الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك الاستعارة في قوله تعالى مثلا: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11) في قوله عز وجل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} (الإسراء: 24) القرينة فيهما تمنع إرادة المعنى الأصلي للطغيان كما تمنع إرادة المعنى الحقيقي للذل، أما القرينة بأسلوب الكناية فإنه لا تمنع إرادة المعنى الأصلي للفظ، ففي الشواهد المتقدمة لا تمنع القرينة من أن يعض الظالم المتندم على يديه يوم القيامة، وأن يقلب صاحب الجنة التي صارت خاوية كفيه حال ندمه، وأن تجتمع الحمرة والخجل وكثرة الرماد والكرم، إلا إذا عرض عارض خارجي يمنع إرادة المعنى الأصلي في الكناية، فعندئذٍ يمتنع إرادته بسبب هذا العارض.
كما في قول الله تعالى مثلًا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وذلك على القول بأن الكاف أصلية، وأن الآية تفيد نفي المثلية عن الله عز وجل بطريق الكناية، إذ نفي مثل المثل يستلزم نفي المثل، ويمتنع في الآية إرادة المعنى الأصلي، وهذا الامتناع ليس بسبب القرينة، وإنما بسبب عارض خارجي، وهو إفادة ثبوت المِثل لله، وذلك محال. ويجوز جعل الكاف صلة زائدة، فلا يكون في الآية كناية حينئذٍ.
أقسام الكناية
وننتقل بعد ذلك للحديث عن أقسام الكناية:
الكناية تنقسم -كما هو متعارف عند علماء البلاغة- إلى كناية عن موصوف، كناية عن صفة، وكناية عن نسبة.
أما الكناية عن موصوف: فهي التي يصرح فيها بالصفة وبالنسبة ولا يصرح بالموصوف، أو هي تلك التي يكون المكني عنه ذاتًا ملازمةً للمعنى الذي تهتف به نفس الأديب، ومن تحديد
مفهوم الكناية عن الموصوف تدرك أن الصفة المكني بها عنه لا بد أن يكون لها ارتباط وثيق حتى كأنه مختص بها، فلا تنصرف عنه إلى غيره حتى يكون إطلاقها إيحاء به وإيماء إليه.
ومما أريد به الكناية من هذا النوع قول الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (الزخرف: 18) ففي سياق الحديث عن السلوك المغلوط لمن لم يدخل الإيمان قلبه، يكشف الحق عز وجل عن الخطأ البين في النظرة إلى الأنثى؛ قد أعطى هذا الصنف من الناس نفسه حق تقسيم البشر، فخصوا أنفسهم بالذكور، وجعلوا الإناث للخالق، ولو جاز لهم فرضًا أن يقسموا البشر فهل يجوز إنصافًا وعدلًا أن يكون لهم حق الاختيار؟! وإن سلم بحق الاختيار فلماذا يسود وجه أحدهم إذا جاءته البشرى بميلاد من هو في زعمه نصيب لله الذي خلقه؟ أفما كان ينبغي أن تفيض نفسه فرحًا ويزداد وجهه ألقًا حين يشرق في بيته وجه من هو منسوب بزعمه إلى الله؟!
في هذا السياق لم يصرح النص القرآني بلفظ الأنثى، وإنما كنى عنه بالموصول وصلته:{بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} ، {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} واختير لفظ "ما>؛ لأنه كني به عن القسم المنسوب إلى الله، ولما أريد الفرد كنى عنه بلفظ من في قوله:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} ولا يخفَى أن هنا صفتين كني بكل منهما عن الأنثى؛ الأولى: ضرب المثل، والثانية: التنشئة في الحلية وهي الزينة، وهاتان الصفتان مختصتان بالموصوف الذي كنِّي بهما عنه، والاختصاص بضرب المثل ظاهر من خلال ما شاع في مجتمع نزل القرآن يصحح عقيدته ويصوب إلى الأمور نظرته.
أما الاختصاص بالزينة فهو أمر تراه الأجيال المتلاحقة جيلًا بعد جيل، ولا يخفى أن نسبة الصفة تظهر باستجلاء الموصوف الذي تومئ إليه هذه الصفة.
ولا يفوتنا أن نشير إلى ظلال التعبير القرآني في هذه الكناية ففي هاتين الصفتين -التنشئة في الحلية وعدم الإبانة في الخصام- إيماء بليغ إلى عظم دور المرأة في الحياة، وهو كونها ذات طبيعة تجعلها نبعًا يستمر به الوجود الإنساني، بما طبعت عليه من تهيئة أسباب الإخصاب، ومن عدم الميل إلى النفخ فيما يشعل نار الحروب.
