الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع
(التشبيه (3))
أدوات التشبيه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
فسيكون حديثنا -اليوم بمشيئة الله تعالى- عن أدوات التشبيه والغرض منه، أما عن أدوات التشبيه فهي ألفاظ تدل على المماثلة والاشتراك بين أمرين، وهي قد تكون حروفًا، وقد تكون أسماء، وقد تكون أفعالًا؛ فالحروف تتمثل في الكاف، وكأن.
أما الكاف فهي الأصل لبساطتها، وتفيد المشابهة في جميع استعمالاتها، والأصل فيها أن يليها المشبه به كقوله تعالى:{وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الرحمن: 24) وقول الشاعر:
أنت كالشمس في الضياء وإن
…
جاوزت كيوانا في علو المكان
وكيوانا: هو اسم لكوكب زحل، فنجد أن لفظ الأعلام في الآية الكريمة، ولفظ الشمس في البيت، قد ولي الكاف، وهما مشبهان بهما، فإن وليها غير المشبه به؛ كان مقدرًا بعدها، كما في قوله تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19)، فالمشبه به في الآية محذوف تقديره: أو كمثل ذوي صيب؛ لأن الأصل أن يكون التشابه بين المعطوفات فيه تماثل، فهنا عطف، أو عطف {كَصَيِّبٍ} على قوله {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} ، فإن وليها غير المشبه به كان مقدرًا بعدها كما في قوله تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19)، فنجد أن المشبه به في الآية محذوف تقديره: أو كمثل ذوي صيب بدليل قوله في الآية {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} (البقرة: 19).
فالكلام عن أهل النفاق، وقوله في الآية التي قبلها {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} (البقرة: 17)، فلا بد إذن أن يأتي الكاف في {أَوْ كَصَيِّبٍ} ما يماثل المشبه في الآيات السابقة واللاحقة؛ لذا كان التقدير: أو كذوي صيب، فالآيات مسوقة لبيان حال المنافقين فيما يكابدونه من حيرة وشدة بسبب ظهور نفاقهم، بعد أن توهموا أنهم قد أمنوا على حياتهم بإظهار الإسلام.
وقد مُثِّلوا أولًا بحال من هو في أشد الحاجة إلى النار فاستوقدها {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17)، ثم مُثلوا ثانيًا بحال قوم أصابهم مطر شديد فيه ظلمات ورعد وبرق، وصواعق مهلكة تهدد حياتهم بالموت، وكانوا يتوقعون فيه النفع والرخاء.
ونظير ذلك في دخول الكاف على مشبه به مقدر ما جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} (الصف: 14) إذا لا شبه بين كون المسلمين أنصارًا لله، وبين قول عيسى، وإنما الشبه بين كونهم أنصار للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكون الحواريين أنصارًا لعيسى؛ إذن فوجب أن يكون التقدير: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصارًا لعيسى ابن مريم حين قال لهم: من أنصاري إلى الله.
وقد يلي الكاف مفرد لا يتأتى التشبه به، وذلك إذا كان المشبه به مركبًا، ويكون هذا المفرد له اتصال وثيق بالمشبه به المركب، تعال مثلًا إلى قول الله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} (الكهف: 45)، فليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء، بل المراد تشبيه حالها في ندرتها وبهجتها، وما يعقبها من الهلاك والفناء، بالهيئة الحاصلة من كون النبات بعد نزول الماء شديد النضارة والاخضرار، ثم بعد ذلك
تراه قد يبس فتطيره الرياح، كأن لم يكن، ووجه الشبه -كما هو معلوم- التلف والهلاك عقب الإعجاب، والاستحسان؛ فالكاف هنا لم تدخل على مشبه به وهو النبات، وإنما دخلت على لفظ الماء باعتباره عنصرًا مهمًّا في تكوين النبات، وأوراقه وفروعه وثماره.
إذن فلا بد من مراعاة مدخول الكاف حتى تستقيم العبارة أو الآية، وبذلك نعرف مدى أهمية فهم سياق الآية في تقديرها مع أدوات التشبيه، أما كأن فإنها تفيد المشابهة غالبًا، وذلك إذا كان خبرها جامدًا، ويليها المشبه نحو قوله تعالى:{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} (القمر: 7)، وكذلك في مثل قولنا كأن النجوم مصابيح، فهنا نشبه النجوم بمصابيح، وكما جاء في الآية، فقد شبه أهل الكفر بأنهم جراد منتشر.
