الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
(الطباق (2))
تعريفات أخرى للطباق، وصوره
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
سبق أن ذكرنا أن الطباق لغةً: الموافقة والمساواة والمناسبة؛ لأن الفعل طابق يدور حول هذه المعاني، ثم ذكرنا أنه في اصطلاح البلاغيين معناه: أن تجمع في الكلام الواحد أو ما هو كالكلام الواحد في الاتصال بين معنيين متقابلين في الجملة، وذكرنا أن هناك مناسبةً بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، وأن العَلاقة بينهما تكمن في أن المتكلم وفّق بين المعنيين المتقابلين كما يوفق بين الشيئين المختلفين، فيُجعلَا على حذوٍ واحد، وهناك مناسبة أخرى هي معنى التضاد اللغوي، ومعناه الاصطلاحي أيضًا، فإنهما واضحان في تعريف الطباق، لأن كِلا المعنيين ضد الآخر ومخالف له، وإن كان قد حصل بينهما جمع وتوفيق في كلام واحد، على أن ما سبق من تعريف الطباق عن البلاغيين هو ما ذهب إليه جمهورهم.
لكن قدامة بن جعفر -الكاتب- ومعه قوم ذهبوا إلى أن الطباق هو اتحاد الكلمتين في اللفظ مع اختلافهما في المعنى، وقد استشهد قدامة للطباق بشواهد منها قول الأفوه الأزدي:
وأقطع الهوجل مستأنسًا
…
بهوجل عيرانة عنتريس
أي: بناقة سريعة ممتلئة، فقد جاءت لفظة الهوجل في هذا البيت واحدة، ولكنها ذات معنيين؛ لأن الأولى معناها الأرض، وأقطع الهوجل، والثانية معناها الناقة، بهوجل عيرانة عنتريس، وكذا قول أبي داود الأيادي:
عهدت لها منزلًا دائرًا وإلًا
…
على الماء يحملن إلا
فإلا الأولى في المعنى غير الثانية؛ لأن الأولى أعمدة الخيام عهدت لها منزلًا دائرًا وإلًا، والثانية ما يرفع الشخوص من السراب على الماء يحملن إلًا، هذا هو معنى الطباق عند قدامة ومن تبعَه.
ولا يُخفى أن هذا الذي سماه قدامة طباقًا هو الجناس عند جمهور البلاغيين، أما الطباق عند جمهور البلاغيين فقد نعته قدامة بالتكافؤ، وخصه بهذا الاسم، وهذا الذي صنعه قدامة وأتباعه لم يعجب كثيرًا من نقاد الأدب منهم أبو بشر الآمدي، فقد علق على هذا الصنيع بقوله: لم أكن أحب له أن يخالف من تقدم مثل أبي العباس عبد الله بن المعتز وغيره، ممن تكلم في هذه الأنواع وألَّف فيها، إذ قد سبقوا إلى التلقين.
هذا، ويأتي الطباق في الكلام على أربع صور:
وهي أن يكون بين اثنين كما في قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُود} (الكهف: 18)، وقوله عز وجل:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّور ُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} (فاطر 19: 22)، وقوله -جل وعلا-:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 179)، وقوله تبارك وتعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (الحديد: 3).
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة للكبر، ومن الحياة للموت، فوالذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت بمستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار)).
وقول علي رضي الله عنه: "إن كثرة النظر إلى الباطل تذهب بمعرفة الحق من القلب"، ومنه قول امرئ قيس:
مكر مفر مقبل مدبر معًا كجلمود
…
صخر حطه السيل من علٍ
وقول القاضي الورجاني:
ولقد نزلت من الملوك بماجد
…
فقر الرجال إليه مِفتاح الغنى
وقول الآخر:
إذا نحن سِرنا بين شرق ومغرب
…
تحرك يقظان التراب ونائم
ولا يخفَى عليك الطباق في هذه الشواهد، وأنه قد وقع بين اثنين كما ترى.
الصورة الثانية: أن يكون بين فعلين كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النجم 43، 44).
وقوله تبارك وتعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} (آل عمران: 26)، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:((إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع))، لقد طابق بين الفعلين: تكثرون وتقلون، وهناك طباق أيضًا بين الفزع والطمع، ولكنه طباق خفي -كما سيأتي-.
