المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أقسام الطباق باعتبار الظهور والخفاء - البلاغة ١ - البيان والبديع - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 علوم البلاغة الثلاثة: أهميتها، والفرق بينها - علم البيان

- ‌مقدمة في أهمية علوم البلاغة

- ‌موضوع علوم البلاغة، والفرق بينها، وأثرها في النفس

- ‌علم البيان

- ‌الدرس: 2 التشبيه (1)

- ‌تعريف التشبيه

- ‌أركان التشبيه

- ‌أقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية

- ‌الدرس: 3 التشبيه (2)

- ‌تعريف وجه الشبه

- ‌أحوال وجه الشبه

- ‌وجه الشبه باعتبار ذكره وحذفه، وباعتبار ظهوره وخفائه

- ‌الدرس: 4 التشبيه (3)

- ‌أدوات التشبيه

- ‌أغراض التشبيه

- ‌الدرس: 5 التشبيه (4)

- ‌بيان مكانة التشبيه من خلال نماذج من روائع التشبيه

- ‌كيف يُكتسب وجه الشبه من الأمور الدقيقة في أطراف التشبيه

- ‌الدرس: 6 المجاز اللغوي

- ‌تعريف الحقيقة، وبيان أقسامها باعتبار المصطلح

- ‌تعريف المجاز

- ‌المجاز بين التقرير والإنكار

- ‌أقسام المجاز اللغوي باعتبار الإفراد والتركيب

- ‌المصطلحات التي تطلق على أنواع المجاز "مجاز الاستعارة

- ‌الدرس: 7 الاستعارة

- ‌أقسام الاستعارة

- ‌الاستعارة المكنية والتخييلية

- ‌الاستعارة التصريحية

- ‌الدرس: 8 تابع: الاستعارة

- ‌الاستعارة الوفاقية، والاستعارة العنادية

- ‌الاستعارة المطلقة، والمجردة، والمرشحة

- ‌الاستعارة العامية والخاصية

- ‌الاستعارة باعتبار حسية وعقلية طرفي المستعار منه والمستعار له

- ‌الدرس: 9 المجاز المرسل

- ‌المجاز المرسل وعلاقاته "السببية والمسببية

- ‌علاقة: الجزئية، الكلية، اعتبار المكان

- ‌علاقة: اعتبار ما يكون، الحالية، المحلية، الآلية، المجاورة

- ‌الدرس: 10 تابع: المجاز المرسل

- ‌خصائص وأسرار الاستعارة

- ‌خصائص وأسرار المجاز المرسل

- ‌الدرس: 11 الكناية

- ‌تعريف الكناية

- ‌أقسام الكناية

- ‌تقسيم الكناية باعتبار القرب والبعد بين المعنيين

- ‌الدرس: 12 تابع الكناية - التعريض

- ‌أمثلة على الكناية البعيدة

- ‌التعريض

- ‌بلاغة وأثر وقيمة الكناية والتعريض

- ‌الدرس: 13 علم البديع: مفهومه، ومراحل تطوره

- ‌تعريف علم البديع

- ‌نشأة البديع، ومراحل تطوره

- ‌استعراض لأهم جهود المعنيين بعلم البديع

- ‌الدرس: 14 منزلة البديع، ومدخله في الإعجاز القرآني - الطباق (1)

- ‌منزلة البديع بين الدراسات البلاغية، ومدى تبعيته للمعاني والبيان

- ‌مدخل البديع في الإعجاز القرآني

- ‌الطباق، وأقسامه

- ‌الدرس: 15 الطباق (2)

- ‌تعريفات أخرى للطباق، وصوره

- ‌أقسام الطباق من حيث الإيجاب والسلب

- ‌أقسام الطباق باعتبار التضاد والاتفاق في المعاني

- ‌الدرس: 16 الطباق (3)

- ‌أقسام الطباق باعتبار الظهور والخفاء

- ‌أثر الطباق وبلاغته في الكلام

- ‌الدرس: 17 المقابلة

- ‌تعريف المقابلة لغةً واصطلاحًا

- ‌أثر المقابلة في بلاغة الكلام

- ‌الدرس: 18 تأكيد المدح بما يشبه الذم، والعكس

- ‌(تأكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌تأكيد الذم بما يشبه المدح

- ‌الدرس: 19 التورية

- ‌معنى التورية لغةً واصطلاحًا، وعناصرها

- ‌الفرق بين المجاز والتورية

- ‌الفرق بين التورية والكناية

- ‌أقسام التورية

- ‌الدرس: 20 السجع

- ‌تعريف السجع لغةً واصطلاحًا، والسجع عبر العصور

- ‌آراء في أسلوب السجع، وهل يطلق على ما جاء في القرآن

- ‌شروط حسن السجع، وأنواعه

- ‌بلاغة السجع

- ‌الدرس: 21 الجناس باعتباره أحد المحسنات اللفظية

- ‌معنى الجناس في اللغة والاصطلاح، وجهود البلاغيين في إبرازه

- ‌تقسيم المحسنات البديعية إلى: معنوية، ولفظية

- ‌أقسام الجناس

- ‌بلاغة الجناس

الفصل: ‌أقسام الطباق باعتبار الظهور والخفاء

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السادس عشر

(الطباق (3))

‌أقسام الطباق باعتبار الظهور والخفاء

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:

القسم الثاني من أقسام الطباق:

الطباق باعتبار الظهور والخفاء:

كما سبق أن ذكرنا فإن الطباق يقوم على التضاد بين الألفاظ والمعاني جميعًا، أو المعاني وحدها على الأقل، وعليه فإن الطباق إذا افتقد التضاد في المعنى بأن كان أحد اللفظين المتضادين مثبتًا والآخر منفيًّا، أو تضاد معناهما لكن عُبر بهما عن معانٍ غير متضادة، أو لم يكن بينهما تضاد لا في اللفظ ولا في المعنى، ولكن كان لأحدهما بما يُضاد الآخر نوع تعلق؛ فإنه لا يكون طباقًا ولكن يكون ملحقًا بالطباق، وتلك هي صور الملحقات بالطباق.

