الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس
(التشبيه (4))
بيان مكانة التشبيه من خلال نماذج من روائع التشبيه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
فنختم حديثنا عن هذا الضرب من الكلام، وهو فن التشبيه نختمه بالحديث عن عدة أمور هي من الأهمية بمكان، وتتلخص هذه الأمور، أو تلك العناصر في بيان مكانة التشبيه عند أهل العلم من الأدباء والبلغاء، وكذلك تقديم نماذج من روائع التشبيه تدلل على صدق ما ذهبوا إليه، ثم أخيرًا عن الفرق بين التشبيه والمجاز باعتبارهما من ألوان علم البيان، وتمهيدًا للانتقال بعد ذلك للحديث -بمشيئة الله تعالى- عن المجاز.
إن للتشبيه مكانته الخاصة من البلاغة، فهو على نحو ما وضح لنا بمسائل التعبير التصويرية، ودائمًا يستمد قوته من الخيال، كما أن الرسم والتصوير يعتمد على الأصباغ والأحجار التي تؤلف، وتصقل؛ لترمز إلى طبيعة جميلة مثلًا، أو فتنة ساحرة، أو عبقرية نادرة، نجد التشبيه يشاركهما في الإفصاح عن الفكرة، والتعبير عن العاطفة، بما فيه من عنصر الخيال الذي يقابل تلك الأصباغ والأحجار، فإذا قرأنا على سبيل المثال لأحمد شوقي يصف أحد خمائل الجزيرة:
وخميلة فوق الجزيرة مسَّها
…
ذهب الأصيل حواشيًا ومتونًا
كالتبر أفقًا والزبرجد ربوة
…
والمسك تربًا واللجين معينًا
نجد أنه لا فرق بين لوحة رُسمت عليها الخميلة وقت الأصيل، وبين هذين البيتين اللذين بعثا فيها الحياة والجمال، وعُرضت فيها الخميلة مزهرة ذات دِلٍّ وإعجاب، فاللوحة المرسومة تعرض المنظر دفعة واحدة، تعاون جميع عناصره على التأثير في النفس في لحظة واحدة؛ بينما التعبير التشبيهي في قول شوقي يعرض تلك العناصر متوالية في كل بيت جزءً جزءً، حتى ينتهي المنظر عرضًا وبيانًا.
والتشبيه إلى جانب ما ذكرنا أشبه بوسائل الإيضاح، ونماذج الدروس التي تسبق الشرح؛ فتذلل ما عسى أن يكون من عسر في الفهم، وتثبت معانيها في الذهن، هذا إلى خلابة البيان التي تنبعث منه انبعاث السحر، فتفعل فعلها العجيبة في النفس.
يقول ابن وهب في كتابه (البرهان في وجوه البيان): "وأما التشبيه فهو من أشرف كلام العرب، وفيه تكون الفطنة والبراعة عندهم، وكلما كان المشبه منهم في تشبيهه ألطف؛ كان بالشعر أعرف، وكلما كان بالمعنى أسبق؛ كان بالحذق أليق".
ويقول أبو هلال العسكري: "والتشبيه يزيد المعنى وضوحًا، ويكسبه تأكيدًا، ولهذا أطبق جميع المتكلمين من العرب والعجم عليه، ولم يستغنِ أحدٌ منهم عنه، وقد جاء عن القدماء وأهل الجاهلية ما يُستدل به على شرفه وموقعه من البلاغة".
وقال الزمخشري عند قول الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} (البقرة: 17): "ولضرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق؛ حتى يريك المتخيَّل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لصورة الجامح الأبي، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين أمثاله، وفشى ذلك في كلام الرسل والأنبياء والحكماء، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت: 43) ".
وقد بلغ به عبد القاهر القمة فقال: "إن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونُقلت من صورها الأصيلة إلى صورته؛ كساها أبهة وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، وقصر الطباع على أن تعطيها محبة وشرفًا؛ فإن كان مدحًا كان أبهى، وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهز للعطف وأسرع للإلف، وإن كان ذمًّا؛ كان مسُّه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحدُّه أحد، وإن كان حجاجًا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر، وإن كان افتخارًا كان شأوه أمد، وشرفه أجد، ولسانه ألد، وإن كان اعتذارًا كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسل، ولغرب الغضب أفل، وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر في التنبيه، والزجر، وأجدر بأن يحلي الغيابة، ويقصر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل. وهكذا الحكم إذا استقريت فنون القول وضروبه، وتتبعت أبوابه وشعوبه". هذا كلام ذكره الإمام عبد القاهر في (أسرار البلاغة).