ومن الكناية عن الموصوف: قول الله تعالى في شأن نوح عليه السلام وقد عم الطوفان: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (القمر: 13) فقد كنَّى عن السفينة بكونها صاحبة ألواح ومسامير، ودليل خصوصية هذه الصفة بالسفينة مما لا يخفَى؛ فالألواح والمسامير خاصة بما يحمل الناس والمتاع على صفحة الماء من فُلك وجوار وسفن، ولا تزال تلك الطبيعة التكوينية للسفينة -الألواح والمسامير- باقية إلى عصرنا هذا، أيًّا كانت المادة التي تكون منها الألواح والمسامير، وفي ذكر هذه الصفة إيماء بليغ إلى قدرة الله التي هيأت أسباب طفو الحديد وغيره على الماء بما يُحمَل من الأثقال.
وقد لفت القرآن إلى هذه القدرة في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الشورى: 32) حيث جعل جري السفن الضخام على صفحة الماء من دلائل القدرة، والجري في البحر صفة كني بها عن موصوف هو السفن، وفي موضع آخر ذكر القرآن تهيئة أسباب الجري على صفحة الماء هي من خلقه تعالى وصنعته وحده، حيث قال:{وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الرحمن: 24) ففي قوله: {وَلَهُ} مِلكية الخلق والصنعة، كما صرح بذلك قوله -عز شأنه-:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (لقمان: 31).
وفي الآيتين من سورة الشورى والرحمن كنَّى بصفة الجري عن السفينة؛ إيماءً إلى أن ضخامتها لم تحل دون جريها، وفي الآية من سورة القمر إيماء إلى أن مكوناتها
رغم غوصها منفردة في الماء طفت على سطحه، فحمت نوحًا عليه السلام ومن معه من الغرق.
ومن الكناية عن الموصوف أيضًا: قول المتنبي يسترضي سيف الدولة على بني كلاب وقد أوقع بهم هزيمة منكرة رد بها تمردهم عليه:
ومن في كفه منهم قناة
…
كمن في كفه منهم خضاب
فقد كنى عن المرأة بصفة هي كون الخضاب في يدها، وعن الرجل بصفة هي كون القناة في يده، هو يريد بهذه الصفة المكنى بها عن الموصوف بلوغهم في الضعف غاية لا غاية بعدها، حيث صار الرجل منهم كالمرأة في العجز عن مواجهة الحروب، مما يجعلهم أهلًا للصفح والعفو، وقد كان المتنبي شاعرًا قديرًا في تسخير الكناية عن الموصوف لما يرمي إليه، وكذا في التعبير عما يعتمل في نفسه ويضطرب في حناياه.
ومن ذلك قوله في سياق قصيدة يمدح بها كافورًا، ويحدث عن غدر الصديق:
رحلت فكم باك بأجفان شادن
…
عليَّ وكم باك بأجفان ضيغم
وما ربة القرط المليح مكانه
…
بأجزع من رب الحُسام المصمم
فلو كان ما بي من حبيب مقنع
…
عذرت ولكن من حبيب معمم
في الثلاثة أبيات هذه تطالعنا الكناية عن الموصوف خالبة آسرة، فقد كنى عن المرأة بكونها باكية بأجفان الغزال، وبربة القرط المليح، وبالحبيب الساتر وجهه بالقناع، وكنى عن الرجل بكونه باكيًا بأجفان الأسد، وبرب السيف القاطع، وبالحبيب المعمم، ووظَّف كل هذه الكنايات للتعبير عما يعتمل في نفسه من حزن بلَغَ في نفسه المدى، فقد فارق أحبابه الكثيرين من الرجال والنساء، أولئك الذين جزعوا لفراقه أشد الجزع، ولم يكن الرجل في ذلك أقل من المرأة في تجرع غُصة
الفراق، ويزيد في ألمه وحزنه أن ما ألجأه إلى الرحلة لم يكن إعراض حسناء، وإنما كان غدرًا من رجل أولاه قلبه وحبه، ولو كان ما لحقه من إعراض الحسناء لوجد شيئًا من العذر يعينه على احتمال البقاء بين خِلانه وأهل مودته، ولكنه من غدر رجل صديق، فلم يكن بُد من الرحلة والفراق.
ومن الكناية عن موصوف: قول البحتري في وصف طعنة أصاب بها ذئبًا:
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها
…
بحيث يكون اللب والرعب والحقد
أضللت يعني: غيبت، والنصل هو حديدة الرمح والسهم.
ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
والضاربين بكل أبيض مخدم
…
.......................
المخدم: هو القاطع من السيف.
.........................
…
والطاعنين مجامع الأضغان
فكنى بمجامع الأضغان عن القلب، ويكنى عنه بذات الصدور وبمواطن الأسرار وبأماكن الحقد والرعب، كما في قول البحتري السابق الذكر.
من ذلك أيضًا: قولهم عن الخمر: أم المصائب وأم الكبائر؛ لشهرة الخمر عند العقلاء بجلب المصائب وتوليد الكوارث وارتكاب الموبقات من الكبائر، وفي الكناية عن النساء: ذوات الخلاخل، وفي الكناية عن الدينار: الأصفر الرنان، وفي الكناية عن الصدر: موطن الحِلم، وعن اللغة العربية بأنها لغة الضاد. يقول شوقي:
إن الذي ملأ اللغات محاسنًا
…
جعل الجمال وسره في الضاد
وقولهم في الكناية عن السفينة: ابنة اليم؛ لملازمتها ماء البحر، ونلاحظ في الشواهد والأمثلة المذكورة أن الصفات التي صرَّح بها، لها مزيد اختصاص
بالموصوف الذي كني بها عنه، ولازمة لمعناه وواضحة الدلالة عليه، ولذا ساغ الكناية بها عنه.
القسم الثاني من أقسام الكناية: الكناية عن صفات؛ وهي أن يصرح بالموصوف وبالنسبة، ولا يصرح بالصفة المرادة، بل يذكر مكانها صفة تومض إليها، وتدل عليها، ومن روائع هذا النوع قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (الفرقان: 27) فقد ذكر الموصوف صراحة وهو الظالم، وذكرت النسبة كذلك، وهي نسبة العض إليه، ولكن الصفة المقصودة لم تذكر صراحةًبل نراها في إيماءة العض على اليدين، ونتأمل صورة رجل أو امرأة أخذ يعض أو أخذت تعض على يديها، ولتحاول معي أن تدرك الحالة التي عليها أي منهما، عندئذٍ ستدرك أن الندم هو المسيطر، والعض على اليدين يومض بالطبع بالندم إيماضًا يوشك أن يكون ضوءًا قريبًا قويًّا كاشفًا عنه.
ومن التعبير عن الندم أيضًا قوله تعالى في قصة الرجلين الثري والمقل، إذ اغتر الثري بثرائه فجحد نعمة الله وافترى عليه، وفخر على المقل، فعاقبه الله عقابًا، قال عنه:{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} (الكهف: 42) ولتقف عند قوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} فستجد أن الموصوف مذكورًا صراحة بالضمير المستكن في الفعل: {يُقَلِّبُ} ونسب إليه هذا الفعل، ولكن الصفة المرادة لم يصرح بها وإنما فُهمت من صفة مذكورة وهي تقليب الكفين، وأنت أيضًا إذا أنعمت النظر فيها وقد ذُكرت بعد قوله:{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} (الكهف: 42) لوجدت أنها تشير إلى صفة الندم إشارة قوية تقرب من الإفصاح.
ومن روائع الكناية عن هذا المعنى: قوله تعالى عن قوم موسى بعد أن عبدوا العجل: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 149) وتطالعنا الكناية في
قوله: {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} فقد أُطلق السقوط في اليد وأريد منه الندم، وهذا النسق التعبيري الذي حمل تلك الكناية، لم تجرِ به ألسنة العرب قبل أن يلج القرآن مسامعهم. قال الزجاج:{سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي: ندموا، وهذه اللفظة لم تسمع قبل القرآن ولم تعرفها العرب. وكأنما لمح الزمخشري من عدم ورودها على ألسنة العرب شيئًا، فلم يرها كناية عن مجرد الندم، وإنما رآها كناية عن شدته. وقد أبان عن ذلك بقوله:{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي: ولما اشتد ندمهم؛ لأن من شأن مَن اشتد ندمه وحزنه أن يعض يده غمًّا فتصير يده مسقوطًا فيها؛ لأن فاه قد وقع فيها.
وقيل: من عادة النادم أن يطأطئ رأسه ويضع ذقنه على يده معتمدًا عليها، ويصير على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه فكأن اليد مسقوط فيها، وهو قول ينم عن ذوق بصير باللغة وإيماءاتها، خبير بما تجري به عاداتهم في مواقفهم المختلفة، فهو يلحظ مواءمة الألفاظ للأحداث كما يربط بين الأحداث وسلوكيات الناس في مواجهتها.