ويُعد، كل ما سبق إلى الآن أحد قسمي الطباق الأساسيين، أما القسم الثاني للطباق فهو باعتبار الظهور والخفاء.

ونقول ونكرر: أن التقسيم ليس هدفًا في حد ذاته، وإنما هو فقط لضبط الأصول والقواعد التي ينبني عليها قواعد الطباق؛ لمعرفة ما يندرج تحت هذا اللون وما لا يندرج.

ينقسم الطباق باعتبار الظهور والخفاء إلى ظاهر -وقد مر الحديث عنه- وخفي وقد اكتفى الخطيب بهذا الاسم، وذكر للطباق الخفي شاهدين كما في قوله تعالى:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نوح: 25)، وذكر أن الطباق هنا بين:{أُغْرِقُوا} و"أدخلوا نارًا". وفي قول أبي تمام:

مها الوحش إلا أن هاتَا أوانس

قنا الخط إلا أن تلك ذوابل

قال: طابق بين هاتا وتلك.

ص: 369

ولم يبين الخطيب لهذا التقسيم مقياسًا دقيقًا يمكن الاهتداء به ولم يبين كذلك وجه الخفاء في أيٍّ من المثالين، والآية الكريمة سبق أن تعرض لها أسامة بن منقذ في بديعه حيث قال: وأخفى تطبيق في القرآن الكريم هو قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} ، ولم يزد على ذلك شيئًا، وأما بيت أبي تمام فقد تعرض له القاضي الجرجاني في وساطته حيث يقول: ومن أغرب ألفاظه وألطف ما وُجد منه قول أبي تمام "مها الوحش" ثم ذكر البيت، وطابق بهاتا وتلك، وأحدهما للحاضر والآخر للغائب، فكانا نقيضين في المعنى والمنزلة الضدين، ولعله أراد أن أحدهما للقريب والآخر للبعيد، فعد القريب حاضرًا والبعيد غائبًا، وممن لمح خفاء الطباق من القدماء ابن رشيق حيث يقول: وعدَّ ابن المعتز من المطابقة قول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} (البقرة: 179)، لأن معناه القتل أنفى للقتل، فصار القتل سبب الحياة وهذا من أملح الطباق وأخفاه.

خفاء الطباق إذن ليس جديدًا، وإنما هو ضارب في أعماق القدم، وهو راجع إلى أن ملمح التضاد فيه ليس واضحًا، إن المعاني المتضادة إذا ظهرت في الألفاظ المتضادة كان الطباق فيها سهل الإدراك، كما تلمحه بين الليل والنهار، والبياض والسواد، والأول والآخر، والظاهر والباطن، والصدق والكذب والموت والحياة، وما شاكل ذلك، ولكن المعاني المتضادة قد لا تظهر في الألفاظ في قول الله تعالى:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} لا ترى تضادًّا ظاهرًا بين: {أُغْرِقُوا} و"أدخلوا نارًا"؛ لأن الذي معنا هنا جملتان كاملتان وليستا مفردين، والمعاني المتضادة الخفية هنا مأخوذة من التراكيب، وليس من المفردات، فلا تستطيع أن تقول: أن بين أغرق وأدخل أي نوع من أنواع التضاد لا ظاهرًا ولا خفيًّا، ولكن إذا نظرت إلى التركيبين نظرة تأمل، لمحت بينهما نوعًا من التضاد؛ لأنه لولا تعلق الفعلين بمفعوليهما لما تحقق بينهما تقابل، فإن الغرق يستلزم الماء

ص: 370

المشتمل على البرودة غالبًا، والنار مشتملة على الحرارة، والحرارة والبرودة متقابلان.

والطباق الموجود بين "هاتا وتلك" في بيت أبي تمام وإن كانا واقعًا بين مفردين، إلا أنه لا تضاد بين لفظين، ولكن التضاد بين القرب المدلول عليه باسم الإشارة "هاتا" وبين البعد المدلول عليه باسم الإشارة "تلك"، وكذلك لا ترى تضادًّا ظاهرًا بين القصاص والحياة، وإنما التضاد بين الحياة والموت.

ولكن لما كان القصاص هنا يؤدي إلى الموت؛ ولأن القصاص الذي ورد في آية البقرة قصاص قتل وليس قصاص جراح، كان هناك طباق نفي بين القصاص والحياة، ومن الطباق الخفي ما ذكره ابن أبي الإصبع في قوله: فقد يقع في الطباق ما هو معنوي كقوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (يس 15، 16) إذ معناه: ربنا يعلم إنا لصادقون، فالرد على مكذبيهم بأسلوب القصر:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} بقولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} ينقض التهمة من أساسها، ويقوضها؛ لأن أساس الرسالة الأول هو الصدق، فإثبات الرسالة لإنسان يعني إثبات الصدق له، فالرسالة والصدق أمران متلازمان، ومن هنا فُهم معنى الصدق من قولهم:{رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} .