والبليغ غالبًا ما يُؤثر أسلوب التشبيه لما يحتويه من فوائد تعود على الأسلوب من وضوح الفكرة والمبالغة فيها، والإيجاز للوصول إلى الغرض، فإما يفيد الوضوح والبيان قوله تعالى يصور حال المشركين، وهم خارجون من القبور في انتشار وكثرة {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} (المعارج: 43)، ومما يفيد المبالغة قوله تعالى:{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} (المرسلات: 32، 33) فشررها ضخم ضخامة القصر، وقيل القصر أعناق النخل، والجمال الصفر أي: السود، وإنما سميت صفرًا؛ لأنه يشوب سوادها شيء من الصفرة، وهي ضخامة غير معهودة ولا متعارفة للشرر.
ومما يفيد المبالغة قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (الحديد: 21) فسعة الجنة لا يدرك العقل مداها، ولا يعرف منتهاها، إما يفيد الإيجاز قوله تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29)، ومنه ما رُوي من أن الرشيد لما حج دخل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعث إلى الإمام مالك بن أنس، فلما قدم بين يديه سلم عليه وسلم عليه بالخلافة، "قال: يا مالك صف لي مكان أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا، فقال مالك: يا أمير المؤمنين مكانهما منه كمكان قبريهما من قبره، فقال الرشيد: شفيتني يا مالك". هكذا بهذه الكلمات القليلة التي قالها الإمام مالك أفاد معانٍ كبيرة وعظيمة أغنت هذه الكلمات القليلة عن ذكرها، إلى غير ذلك مما جاء على ألسنة أهل الأدب، والعلم، والفضل مما يضيق بذكره المقام.
وعندما نتناول غرابة التشبيه والمرجع فيه نحاول هنا أن نستزيد مما له شديد تعلق وصلة بأركان التشبيه التي سبق الإفاضة فيها، إذ لوحظ أن مرجع غرابة التشبيه وحسنه وبعده أحيانًا يعود إلى انتقاء الطرفين، أو أحدهما، وأحيانًا إلى اختيار الأداة على نحو ما رأينا في اختيار كأن في جواب ملكة سبأ، وأحيانًا يكون مرجعه إلى الغرض المسوق له الكلام، أو التشبيه كما سبق أن ذكرنا فيما يعود على المشبه من إمكان وجوده، أو من بيان حاله، وكذلك مما يعود على المشبه به من التشبيه المقلوب لكن غالبًا ما تكون هذه الغرابة في التشبيه مردُّها إلى وجه الشبه، ومرد تفاوت التشبيهات في الأخير بالذات واضحة جلية، وما كان منه على جهة الخصوص مركبًا حسيًّا راجع بالأساس إلى مقدرة الأديب، ونظرته الثاقبة في الهيئات والحركات التي يتكوَّن منها وجه الشبه، وإلى مقدار ما يبذله من جهد فكري في استقصاء صفات الطرفين، واستخلاص ما يُلائم منها لعقد المشابهة، ومراعاة الملائمة التامة بين اللون واللون، والشكل والشكل، والحجم
والحجم، والحركة والحركة؛ فمن يستطيع أن يبرز في وجه الشبه صفات عدة تجمع بين اللون والشكل، والمقدار والحجم، أو يضيف إلى الشكل واللون حركة معينة، أو ينوِّع في الحركة تنويعًا يضفي عليها جمالًا وروعة، من يستطع أن يصنع ذلك من الأدباء؛ يكون تشبيهه أبدع وأحسن، ونظرته أقوى وأثقب من الآخر الذي لا يستطيع فعل ذلك.