ومما جرى من الكناية عن صفة على ألسنة الشعراء وهي كثيرة في أشعارهم: قول ابن خفاجة في قصيدة يصف فيها الجبل:
وأرعن طماح الذؤابة باذخ
…
يطاول عَنان السماء بغارب
يسد مهب الريح من كل وِجهة
…
ويزحم ليلًا شهبه بالمناكب
في هذين البيتين يصف الجبل بالارتفاع والضخامة ويفهم ارتفاعه من قوله: "يطاول أعنان السماء"، وقوله:"يزحم شُهبه بالمناكب"، فمطاولة السحب ومزاحمة الشهب إنما هي آية الارتفاع الشاهق، أما الضخامة فيعبر عنها قوله:"يسد مهب الريح عن كل وِجهة"، وللسامع أن يتصور مدى ضخامة الجبل حين
يسمع عنه وهو يصد الرياح دون الوجهة التي تنطلق نحوها، ولكن الشاعر لم يسق هذه الصفات سوقًا مباشرًا، بل قدم ما يشير إليها، وترك لمتذوق فنه أن يستشف مراميه، وشبيه بما قاله ابن خفاجة قول البحتري يصف قصرًا:
ملأت جوانبه الفضاء وعانقت
…
شُرفاته قطع السحاب الممطر
وحين ترى قصرًا ملأت جوانبه الفضاء ولامست شرفاته السحاب، فإنك ستدرك على الفور ضخامته وارتفاعه، غير أن مبالغة البحتري أبعد مدًى من مبالغة ابن خفاجة؛ إذ الأول يصف قصرًا والثاني يصف جبلًا، ولن تكون ضخامة قصر وارتفاعه مماثلة لما يكون من ذلك في الجبل، للوصفين مبالغة عند الشاعرين، ولكنها أقرب إلى النفوس عند ابن خفاجة. ومما نلفت إليه أن صفة الارتفاع المكنَّى عنها بالمطاولة والمزاحمة والمعانقة صُبت في إطار الاستعارة، فتآزرت الاستعارة والكناية عند الشاعرين في رسم صورة ضخمة لذلك العلو ترينا الخيال محلقًا في آفاق لا حدودَ لها.
وتجري الكناية القريبة عن صفة على ألسنتنا كثيرًا ربما دون أن ندري، فتقول مثلًا: فلان طاهر الذيل ونقي الثوب، كناية عن العفاف والطهر، فطهارة الذيل ونقاء الثوب صفتان يلازمهما عادةً صفة العفاف وصفة الطهر، وقوله: فلان شب عن الطوق، كناية عن اجتيازه مرحلة الطفولة إلى مرحلة اليفاعة والشباب، فالشب عن الطوق صفة تلازمها عادةً صفة اجتياز مرحلة الطفولة وكذا قولهم: ضرب فلان كفًّا بكف، كناية عن الندم والتحسر. أصبح فلان يمشي على عكاز، كناية عن ضعفه وكِبر سنه، وفلان كثير الرماد وجبان الكلب ومهزول الفصيل، كناية عن الكرم والجود، وفلان طويل النجاد، كناية عن طول القامة، وقضَّب وجهه وانتفخت أوداجُه، كناية عن الغضب، واحمر وجهه، كناية عن الخجل،
حدثني بلغة المدفع، كناية عن القوة، ونظر إلى الدنيا بمنظار أسود، كناية عن التشاؤم، وفلان ناعم الأظفار، كناية عن قلة الخبرة والتجربة إلى غير ذلك.
ومن شواهد الكناية عن صفة في النظم الكريم: قول الله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (لقمان: 18) فكنَّى عن صفتي التكبر والفخر بتصعير الخد والمرح في الأرض؛ لما بين الصفتين المذكورتين والمكنى عنهما من تلازم. وأنت عندما تقرأ قول الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (الأنفال: 7) تجد في الآية كنايتين؛ الأولى: كناية عن موصوف في قوله: {ذَاتِ الشَّوْكَةِ} فقد كنَّى به عن الحرب والنفير، والثانية: كناية عن صفة وذلك في قوله: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} فقد كنى به عن صفة الاستئصال والإبادة.