ومن الطباق الخفي قول الأبيرد الرياحي يرثي أخاه بريدًا:

سلكت سبيل العالمين وما له

وراء الذي لاقيت معديٌّ ولا قَصر

قال اليزيدي: معدي يعني متقدم، وقصر يعني متأخر، ومعنى هذا أن بين معني معدي وقصر تضادًّا وإن كان هذا التضاد غير ظاهر، فليس كل إنسان قادرًا على إدراك هذا التضاد هنا، فانظر إلى قول سلامة بن جندل:

ص: 371

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصراخ له قرع الظنابيب

الظنابيب: جمع ظنبوب وهو ظاهر الساق أو عَظْمه، فالمعنى الواضح القريب هنا أن بين صارخ وصراخ جناسًا "اشتقاق"، ولكن مع هذا فإنك لو أمعنتَ النظر تجد أن معنى صارخ هنا يدل على معنى يتضاد مع معنى صراخ؛ ذلك أن معنى البيت: كنا إذا ما أتانا مستغيث فزعًا، أسرعنا في إجابته، قال ابن منظور: ويُقال: عنَى بذلك سرعة الإجابة، وجعل قرع الصوت على ساق الخف في زجر الفرس قرعًا للظنبوب، وقيل: قرع الظنبوب أن يقرع الرجل ظنبوب راحلته بعصاه إذا أناخها؛ ليركبها ركوب المسرع إلى الشيء، والصارخ إذن هو طالب الإغاثة، والصراخ هو الإسراع في إغاثته، وإجابة ندائه، فبينهما طباق معنوي لا يتبينه الناظر بيسر وسهولة.

ومن ذلك قول الفرزدق:

فلما رأى الحجاج جرد سيفه

أصر الحروري الذي كان أضمرا

فالذي يبدو أن الذي بين أصر وأضمرا هنا ترادفًا، ولكن الحقيقة أن بينهما طباقًا خفيًّا؛ لأنه ليس معنى أصر هنا أخفى أو أضمر، وإنما معناه أعلن، وهذا من الأضداد، وبهذا يكون بين معنيي الكلمتين تضاد، ولكنه تضاد لا يظهر لصاحب النظرة العجلى.

ومن أخفى الطباق قول الصاحب في وصف أخوين أحدهما مليح والآخر قبيح -يحيى أحد الأخوين-:

يحيى حكى المحيا ولكن

له أخ حكى وجه أبي يحيا

فأبوا يحيى كناية عن ملك الموت، والمحيا يعني به الحياة، ووجه أبي يحيى الذي يُكنى به عن ملك الموت يُفهم منه الموت؛ لأنه ملازم له، ومتى حضر ملك

ص: 372

الموت فقد حضر الموت معه، ومن هنا حدث تضاد خفي بين المحيا وبين أبي يحيى، وهذا التضاد خفيٌّ جدًّا؛ لأنه لا يُتبين إلا بعد كدّ الذهن وإنعام النظر، ومن الطباق الخفي ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم:((لا تقوم الساعة حتى يظهر الفُحش والبخل، ويخوّن الأمين ويؤتمن الخائن، وتهلك الوعول وتظهر التحوت، قالوا: يا رسول الله، وما الوعول؟ وما التحوت؟ قال: الوعول وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يُعلم بهم)).

وقد وضح هنا بعد تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم لكلمتي وعول وتحوت أن بين معنييهما تضادًّا، ولم يكن أصحابه -رضوان الله عليهم- وهم من هم فصاحة يعلمون معنى الكلمتين، ولم يعرفوا تبعًا لذلك إن كان بين معنييهما تضاد في المعنى أم لا.

وتقسيم الطباق إلى ظاهر وخفي هو المعروف المشهور المتداول، إلا أن محمد بن علي الجرجاني -معاصر القزويني- ثلَّث القسمة، فجعل المطابقة إما ظاهرة وإما خفية وإما تقع في مكانة بين الظهور والخفاء، وحصر المطابقة الظاهرة في طباق السلب وطباق التدبيج -كما سنذكره- وجعل الخفيَّ في ملزوم التقابل كما في قوله تعالى:{أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} وكالتقابل بين السماء والأرض؛ لتعلقهما بطرفين متقابلين وهما فوق وتحت، كما جعلها في تقابل لازم آخر غيرهما كما في قوله:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} (الفتح: 29).