ومما كان التشبيه فيه هيئة منضم إليها بعض الصفات ما جاء في قول ابن المعتز:
والشمس كالمرآة في كفِّ الأشل
…
لما بدت طالعة فوق الجبل
فقد جمع الشاعر في وجه الشبه بين الحركة السريعة وما ينشأ عنها من تموُّج الضوء واضطرابه، وبين الإشراق والاستدارة، وذلك أنه نظر إلى الشمس عند طلوعها، وإلى المرآة في يد الأشل، فرأى فيهما إشراقًا واستدارة وحركة سريعة متصلة تتراءى لعين الناظر إلى كل منهما، وهذه الحركة قد أحدثت تموجًا في الضوء، واضطرابًا؛ فبينما تراه منبسطًا على سطح كل منهما، ويكاد يفيض من جوانبهما؛ إذا به ينقبض ويتجمع في وسطهما.
فالشاعر إذن قد استطاع أن يلائم ملائمة تامة بين ما في الطرفين من لون، وشكل، وحركة مضطربة متموجة، وأن يركب من ذلك وجه الشبه؛ فهو الهيئة الحاصلة من الإشراق والاستدارة والحركة السريعة، وما ينشأ عنها من تموج الضوء واضطرابه، ولو اقتصرنا في بناء وجه الشبه على الإشراق، أو الاستدارة، وقدرنا تجرُّده من هذه الحركة ما بلغ من الدقة والحسن هذا المبلغ، من ذلك قول المهلبي الوزير يصف الشمس أيضًا عند طلوعها:
والشمس من مشرقها قد بدت
…
مشرقة ليس لها حاجب
كأنها بوتقة أحميت
…
يجول فيها ذهب ذائب
فقد جمع الشاعر هنا في وجه الشبه بين اللون والاستدارة والحركة، وما تُحدثه في اللون من تموج واضطراب، فإن البوتقة -وهو وعاء صغير يذيب فيه الصائغ الذهب والفضة- إذا أحميت وذاب فيها الذهب تُشكِّل الذهب بشكلها في الاستدارة، ويتحرك هذا الذهب فيها بجملته تلك الحركة العجيبة، كأنه يهمُّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها؛ لما في خواصه من النعومة، ثم يعود فيهبط إلى داخل البوتقة، لما بين أجزائه من شدة التلاحم والاتصال، فهو لا يقع فيه غليان على الصفة التي تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء، ولذلك يتجمع لمعان الذهب في مركز دائرته كما تجمع الضوء في مركز المرآة المستديرة في تشبيه ابن المعتز.
ولولا مراعاة هذه الحركة في تركيب وجه الشبه، لما بدا التشبيه بهذه الصورة الرائعة، ومن بديع المركب الحسي ما يكون وجه الشبه فيه حركة مجردة من كل وصف، بأن يكون وجه الشبه مكونًا من هيئة الحركات الموجودة في الطرفين، دون ما نظر إلى ما عداها من سائر الصفات، ونذكر من ذلك مثلًا قول أحمد بن سليمان يصف روضة أو حديقة:
حفت بسرو كالقيان تلحفت
…
خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنها والريح جاء يميلها
…
تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل
فهنا شبه في البيت الأول شجر السُّرِّ في اعتداله وطول قامته، وخضرة أوراقه بالجواري الحسان، ذوات القوام المعتدل، وقد تلحفَّن بالحرير الأخضر، ووجه الشبه كما هو بيِّن هو الهيئة الحاصلة من وجود أجسام منتصبة معتدلة القامة، تحيط بها أشياء ذات لون أخضر، وفي البيت الثاني شبه حركة شجر السُّرِّ، والريح يميل فروعها بعضها إلى بعض، ثم تردت إلى أصل وضعها بحركة عاشقين
تقدما في خدر، يبغيان المعانقة، ثم يفاجآن بأعين الرقباء، فيرتدان إلى حيث كانا في سرعة الخائفين المنزعجين، وجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من تحرك جسمين حركتين متغايرتين إلى جهتين مختلفتين، تُحدث إحداهما تقارب الجسمين، وتُحدث الأخرى سرعة افتراقهما، وهي هيئة منتزعة من الحركة مجردة عن كل وصف آخر من صفات الطرفين.
وقد لاحظ الشاعر أن الحركة الثانية في المشبه أسرع من الحركة الأول؛ لأن حركة الشجرة المعتدلة في حال رجوعها أسرع لا محالة من حركتها في حال خروجها من مكانها بتأثير الريح، فحقق ذلك في المشبه به بقوله "ثم يمنعها الخجل"؛ لأن الحركة المسببة عن الخجل أسرع من الحركة الأخرى.
