الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن
(تابع: الاستعارة)
الاستعارة الوفاقية، والاستعارة العنادية
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
قلنا قبل ذلك أن في الاستعارة التبعية يتحتم أن يجري التشبيه أولًا في المعاني الثابتة القابلة للوصفية، وهي المصادر، ثم يستعار المصدر المشبه به للمصدر المشبه، ويشتق منه الفعل أو اسم الفاعل أو اسم المفعول، بعد أن يحمَّل المعنى الجديد لمصدره الذي انتقل إليه بالاستعارة؛ فيكون الفعل أو المشتق حينئذٍ تابعًا لمصدره في حمل المعنى الجديد، كما رأينا فيما مضى.
وكما تقع الاستعارة التبعية في مادة الأفعال، وهي حروفها الدالة على الحدث على نحو ما رأينا، فقد تقع في صيغتها وهي هيئاتها الدالة على الزمان كصيغتي الماضي والمضارع، من ذلك قول الله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل: 1) فأمر الله لم يأتِ بعد، بدليل قوله:{فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فكان الأصل أن يقال: يأتي أمر الله، ولكن عبر بالماضي مجازًا؛ ليفيد أن هذا الأمر محقق الوقوع؛ فقد شبه الإتيان في المستقبل بالإتيان في الماضي بجامع تحقق الوقوع في كلٍّ، ثم استعير الإتيان في الماضي للإتيان في المستقبل، واشتقَّ منه أتى بمعنى يأتي على سبيل الاستعارة التبعية في صيغة الفعل.
ومن الاستعارة التبعية في الحروف قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (القصص: 8) فاللام في قوله: {لِيَكُونَ} لام العلة، وهي موضوعة لترتب ما بعدها على ما قبلها، وقد استعملت هنا في غير ما وضعت له؛ لأن ما بعدها ليس مترتبًا على ما قبلها، فهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًّا وحزنًا، بل التقطوه ليكون لهم قرة عين يفرحون به؛ ففي لام التعليل في الآية الكريمة استعارة تبعية يقال في إجرائها على رأي الخطيب: "بها العداوة والحزن
بالفرح والسرور بجامع ترتب كلٍّ منهما على الالتقاط، ودُلَّ على التشبيه بذكر لازم المشبه به وهو اللام للمشبه".
وعلى رأي الجمهور نقول: شبه مطلق ترتب علة واقعية انتهى إليها الالتقاط بمطلق ترتب علة رجائية غائية، فسرى التشبيه من هذين الكليين إلى جزئياتهما، ثم استعيرت اللام الموضوعة لجزئي من جزئيات المشبه به وهو التقاط موسى ليكون قرة عين، لجزئي من جزئيات المشبه وهو التقاطه ليصير عدوًّا وحزنًا.
ومن ذلك قول الله تعالى: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: 71)، فلفظ {فِي} مستعمل في غير ما وضع له في هذه الآية؛ لأن جذوع النخل لا تصلح للظرفية الحقيقية، لكن لما كانت هذه الجذوع متمكنة منهم؛ لأن مراد فرعون شدة التعذيب وإحكام الصلب؛ شبهت الجذوع بالظرف الحقيقي في هذا التمكن، واستعمل فيها لفظ "في" على سبيل الاستعارة التبعية، ويقال في إجرائها على رأي الخطيب:"شبهت الجذوع بالظرف بجامع التمكن، ثم استعير لفظ في، وهو جزئية من جزئيات المشبه به، واستعمل في المشبه"، وعلى رأي الجمهور: شبه مطلق الارتباط بين السحرة المؤمنين وبين الجذوع بمطلق الارتباط بين الظرف والمظروف، بجامع التمكن فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، ثم استعير لفظ "في" من جزئيات المشبه لجزئي من جزئيات المشبه.
إذن فالأمر عند الجمهور يسري في العموميات والترتب؛ بينما هو عند الخطيب يسري بين الظرف والمظروف.
ومن التبعية لكنها هذه المرة في النداء مناداة القريب بلفظ البعيد "يا" لغرض بلاغي، كغفلة المنادي مثلًا، وعدم تنبهه فنقول: يا فلان، لمن هو قريب منا
كذلك ينادى الرب عز وجل وبالطبع قريب كما أخبر في محكم آياته {فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) ينادى بلفظ البعيد يا، فيقال: يا رب وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وذلك لغرض بلاغي هو إحساسنا بالذنوب وشعورنا بالبعد عن مواطن الزلفى؛ فقد شبه نداء القريب بنداء البعيد فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، واستعير "يا" من جزئيات المشبه به لجزئي من جزئيات المشبه على سبيل الاستعارة التبعية في الحروف، وكذا مناداة البعيد بلفظ القريب.