أما النوع الأخير فقد خرج من الطباق، وألحق به مجرد إلحاق عند شراح التلخيص، والعجيب في هذه القسمة أن يكون الطباق بين السماء والأرض طباقًا خفيًّا؛ ذلك أن التضاد بينهما حتى وإن كان في الأصل رجعًا إلى جهتي فوق وتحت، فإنه يكاد يتساوى في الخطور بالذهن مع التطابق بين هاتين الجهتين شأنَ كثير من المجازات التي أخذت صِبغة الحقائق ونُسيت أصولها الأولى، والمرجح في

ص: 373

التفرقة بين الطباق الظاهر والخفي، هو إن كان التضاد بين الألفاظ والمعاني جميعًا فهو الطباق الظاهر، وهذا لا يتم إلا في التضاد القائم بين المفردات: كالفرح والحزن، والغنى والفقر، والمدح والذم، والقرب والبعد، والأمن والخوف، والظلام والنور، والحب والبغض، وهكذا، وهذا باب يُكتفى فيه بظهور التضاد بين المفردات لفظًا ومعنًى، ولا يتطلب التدقيق في معرفة الفرق بين معاني المفردات والوصول إلى ما يُضادها على الحقيقة.

والفرح يمكن أن يُلمح للتضاد بينه وبين الحزن وبينه وبين الغم بدرجة واحدة، أو بدرجة متقاربة، والغِنى والفقر يمكن أن تضع بدلًا منهما اليسار والفقر، والمدح والذم يمكن أن تضع بدلًا منهما المدح والهجاء أو المدح والقدح وهكذا، والقضية في إيثار مضاد على مضاد قضية استعمال، فالأديب حينما يؤثر أحد اللفظين على الآخر فإنما ليصل إلى كمال المعنى، ولكن التضاد يبقى قائمًا مع هذا اللفظ أو ذاك حتى وإن كان أحد اللفظين أقرب إلى الذهن عند ذكر المضاد من صاحبه.

ومن العجيب أن يقبل ابن رشيق المطابقة في قول المتبني:

فالسلم تكسر من جناحي ماله

بنواله ما تكسر الهيجاء

لأن المراد بالهيجاء الحرب، وهي اسم من أسمائها، فكأنه قال الحرب، فأتى بضد السلم حقيقة، ويرفض الطباق بين الجمال والقبح في قول آخر:

وجهه غاية الجمال ولكن

فعله غاية لكل قبيح

لأن القبح ليس ضد الجمال وإنما ضده الدمامة، والقبح ضده الحسن، وابن رشيق ليس من الذين يلتزمون التضاد الحقيقي بين الألفاظ على الطريقة التي اتبعها أبو هلال العسكري في كتابه (الفروق في اللغة)، مأتسيًا في ذلك بالجاحظ في بعض كتبه، وبالرماني في تفسيره، ذكر ابن رشيق قول زهير:

ص: 374

إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا

أصبت حليمًا أو أصابك جاهل

وقال: لما وجده خلافًا له طابق بينهما كما يُفعل بالضد وإن كان الخلاف مقصرًا عن رتبة الضد في المباعدة، والناس متفقون على أن جميع المخلوقات مخالف وموافق ومضاد، فمتى وقع الخلاف في باب المطابقة فإنما هو على معنى المسامحة وطرح الكُلفة والمشقة.

هذا هو مقياس التطابق الظاهر وهو مقياس يتسع لطباق السلب وطباق الكلمات المتناقضة والمتضادة بل والمخالفة أيضًا متى لُمح التضاد بينهما قريبًا لا يحتاج إلى تأويل؛ لأن الأمر مبني على المسامحة وطرح الكلفة والمشقة على حد تعبير ابن رشيق.

أما إذا فقد التضاد بين الألفاظ وبقي بين المعاني وحدها فهذا هو الطباق الخفي، يستوي في ذلك أن تُستفاد المعاني المتضادة من لفظين مفردين أو من تركيبين أو من لفظ مفرد وتركيب، والطباق في المعاني وحدها المستفادة من الألفاظ المفردة كالطباق بين قِصاص وحياة في الآية الكريمة، وبين وعول وتحوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وبين هاتا وتلك في بيت أبي تمام، وبين معدي وقصر في بيت الأبيرد، وبين صارخ وصراخ في بيت ابن جندل، والطباق الحادث بين المعاني المفردة وحدها المستفادة من التراكيب كثير كسابقه، والطباق بين:{أُغْرِقُوا} و"أدخلوا نارًا"، ومثله كذلك قول بعضهم:

فإن تقتلوني في الحديد فإنني

قتلت أخاكم مطلقًا لم يكبّل

حيث طابق بين قوله: فإن تقتلوني في الحديد، ويعني به فإن تقتلوني مكبلًا، وبين: قتلت أخاكم لم يُكبل، فلا تضاد في الألفاظ المفردة هنا ولكن التضاد بين التراكيب، والطباق بين المعاني المستفادة من لفظ مفرد وتركيب كقول المقنع الكندي:

ص: 375

لهم جل مالي إن تتابع لي غنًى

وإن قلّ مالي لم أكفهم رفدًا

فقوله: تتابع لي غنًى، هو بمعنى قوله: كثر مالي، فالتطابق هنا حدث بين معنيي قل وكثر، بغض النظر عن ذكر الفاعل؛ لأنه لا يؤثر في تضاد المعاني شيئًا، وقل منصوصٌ عليها، وكثر استفيدت من قوله: تتابع لي غنًى، وهكذا يستقيم لنا الطباق الخفي بين المفردات أو بين التراكيب، أو مما بينهما على حدٍّ سواء.

