الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقسيم الكناية باعتبار القرب والبعد بين المعنيين
هذا، وتنقسم الكناية باعتبار القرب والبعد بين المعنيين -المكنى عنه والمكنى به- إلى قسمين: كناية قريبة وكناية بعيدة.
فالكناية القريبة: هي ما تقارب فيها المعنيان، بحيث يكون الانتقال من المعنى المكني به إلى المعنى المكني عنه بلا واسطة، كالانتقال من عض الإصبع -أو تقليب الكفين- إلى الندم، ومن طول النجاد إلى طول القامة، ومن بعد مهوى القرط إلى طول الجيد، ومن التنشئة في الحلية إلى المرأة في قوله عز وجل:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} وكالانتقال من كون السماحة والمروءة والندى في قبة مضروبة على ابن الحشرج إلى نسبة هذه الصفات إليه في قول زياد -الذي سبق ذكره-:
إن السماحة والمروءة والندى
…
في قبة ضربت على ابن الحشرج
فهذه الكنايات كما هو ملاحظ قريبة، وهي قد تكون واضحة لا تحتاج في إدراكها إلى نظر وتفكر كما في الشواهد المذكورة، وقد تكون خفية حيث تحتاج في إدراكها إلى شيء من التأمل والنظر؛ لكون التلازم بين المعنيين المكنى به والمكنى عنه مبنيًّا على عرف لم يبلغ حد الشهرة العامة؛ وذلك كالانتقال من عرض القفا إلى صفة البَلَه، فإن تجاوز الحد في عرض القفا من لوازم البله، وكالانتقال من ضخامة الرأس إلى الغباء، ومن صغرها إلى الذكاء، وكالانتقال من أداء التحية بالريحان يوم السباسب إلى رِقة الأمزجة وحسن الذوق والمحافظة على التقاليد.
أما الكناية البعيدة: فهي ما تباعد فيها المعنيان، بحيث يصير الانتقال من المعنى المكني به إلى المعنى المكني عنه لا يتم إلا بواسطة أو بِعِدة وسائط، كالكنايتين المذكورتين في الشطر الأول من بيت النابغة الذي يقول فيه:
رقاق النعال طيب حُجزاتهم
…
يحيون بالريحان يوم السباسب
فالانتقال هنا من رقة النعال إلى الترف والسيادة، ومن طيب الحجزات إلى العفة، من الكنايات البعيدة؛ لاحتياج هذا الانتقال إلى وسائط، فرقة النعال تستلزم عدم المشي بها، وعدمُ مشيهم بها يستلزم ركوب الخيل، وركوبهم الخيل يستلزم الشرف والسيادة، وكذا طيب الحجزات يستلزم ابتعادهم عن الفواحش والموبقات، وابتعادهم عنها يستلزم العفة، فهما إذن كنايتان بعيدتان.
وكذا الانتقال من النجاة من اللوم إلى العفة بواسطة النجاة من موجبات اللوم، أي: الابتعاد عن الفواحش والموبقات في قول الشاعر -الذي سبق ذكره-:
يبيت بمنجاة من اللوم بيتها
…
إذا ما بيوت بالملامة حلت
فالنجاة من اللوم تستلزم النجاة من موجباته، والنجاة من موجباته تستلزم العفة، وكذا الانتقال من كثرة الرماد إلى صفة الكرم في قولنا: فلان كثير الرماد، إذ ينتقل الذهن والفكر من كثرة الرماد إلى صفة الكرم بعدة وسائط، فكثرة الرماد تستلزم كثرة إيقاد النار تحت القدور، وتلك تستلزم كثرة الطبخ، وهذه تستلزم كثرة الأَكَلة، وكثرتهم تستلزم كثرة الضيوف، وهذا دليل الكرم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.