ومن شواهد الكناية عن صفة أيضًا في أشعارهم: قول الحماسي في الكناية عن ضخامة الأرداف وعظم الثدي وضمور الخصر والبطن:
أبت الروادف والثدي لقنصها
…
مس الظهور وأن تمس بطونًا
وقول المتنبي في الكناية عن صفتي العِز والسيادة، والفقر والحاجة:
فمساهم وبسطهم حرير
…
وصبحهم وبسطهم تراب
وقد مرت بنا هذه الأمثلة.
من ذلك أيضًا قول عمرو بن أبي ربيعة في الكناية عن طول الجِيد:
بعيد مهوى القرط إما لنوفل
…
أبوها وإما عبد شمس وهاشم
وقول النابغة الذبياني في مدح الغساسنة:
رِقاق النعال طيب حجزاتهم
…
يحيون بالريحان يوم السباسب
والحجزات هي مواضع شد إزارهم من الوسط، ويوم السباسب هو يوم عيد عند النصارى يسمى بيوم الشعانين، ففي البيت هنا ثلاث كنايات؛ الأولى: هي الكناية عن الترف والسيادة بِرِقة النعال، فهم لا يمشون حتى يخصفوا نعالهم ويجعلوها سميكة، وإنما يركبون الخيل، ويلزم من ذلك الترف والسيادة، والثانية: الكناية بطيب حُجزاتهم عن صفة العفة والطهارة، والثالثة: الكناية عن رقة أمزجتهم وحسن أذواقهم ومحافظتهم على التقاليد المرعية بقوله: "يحيون بالريحان يوم السباسب".
ومن ذلك قول طرفة بن العبد في الكناية بصغر الرأس عن الذكاء:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه
…
خشاش كرأس الحية المتوقد
الضرب أي: الخفيف اللحم، والخشاش: الصغير الرأس، والمتوقد: الذي هو سريع الحركة، فَهُم يكنون بصغر الرأس عن الذكاء كما يكنون بعظمها وضخامتها عن الغباء والبلادة وبعرض القفا عن صفة البلة.
القسم الثالث من أقسام الكناية: الكناية عن نسبة، وهي ما صرح فيها بالموصوف وبالصفة ولم يصرح بنسبة الصفة إلى الموصوف، بل يذكر مكانها نسبة أخرى تستلزم نسبتها إليه، ومن روائع هذه الكناية قول أبي نواس يمدح الخصيب أمير مصر وكان قد رحل إليها في عهده:
إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا
…
فأي فتًى بعد الخصيب تزور
فتى يشتري حسن الثناء بماله
…
ويعلم أن الدائرات تدور
فما جازه جود ولا حل دونه
…
ولكن يصير الجود حيث يصير
ونتوقف من هذه الأبيات عند الثالث منها ففيه بغيتنا وهي الكناية عن نسبة، حيث صرح بالموصوف وهو الخصيب وصرح بالصفة وهي المجد، ولكنه لم يصرح بنسبة المجد إليه وإنما ذكر نسبة أخرى تتطلبها، وهي صيرورة المجد في المكان الذي يصير فيه الممدوح، وهذا يعني أنه غاية في الكرم، ولا يخفَى عليك ما في البيت من خيال بديع، حيث صور لك الجود في صورة حي متحرك وأنه يلازِم الممدوح أينما حل وكيفما صار.
ومن روائع هذه الكناية أيضًا قول الشنفرى الأسدي يصف امرأة بالعفة:
يبيت بمنجاة من اللوم بيتها
…
إذا ما بيوت بالملامة حلت
فالصفة هي العفة وهي البراءة من اللوم عند ملابسة الفجور، والموصوف هي المرأة المعبر عنها بضمير الغائبة المضاف إلى البيت، ولم يصرح الشاعر بنسبة البراءة من اللوم إلى صاحبته كأن يقول: تبيت ناجية من اللوم، أو بما شابه ذلك، ولكنه نسب تلك البراءة إلى بيتها والمراد نسبتها إليها؛ لأن نسبة البراءة إلى بيتها تقتضي نسبتها إليها، ونود أن نشير إلى أن النجاة من اللوم كناية عن العفة، ففي الشطر الأول كنايتان: كناية عن صفة وهي النجاة من اللوم، وكناية عن نسبة وهي نسبة النجاة من اللوم إلى البيت، والمقصود نسبتها إلى صاحبته، وفي الشطر الثاني أيضًا كنايتان على تلك الصورة، غير أن الموصوف جمع وهم أصحاب البيوت.
ونظير ذلك وهو اجتماع كنايتين في جملة واحدة قولنا: كثر الرماد في ساحة عمرو، فكثرة الرماد كناية عن صفة الكرم، وإثبات الكرم في ساحة عمرو المعبر عنه بكثرة الرماد، كناية عن نسبة الكرم إليه، فقد اجتمعت كنايتان في جملة واحدة وجعلت إحداهما وهي كثرة الرماد طرفًا للثانية وهي إثبات كثرة الرماد في
ساحة عمرو، وما من شك في أن وجود نوعين من الكناية في جملة واحدة مما يزيد الكلام حسنًا ويضفي عليه جمالًا.
ومن الكنايات عن النسبة: قول بعض الشعراء المعاصرين:
بين برديك يا صبية كنز
…
من نقاء معطر معشوق
وبعينيك يا صبية شجو
…
ساهم اللمح مستطار البريق
فالموصوف كما لا يخفى هو الصبية، والصفة هي النقاء المعطر المعشوق، ولكن الشاعر لم ينسب ذلك النقاء إليها، وإنما نسبه إلى المكان الواقع بين برديها، هذه النسبة تقتضي نسبة النقاء إليها. وفي البيت الثاني كناية أيضًا نسب فيها الشجو إلى عيني تلك الصبية، والمقصود نسبته إليها.
ومن رائع الكناية عن النسبة قول المتنبي يعزي سيف الدولة في فقد عمته في قصيدته البائية المشهورة:
مثلك يثني الحزن عن صوبه
…
ويسترد الدمع عن وربه
إيما لإبقاء على فضله
…
................................
"إيما" لغة في أما.
...................................
…
إيما لتسليم إلى ربه
فهو يقول: مثلك يقدر على صرف الحزن عن نفسه ويسترد الدمع إلى مستقره؛ إبقاءً على فضله، حتى لا يضيعه الجزع، أو تسليمًا لأمر الله فيما قضى به. وفي قوله:"مثلك"، كناية عن نسبة، فقد صرح بالموصوف وهو الضمير المخاطب، وبالصفة وهي صفة الحزن واسترداد الدمع، ولم يصرح بنسبة صرف الحزن واسترداد الدمع إليه، ولكن نسبها إلى مثله، والمراد نسبتها إليه.
وقد كشف الزمخشري عن هذه الكناية وهو بصدد الحديث عن قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) حيث قال: قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك، فسلكوا به
طريق الكناية؛ لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده وعمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه.
ومن الكناية عن نسبة قولهم في مقام المدح: المجد بين ثوبيه والكرم بين بُرديه، أرادوا نسبة المجد والكرم إليه، فعدلوا عن التصريح بذلك إلى جعل المجد بين ثوبيه والكرم بين يديه؛ ليفهم المخاطب إثباتهما للممدوح؛ إذ ليس بين البردين أو الثوبين سواه، فالتعبير إذن كناية عن نسبة المجد والكرم إلى الممدوح، وهذا قريب بما سبق ذكره.
ومن ذلك قول زياد:
إن السماحة والمروءة والنَّدَى
…
في قبة ضربت على ابن الحشرج
القبة: هي ما كانت فوق الخيمة من العظم والاتساع، وهي خاصة بالرؤساء والسادة، وابن الحشرج: هذا هو عبد الله بن الحشرج أمير نيسابور، فهنا كنى عن نسبة هذه الصفات إلى ابن الحشرج بجعلها في قبة مضروبة عليه؛ لأن الشيء إذا أثبت في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبت له؛ وذلك لاستحالة قيام الوصف بنفسه ووجوب قيامه بموصوف صالح للاتصاف به.
ومنه قول الآخر يمدح ابن العميد:
والمجد يدعو أن يدوم لجيده
…
عقد مساع ابن العميد نظامه
المساعي: هي المكارم، ونظام العقد: ما به يكون منتظمًا، فهنا صور المجد غادة حسناء قد تحلى جيدها بعقد حباته مساع ابن العميد، وهو يدعو الله أن يدوم هذا العقد ويبقى في جيده، فكنى عن نسبة المجد وثبوته لابن العميد بكون مساعيه حبات قد انتظم بها عقد المجد، وكنى عن الدعاء بدوام بقاء ابن العميد بدعاء المجد أن يدوم العقد ويبقى في جِيده، ومنها قولهم: العرب لا تخفر الذمم، يريدون نفي ذلك عن العربي؛ لأنه إذا نفي عن العربي نقض العهد فقد نفي عنهم؛ إذ هو واحد منهم. وقولهم: أيفعت لداته وبلغ أترابه، كنوا عن نسبة اليفاعة والبلوغ إليه بنسبتهما إلى أقرانه ونظرائه.