إلا أن ابن الأثير يرى أن المقابلة في المعنى دون اللفظ في التراكيب وحدها؛ لأن حقيقة الأضداد اللفظية إنما هي في المفردات من الألفاظ نحو: قام وقعد، وقل وكثر، فإن القيام ضد القعود والحل ضد العقد والقليل ضد الكثير، فإذا تُرك المفرد من الألفاظ وتوصل إلى مقابلة بلفظ مركب كان ذلك مقابلة معنوية لا لفظية، بل إن أمر الطباق الخفي لا يتوقف عند المفردات وحدها أو التراكيب وحدها، أو المفردات والتراكيب معًا، بل إنه ليتجاوز هذا كله إلى الحروف والظروف، حيث نلمح فيه أيضًا طباقًا ظاهرًا أو طباقًا خفيًّا، فالتضاد بين فوق وتحت طباق واضح جلي مثلًا، وكذلك بين قدام ووراء وأمام وخلف وقبل وبعد، وهو واضح كذلك بين "من" إذا كان معناها الابتداء الزماني أو المكاني وبين "إلى" إذا كان معناها الانتهاء الزماني أو المكاني أيضًا.

وهو كذلك واضح بين اللام التي يُستفاد منها النفع استفادة واضحة وبين "على" التي يُستفاد منها الضر استفادة ظاهرة كذلك، ولكن إذا قرأتَ قول الله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُون} (يس: 9) لوجدتَ أن الآية الكريمة وضعت: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} في مقابلة: {مِنْ خَلْفِهِمْ} ، ولا تضاد بينهما على الحقيقة، وإنما التضاد الحقيقي بين من أمامهم ومن خلفهم، ولكن الذي آثره النظم الكريم يفيد التضاد، ويزيد على الضد الحقيقي في المعنى، ولهذا أوثر عليه، ومن هنا كان التضاد في هذا المقام خفيًّا،

ص: 376

كان هذا الاستعمال من الطباق الخفي، ومن ذلك قوله تعالى:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} (الأحزاب: 10) فالذي يُضاد فوق هو تحت، ولكن الاستعمال القرآني آثَر عليه أسفل وهو لا يُضاد فوق على الحقيقة، ولكنه يُلمَح فيه معنى التضاد، ومن هنا كان من الطباق الخفي.

ومن الطباق الخفي ما ذهب إليه بعضهم من أن مِن تفيد الانتهاء كما تفيد الابتداء، ومثلوا له بقول بعضهم: رأيت الهلال من داري خلال السحاب.

وكما يأتي الطباق ويتحقق بين الفعل المبني للمعلوم وقرينه، يأتي كذلك بين الفعل المبني للمعلوم والفعل المبني للمجهول في جملة واحدة، ففي قول الله تعالى مثلًا:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} (التوبة: 111) نجد أن الفعل يقتل أُسند مرة إلى الفاعل، وجاءت واو الجماعة فاعلًا له، وأُسند مرة أخرى إلى المفعول وجاءت واو الجماعة نائب فاعل له، أي: أن القتل يقع مرة منه ويقع مرة عليه، وهما معنيان متضادان، ومن هنا صح أن تكون هذه الصورة من صور الطباق.

ومثل ذلك في الفعل المنفي قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279)، فالفعل:{تَظْلِمُونَ} المنفي وقع مرة مبنيًّا للفاعل وفاعله واو الجماعة، وجاء مرة أخرى مبنيًّا للمفعول ونائب فاعله واو الجماعة نفسه، وهذان أمران متضادان يصح الطباق بينهما في الفعل المنفي كما صح في الفعل المثبت، ولا يبعد أن يكون في عداد ما سبق قول الله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: 269)، فالفعل مرةً جاء مبنيًّا للمفعول

ص: 377

في قوله: {وَمَنْ يُؤْتَ} ونائب الفعل هنا ليس هو الفاعل للفعل في صورته الأولى، وهذا هو الفرق بين هذه الصورة وبين الصورتين الماضيتين، وهو فرق كبير، ولكن إذا لم تكن صريحة في التضاد كما فيما قبلها، فإنها قريبة منهما وشبيهة بهما.

ومن ذلك ما روته أم سلمة رضي الله عنها من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته، قال: ((بسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك من أن أذل أو أُذل، أو أضل أو أُضل

)) فالأفعال: ((أذل)((أضل)((أظلم))، جاء مرة مرة مبنية للفاعل وفاعله الضمير العائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يعم فيه الخطاب، وفي الصورة الثانية جاء مبنيًّا للمفعول ونائب الفاعل نفسُ الضمير المستتر السابق، والأمر كذلك في الفعل:((أجهل))، غير أن هناك فرقًا بينه وبين سابقيه، فالفعل:((أظلم)) و ((أذل))

إلى آخره، أفعال متعدية بينما الفعل ((أجهل)) فعل لازم، ولأن الأول تعدت بنفسها؛ لأنه يُصاغ منها المبني للمفعول مباشرة بلا واسطة، ولأن الثاني لازم هو ((أجهل))؛ لأنه يُصاغ منه المبني للمفعول بواسطة حرف الجر، ولكن هذا الفرق لا أثرَ له في تحقق التضاد بين الصورتين.

