الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما كنت أحسب أن الدهر يمهلني
…
حتى أرى أحدًا يهجوه لا أحد
فقد استعار الأسد للجبان استعارة عنادية تمليحية؛ إذ الجامع وهو الشجاعة موجودة في الأسد حقيقة وفي الجبان تنزيلًا. من ذلك أيضًا قول الآخر:
سليمان ميمون النقيبة حازم
…
ولكنه وقفٌ عليه الهزائم
فقد استعار الهزائم للانتصارات استعارة عنادية تمليحية؛ إذ مراد الشاعر أن سليمان لا يحزم أمرًا، ولا يحرز نصرًا، ولا يتحقق على يديه أدنى خير.
الاستعارة المطلقة، والمجردة، والمرشحة
كما أن الاستعارة تنقسم -وهذه من ضمن التقسيمات التفريعية- إلى مطلقة، ومجردة، ومرشحة، وذلك باعتبار ذكر الملائم لأحد الطرفين وعدم ذكره.
أما الاستعارة المطلقة: فهي التي لم تُقترن بما يلائم المستعار له أو المستعار منه، أو اقترنت بما يلائمهما معًا كقولنا: طلع البدر من جانب الخدر، تريد المرأة الحسناء؛ فقد استعير البدر لها، ولم يذكر في الجملة ملائم، لا للمستعار له ولا للمستعار منه. وأما قولنا من جانب الخدر فهي قرينة للاستعارة، ولا يعد ملائمًا للمستعار له.
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11) فقد استعير الطغيان للزيادة بجامع مجاوزة الحد في كلٍّ وفقط، ولا يوجد في الآية ملائم لأحدهم، ونقول مثلًا: رأيت بحرًا يتكلم نستعير البحر للعالم، ولا ملائم لأحدهما في الجملة. أما كلمة يتكلم فقرينة للاستعارة، وليس ملائمًا، ومما اقترنت فيه الاستعارة بملائم لكل منهما قول كثير عزة:
رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر
…
ظواهر جلدي وهو للقلب جارح
فقد استعير السهم للنظرة الثاقبة بجامع قوة التأثير، وذُكر في البيت ملائم للمستعار منه وهو المشبه به، وهي كلمة ريشة، وملائم للمستعار له الذي هو المشبه وهو كلمة الكحل، ومن ذلك قول زهير وقد سبق:
لدى أسد شاك السلاح مقذف
…
له لبد أظافره لم تقلم
استعير الأسد للبطل الشجاع، وذكر ملائم للبطل وهو حمل السلاح، وملائم للأسد، وهو اللبد والأظافر. أما كلمة مقذف فإذا أريد به أنه يُقذف به في الحروب لخبرته وتجاربه؛ كان من ملائمات البطل، وإذا أريد به أنه ضخم الجثة مليء باللحم، وهو من ملائمات الأسد.
ومن ذلك قولنا: "رأيت غيثًا غزيرًا يعطي باليمين وباليسار" فغزيرًا يلائم الغيث الذي هو المستعار منه، ويعطي باليمين وباليسار يلائم الرجل الجواد المستعار له.
أما الاستعارة المجردة: عكس المرشحة، المجردة هي التي اقترنت بما يلائم المستعار له وهو المشبه، وذلك بعد استيفاء القرينة، كما في قول البحتري مثل:
يؤدون التحية من بعيد
…
إلى قمر من الإيوان باد
فالإيوان الذي هو القصر كلمة بادٍ أي: ظاهر، فهنا استعير القمر للإنسان الجميل، ثم وُصف بما يلائم المستعار له وهو قوله من الإيوان باد أي: مطلّ، بمعنى أنه شبه الإنسان الجميل بالقمر، وذكر ما يلائم المشبه وهو الإنسان، وذلك بقوله "من الإيوان"، إذ القمر لا يتأتى له أن ينظر من القصر، أو من الإيوان.
وقد استوفت الاستعارة قرينتها قبل هذا الوصف بقوله "يؤدون التحية من بعيد"، من ذلك قول الآخر:
وعد البدر بالزيارة ليلًا
…
فإذا ما وفى قضيت نذوري
فهنا استعار البدر للمحبوبة والقرينة قوله "وعد"، ثم ذكر ما يلائم المستعار له من الزيارة والوفاء بها على سبيل التجريد، فهي استعارة مجردة، من ذلك قولنا: هذا عالم يُستضاء برأيه في مواجهة المشكلات وحلها، وهنا استعار المصباح المضيء للرأي الصائب، ثم حُذف المستعار منه وهو المصباح، ورمز له بلازمه، وهي كلمة يستضاء على سبيل الاستعارة المكنية.
وقد ذكر في العبارة ما يلائم المستعار له، وهو كلمة الرأي، وذلك بقوله في مواجهة المشكلات وحلها بمعنى: أنه شبه الرأي الصائب بالمصباح المضيء، ثم حذف المشبه به وهو المصباح، وذكر ما يلائم هذا المشبه المذكور، وهو قوله في مواجهة المشكلات.