فإذا كان الخبر مشتقًّا فالأرجح أنها لا تفيد المشابهة، وإنما تفيد الظن بوقوع الخبر الذي بعدها نحو قولنا مثلًا: كأن زيدًا قائم، كأن السماء ممطرة، فالمعنى: أننا نظن قيام زيد، ونظن إمطار السماء؛ لأن قائمًا صادق على زيد، وممطرة صادقة على السماء، ولا معنى لتشبيه الشيء بنفسه.
وتأتي الأداة أحيانًا اسمًا من أمثال مثل شبه مماثل محاكٍ مشابه مضاهٍ، ونحوها مما يؤدي معنى المشابهة، فإذا كان الاسم جامدًا وليه المشبه به نحو: هذا الرجل مثل الأسد، وشبه البدر، وإن كان مشتقًّا وليه المشبه نحو: أنت مماثل الأسد، ومحاكٍ البدر، ومشابه عمرو، ومضاهٍ حاتمًا؛ فقد ولي الاسم في هذه الأمثلة الضمير العائد على المشبه، ويأتي كذلك أداة التشبيه فعلًا مثل: شابه وحاكى، ويشابه، ويضاهي، ونحوها من الأفعال المتعدية الدالة على معنى المشابهة، فإذا كانت الأفعال لازمة كتشابه وتماثل؛ فإنها لا تدل على التشبيه، كما سنذكر ذلك
تفصيلًا فيما بعد؛ لأن التشبيه يقتضي إلحاق الأدنى في وجه الشبه بالأعلى حقيقة أو ادعاء، وهذه الأفعال اللازمة إنما تدل على وجود التشابه بين الشيئين المقتضي مساواة كل واحد منهما للآخر في وجه الشبه.
وقولنا مثلا تشابه عمرو وبكر في الوفاء المعنى: أنهما تساويا فيه، وليس أحدهما أعلى منزلة من الآخر، والأمر ليس كذلك إذا قلنا مثلًا: عمرو يشبه بكرًا؛ لأنه يفيد أن بكرًا أعلى مرتبة في وجه الشبه من عمرو، ولذا شبه به، وقد يذكر فعل ينبئ عن التشبيه نحو: علم وتيقن، وذلك إن قرب وجه الشبه وحقق، ونحو حسب، وخال، وظن إن بعد وجه الشبه عن التحقيق وخفي عن الإدراك فيقال مثلًا: علمت محمدًا بحرًا، وتيقنت أنه حاتم، وحسبت عمرو أسدًا، وخلته حاتمًا، وظننته إياسًا، وإنما قلنا: إن هذه الأفعال تنبئ عن التشبيه؛ لأن التشبيه في الواقع مستفاد من الأداة المقدرة كما في نحو: محمد بحر، وعمرو أسد.
هذا، وتختلف أدوات التشبيه في الدلالة على التشبيه، فما كان من التشبيه صادقًا قلت في وصفه كأنه، أو هو ككذا، ويشبه، أو يماثل، أو شبه كذا، أو علمته بحرًا، رأيته غيثًا، وتيقنت أنه حاتم، ونحو ذلك من الأفعال التي تنبئ بالتشبيه وتدل على اليقين، وما قارب الصدق قلت فيه تراه، أو تخاله، أو تحسبه، أو يكاد، ونحوها من الأفعال التي ترشد إلى التشبيه وتدل على الظن والرجحان، أو المقاربة.
هنا يأتي سؤال هل لإيثار بلقيس ملكة سبأ حرف التشبيه كأن الوارد في قول الله تعالى: {كَأَنَّهُ هُوَ} (النمل: 42) حين سأله سليمان عليه السلام عندما عما إذا كان ذلك عرشها أم لا من دلالة، هل لذلك من دلالة؟ نعم، لقد ذكر ابن السبكي أن الإمام فخر الدين الرازي في نهاية (الإيجاز)، كذلك حازم القرطاجني في كتابه (منهاج البلغاء) أوضح أن كأن أبلغ
من الكاف، وأنها تستعمل حيث يقوى الشبه؛ حتى يكاد الرائي يشك في أن المشبه هو المشبه به أو غيره. هذا الكلام ذكره السبكي في (عروس الأفراح)، وذكره كذلك القرطاجني في كتابه (منهاج البلغاء)، من هنا ندرك عظمة القرآن، ودقة التعبير حين ينتقي لفظ ويؤثره على لفظ آخر؛ ففي هذا دلالة على أن انتقاء الألفاظ المناسبة الدالة المعبرة، هو الذي يسود دائمًا في كلام الله سبحانه وتعالى.