ومن ذلك ما جاء في (عيون الأخبار) من أن المغيرة بن شعبة ذكر عمر بن الخطاب فقال: كان أفضل من أن يُخدع، وأعقل من أن يَخدع"، فالفعل المضارع يخدع جاء في المرة الأولى مبنيًّا للمعلوم وجاء في المرة الثانية مبنيًّا للمجهول، والمسند إليه في الحالين واحد، وهو الضمير المستتر العائد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي الثانية ينفي أن يقع فعل الخداع عليه؛ لأنه أفضلُ وأعقلُ من أن يقع منه ذلك، ولا ريبَ أن المعنيين متضادان، ومن هنا يمكن أن تدخل هذه الصورة دائرة الطباق.

ص: 378

والشواهد على اجتماع صورتين للفعل الواحد إحداهما يُبنى الفعل فيها للمعلوم والأخرى للمجهول أكثر من أن تحصى، وفي هذا النوع يتحقق التضاد بين الصورتين ويدخل باب الطباق، ونختم هذه النماذج بقول شوقي:

يا طَيرُ وَالأَمثالُ تُضـ

رَبُ لِلَّبيبِ الأَمثَلِ

دُنياكَ مِن عاداتِها

َلّا تَكونَ لِأَعزَلِ

أَو لِلغَبِيِّ وَإِن تَعَلـ

لَلَ بِالزَمانِ المُقبِلِ

جُعِلَت لِحُرٍّ يُبتَلى

في ذي الحَياةِ وَيَبتَلي

يَرمي وَيُرمى في جِها

دِ العَيشِ غَيرَ مُغَفَّلِ

مُستَجمِعٍ كَاللَيثِ

إِن يُجهَل عَلَيهِ يَجهَلِ

ففي الأبيات الثلاثة الأخيرة ثلاثة نماذج لاجتماع صورتين للفعل الواحد مرة مبنية للمعلوم ومرة أخرى مبنية للمجهول، والمسند إليه واحد في الصورتين، الفعل الأول يبتلى والثاني يُرمى والثالث يُجهل، غير أن الأخير عُدي -كما سبق أن ذكرنا- إلى نائب الفاعل بحرف الجر؛ لأنه لازم كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

وإذا استقام لنا أمر الطباق بين صورتي الفعل -كما سلف- فإنه سيترتب عليه حتمًا استقامة أمر الطباق بين اسم الفاعل وهو مصوغ من الفعل المبني للمعلوم، واسم المفعول وهو مصوغ من الفعل المبني للمجهول إذا صيغَا من مادة واحدة، ونكتفي هنا من هذه الصورة بقول عبد يغوث الحارثي:

أنا الليث معدوًّا عليَّ وعاديًا

......................................

فاسم الفاعل عاديًا يعني أن العدوان وقع منه، واسم المفعول معدو عليه يعني أن العدوان وقع عليه، وهما أمران متضادان، ومن هنا حدث الطباق بينهما كما حدث قبل ذلك بين الفعل الواحد إذا جاء مرة مبنيًّا للفاعل ومرة مبنيًّا للمفعول، ولا فرق بين هذا وذاك، ولا يبعد أن يكون منه قول أبي تمام:

ص: 379

قد كانت البيض المآثير في الوغى

بواتر فهي الآن من بعده بُتر

فبواتر جمع باتر وهو اسم فاعل بمعنى قاطع، وبُتر جمع أبتر من معانيه المقطوع أو المنقطع، يقول العباسي: والبواتر السيوف القواطع، والبتر جمع أبتر وهو المقطوع، ويؤيد هذا المعنى هنا قول التبريزي والبتر: التي لا أذناب لها في الأصل، وإنما أراد هنا انقطاع البقية وقلة الخير، فوقوع القطع هنا على الشيء الأبتر قائم معنا سواء أكان هذا الشيء مقطوعًا أصلًا أم وقع الانقطاع عليه بعد ذلك، والانطباع السريع عند سماع البيت يوحي بأن أبا تمام يكشف عن صورتين متضادتين للسيوف؛ إحداهما في حياة المرثي والأخرى بعد وفاته، وهو قريب من بيت عبد يغوث السابق وليس من بابه؛ لأنه في ذلك البيت يتطابق اسم الفاعل مع اسم المفعول لفظًا ومعنًى، وليس الأمر كذلك في بيت أبي تمام.

وقد التفت إلى هذا النوع من قبل ابن رشيق وهو بصدد ما اختلط فيه التجنيس والطباق، فقال: معنى هذا الباب قولك فاعل ومفعول، نحو: خالق ومخلوق، وطالب ومطلوب، هما ضدان في المعنى وإن تجانسَا في اللفظ، وكذلك ما كان اسم الفاعل منه مفعِل والمفعول مفعَل، نحو: مكرم ومُكرم، ومعط ومعطًى، وما جرى هذا المجرى أو زاد عليه في البناء.

ومن قبل ابن رشيق ذكر الباقلاني قول كعب بن زهير مثالًا للجمع بين طباقين:

لعزمة مأمور مطيع وآمر

مُطاع فلا يُلفَى لِحزمهم مثل

فبين مأمور وآمر تضاد، وكذلك بين مطيع ومطاع.

ومن الطباق الخفي ما يُسمى بطباق التدبيج، وتعني هذه الكلمة التزيين بطريق النقش والألوان، جاء في (لسان العرب): الدبج: النقش والتزيين، فارسي معرب، والنقش والتزيين يقومان أساسًا على الأصباغ والألوان، وربما جاء من

ص: 380

هذا الوجه مصطلح التدبيج واختص بالألوان وحدها، غير أنهم اشترطوا أن يكون القصد من ذكر هذه الألوان الكناية أو التورية، وقد بحثه جماعة من العلماء على أنه فن مستقل بنفسه كما في (بديع القرآن) و (تحرير التحبير) و (الطراز) و (معترك الأقران)،.

