الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحوال وجه الشبه
نتناول الآن أحوال وجه الشبه:
لوجه الشبه أقسام باعتبار الحسية والعقلية أيضًا، الإفراد والتركيب والتعدد، وأخرى باعتبار ذكره وحذفه، وثالثة باعتبار ظهوره وخفائه.
فوجه الشبه باعتبار الحسية والعقلية، والإفراد والتركيب والتعدد له صور يأتي عليها، هذه الصورة تنحصر في سبع صور، فهو قد يأتي مفردًا حسيًّا، قد يأتي مفردًا عقليًّا، يأتي مركبًا حسيًّا، قد يأتي مركبًا عقليًّا، وقد يأتي متعددًا حسيًّا، وقد يأتي متعددًا عقليًّا، وقد يأتي متعددًا مختلفًا بعضه حسي وبعضه عقلي، وهذه ما تقتضيه القسمة العقلية.
هذه الأقسام ليست؟ وإنما هي فقط للتدريب ولتعليم كيف نُلحق الصورة عندما يأتي وجه الشبه بأي من هذه الأقسام، أو الأنواع، ما كان وجه الشبه فيه حسيًّا كمثل النعومة في تشبيه الجسم بالحرير، وكالإشراق في تشبيه الوجه بالبدر، وكالرائحة في تشبيه الرائحة الطيبة بالمسك، إلى غير ذلك.
العقلية تأتي مثلًا كالشجاعة في تشبيه الرجل بالأسد، هنا وجه الشبه عقلي، والكرم مثلًا في تشبيه رجل بحاتم، والذكاء في تشبيه الذكي بإياس، والحلم في تشبيه الرجل الحليم بأحنف، كان يُضرب به المثل في ذلك، ونأخذ مزيدًا من الأمثلة التي فيها وجه الشبه يكون مفردًا حسيًّا:
مثلًا في قول الله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الرحمن: 24)، فهنا شبه السفن الجارية في البحر بالجبال، ووجه الشبه الضخامة في كل، فوجه الشبه هنا واحد حسي، وكذا طرفا
التشبيه حسيان مفردان، الذي يعنينا هنا هو وجه الشبه، حسي مفرد، من ذلك مثلًا التشبيه الخد بالورد، الوجه الشبه الحمرة، واحد مفرد، وحسي كذلك تشبيه الوجه بالبدر، وجه الشبه الإشراق مفرد حسي، كذلك مثلًا عندما نشبه البشرة بالحرير.
إذن فوجه الشبه هو لين الملمس مفرد حسي، كذلك مثلًا عندما نشبه طيب الرائحة في تشبيه النكهة بالعنبر، وجه الشبه وهو طيب الرائحة، أيضًا مفرد حسي.
هنا سؤال ممن ينتزع وجه الشبه الواحد الحسي، وجه الشبه الواحد الحسي، ينتزع من طرفين مفردين كما في الأمثلة التي سبق أن ذكرناها، وهذا هو الغالب أن يكون هذان الطرفان حسيين، كما في الأمثلة التي ذكرناها، ولا ينتزع من طرف عقلي إلا بتأويل وتخييل، كما في البيت الذي ذكرناه.
وأرض كأخلاق الكرام قطعتها
…
وقد كحل الليل السماك فأبصر
فالمشبه في البيت مفرد حسي وهو الأرض، والمشبه به مفرد عقلي وهو أخلاق الكرام، وقد جمع الشاعر بينهما في وجه شبه حسي، وهو السعة أو الامتداد والانبساط، لكن هذا الوجه موجود في المشبه الحسي على جهة التحقيق، وموجود في المشبه به العقلي على جهة التخييل والتأويل، هذا هو القسم الأول من التقسيمة العقلية في أقسام وجه الشبه، أن يأتي وجه الشبه مفردًا حسيًّا.
قد يأتي وجه الشبه مفردًا عقليًّا، مثلًا عندما نقول: أصحاب النبي كالنجوم، نقول ذلك؛ لأن الحديث الذي ورد ((أصحابي كالنجوم)) فيه كلام عندما نقول: أصحاب النبي كالنجوم بأيهم اقتضينا، اقتفينا، أو اهتدينا.
