المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كيف يكتسب وجه الشبه من الأمور الدقيقة في أطراف التشبيه - البلاغة ١ - البيان والبديع - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 علوم البلاغة الثلاثة: أهميتها، والفرق بينها - علم البيان

- ‌مقدمة في أهمية علوم البلاغة

- ‌موضوع علوم البلاغة، والفرق بينها، وأثرها في النفس

- ‌علم البيان

- ‌الدرس: 2 التشبيه (1)

- ‌تعريف التشبيه

- ‌أركان التشبيه

- ‌أقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية

- ‌الدرس: 3 التشبيه (2)

- ‌تعريف وجه الشبه

- ‌أحوال وجه الشبه

- ‌وجه الشبه باعتبار ذكره وحذفه، وباعتبار ظهوره وخفائه

- ‌الدرس: 4 التشبيه (3)

- ‌أدوات التشبيه

- ‌أغراض التشبيه

- ‌الدرس: 5 التشبيه (4)

- ‌بيان مكانة التشبيه من خلال نماذج من روائع التشبيه

- ‌كيف يُكتسب وجه الشبه من الأمور الدقيقة في أطراف التشبيه

- ‌الدرس: 6 المجاز اللغوي

- ‌تعريف الحقيقة، وبيان أقسامها باعتبار المصطلح

- ‌تعريف المجاز

- ‌المجاز بين التقرير والإنكار

- ‌أقسام المجاز اللغوي باعتبار الإفراد والتركيب

- ‌المصطلحات التي تطلق على أنواع المجاز "مجاز الاستعارة

- ‌الدرس: 7 الاستعارة

- ‌أقسام الاستعارة

- ‌الاستعارة المكنية والتخييلية

- ‌الاستعارة التصريحية

- ‌الدرس: 8 تابع: الاستعارة

- ‌الاستعارة الوفاقية، والاستعارة العنادية

- ‌الاستعارة المطلقة، والمجردة، والمرشحة

- ‌الاستعارة العامية والخاصية

- ‌الاستعارة باعتبار حسية وعقلية طرفي المستعار منه والمستعار له

- ‌الدرس: 9 المجاز المرسل

- ‌المجاز المرسل وعلاقاته "السببية والمسببية

- ‌علاقة: الجزئية، الكلية، اعتبار المكان

- ‌علاقة: اعتبار ما يكون، الحالية، المحلية، الآلية، المجاورة

- ‌الدرس: 10 تابع: المجاز المرسل

- ‌خصائص وأسرار الاستعارة

- ‌خصائص وأسرار المجاز المرسل

- ‌الدرس: 11 الكناية

- ‌تعريف الكناية

- ‌أقسام الكناية

- ‌تقسيم الكناية باعتبار القرب والبعد بين المعنيين

- ‌الدرس: 12 تابع الكناية - التعريض

- ‌أمثلة على الكناية البعيدة

- ‌التعريض

- ‌بلاغة وأثر وقيمة الكناية والتعريض

- ‌الدرس: 13 علم البديع: مفهومه، ومراحل تطوره

- ‌تعريف علم البديع

- ‌نشأة البديع، ومراحل تطوره

- ‌استعراض لأهم جهود المعنيين بعلم البديع

- ‌الدرس: 14 منزلة البديع، ومدخله في الإعجاز القرآني - الطباق (1)

- ‌منزلة البديع بين الدراسات البلاغية، ومدى تبعيته للمعاني والبيان

- ‌مدخل البديع في الإعجاز القرآني

- ‌الطباق، وأقسامه

- ‌الدرس: 15 الطباق (2)

- ‌تعريفات أخرى للطباق، وصوره

- ‌أقسام الطباق من حيث الإيجاب والسلب

- ‌أقسام الطباق باعتبار التضاد والاتفاق في المعاني

- ‌الدرس: 16 الطباق (3)