وذهب ابن أبي الإصبع إلى أن هذا اللون من مخترعاته وأنه لم يُسبق إليه، لكن الدكتور حفني شرف والدكتور أحمد مطلوب يريان أنه لا فضل له فيه إلا وضع المصطلح وحده، فهو بعينه التورية أو الكناية، أو هو بعينه ما أسماه ابن سنان الخفاجي "المخالف"، أما الدكتور مصطفى الصاوي الجويني فإنه ينفي الشبه بين عمل ابن أبي الإصبع وعمل ابن سنان، فهذا شيء وذاك شيء آخر، وإن جمع بين الأمرين استخدام الألوان، ويسلم مع ابن حجة باختراع ابن أبي الأصبع للتدبيج.

وإذا غضضنا الطرف عن المصطلح وسلمناه لابن أبي الإصبع؛ فإننا نجد أن العناية بالألوان والجمع بينها في نص أدبي أقدم من ذلك بكثير، والمقصود بالألوان ما دون السواد والبياض؛ لأن هذين اللونين متضادان على الحقيقة، وأما ما عداهما من الألوان فليس بينهما تضاد على الحقيقة، والذين التفتوا إلى الجمع بين الألوان عالجوها في إطار الطباق، وهذا هو الذي مهد الطريق للقزويني ليعود بالألوان إلى الطباق، غير أن القدماء الذين التفتوا إلى هذا اللون لم يشترطوا في الجمع بين الألوان ما اشترطه المتأخرون.

والعجيب في الأمر، أن ابن سنان الخفاجي وابن رشيق -وهما متعاصران زمانًا، متباعدان مكانًا- نظرَا إلى هذا الموضوع نظرة واحدة، وجعلَا دخول هذا الفن -الطباق- على أساس المخالفة وليس على أساس التضاد، وقد ذهب ابن رشيق إلى أن دخول المخالف - الطباق- مبنيّ على المسامحة.

ص: 381

وعلى أي حال، فالكلام في الجمع بين الألوان في نص واحد يعود إلى القرن الرابع الهجري على ما أفاده الإمام الرّماني.

الموضوع إذن قديم، ومعالجة الموضوع في إطار التضاد الحقيقي والتضاد غير الحقيقي أو التضاد والمخالفة، أغنى هؤلاء العلماء عن وضع مصطلح مستقلٍّ له، لأن الإطار الذي بُحث فيه هذا الموضوع هو إطار الطباق، وابن أبي الإصبع الذي ذهب إلى أنه صاحب التدبيج ومخترعه، عرفه بقوله: هو أن يذكر المتكلم ألوانًا يقصد الكناية بها والتورية بذكرها عن أشياء من وصفٍ أو مدح أو هجاء أو نسيب أو غير ذلك من الفنون، أو لبيان فائدة الوصف بها، والأساس الذي أقيم عليه التدبيج هنا هو أن تُذكر الألوان بقصد التورية أو الكناية، أما إذا ذُكرت وبقيت على حقيقتها فلا تدخل في إطار التدبيج بحسب هذا التعريف.

وذكر بعضهم أن ذكر الألوان باقية على حقيقتها لا يمنع التدبيج كما في قوله:

ومنثورُ دمعي غدَا أحمر

على آسي عارضك الأخضر

وكما في قول الصلاح الصفدي:

ما أبصرت عيناك أحسنَ منظرًا

فيما يرى من سائر الأشياء

كالشامة الخضراء فوق الوَجنة

الحمراء تحت المُقلة السوداء

والذي ذهب إليه بعضهم هنا صحيح؛ فإن الناظر في شواهد ابن أبي الإصبع نفسه يرى منها ما هو حقيقي، فذكر شاهدين أحدهما من القرآن الكريم، وقد استطاع أن يطبق التعريف عليه، والشاهد الآخر كان من الشعر. وإذا نظرنا إلى الألوان في إطار الطباق كما هو أصل نشأتها وكما هو نهاية مطافها، فإننا نجد أن الأمر فيها قائم على الجمع بين الألوان، وأن قدامَى العلماء بنوا الأمر في الجمع بينها على المخالفة، والمخالفة تدخل في الطباق توسعًا أو تقترب من التضاد،

ص: 382

وإرادة الكناية أو التورية بها ليس هو الذي يحقق فيها وجه المخالفة، وإذا كانت الألوان في شواهد ابن سنان ليست من الحقائق فإنها في شواهد ابن رشيق ما هو من قبيل الحقيقة، وهي داخلة في الطباق، يقول الحسين بن مطير الأسدي:

بسود نواصيها وحمر أكفها

وصفر تراقيها وبيض خدودها

ورواية ابن الأنباري وابن الأعرابي للبيت:

لصفر تراقيها وحمر أكفها

وسود نواصيها وبيض خدودها

وعلى الرغم من أن هذه الألوان يمكن أن تُحمل على الكناية كأن يُقال: أنه كنّى بها على شباب المحبوبة، ورغد عيشها، وطيب ريحها؛ على الرغم من ذلك فإن حملها على الحقيقة فيما يبدو أقوى؛ لأنها تؤدي نفس المعاني التي تؤديها الكناية، وتزيد عليها وجود حقائق هذه الأشياء في محبوبته.