ومن أقوالهم قول بشار:
إذا أيقظتك حروب العِدا
…
فنبه لها عمرَ ثم نَمْ
وقول الفرزدق:
لعن الإله بني كليب
…
.............................
بني كليب: هم قوم جرير:
إنهم لا يغدرون ولا يفون لجار
يستيقظون إلى نهيق حمارهم
…
وتنام أعينهم عن الأوتار
ومنه قول الحماسي:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
…
لنفسي حياةً مثل أن أتقدم
وقول الآخر:
فإن ساءني أن نِلتني بمساءة
…
لقد سرني أني خطرتُ ببالك
فالطباق في هذه الشواهد قد وقع بين فعلين.
الصورة الثالثة: أن يكون الطباق بين حرفين، كما في قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت} (البقرة: 286)، وقوله عز وجل:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} (البقرة: 228)، وقوله:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ: 24).
ومن التطابق في الحروف قول مجنون ليلى:
على أنني راض بأن أحمل الهوى
…
وأخلص منه لا عليّ ولا ليَ
فالطباق في هذه الشواهد بين على واللام، وبين على وفي في آية سبأ؛ لأن في على معنى المضرة وفي اللام معنى المنفعة، وكذا في "في" معنى الاستفال، وفي على معنى الارتفاع، ومعلوم أن الحرف لا يظهر له معنى إلا مع غيره، فللحروف معانٍ متعددة قد تتضاد وقد تتداخل وقد تلتقي، والمرجع في ذلك هو الاستعمال؛ لأن الحروف لا تستقل بنفسها ولا تظهر معانيها إلا بالاستعمال.
الصورة الرابعة من صور الطباق: أن يكون بين اسم وفعل، كما في قول الله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاه} (الأنعام: 122)، وقوله عز وجل:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} (البقرة: 260).
ومنه قول طُفيل يصف فرسه:
بساهم الوجه لم تُقطع أباجله
…
يُصان وهو ليوم الروع مبذول
هو هنا يصف فرسه بأن عروقه لا تُقطع ولا تتغير من كثرة الجري، ومن ذلك قول الآخر:
قد كان يُدعَى لابس الصبر حازمًا
…
فأصبح يُدعى حازمًا حين يجزع
فالطباق في هذه الشواهد بين: {مَيْتًا} و"أحييناه" كما في الآية الأولى، وبين:{تُحْيِ} و {الْمَوْتَى} كما في آية البقرة، وبين يُصان ومبذول، والصبر ويجزع، كما في البيتين، فهو بين اسم وفعل كما ترى.
هذا والطباق كما يكون بألفاظ استعملت في معانيها الحقيقية، يكون كذلك بألفاظ استعملت في معانٍ مجازية، وحينئذٍ يكون الطباق في كلا المعنيين الحقيقي غير المراد والمجازي المراد، كما مر بنا في الآية الكريمة:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أي: ضالًّا فهديناه، فالمعنيان الحقيقيان وهما الموت والحياة متضادان، والمعنيان المجازيان وهما الضلال والهدى متضادان أيضًا، وكما في قول الشاعر أيضًا:
حلو الشمائل وهو مرٌّ باسل
…
يحمي الزمار صبيحة الإرهاق
وقول الآخر:
إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب
…
تحرك يقظان التراب ونائم
فالمراد بحلاوة الشمائل لين الجانب، والمراد بالمرارة الشدة، وكذا المراد بيقظان التراب متحركه، وبالنائم الساكن، فالتضاد محقق بين المعاني المجازية غير المرادة وبين المعاني المجازية المرادة.
ومنه أيضًا قول الآخر:
وقد أحيا المكارم بعد موت
…
وشاد بناءها بعد انهدام
إذ المراد: لو أكثر العطاء في وقت قل فيه العطاء، فبين الإحياء والموت وبين التشييد والانهدام طباقٌ في معانيها الحقيقية والمجازية على حد سواء.
أما إذا كان الطباق بين المعاني الحقيقية فقط دون المجازية المرادة، فيُسمى إيهام التضاد كما سنذكر ذلك تفصيلًا فيما بعد.