هنا انتزع وجه الشبه، وهو مطلق الاهتداء من طرفين مفردين حسيين، وهما الصحابة والنجوم، ومن ذلك انتزاع أيضًا الشجاعة من الرجل الشجاع، والأسد في قولنا هذا الرجل كالأسد، فالوجه في المثالين وهما الاهتداء والشجاعة واحد وعقلي، كما ينتزع وجه الشبه من المفرد العقلي من طرفين مفردين عقليين.
مثلًا نقول: العلم كالحياة، فوجه الشبه وهو جهة الإدراك مفرد عقلي، وقد انتزع من طرفين مفردين عقليين، ممكن أيضًا وجه الشبه المفرد العقلي ينتزع من طرفين مختلفين كانتزاع الاغتيال مثلًا من المنية والسبع، عند تشبيه هنا المنية بالأسد، فالمشبه وهو المنية عقلي والمشبه به وهو الأسد حسي، وقد انتزع منهما وجه الشبه المفرد العقلي، وهو الاغتيال أيًّا ما كان، فكل هذه صور تدخل في وجه الشبه المفرد العقلي.
يأتي القسم الثالث: وهو وجه الشبه المركب الحسي، لأننا قلنا: إن وجه الشبه له سبع صور، ذكرنا المفرد الحسي، والمفرد العقلي، نتكلم عن المركب الحسي، فمثلًا عندما يقول الشاعر:
وكأن النجوم بين دجاها
…
سنن لاح بينهن ابتداع
نجد أن وجه الشبه -وقد ذكرنا ذلك من قبل- هو الهيئة الحاصلة من وجود أشياء مشرقة مضيئة في جوانب شيء مظلم، فهنا قد انتزع الوجه المركب الحسي من طرفين مركبين، ومثلًا قول الشاعر:
وسقط كعين الديك عاورت صاحبي
…
أباها وهيئنا لموقعها وقرا
فالسقط: هو النار الساقطة من الزند، وهي تنزل منه، ووسطها أسود، والعرب كانوا يضعون العودين أحدهما أسفل وأعلاهما أعلى، ويسمى الأعلى ذكر، والأسفل الأنثى، فيقرض فيها كلاهما قرضًا، ويجر فيها عود يُسمى أبًا، فإذا طال الزمن ولم تخرج النار تناوبوه حتى تخرج هذه النار على هيئة سقط كعين الديك، فالشاعر أخذ هذه اللقطة وجعل منها هذا البيت، فنجد في هذا البيت أن وجه الشبه وهو الهيئة المؤتلفة من اجتماع الحمرة، والشكل الكروي، وصغر الحجم مركب حسي، وقد انتزع من طرفين مفردين هما السقط، وهو ذاك الشرر
المنبعث من الزند، وعين الديك، ولا تنافي بين إفراد الطرفين وبين تركيب وجه الشبه؛ لأن هذا أمر يرجع إلى شاعر في طريقة صوغه للبيت الذي يريده.
من الممكن أن يكون المركب الحسي منتزع من طرفين مقيدين، كما جاء في قول الشاعر:
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى
…
كعنقود مُلَّاحية حين نور
ملاحية هذا هو العنب الأبيض في حبه طول.