ومما يلاحظ أيضًا أن الشاعر لم يصرح بالمشبه به، فلم يقل كأن شجر السُّرِّ عاشق يبغي التعانق، بل طواه طيًّا في نظم الكلام؛ حتى خيَّل إلينا أن الشجر نفسه هو الذي أراد أن يتعانق، ثم رده الخجل. هذا كله مما زاد التشبيه حسنًا وإبداعًا، وأضفى عليه رونقًا وبهاء، وخد مثلًا قول امرئ القيس يصف جواده:
مكر مفر مقبل مدبر معًا
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
فقد شبه الجواد في حركته السريعة، ولين قياده وسرعة انحرافه، حيث يُرى في لحظة واحدة يكر ويفر، ويقبل ويدبر، فبينما نرى مؤخرته إذا بنا في نفس الوقت نرى صدره فجانبيه. شبه هذا كله بجلمود الصخر دفع به السيل من أعلى الجبل، فوقع الجلمود تحت تأثير قوتين: قوة الجاذبية الأرضية، وقوة دفع السيل له؛ ولذا فهو يتحرك حركات سريعة متواصلة؛ بحيث نرى جوانبه كلها بنظرة واحدة، وفي آن واحد، ووجه الشبه هو حركة الشيء يتجه إلى جهات متعددة في سرعة فائقة تكاد ترينا جوانبه كلها في وقت واحد، بنظرة واحدة.
ومن بديع هذا المركب الحسي ما كان وجه الشبه فيه هيئة ساكنة؛ خلافًا لسابقيه الهيئة المتحركة بلا أوصاف، والهيئة المتحركة بأوصاف، نرى في هذه الصورة وجه الشبه هيئة ساكنة مأخوذة من هيئة السكون الحاصلة بين الطرفين، أو مكونا من اجتماع الألوان المجردة عن الحركة فيهما، مثلًا قول المتنبي يصف إقعاء كلب الصيد يقول:
يقعي جلوس البدوي المصطلي
…
بأربع مجدولة لم تجدلِ
فقد شبه هيئة الكلب في إقعائه بهيئة البدوي المستدفئ بالنار، فإنه يجلس على إليتيه ورجليه مادًّا يديه إلى المدفئة، ووجه الشبه هو الهيئة المركبة الحاصلة من وقوع الأعضاء المختلفة في مواقعها الخاصة، وهذا الوجه منتزع من عدة أوضاع في الطرفين ساكنة لا حركة فيها.
ومن ذلك تصوير الشعراء هيئة المصلوب، ووقوع كل عضو من أعضائه في موقع خاص، يخيم السكون عليها، فامتدت هذه الهيئة وراحت بلا حركة تغير من صورتها، وقد اختلفت الصور التي أبرز الشعراء فيها هذه الهيئة، فمنها قول الأخيطل:
كأنه عاشق قد مدَّ صفحته
…
يوم الوداع إلى توديع مرتحل
أو قائم من نعاس فيه لوثته
…
مواصل لتمطيه من الكسل
فهنا شبه المصلوب في البيت الأول وهو قائم في الجذع، قد مالت عنقه إلى جانب كتفه، وفي وجهه صفرة الموت، شبهه بعاشق تجمدت حواسه في موقف الوداع، وقد مالت عنقه، وفي وجهه صفرة العشق. ووجه الشبه هو هيئة السكون الحاصلة من القامة المنتصبة، والأذرع الممتدة، والأعناق المائلة، والوجوه المصفرة، وقد طالت هذه الهيئة بلا حركة تغير من أوضاعها.