اجتماع الألوان إذن في نص واحد يدخل في باب الطباق على السعة، يستوي في ذلك أن تكون الألوان دالة على الحقيقة أو تكون دالة على التورية أو تكون دالة على الكناية، والأساس الذي تدخل عليه الطباق هو أساس المخالفة، وليس أساس التضاد، والخطيب القزويني يعتد به طباقًا من غير قيد ولا شرط حينما قال: ومن الطباق قول أبي تمام

ثم ذكر شواهده، ثم قال في آخرها: ومن الناس من سمى نحو ما ذكرنا تدبيجًا، وهو يذكر التدبيج وتعريفه وشروطه على أنه رأيٌ ارتآه بعض الناس لا على أنه شيء يذهب إليه هو، وإذا كان الخطيب لم يستشهد إلا بالأبيات التي تتحقق فيها شروط هؤلاء، فلا يعني هذا أنه يحصر نفسه في هذا الإطار وحده.

بل إن صاحب (الإشارات والتنبيهات) جعل الجمع بين الألوان من التضاد الحقيقي ولم يشترط فيه أن يجيء بقصد الكناية أو التورية، حتى وإن كانت

ص: 383

شواهده تنطبق عليها نفس الشروط، ثم انطلق من عد التضاد بينها تضادًّا حقيقيًّا إلى احتساب هذا النوع من التضاد الظاهر كما مضى، أما الاقتصار على الشواهد التي تتحقق فيها الشروط فهي أن العلماء كثيرًا ما ينقل بعضهم عن بعض المسائل والأمثلة، ونحن نجد شواهد هذا اللون في (الإشارات والتنبيهات) هي نفس الشواهد المذكورة في (الإيضاح)، وبنفس الترتيب ما عَدَا شاهدًا واحدًا، وهو قول أبي تمام:

تَرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمرًا فَما أَتى

لَها اللَيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ

ومحمد بن علي الجرجاني كان معاصرًا للقزويني ومات قبله بعشر سنوات، واطلع على كتابه وتعقبه في كثير من المواضع، وشواهد الخطيب الثلاثة على هذا اللون، هي هي بعينها شواهد يحيى بن حمزة العلوي في (الطراز) وبنفس الترتيب أيضًا باستثناء شاهد واحد هو:

وأحببت من حبها الباخلين

حتى ومقت ابن سلم سعيدًا

إذا سيل عرفًا كسا وجهه

ثيابًا من اللؤم بيضًا وسودًا

وعلى الرغم من أن هذا الشاهد يمكن أن يكون من التدبيج؛ لاجتماع الألوان فيه، فإن الجمع بين السواد والبياض يختلف عن الجمع بين الألوان الأخرى؛ لأن هذا من التضاد الحقيقي، ذلك أن السواد والبياض يتضادان على الحقيقة، وليس كذلك الأمر في الألوان الأخرى، وسبق أن قلنا مرارًا: أنها مبنية على المخالفة وليس على التضاد كما ذكر ذلك ابن سنان وابن رشيق.

والجمع بين الألوان في التراث القديم قليل مستساغ ولكنه في العصور المتأخرة تبارَى فيه الشعراء والكتاب، وجاء بعضه سائغًا مقبولًا وجاء أكثره متكلفًا مردودًا، وقد خص الثعالبي الباب الحادي عشر من كتابه (التوفيق للتلفيق) لهذا

ص: 384

الفن وحده وإن غلب على الألوان عنده السواد والبياض، وسماه (التلفيق بين ذكر الألوان)،أحصى فيه عددًا كثيرًا من النصوص، وتناثرت في كتابه شواهد أخرى يمكن أن تُضم لما جمعه في هذا البيت، ومما ذكره قول المهلب بن أبي صفرة:

خضرة العيش في حمرة الدم

..........................................

وهذا طباق تدبيج على شرط ابن أبي الأصبع، ومنه قول المتنبي:

وخضرة ثوب العيش في الخضرة التي

أرتك احمرار الموت في مدرج النمل

ومنه قول سيف الدولة:

وقد نُثرت أيدي الجنوب مطارفَ على

الجو دكنًا والحواشي على الأرض

يطرزها قوس السحاب بأحمر

على أخضر في أصفر إثر مبيض

ومنه قول الثعالبي والصنعة بادية في كل ما ذكر لنفسه:

والأرض قد برزت لنا في أخضر

في أصفر في أبيض في أحمر

وقوله:

من ملك الصفر احمر

لونه واخضر عيشه

وقوله:

قول نعم أحسن من حمر

النعم تحمل بيض النعم

قد عمد فيه إلى بين طباق التدبيج والجناس، وقد نقل عن بعضهم قوله فيما هو أبعد في الصنعة: وصل كتاب فاستلمته استلام الحجر الأسود، وتمتعت منه بالعيش الأخضر، وجمعت يدي على الياقوت الأحمر والباز الأبيض وملك بني الأصفر.

وهذا قريب في صنعته مما ذكره الحريري، وقد غالَى فيه مغالاةً شديدةً، وذلك حين قال:

فمذ ازور المحبوب الأصفر

وأغبر العيش الأخضر

اسود يومي الأبيض

ص: 385