كلمة نوَّر يعني: تفتح نوره وأدرك نضجه، والكاف كما نرى في كاف التشبيه في كلمة كعنقود، فوجه الشبه وهو الهيئة الحاصلة من تجمع أجسام بيض مستديرة صغيرة الحجم في مرأى العين، وإن كانت كبيرة في الواقع مجتمعة على كيفية مخصوصة، وهي أنها ليست تامة الالتصاق، ولا تامة الافتراق، هذا الوجه المتمثل في هذه الصورة التي ذكرناها، مركب حسي قد انتزع من طرفين مفردين مقيدين، هما نجم الثريا مقيدًا بكونه قد لاح في الصباح، وعنقود العنب مقيدًا بكونه عنقود ملاحية في حال إخراج النور، والتقيد لا ينافي الإفراد، كما سبق أن ذكرنا قد يكون وجه الشبه المركب الحسي منتزع من طرفين مركبين، كما في البيت الذي ذكرناه بيت بشار
كأن ترى النقع فوق رءوسنا
…
وأسيافنا ليل تهوى كواكبه
فوجه الشبه: وهو الهيئة الحاصلة من تهاوي أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار، متحركة في جوانب شيء مظلم، هذه الهيئة تمثل لوجه الشبه مركب حسي انتزع من طرفين مركبين حسيين، كذلك من الممكن أن ينتزع المركب الحسي من طرفين مختلفين، كما جاء في قول شاعر:
وكأن أجرام النجوم لوامعًا
…
درر نثرن على بساط أزرق
فوجه الشبه وهو الهيئة الحاصلة من تفرق أجسام متلألأة صغيرة المقدار، مستديرة الشكل على سطح جسم أزرق اللون، صافي الزرقة، هذه الصورة التي تمثل وجه
الشبه مركب حسي، وقد انتزع من طرفين مركبين حسيين يعني: كسابقه، كذلك قد يأتي وجه الشبه المركب الحسي من طرفين مختلفين مثلًا قول الشاعر:
وكأن محمر الشقيق إذا تصعد أو تصوب
…
أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد
شبه محمر الشقيق هو نوع من أنواع الزهور أتى بها النعمان في حديقته، وكان في خارج البلاد، واستقدمه حتى يزرع في مملكته محمر الشقيق، هذا هو المشبه، شبهه بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد، هذه هي صورة المشبه به.
نجد أن وجه الشبه -وهو الهيئة الحاصلة من اجتماع أشياء حمراء متحركة منصوبة على قائم أخضر، وهي موجودة طبعًا في كل من المشبه والمشبه به، نجدها مركب حسي، لكن هذه الصورة هي المركب الحسي والهيئة الحاصلة- انتزعت من طرفين مختلفين، المشبه مفرد وهو محمر الشقيق، والمشبه به من المركبات الخيالية، وهي الهيئة المكونة من أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد.
إذن نخلص من كل هذا إلى أن وجه الشبه المركب الحسي يأتي على صور متعددة، فقد ينتزع من طرفين مركبين، وقد ينتزع من طرفين مفردين، وقد ينتزع من طرفين مقيدين، وقد ينتزع من طرفين مركبين، وقد ينتزع من طرفين مختلفين.
نأتي إلى القسم الرابع من أقسام وجه الشبه: وهو المركب العقلي، وهو أن يكون وجه الشبه مركبًا عقليًّا مثل قول الله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الجمعة: 5)، فهنا شبهت الآية حال اليهود الذين حملوا التوراة، وحفظوها في صدورهم، ثم لم يعملوا بما
فيها، ولم يفهموا حقيقة مرماها، شبه هؤلاء بحال الحمار يحمل كتب العلم النافعة، ويتعب في حملها، وهو جاهل بحقيقة ما فيها، وجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من حرمان الانتفاع بأبلغ نافع، مع تحمل التعب في استصحابه، حبذا لو نحفظ مثل هذه الصيغ في المشبه والمشبه به ووجه الشبه؛ لأن لو قلنا مثلًا: أن الآية شبهت اليهود بالحمار نقول: إن هذا تشبيه خاطئ، لو قلنا: إن وجه الشبه مثلًا هو البلادة، هذا تشبيه خاطئ، أو حرمان الانتفاع هذا تشبيه خاطئ؛ إذن فلا بد من مراعاة كل جزء جاء في سورة المشبه، أو في صورة المشبه به، حتى ننتزع من كليهما وجه الشبه الذي يُمثل المعنى المشترك بين المشبه والمشبه به، وهو -كما قلنا في الآية- الهيئة الحاصلة من حرمان الانتفاع بأبلغ نافع، مع تحمل التعب في استصحابه.
وهو كما نرى مركب عقلي انتزع من عدة أمور، روعيت في الطرفين؛ حيث روعي حمل أشياء، وهذه الأشياء يُنتفع بها أكمل نفع، والحامل لها يتحمل التعب والمشقة في استصحابها، ولا يجني من وراء تعبه فائدة، كل هذه أمور رُوعيت في تحقيق وجه الشبه من وجه الشبه المركب العقلي.
قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} (النور: 39) فهنا نجد الآية شبهت حال الكفرة في جمعهم بين الكفر وأعمال البر التي يعملونها في الدنيا، ويحسبونها نافعة ومقبولة عند الله، ثم يرونها خاسرة محبطة يوم القيامة؛ لأنها لم تقترن بالإيمان الذي هو شرط قبولها، ولهذا صورة المشبه لو أي جزء من هذه الأجزاء سقط؛ إذن فقد اختلَّت صورة التشبيه، شبه هذه الصورة بماذا؟ بحال الظمآن يرى السراب من بعيد، فيحسبه ماء، فيروي ظمأه، فإذا بلغه لم يجده شيئًا، كل هذه صورة المشبه به.
أي جزء؛ اختلَّ أو سقط. إذن لا يمثل حقيقة التشبيه في الآية الكريمة،
ووجه الشبه بين هاتين الصورتين هو الهيئة العقلية الحاصلة من المنظر المطمع، مع المخبر الميئس يعني: الإنسان يطمع في شيء، فإذا جاءه يئس منه، ولم يجد معه شيئًا من مثل ذلك في وجه الشبه المركب العقلي ما جاء في قول ابن المعتز:
اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله
…
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
فهنا شبه حال الحاسد يهمله المحسود بالإعراض عنه حتى يموت كمدًا وغيظًا، شبه هذا بحال النار التي تمد بالحطب الذي يديم بقاءها، فتأكل بعضها بعضًا حتى تصير رمادًا، كل هذه صورة المشبه به، وجه الشبه بين هاتين الصورتين هو الهيئة العقلية الحاصلة من سرعة الفناء؛ لعدم الإمداد بما يسبب البقاء والحياة، هذه صورة أيضًا جاء وجه الشبه فيها مركبًا عقليًّا، من ذلك قول أبي تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
…
ما كان يُعرف طيب عَرف العود
فهنا شبه الفضيلة يتعرض لها الحاسد ليسترها ويغض من قيمتها، ويؤذي صاحبها، فيكون ذلك سببًا في ظهورها وشيوع أمرها، كل هذه صورة المشبه، شبه هذه الصورة أو الهيئة بحال العود مع النار، فإنها تظهر طيب رائحته، وتسبب انتشارها، فيعم النفع بها، وجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من ظهور فضل الشيء باتصاله بآخر شديد الضرر له، هذه صورة لوجه الشبه المركب العقلي.
الصورة الخامسة: أن يكون وجه الشبه متعدد حسي كتشبيه نهر دجلة بنهر النيل في طوله، واتساعه، وعذوبة مائه إلى آخره، وكتشبيه فاكهة بفاكهة أخرى في اللون والطعم والرائحة، فهنا نجد أن وجه الشبه متعدد
تعددًا حسيًّا، هناك وجه الشبه يمكن أن يأتي ويكون متعدد عقلي، كتشبيه الأنصار بالمهاجرين في قوة إيمانهم بالله، وفي محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وفي التفاني في نصرة الحق إلى غير ذلك، فهنا نجد أن وجه الشبه قد تعدد تعددًا عقليًّا. إن كل هذه الأمور لا تدرك بالحواس المحبة والإيمان والتفاني كل هذه أمور عقلية، لا تدرك بأي من الحواس.
الصورة الأخيرة في وجه الشبه: أن يكون متعددًا مختلفًا أن نشبه الرجل بالشمس في إشراق الوجه، وفي نباهة الشأن فإشراق الوجه هذا أمر حسي يرى، لكن نباهة الشأن هذا أمر عقلي لا يذكر، ولا يرى بأي من الحواس الخمسة.
لكن هنا يأتي سؤال التشبيه التمثيلي من أي هذه الأنواع؟
أولًا: يجب أن نعرف أن التشبيه التمثيلي، وهو متعلق بوجه الشبه قد اختلف في أمره على آراء متعددة، فعندنا رأي للإمام عبد القاهر، عندنا رأي للإمام السكاكي، وعندنا رأي للخطيب القزويني، وعندنا رأي أخير للزمخشري.
فالإمام عبد القاهر يرى أن التشبيه التمثيلي ما لا يكون الوجه فيه أمرًا بينًا بنفسه؛ بل يحتاج في تحصيله إلى ضرب من التأول والصرف عن الظاهر؛ لأن المشبه لم يشارك المشبه به في صفته الحقيقية، يتحقق ذلك فيما إذا كان وجه الشبه عقليًّا غير حقيقي.
كأن وجه الشبه العقلي غير الحقيقي، هذا هو الذي يمثل التمثيل، أو التشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر، فإذا كان وجه الشبه عقليًّا غير حقيقي أي: غير متقرر في ذات الموصوف يكون تشبيهًا تمثيليًّا، مثال ذلك مثلًا قولنا: هذه حجة كالشمس في الظهور، قد شبهت الحجة في قوة بيانها بالشمس من جهة ظهورها، هذه ظاهرة، وهذه ظاهرة، لكن هذا التشبيه لا يتم إلا بتأول، وذلك بأن نقول حقيقة ظهور الشمس أو غيرها من الأجسام ألا يكون دونها حجاب، ونحو مما يحول بين العين وبين رؤيتها، والشبهة التي تزال بالحجة والبرهان هي نظير الحجاب فيما يدرك بالعقول؛ لأنها تمنع القلب رؤية ما هي شبهة فيه، فإذا ارتفعت الشبهة قيل: هذا ظاهر كالشمس، فقد احتجنا في تحصيل الشبه بين الحجة وبين الشمس، وهو إزالة الحجاب في كل إلى مثل هذا التأويل، والصرف عن الظاهر مثاله أيضًا عند الإمام عبد القاهر.
قولنا: "كلام ألفاظه كالماء في السلاسة، وكالنسيم في الرقة، وكالعسل في الحلاوة": فالمراد أن اللفظ لا يستغلق، ولا يشتبه معناه، ولا يصعب الوقوف عليه، فليس بغريب، ولا وحشي، وليس في حروفه تكرير وتنافر يكد اللسان، فصار لذلك كالماء الذي يسوغ في الحلق، والنسيم الذي يسري في البدن، ويهدي إلى القلب روحًا ونشاطًا، وكالعسل أيضًا الذي يلذ طعمه، وتهش النفس له، ويميل الطبع إليه؛ فوجه الشبه إذن هو الاستحسان، وميل النفس الذي هو لازم من لوازم الحلاوة؛ إذن فنستطيع أن نقول: إن الإمام عبد القاهر سمى هذا اللون الذي يكون وجه الشبه فيه عقليًّا غير حقيقي غير مقرر في ذات الموصوف أسماه بالتشبيه التمثيلي. إذن خرج من ذلك كل ما كان عدا هذا.
فالتشبيه مثلًا ما كان وجه الشبه فيه بينًا لا يحتاج إلى تأويل، عند هذا لا يدخل في التشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر التشبيه مثلًا من جهة اللون، أو من جهة الهيئة، أو كمثل التشبيه بأن يجمع فيما يجمع بين شيئين فيما يدخل تحت الحواس، كل هذا يدخل في التشبيه الحسي، ومن ثَمَّ لا يدخل في التشبيه العقلي.
إذن باختصار فالتشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر هو ما كان وجه الشبه فيه عقليًّا غير حقيقي، يخرج من هذا كل ما كان حسيًّا، وكل ما كان عقليًّا، لكن يتعلق بالغرائز، والطباع، والأخلاق. فكل هذه تدخل في التشبيه غير التمثيلي.
إذن فالتشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر هو ما كان عقليًّا غير حقيقي كهذين المثالين الذي مثل بهما، وهو قوله هذه حجة كالشمس في
الظهور، وقوله كذلك كلام ألفاظه كالعسل في الحلاوة، هذا هو رأي الإمام عبد القاهر من أمثلة التشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر ما جاء في قول ابن المعتز:
اصبر على مضض الحسود
…
فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها
…
إن لم تجد ما تأكله
إذ المراد -كما قلنا- تشبيه حال الحاسد يهمله المحسود بالإعراض عنه حتى يموت كمدًا بحال النار، لا تمد بالحطب فيأكل بعضها بعضًا حتى تصير رمادًا، وجه الشبه هنا هيئة عقلية حاصلة من سرعة الفناء؛ لعدم الإمداد بما يسبب البقاء والحياة، وهذه صورة عقلية غير حقيقية. إذن فهي داخلة عند الإمام عبد القاهر في التشبيه التمثيلي.
الرأي الثاني في التشبيه التمثيلي هو رأي السكاكي: أن التشبيه التمثيلي هو ما كان وجه الشبه فيه مركبًا عقليًّا كقول الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17) فنجد أن وجه الشبه في الآية الكريمة -وهو تعاطي الأسباب المقربة لتحقيق الآمال حين ظهرت- دلائل النجاح، فانقلب الأمر، وجاء على عكس ما كانت تطمع إليه هذه الآمال، فوجه الشبه هنا هيئة عقلية انتزعت من أمور متعددة.
إذن فهذا هو رأي السكاكي: يرى أن هذه الهيئة العقلية هي التي تُمثِّل التشبيه التمثيلي، أيضًا ممكن أن يأتي مثل هذا عند السكاكي قول الله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الجمعة: 5) نجد أن وجه الشبه، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه، هذه هيئة مركبة عقلية.
إذن فهو داخل مع رأي السكاكي في أن هذا من التشبيه التمثيلي. الخطيب يرى أن التشبيه التمثيلي هو ما كان الوجه فيه مركبًا؛ سواء كان حسيًّا أو عقليًّا، هذا أعم من رأي السكاكي، فمقدار التفرقة عندهم بين التشبيه والتمثيل طبعًا، مع الخطيب جمهور البلاغيين. مدار التفرقة عندهم بين التشبيه
والتمثيل هو تركيب الوجه وإفراده، بغض النظر عن كونهما حسيًّا أو عقليًّا، فإذا كان وجه الشبه هيئة منتزعة من شيئين، أو عدة أشياء؛ كان التشبيه تمثيلًا، سواء كانت هذه الهيئة حسية أم عقلية، طبعًا يخرج من هذا كل ما كان وجه الشبه فيه مفردًا بنوعيه الحسي والعقلي.
الرأي الأخير وهو رأي الزمخشري، الرأي الرابع: لا يرى هناك فرقًا بين التشبيه والتمثيل، فكل تشبيه عنده تمثيل، وكل تمثيل عنده تشبيه.
خلاصة هذه الآراء في التفرقة بين التشبيه والتمثيل، والتي هي مبنية على إفراد وجه الشبه، أو تركيبه، وحسيته، أو عقليته: هو أنه إذا كان وجه الشبه مركبًا عقليًّا غير حقيقي، كما في قوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} (الجمعة: 5)، والآية الكريمة:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} (النور: 39)، وقول الشاعر:
اصبر على مضض الحسود
…
............................
كل هذا يعد تشبيهًا تمثيليًّا بإجماع الآراء؛ لأن وجه الشبه فيه مركبًا عقليًّا غير حقيقي، كذلك وجه الشبه لو كان مركبًا حسيًّا مثل قول بشار:
كأن مثار النقع
…
...........................
كأن أجرام النجوم
…
...........................
وسقط كعين الديك
…
...........................
إلى غير ذلك كان التشبيه تمثيليًّا عند الخطيب، وعند جمهور البلاغيين؛ لأن الوجه مركب حسي، إذا كان الوجه مركبًا عقليًّا غير حقيقي؛ كان تشبيهًا تمثيليًّا عند الإمام عبد القاهر، إذا كان مفردًا حسيًّا أو عقليًّا حقيقيًّا لكونه من الأخلاق والغرائز، فهذا بالإجماع عند جميع البلاغيين هو من قبيل التشبيه لا التمثيل.
إذن نخلص من كل هذا إلى أن مدار الحكم على الصورة بأنها من قبيل التمثيل، أو من قبيل التشبيه التمثيلي متوقف على وجه الشبه، فإن كان وجه الشبه مركبًا