا
…
فلم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطي الأباطح
تجد أنه قد استعار السيلان للسير اللين السهل في قوله "وسالت"، وهي استعارة مبتذلة قريبة المأخذ، ولكنه أزال ابتذالها بالجمع بينها وبين المجاز العقلي في إسناد السيلان إلى الأباطح؛ ليفيد امتلاءها بالركبان؛ حتى كأنها هي التي تسير، ثم بإدخال حرف الجر الباء على الأعناق؛ ليدل على شدة السير وسرعته، فإن مظهر السرعة في الإبل هي حركة أعناقها، وبهذا تحوَّلت الاستعارة من عامية مبتذلة إلى خاصية غريبة، ونحو ذلك قول ابن المعتز:
سالت عليه شعاب الحي حين دعا
…
أن صاره بوجوه كالدنانير
حيث استعار السيلان لسرعة سير القوم إلى الممدوح حين دعاهم، وهي استعارة مبتذلة أزال الشاعر ابتذالها بالمجاز، وهو إسناد السيلان إلى الشعاب؛ ليدل على
امتلائهم بها، وكذلك بتعليق الجار والمجرور، وهي كلمة "عليه" بالفعل "سال"؛ ليدل على شدة طاعتهم له، فسيرهم كان عليه ومن أجله.
وكذلك أزالها بتشبيه وجوههم بالدنانير في الإشراق والبهجة؛ ليدل على حبهم له ورغبتهم في نصرته، وإجابته، وبهذا تحولت الاستعارة في البيت من الابتذال إلى الغرابة، من ذلك قول آخر:
فَرَعاءُ إِن نَهَضَت لِحاجَتِها
…
عَجِلَ القَضيبُ وَأَبطَأَ الدِعصُ
القضيب: هو الغصن، والدعص هو كثيب الرمل المجتمع، فهنا استعار القضيب للقامة، والدعص للردف، وهما استعارتان مبتذلتان لكن الشاعر أزال ابتذالهما بوصف القضيب بالعجلة، والدعص بالإبطاء؛ إذ أكد الوصفان رشاقة القامة عظم الردف، وكذلك بإسناد عجل إلى القضيب، وأبطأ إلى الدعص؛ حيث أديا إلى المبالغة في رشاقة قامتها، وضخامة عجزها، وكذلك بالطباق بين عجل وأبطأ؛ فقد أبرز هذا الطباق حسن القامة والردف، إذ الضد يُظهر حسنه الضد، ثم أخيرًا أزاله بتعدد الاستعارة.
ومن الاستعارة البعيدة قول امرئ القيس:
فقلت له لما تمطى بصلبه
…
وأردف إعجازًا وناء بكلكل
فهنا استعار الصلب لوسط الليل، وجعله يتمطى؛ ليزداد طوله، واستعار الصدر لأوله، وجعله ثقيلًا يُقعده عن الحركة، واستعار الأعجاز لآخره، وجعلها تترادف وتتوالى؛ ليدل على طول الليل وامتداده، فكل استعارة من هذه الاستعارات الثلاث إذا انفردت صارت عامية مبتذلة، لكن اجتماعها حقق غرض الشاعر وهو إبراز طول ليله، ورسم صورة متكاملة بين ليله وبين الفرس. ولذا صارت الاستعارات في البيت غريبة بعيدة.