وفي البيت الثاني شبهه بقائم من نعاس لم ينشط بعدُ من لوثة النوع واسترخاء العضلات، فأخذ يتمطَّى مادًّا ذراعيه إلى جانبيه، وعنقه إلى جهة صدره، قد واصل تمطيه من شدة كسله فاستمرت هذه الهيئة، فوجه الشبه إذن هو هيئة السكون الحاصلة من القامة المنتصبة، والأعناق المائلة، والأذرع الممتدة مدًّا متواصلًا، من ذلك قول ابن الرومي:
كأن له في الجو حبلًا يبوعه
…
إذا ما انقضى حبل
أتيح له حبل
فهنا شبه المصلوب بصورة من يقيس الحبال بذراعيه، فهو يمدها إلى جانبي كتفيه ما دام يبوع -أي: يقيس بالباع. وقد حقق الشاعر في المشبه به هيئة السكون الدائم الذي رآها في المشبه، وذلك بقوله "إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل"، فالذي يبوع لا يحرك يديه؛ ليمرر الحبل بينهما، بل الحبل يُتاح ويمر بين يديه، فاليدان في حالة مد دائم بلا حركة، ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من القامة المنتصبة، والأذرع الممتدة مدًّا متواصلًا.
وبتأمل هذه التشبيهات نجد اختلافًا دقيقًا بين إبراز كل صورة منها لهيئة المصلوب وأعضائه الساكنة سكونًا متواصلًا؛ فالأخيطل في بيته الأول قد حقق الصفرة التي رآها في وجه المصلوب، وهي صفرة الموت بأن جعله كالعاشق الذي أصفر وجهه من أثر العشق، وحقق أيضًا دوام السكون بأن جعل مد الصفحة في يوم وداع ورحيل، فهو قد سكن وتحجر في مكانه لرحيل عشيقه عنه، ولكن فاته إتمام أعضاء الهيئة؛ فالمصلوب مُدَّت يداه، والعاشق قد مد يدًا واحدة، وفي بيته الثاني حقق هيئة المصلوب في القائم من النعاس بأن جعله متمطيًا مادًّا ذراعيه، ثم حقق دوام السكون لجعله التمطي متواصلًا، وبذكر سبب المواصلة، وهو اللوثة والكسل، ولكن فاته تحقيق صفرة الموت الموجودة في المصلوب.
وابن الرومي في تشبيهه قد حقق هيئة المصلوب في هيئة من يبوع الحبال، حقق أيضًا دوام سكون الأعضاء واستقرارها على هيئتها بقوله:"إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل"، وذكر كذلك السبب في إطالة مدِّ الذراعين، وهو بوع الحبال الكثيرة، فهي حبال في الجو كثيرة، وكلما انقضى حبل أُتيح له آخر، كما حقق تمام أعضاء الهيئة من مدِّ للذراعين، ومن ميل للعشق.
من رائع التشبيهات التي الوجه فيها مركبًا حسيًّا تلك التشبيهات المركبة التي جاء وجه الشبه فيها حسيًّا مكونًا من اختلاط الألوان المجردة من الحركة، كقول ابن المعتز يصف زهر النرجس:
كأن عيون النرجس الغض حولنا
…
مداهن ضر حشوهن عقيق
فقد شبه في هذا البيت زهر النرجس بمداهن ضر حشوهن عقيق، ووجه الشبه هو الهيئة المكونة من بياض قد التفَّ حول سواد أو حمرة، ويدخل في هذا الباب قوله يصف الثريا وسط الظلام:
وأرى الثريا في السماء كأنها
…
قدم تبدَّت من ثياب حداد
هنا شبه الثريا في السماء وسط ظلام الليل بقدم بدت من ثياب أسود، ووجه الشبه هو الهيئة المكونة من بياض ظهر في وسط سواد، ومنه قول غيره:
كأن أجرام النجوم لوامعًا
…
دُرَرٌ نثرن على بساط أزرق
فوجه الشبه في البيت هو الهيئة المكونة من أجرام بيضاء مضيئة صغيرة نثرت على صفحة شيء أزرق صافي الزرقة، فنحن إذن أمام إبداعات للشعراء جاء الوجه في كل تشبيه منها مركبًا حسيًّا، تارة جاء مكونًا من هيئة منضم إليها بعض الصفات، وتارة جاء مكونًا من هيئة مجردة من الصفات، وتارة ثالثة من هيئة ساكنة، وتارة رابعة من هيئة مكونة من اختلاط ألوان مجردة من الحركة، ومما هو شديد الصلة بما سبق من ضرورة تحرِّي عموم أجزاء، وأحوال وجه الشبه في صور التشبيه المركبة بالذات، ما جاء في قول كُثير عندما قال: