الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك الشطر الثاني: "إنما يعذر العشاق من عشق"، فإذا ما وجه هذا البيت إلى من عرف باللوم أو قيل في مجلس يحضره من عرف أهل الهوى بلومه، كان الكلام تعريضًا به.
وكما يجتمع التعريض والكناية في التعبير الواحد قد يجتمع والمجاز، كقولك مثلًا: أنا لا أطعن في أعراض الناس ولست ممن يطعن في الأعراض، فقد استعير الطعن للإيذاء واشتق منه طعن بمعنى آذى على سبيل الاستعارة التبعية في الفعل، فإذا ما قيل هذا القول أمام أناس قد عرفوا واشتهروا بالإيذاء، أو أشار السياق إلى كون من تكلمت عنه مؤذيًا، كان الكلام تعريضًا به. وبهذا يتضح أن التعريض كما يفهم من عرض التراكيب الحقيقية التي لا مجاز بها ولا كناية، فقد يجتمع وأسلوب الكناية أو المجاز، وهذا يوضح ما قررناه من أن التعريض يفهم من التراكيب، ولا يمكن أن يدل عليه اللفظ المفرد، فهو معنى يفهم من جوانب الكلام وسياقاته الخاصة، ومواقفه ومقاماته المعينة.
بلاغة وأثر وقيمة الكناية والتعريض
من خلال ما سبق ومن حديثنا عن الكناية والتعريض نستطيع أن نجمل بلاغتهما وأثرهما وقيمتهما فيما يلي:
أولًا: إفادة المبالغة في المعنى؛ لأن التعبير عن المعنى الكنائي بروادفه وتوابعه، له من القوة والتأكيد ما ليس في التعبير عنه باللفظ الموضوع له، وذلك لأنه يصبح كإبراز الدعوى بدليلها وكإثبات الحجة ببينتها.
ولعلك تجد ذلك في قول امرئ القيس:
وتضحى فتيت المسك فوق فراشها
…
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
وكذا قول الآخر:
أكلت دمًا إن لم أرعك بضرة
…
بعيدة مهوى القِرط طيبة النشر
الأمر الثاني: من بلاغة الكناية والتعريض، هو تجسيد المعاني وإبرازها في صورة محسوسة تزخر بالحياة والحركة، فيكون ذلك أدعى لتأكيدها ورسوخها في النفس، ويتضح هذا من قول الله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء: 29) فقد أبرزت الآية معنى البخل في صورة اليد المشدودة إلى العنق المقيدة به، وهي صورة قبيحة تنفر منها النفوس، فتُقبل على البذل والعطاء، وكقوله:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} (الفرقان: 27) وقوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} (الأعراف: 149) وقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} (الكهف: 42) فكل هذه الآيات أبرزت الندم في صورة محسوسة مشاهدة.
من بلاغة الكناية والتعريض أيضًا: التعبير عن المعاني غير المستحسنة بألفاظ لا تعافها الأذواق ولا تمجها الآذان، وشواهد هذا كثيرة في النظم الكريم، من ذلك قوله تعالى كناية عن الجماع:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43){أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (البقرة: 187) في الكناية عن الفرج: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة: 223) في الكناية عن النكاح: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} (البقرة: 235) في الكناية عن قضاء الحاجة: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (النساء: 43){مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} (المائدة: 75).
ومن بلاغتهما: أنه يستطاع أيضًا التعمية والتغطية وإخفاء ما يود المتكلم إخفاءَه؛ حرصًا على المكنى عنه أو المعرض به، ورغبةً في عدم تردده على الألسنة، كما
في الكناية عن أسماء النساء، أو خوفًا من الإفصاح بالمكنى عنه، كما في الكناية عن أسماء الأعداء. إلى غير ذلك.
من هذه المحاسن تفخيم المعنى في نفوس السامعين، ويتضح لنا ذلك في قول الله مثلًا في وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال:{الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (القارعة: 1 - 5) وقوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} (النازعات: 34){إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1) إلى غير ذلك من الآيات التي كُني فيها عن يوم القيامة بوصف ما يكون فيه من أحداث وأهوال، تقرع القلوب وتزعج النفوس.
وبمقدورنا بعد هذه الإفاضة في طرق الأداء من حقيقة وتشبيه ومجاز وكناية وتعريض؛ أن نخلص إلى أن الحقيقة والمجاز وسيلتان من وسائل التعبير، لا تغني إحداهما عن الأخرى في نقل المعنى أو رسم الصورة، وقد اتفق البلاغيون على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وأن الاستعارة أبلغ من التشبيه، والكناية أبلغ من التصريح، واختلفوا في الموازنة بين المجاز والكناية، فقيل: أن الكناية أبلغ من المجاز بنوعيه المرسل والاستعارة، وقيل: الاستعارة أبلغ من الكناية؛ لأنها كالجامعة بين الاستعارة والكناية، وقيل غير ذلك.
وأرى -فيمن يرى- أن اختلاف البلاغيين في الموازنة بين هذه الفنون لا أثرَ له فيما تُصَوِّرُه؛ إذ المرجع في ذلك لما يقتضيه المقام، فإن اقتضى المقام الإفصاح كان بلا ريب أبلغ من الكناية، وإذا اقتضى التشبيه كان أبلغ من الاستعارة. وهكذا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.