- ‌أقسام الطباق باعتبار الظهور والخفاء

- ‌أثر الطباق وبلاغته في الكلام

- ‌الدرس: 17 المقابلة

- ‌تعريف المقابلة لغةً واصطلاحًا

- ‌أثر المقابلة في بلاغة الكلام

- ‌الدرس: 18 تأكيد المدح بما يشبه الذم، والعكس

- ‌(تأكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌تأكيد الذم بما يشبه المدح

- ‌الدرس: 19 التورية

- ‌معنى التورية لغةً واصطلاحًا، وعناصرها

- ‌الفرق بين المجاز والتورية

- ‌الفرق بين التورية والكناية

- ‌أقسام التورية

- ‌الدرس: 20 السجع

- ‌تعريف السجع لغةً واصطلاحًا، والسجع عبر العصور

- ‌آراء في أسلوب السجع، وهل يطلق على ما جاء في القرآن

- ‌شروط حسن السجع، وأنواعه

- ‌بلاغة السجع

- ‌الدرس: 21 الجناس باعتباره أحد المحسنات اللفظية

- ‌معنى الجناس في اللغة والاصطلاح، وجهود البلاغيين في إبرازه

- ‌تقسيم المحسنات البديعية إلى: معنوية، ولفظية

- ‌أقسام الجناس

- ‌بلاغة الجناس

الفصل: ‌كيف يكتسب وجه الشبه من الأمور الدقيقة في أطراف التشبيه

لقد أطمعتني بالوصال تبسمًا

وبعد رجائي أعرضت وتولت

كما أبرقت قومًا عطاشًا غمامة

فلما رأوها أقشعت وتجلت

فهو هنا يصور حاله مع حبيبته، وقد بدت له مبتسمة فطمع في وصالها وتمكن رجاء الوصل في نفسه، وعندئذٍ أعرضت عنه وتولت، بحال قوم عطاش لا حت لهم غمامة مطمعة ما برحت حين تمكن في أنفسهم رجاء أمطارها أن أقشعت، وانجلت، فوجه الشبه هنا هو وقوع اليأس في نفسه إثر تمكن الرجاء فيه، وهذا الوجه منتزع من الأمور المجتمعة في البيتين؛ بحيث لا يمكن الاستغناء عن بعضها، وعليه فلا يصح أن يكون المشبه هو حاله مع حبيبته، وقد لاحت له مبتسمة، وطمع في وصالها، أو أن يكون المشبه به حال قوم عطاش شديد الحاجة إلى الماء، لاحت لهم غمامة مطمعة؛ لأننا بهذا الصنيع نكون قد فصلنا أجزاء التشبيه المركب، وعقدنا المشابهة بين جزء في المشبه، ونظيره في المشبه به بوجه شبه مستقل؛ إذ يفوت بهذا الغرض الذي يرمي إليه الشاعر من التركيب.

وهذا الكلام نقوله، ونؤكد عليه لأن آيات عديدة في القرآن جاء التشبيه فيها مركبًا، وإن لم يرع هذا الضابط؛ يختلُّ التشبيه في نظم القرآن.

وخلاصة القول في هذا أن وجه الشبه المركب من عدة أمور لا يمكن تجريده من بعض هذه الأمور؛ لأنه مبني على اتحاد الأجزاء ومزجها، وتلاحمها.

‌كيف يُكتسب وجه الشبه من الأمور الدقيقة في أطراف التشبيه

؟

وهنا يأتي سؤال كيف يُكتسب وجه الشبه من مثل هذه الأمور الدقيقة في أطراف التشبيه المتعددة الأجزاء، أو المركبة؟

ولا نستغرب أن كنا قد تكلمنا من قبل عن وجه الشبه؛ لأن الكلام فيما سبق كان على سبيل الاختصار، أما هنا فإنما نستعرض ما جاء من غريب التشبيهات؛ لنتعرف على كيف أن هذه التشبيهات تأتي غريبة، وكيف يُجمع بين أجزاء الطرفين المشبه به والمشبه، لكن يبقى السؤال أن وجه الشبه -كما علمنا: هو الصفة الجامعة بين الطرفين، فإذا أراد المتكلم أن يعقد تشبيهًا بين أمرين؛ كان

ص: 113

عليه أن يحضر في ذهنه، ويحدد الصفة التي استرعت انتباهه في المشبه، ثم يغض النظر عما عداها من صفات، ويطلب نظيرًا لهذه الصفة التي استرعت انتباهه في شيء آخر يكون مشبهًا به، ويجب أن تكون هذه الصفة بارزة في المشبه به، ويتحتم على المتكلم أن يغض النظر عما في المشبه به من صفات أخرى غير هذه الصفة، وعما بين الطرفين من تباين أو تباعد.

فمثلًا إذا استرعى انتباه المتكلم شجاعة رجل، فطلب لها نظيرًا في الأسد مثلًا؛ وجب عليه أن يصرف نظره عما في الرجل والأسد من صفات أخرى غير الشجاعة، وأن يغض بصره عما بينهما من تباين في الجنس.

وإذا لفت نظره هيئة المصلوب، فوجد نظيرًا لها في قائم من نعاس يتمطى؛ أعرض عما بينهما من اختلاف الحياة والموت؛ ولذا كان لزامًا على الناقد أن يقف على وجه نظر الأديب، وأن يتحقق من غرضه، فلا يقول مثلًا: كيف يشبه الرجل الشريف الإنسان بحيوان مفترس، وكيف يشبه السفينة الضخمة بحيوان صغير الحجم، وكيف يشبه المصلوب بقائم يتمطى من نعاس، والحياة ما تزال تدبُّ في جسم المتمطي.

كذلك نقول مثل هذا في القرآن الكريم، فلا ينبغي أن نغض الطرف عن جزء في المشبه أو المشبه به، دون أن يراعى في تحقيق وجه الشبه.

هذا وقد لاحظ البلاغيون أنه حتى مع حذف وجه الشبه، فإنه يُستعلم على دقة التشبيه وخفائه بما يدل على وجه الشبه، وذلك إما بوصف مشبه به بصفة يُفهم منها هذا الوجه المحذوف، كقول كعب الأشقري مثلًا في وصف بني المهلب للحجاج لما سأله عنهم، فقال: هم كالحلقة المفرغة لا يُدرى أين طرفاها.

فقد وصف المشبه به، وهو الحلقة المفرغة بأنها ليست معلومة الأطراف، وهذا الوصف أومأ إلى وجه الشبه، ودلَّ على أنه التناسب الكلي الخالي من التفاوت،

ص: 114

ولا شك أن الانتقال من تناسب أجزاء الحلقة إلى تناسبهم في الشرف، غاية في الدقة؛ لأن العامة يتبادر إلى ذهنهم تناسبهم في الصورة مثلًا، أو في الشكل، ولا يدرك التناسب الكلي إلا الخاصة، ولذا احتاج التشبيه إلى وصف المشبه به بهذا الوصف الذي أومأ إلى وجه الشبه، ودلَّ على أنه التناسب الكلي الخالي من التفاوت، ومن ذلك قول شاعر آخر:

وإنا وما تلقى لنا إن هجوتنا

لكالبحر مهما تلقى في البحر يغرق

فوجه الشبه هو عدم ظهور الأثر في كل منهما، يريد أن هجاءه لهم لا يؤثر فيهم لأصالتهم في الشرف، وعراقتهم في المجد، كما لا يؤثر في البحر ما يُلقى فيه من أوساخ وأقذار.

وقد أومأت الجملة الحالية وهي "مهما تلقى في البحر يغرق"، والتي وقعت وصفًا للمشبه به البحر، أومأت إلى وجه الشبه، ودلت عليه، ومن ذلك أيضًا قول النابغة:

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

حيث شبه الممدوح والملوك بالشمس والكواكب، وجملة "إذا طلعت لم يبد منهن كوكب" وقعت وصفًا للمشبهين بهما، فأنبأت عن وجه الشبه المحذوف، ودلت عليه، وهو القوة الكبرى التي تستر ما عداها؛ فالشاعر إذن يريد أن عزة الممدوح، وسلطانه، وفضائله تُخفي ما لسائر الملوك من قوة، وعزة، ومكارم، كما تخفي الشمس إذا طلعت أضواء الكواكب؛ ففي كل ما سبق نلحظ أن وجه الشبه المحذوف قد دلَّ عليه صفة المشبه به، التي فُهمت من خلال السياق. قد يكون الدَّالُّ على وجه الشبه المحذوف وصفًا للمشبه والمشبه به معًا، كما جاء مثلًا في قول أبي تمام:

ص: 115

صدفت عنه ولم تصدف مواهبه

عني وعاوده ظني فلم يخب

كالغيث إن جئته وفاك ريقه

وإن ترحلت عنه لجَّ في الطلب

وهنا نرى أنه شبه الممدوح بالغيث، ووجه الشبه هو الإفاضة والإحسان في حال الإقبال، وفي حال الإعراض، وقد أنبأ بهذا الوجه ودلَّ عليه وصف المشبه بأن عطاياه لا تنقطع في حال الغيبة وحال الحضور، ووصف المشبه به كذلك وهو الغيث بأنه يوافيك بمائه الصافي إن طلبته، وإن ترحلت عنه اجتهد في إمدادك به، ولو لم يوصف الطرفان بهذين الوصفين؛ لتبادر إلى ذهن العامة أن المقصود مجرد تشبيه الممدوح بالغيث في كثرة العطاء.

هكذا نلحظ دقة وجه الشبه في استحضاره من خلال أجزاء الطرفين، ومن خلال وصف المشبه أو المشبه به، ومن أهم العوامل الموجبة لغرابة التشبيه أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن؛ لكونه من الأمور الوهمية، كما في تشبيه السنان بأنياب الأغوال في بيت امرئ القيس، أو من المركبات الخيالية كتشبيه محمر الشقيق بأعلام ياقوت نُشرن على رماح من زبرجد، فالأمور الوهمية، والمركبات الخيالية لا تحقق لوجودها، فهي نادرة الحضور في الذهن.

وقد يكون المشبه به له وجود محقق إلا أنه لا يتكرر على الحس، ولا يخطر بالبال، إلا بعد تفكير طويل، كتشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل؛ إذ المرآة في يد الأشل من الأمور التي لا يقع عليها البصر إلا نادرًا، فربما قضى الإنسان عمره، ولم يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل، ومن ذلك تشبيه حال الذين حُملوا التوراة ثم لم يحملوها بحال الحمار يحمل كتب العلم في قوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارً} (الجمعة: 5)، فصورة الحمار يحمل أسفارًا من الصور التي لا تتكرَّر على الحس، وجه الشبه من المركبات العقلية التي يُتعذَّر استخراجها من الطرفين على غير الخاصة.

ص: 116

وما من شك في أن ندرة حضور المشبه به في الذهن تقتضي خفاء وجه الشبه، وقدرة إدراكه؛ لأن الوجه وصف منتزع من الطرفين، فإذا خفي أحد الطرفين، وندر حضوره بالذهن؛ خفي وجه الشبه وندر إدراكه وتعذره على العامة.

أيضًا من العوامل الموجبة لغرابة التشبيه أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند ذكر المشبه البعيد الصلة بينهما، كذا نلحظ أن هناك ما يكون عاملًا موجبًا للغرابة يلحق بوجه الشبه، وما يكون عاملًا موجبًا للغرابة في التشبيه يلحق بالمشبه أو المشبه به، فقلنا أن من ذلك أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند ذكر المشبه؛ لبعد الصلة بينهما، من ذلك قول ابن المعتز يصف زهر البنفسج:

ولاذ وردية تزهو بزرقتها

بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنها فوق قامات ضعفن بها

أوائل النار في أطراف كبريت

فقد شبه زهر البنفسج بأوائل النار في أطراف كبريت، ولا مناسبة بين الطرفين، المشبه زهر نادى يفوح عطرًا، والمشبه به نار يابسة محرقة، فهما جنسان متباعدان، يندر أن يحضر المشبه به في الذهن عند حضور المشبه، وقد جمع الشاعر بينهما على الرغم من هذا التنافر؛ فاكتسب التشبيه غرابة وبعدًا.