ونظير ذلك قول القائل: "رحم الله امرأ ألجم نفسه بإبعادها عن شهواتها" حيث استعير الجواد للنفس استعارة مكنية، والقرينة إضاف الإلجام للنفس، ثم ذُكر ملائم للمستعار له وهو إبعادها عن شهواتها، بمعنى: أنه شبه النفس الأبية بالفرس المدبوح الجماح، ثم حذف المشبه به على سبيل المكنية، وذكر ما يلائم المشبه المذكور، وهو المستعار له، وذلك بقوله إبعادها عن شهواتها، من ذلك قول كثير:
غمر الرداء إذ تبسم ضاحكًا
…
غلقت لضحكته رقاب المال
فهنا استعار الرداء للمعروف بجامع أن كلًّا منهما يصون صاحبه والقرينة ما ذكره من المال، وتبسم الممدوح عند الجود به، وقد ذُكر في البيت ملائم للمستعار له، وهو إضافة غمر بمعنى كثير إلى الرداء، فيكون بذلك قد شبه الممدوح في معروفه وجوده بالرداء بجامع الصون، ثم حذف المشبه على سبيل التصريحية، وذكر ما يلائمه وهو إضافة غمر بمعنى كثير إلى الرداء؛ لأن الكثرة تلائم المعروف.
من ذلك قول الله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} (النحل: 112) فهنا استعير اللباس للأحداث والمصائب التي حلَّت بأهل القرية، أو لما علا وجوههم وأجسادهم من صفرة وهزال، وقد ذُكر في الآية الإذاقة بمعنى الإصابة، وهي من ملائمات المستعار له؛ فالإذاقة بمعنى الإصابة تلائم الأحداث والمصائب، وما علا الوجوه من صفرة، ولا تلائم اللباس.
من هذه الاستعارات التي هي باعتبار الملائم هي الاستعارة المرشحة، وهي التي قرنت بما يلائم المستعار منه، وهو المشبه بعد استيفاء القرينة، كما في قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16)، فهنا استعير الشراء للاختيار والاستبدال، ثم ذُكر الربح والتجارة وهما من ملاءمات المستعار منه، وذلك مما يقوي الاستعارة ويحقق المبالغة في التصفير والتخييل، ودعوى دخول المستعار له في جنس المستعار منه، وكأن الكلام على الحقيقة، ولذلك سميت بالاستعارة المرشحة؛ إذ الترشيح معناه في اللغة التقوية، ومنها قول المتنبي:
رميتهم ببحر من حديد
…
له في البر خلفهم عباب
فهنا استعير البحر والمستعار منه أو المشبه به للجيش القوي، الذي هو المشبه، والقرينة قوله "من حديد"، ثم ذكر ما يلائم المستعار منه وهو العباب والبر، فخُيِّل للسامع أن المراد هو البحر حقيقة، بمعنى: أنه شبه الجيش القوي بالبحر، ثم حذف المشبه به على سبيل التصريحية، وذكر ما يلائم المشبه به أي: المستعار منه، وذلك بقوله العباب والبر، ومن ذلك قول الشاعر:
إذا ما الدهر جر على أناس
…
كلاكله أناخ بآخرين
وهن استعار الجمل للدهر استعارة مكنية، وتم استيفاء قرينتها بإضافة لازم المستعار منه الذي هو الجر والكلاكل إلى المستعار له، وهو الدهر، ثم ذكر جملة أناخ بآخرين، وهي من ملائمات المستعار منه، ومن ذلك قول الآخر:
ينازعني رداء عبد عمرو
…
رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لي الشطر الذي ملكت يميني
…
ودونك فاعتجر منه بشطري
أعتجر من الاعتجار وهو الاعتمام، ويقصد فاعتجر منه بشطري أي: بصدر السيف، فهنا استعار الرداء للسيف بجامع أن كلًّا منهما يصون صاحبه، وتم استيفاء القرينة بقوله:"لي الشطر الذي ملكت يميني"؛ لأن ما يكون باليمين هو السيف الذي يحارب به لا الرداء، ثم ذكر الاعتجار وهو ما يلائم المستعار منه، وهو الرداء، ولطالما أدركت معي أن الاستعارة مبنيَّة على تناسي التشبيه وادِّعاء دخول المشبه في جنس المشبه به؛ فقد وضح لك أن الترشيح أبلغ من التجريد ومن الإطلاق؛ لأن التناسي فيه أقوى وأتم، ودعوى الاتحاد فيه أظهر وأوضح، صار المشبه نفس المشبه به، وصرنا نصفه بأوصافه، ونتبعه بملائماته، فعندما يقول أبو تمام:
ويصعد حتى يظن الجهول
…
بأن له حاجة في السماء
نراه قد أمعن في تناسي المشبه، إذ جعل الصعود المعنوي والارتقاء إلى مراتب المجد صعودًا حسيًّا، وبالغ في ذلك بذكر ما يُلائم المشبه به؛ فجعل الجاهل الذي لا يعرف همم الممدوح يظن أن له حاجة في السماء، فهو يصعد لينال تلك الحاجة، وعليه قول بشار:
أتتني الشمس زائرة
…
ولم تك تبرح الفلك
حيث استعيرت الشمس للمحبوبة، ثم أمعن في تناسي التشبيه، وادَّعى أنها غادرت مكانها في السماء، وأقبلت إليه زائرة، ولم تكن قبل ذلك تبرح الفلك، فبنى الكلام على أنها شمس حقيقية، ولهذا صحَّ التعجب في قول المتنبي:
كبرت حول ديارهم لما بدت
…
منها الشموس وليس فيها المشرق