وكان يمكن أن نقتصر على هذه التقسيمات، لكن ثمة اعتبارات وتفريعات أخرى للاستعارة لاحظها البلاغيون، ولا حرج أن نعرض لشيء منها حتى نكون على ذكر بها. لقد ذكروا أن الاستعارة بصفة عامة باعتبار إمكان اجتماع الطرفين في شيء واحد، وعدم اجتماعهما تنقسم إلى قسمين:
استعارة وفاقية، واستعارة عِنَدِي. فالوفاقية: هي التي يمكن اجتماع طرفيها أي: المستعار له أعني: المشبه، كما قلنا، والمستعار منه أي: المشبه به في شيء واحد، لما بينهما من التوافق، خد مثلًا قول الله تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (المائدة: 52) فقد استعير المرض للنفاق، قوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت: 17) فاستعير العمى للكفر، مثله قوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) حيث استعيرت الحياة للهداية، وبين المستعار منه والمستعار له توافق؛ لأنه يمكن اجتماعهما في شيء واحد؛ فالمرض والنفاق يجتمعان في قلب إنسان، والعمى والكفر يمكن اجتماعهما في شخص كافر، والحياة والهداية يجتمعان في المؤمن، والجامع بين المرض والنفاق أن كلًّا منهما يفسد ما يصاحبه، فالمرض يفسد الأبدان، والنفاق يفسد العقائد، والجمع بين العمى والكفر أن كلًّا منهما يوقع
صاحبه في المهالك والمخاطر؛ فالجامع بين الحياة والهداية ما يترتب على كل من الفائدة والنفي.
ونذكر من الاستعارة الوفاقية ما جاء في قول الشاعر:
ولقد سموت بهمتي وسما بها
…
طلب المكارم بالفعال الأفضل
لأنال مكرمة الحياة وربما
…
عثر الزمان بذي الدهاء الأحول
فقد استعار الحياة لبقاء الذكر الطيب والأثر الحسن، وهما متوافقان.
أما الاستعارة العنادية: فهي ما لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد لتنافيهما، وهذا لا يقدح في جمال هذه الاستعارة كما سنبين، ومن العنادية التي لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد؛ لتنافيهما قول الله، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) فقد استعير الموت للضلال بجامع ما يترتب على كل من عدم الانتفاع، ولا يمكن اجتماع الموت والضلال في شيء واحد.
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} (النمل: 80) فقد استعير الموتى للكفرة الأحياء؛ لعدم انتفاعهم بصفة الحياة، فلم يعتدّ بها فيهم، ولا يمكن اجتماع الموتى والأحياء في شيء واحد.
ومن العنادية قول المتنبي:
فلم أر بدرًا ضاحكًا قبل وجهها
…
ولم تر قبلي ميتًا يتكلم
قد استعار الميت لمن أسقمه الحب وأضناه العشق، ولا يمكن اجتماع المحب المتيم والميت في شيء واحد، فهما لأجل ذلك سميت بالاستعارة العنادية.
ونلاحظ في الأمثلة السابقة أن الاستعارة قد بُنيت على ترك الاعتداد بوجود الصفة في المشبه؛ لفقدان ثمرتها، إذ إن الغرض من الاستعارة إلحاق الناقص بالكامل في وجه الشبه، وهو متحقق على أكمل وجه في الأمثلة السابقة.
هذا وقد تُبنى الاستعارة على تنزيل التضاد الحاصل بين الطرفين منزلة التناسب؛ لقصد التمليح، أو التهكم، وتسمى عندئذٍ بالاستعارة العنادية التمليحية، أو العنادية التهكمية.
كما سبق أن أشرنا إلى قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الانشقاق: 24) حيث استعير التبشير للإنذار، بعد تنزيل التضاد الحاصل بينهما منزلة التناسب لقصد السخرية والتهكم، والجامع بين التبشير والإنذار إحداث المسرة بكلٍّ، وإن كانت المسرة في البشارة محققة فهي في الإنذار متخيلة.
ونظير ذلك قوله عز وجل: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (الصافات: 23) قد استعيرت الهداية للجر بعنف وقهر بجامع ما يترتب على كلٍّ من الخير، وإن كان تنزيليًّا في المستعار له.
ومن ذلك قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان: 49) أي: الذليل المهان أن السياق يدل على ذلك، فقد استعيرت العزة والكرامة للذلة والمهانة، استعارة عنادية تهكمية. من ذلك قوله تعالى أيضًا في حق شعيب حين قال له قومه {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود: 87) أي: السفيه الغوي، وفيها ما في سابقتها، إلى غير ذلك مما مر بنا من الشواهد.
من العنادية التمليحية قولنا للبخيل في مقام المزاح والمداعبة: من يجهل أن جودك عم الورى، من يجهل أن جودك عم الورى: فقد استعير الجود للبخل بجامع الإفاضة بالخير في كلٍّ، وذلك بتنزيل التضاد الحاصل بينهما منزلة التناسب، فالإفاضة موجودة في المستعار منه على وجه التحقيق، وموجودة في المستعار له تنزيلًا، من ذلك قول أبي تمام:
أنبئت عتبة يعوي كي أشاتمه
…
الله أكبر أنَّى استأسد الأسد