ومن ذلك تشبيه الشعر بالنار، والبرق بمصحف القاري، وإبرة روق الأغن بقلم أصاب من الدواة مدادًا، فالبون شاسع بين الطرفين في كل هذه التشبيهات كما لا يخفى، ولهذا كانت تشبيهات غريبة بعيدة.

من العوامل الموجبة أيضًا لغرابة التشبيه ما يجعله مؤثرًا في النفس أن يكون وجه الشبه كثير التفصيل، ومن ذلك ما مر من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل؛ حيث روعي في وجه الشبه الشكل واللون والحركة المضطربة المستمرة، التي ينشأ عنها تموج الضوء، ومعنى التفصيل في وجه الشبه إطالة النظر والتأمل في صفات كل من الطرفين؛ لمعرفة ما تقع به المشاركة بينهما، وما تقع به المخالفة.

ص: 117

ثم تتأمل الصفات المشتركة بين الطرفين هل هي موجودة في كلا الطرفين بدرجة واحدة، أم بينهما تفاوت، وهل هذا التفاوت يفسد الغرض من التشبيه، إن كان يفسده؛ فعلى الأديب أن يجمع، ويفرق، ويثبت، ويحذف من صفات كل طرف حتى يستقيم التشبيه، ويتحقق الغرض الذي يرمي إليه فالمراد بالتفصيل إذن ألا ننظر في صفات الطرفين نظرة إجمالية؛ بل نظرة تفصيلية دقيقة، ويتضح لنا ذلك من خلال هذه الشواهد التي ذكرناها، ومن خلال قول امرئ القيس أيضًا:

حملت ردينيًّا كأن سنانه

سنا لهب لم يتصل بدخان

فهنا نراه شبه سنان الرمح بسنا اللهب في الإشراق، ولكنه لاحظ أن السنا يحوي الدخان الذي يؤثر في وجه الشبه؛ فحذف هذا الدخان وانتزعه من السنا بقوله "لم يتصل بدخان"، فزاد السنا بهذا تألقًا وضياء، وتمَّ تحقق الشبه بين الطرفين، ومن ذلك أيضًا قول ابن المعتز يصف طلوع الفجر:

كأن وضوء الصبح يستعجل الدجى

نطير غرابًا ذا قوادم جواني

فهنا شبه سواد الليل وقد بدت في جوانبه لمع مضيئة من نور الفجر بغراب أسود في أطرف جناحيه ريشات بيض، تظهر لامعة في سواده، ووجه الشبه هو الهيئة المكونة من اجتماع البياض والسواد، وأن السواد أخذ يتبدد في عجلة أمام البياض الذي انتشر في حواشيه وجوانبه.

وقد تخيل الشاعر أن ضوء الصبح يسوق ظلام الليل، ويستعجله ولما لم يجد نظير ذلك في الغراب أضاف إلى صفته أنه كان حبيسًا في يدي قانص ثم أطير، فهو يتابع طيرانه ويجد فيه، وحقق ابن المعتز بهذه الإضافة الشبه كاملًا بين الطرفين، ولو أنه اكتفى بذكر الغراب وبياض قوادمه، ولم يجعله طائرًا، أو جعله طائرًا من تلقاء نفسه لا عن انزعاج؛ لاختلَّ التشبيه، ولما كان لقوله يستعجل الدجى نظير في المشبه به.

ص: 118

هذا وتختلف مرتبة التفصيل في وجه الشبه باختلاف الأمور المرعية، والصفات المعتبرة في الطرفين، فأدنى مراتبه ما رُوعي فيه وصف واحد، كتشبيه البنفسج مثلًا بأوائل النار في أطراف كبريت، بجامع الحمرة الصافية التي لا يشوبها لون آخر، وأعلى من هذا ما روعي فيه أمران كاجتماع البياض والسواد في تشبيه غُرة الفرس وسط وجهه الأسود بإشراق الصبح في جوانب الليل، وما روعي فيه ثلاثة أمور أعلى مما روعي فيه أمران، وهكذا حتى تبلغ الغاية في نحو قول الله تعالى:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (يونس: 24).

فقد اجتمعت في هذه الآية المباركة عشر جمل في جانب المشبه به، كل جملة منها تفيد وصفًا لا تفيده الأخرى، وهذه الأوصاف قد تضامت والتحمت؛ لأداء وجه الشبه بين الطرفين، وصارت كأنها جملة واحدة؛ بحيث لو حُذف منها شيء؛ لأخلَّ ذلك الحذف بالمغزى من التشبيه، وما يلاحظ في الآية الكريمة أن هذه الجمل المتتابعة قد وقعت صفة لاسم نكرة، هي "ما" وقد ولي أداة التشبيه.

ومن هذه المراتب العالية في تحصيل وجه الشبه، وفي وجود تفصيلات في وجه الشبه قول النبي صلى الله عليه وسلم ((الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة))، فجملة ((لا تجد فيها راحلة)) وقعت صفة ((لإبل مائة))، والمراد أن الكامل في الناس قليل، فكل مائة لا تجد فيهم واحدًا يوصف بالكمال، وقد يلي أداة التشبيه اسم موصول، فتقع الجملة بعده صلة له كقوله تعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17)، أو اسم معرفة غير موصول، فتكون الجملة بعده مستأنفة جوابًا لسؤال مقدر، وهو ما يسمى لدى

ص: 119

البلاغيين بشبه كمال الاتصال، مثل قوله تعالى مثلًا {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} (العنكبوت: 41).

فجملة {اتَّخَذَتْ بَيْتًا} وقعت جوابًا لسؤال مسار تقديره ما حالها، وسواء ولي الأداة اسم نكرة أو معرفة موصول، أو غير موصول، فإن وجه الشبه هيئة تركيبية منتزعة من مجموع الجمل الواقعة بعد الاسم، ولا يمكن أن يكون هذا الاسم هو المشبه به؛ لاستحالة استقلاله بالدلالة على المقصود من التشبيه بدون الجمل المذكورة بعده، وإنما احتيج إليه ليكون ركيزة تعتمد عليها تلك الجمل المتتالية التي يتكون منها المشبه به.

وإنما تُعدُّ التشبيهات البعيدة الغريبة في الحقيقة من أبلغ التشبيهات، وألطفها، وأكثرها تأثيرًا في النفس؛ لأنها تحتاج -كما قلنا- إلى إعمال الفكر، وإطالة النظر في أحوال الطرفين، والتفتيش في صفاتهما للوقوف على وجه الشبه بينهما، والشيء إذا نيل بعد طلب وتفكير طويل؛ يكون أوقع في النفس، وأشد تأثيرًا، وألصق في الذهن وأثبت.

وثمة وسائل أخرى للتصرف في التشبيه القريب حتى يكون تشبيهًا بعيدًا غريبًا، من هذه الوسائل أن يثبت للمشبه به صفة لا يتأتى وصفه بها، ثم ينتزعها منه، ويبني على انتزاعها تصوير المشبه على المشبه به، مثل قول المتنبي:

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا

إلا بوجه ليس فيه حياء

فتشبيه الوجه بالشمس تشبيه قريب مبتذل، لكن المتنبي تصرف فيه بجعله الحياء صفة من صفات الشمس، ثم تبعها منها، وجعل الشمس تفقد حياءها بجرأتها على الظهور أمام الممدوح، وهذا التصرف أكسب التشبيه غرابة، وأزال عنه صفة الابتذال والقرب.

ص: 120

ومن وسائل تحويل التشبيه القريب إلى بعيد أن يضيف البليغ، أو الشاعر إلى التشبيه ما يفيد تساوي الطرفين في وجه الشبه؛ بحيث لا نستطيع أن نُحدِّد أيهما مشبه، وأيهما مشبه به، كقول أبي تمام مثلًا:

فردت علينا الشمس والليل راغم

بشمس لهم من جانب الخدر تطلع

فو الله ما أدري أأحلام نائم

ألمت بنا أم كان في الركب يوشع

فهنا استعار لفظ الشمس لحبيبته الحسناء، فهي إذن استعارة مبنية على تشبيه الحسناء بالشمس، وتشبيه الحسان أو وجوههن بالشمس تشبيه قريب، فصيره غريبًا بما أضافه إليه من تساؤلات تسوِّي بين الطرفين؛ مبالغة في إضاءة وجه الحبيبة التي بدت من جانب الخدر، فبددت ظلام الليل، وبدت جوانب الأفق مضيئة ساطعة، وعندئذٍ تعجب وتساءل في حيرة أهذا الذي أرى حلمًا، أم وجه الحبيبة أزاح ظلمة الليل، أم كان يوشع عليه السلام في ركب القوم؛ فرد بدعائه الشمس بعد مغيبها هذا التشكك، وتلك التساؤلات سوَّت بين الطرفين، وحولت التشبيه من قريب مبتذل إلى بعيد غريب.

من وسائل تحويل التشبيه إلى بعيد التشبيه المشروط أن يقيد المشبه أو المشبه به بقيد يبرز فضل المشبه على المشبه به، وذلك كالتقييد بأسلوب الشرط، أو الاستثناء، أو الاستدراك من ذلك مثلًا قول شاعر:

عزماته مثل النجوم ثواقب

لو لم يكن للثاقبات أفول

فهنا شبه عزائم الممدوح بالنجوم التي تثقب الظلام وتبدده، وتشبيه العزائم بالنجوم قريب مبتذل، فصيره الشاعر بهذا الشرط بعيدًا غريبًا؛ إذ جعل العزائم تفوق النجوم وتفضلها؛ لأنها نافذة الأثر على الدوام، والنجوم أثرها مقصور على وقت طلوعها دون وقت أفولها، ومن ذلك قول آخر:

ص: 121

مها الوحش إلا أن هاتا أوانس

قنا الخط إلا أن تلك زوابل

فهنا شبه النساء ببقر الوحش في جمال العيون، وهو تشبيه قريب مبتذل، وكذلك تشبيههنََّ بالرماح الخطية في اعتدال القامة، لكنه أضاف هذا الشرط الاستثناء فحول التشبيهين إلى تشبيهات غريبة، ومما جاء كذلك بأسلوب الاستدراك:

ألا يا رياض الحزن من أبرك الحمى

نسيمك مسروق ووصفك منتحل

حكيت أبا سعد فنشرك نشره

ولكن له صدق الهوى ولك الملل

من ذلك أيضًا قلب التشبيه، كما سبق، وأن ذكرنا في بيت البحتري:

في طلعة البدر شيء من محاسنها

وللقضيب نصيب من تثنيها

كذلك من وسائل تحويل التشبيه القريب إلى تشبيه بعيد غريب الجمع بين عدة تشبيهات؛ حتى يخرج التشبيه عن الابتذال، فتُجمع هذه التشبيهات، وكلها تدور في نطاق واحد، كما جاء في قول البحتري مثلا:

كأنما يقسم عن لؤلؤ

منضدد أو برد أو أقاح

فقد شبه ثغر المرأة المبتسم باللؤلؤ المنظوم، والبرد، والأقاح، وبهذا الجمع تحول التشبيه إلى الغرابة والبعد، وكذلك قول امرئ القيس:

له أيطلى ظبي وساقا نعامة

وإرخاء سرحان وتقرير تتفلي

فشبه خاصرتي جواده بخاصرتي الظبي في الضمور، وشبه ساقيه أيضًا بساقي النعامة في الصلابة والمتانة، وشبه جريه بإرخاء السرحان في السهولة واللين، وشبه عدوه أيضًا في سرعة بتقريب ولد الثعلب، وكلها تشبيهات تدور حول الفرس؛ فصارت بهذا الجمع بعيدة غريبة، وازدادت لطفًا وحسنًا.

وجزاكم الله خيرا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 122