هذا وينقسم التشبيه بهذا الاعتبار -أعني: باعتبار ذكر الأداة وحذفها- إلى قسمين، فهناك تشبيه مرسل، وهناك تشبيه مؤكد، فالتشبيه المرسل ما ذُكرت فيه أداة التشبيه نقول مثلًا: أنت كالأسد، ومنه قوله تعالى:{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (الفيل: 5)، وقوله:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (الحديد: 21)، وهناك التشبيه المؤكد، وهو ما حُذفت منه أداة التشبيه كقوله تعالى:{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل: 88) تقدير الآية أي: تمر مرًا كمر السحاب، جملة التشبيه المبنية على حذف الأداة.
سؤال كيف تؤكد؟ الجواب: أنها تؤكد بعدة أمور، أولها أن يقع المشبه به خبرًا لمشبه؛ سواء أكان ذلك المشبه مذكورًا في الكلام، أم محذوفًا فمثلًا قول الشاعر:
هم البحور عطاء حين تسألهم
…
......... ................ ..
هنا المشبه مذكور، وكذلك قول امرئ القيس:
فعيناك غربا جدول في مقاضة
…
كمر الخليج في صفيح مصوب
هنا يشبه سيلان الدموع من العينين بسيلان الماء من غربي الجدول غربا يعني: الدلوان، وأداة التشبيه محذوفة، وقد وقع المشبه به خبرًا للمشبه، ثم شبه سرعة جريان الدموع في العينين بسرعة مر الماء في الخليج المنحدر تشبيهًا مرسلًا؛ لأن الأداة مذكورة، كذلك المشبه المقدر ما جاء في قوله تعالى مثلا:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (البقرة: 18) وكذلك في قول عمران بن حطان يذكر الحجاج:
أسد علي وفي الحروب نعامة
…
فطخاء تنفر من صفير الصافر
فالمشبه مبتدأ محذوف تقديره: هم صم، وهو أسد، ونعامة، وقد وقع المشبه به خبرًا له، تؤكد كذلك جملة التشبيه المبنية على حذف الأداة بأن يقع المشبه به حالًا صاحبها هو المشبه، كما في قوله تعالى مثلًا:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الأحزاب: 45، 46)، ففي الآية الكريمة يشبه النبي صلى الله عليه وسلم بالسراج المنير، والمشبه به حال، وصاحب الحال هو الضمير المنصوب العائد على النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {أَرْسَلْنَاكَ} كذلك يؤكد التشبيه المحذوف الأداة بأن يقع المشبه به مضافًا إلى المشبه كقول الشاعر مثل:
والريح تعبث بالوصون وقد جرى
…
ذهب الأصيل على لجين الماء
فهنا شبه الماء وهو المضاف إليه باللجين، وقد وقع المشبه به هو اللجين مضافًا إلى المشبه وهو الماء، أما ذهب الأصيل فمقصود به أشعة الشمس قبيل الغروب. إذن فهو مشبه والذهب مشبه به، ويكون هذا من إضافة المشبه به إلى المشبه.
كذلك من هذا الضرب ما جاء في قول الشاعر يصف تقوس الهلال:
كأنما أدهم الإظلام حين نجا
…
من أشهب الصبح ألقى نعل حافره
فهنا شبه ظلام الليل فالفرس الأدهم، وفي هذه الصورة العجيبة النادرة الغريبة غير المبتذلة نرى أن الشاعر يشبه هذا الظلام ظلام الليل بالفرس الأدهم، ويشبه كذلك الصبح بالفرس الأشهب، وقد وقع المشبه به مضافًا إلى المشبه في التشبيهين، ثم استعار نعل الحافر للهلال، ونرى في البيت تخييلًا حسنًا بديعًا؛ حيث صور الشاعر لنا معركة بين الليل والصبح، انتصر فيها الصبح وفر الليل منزعجًا من مطاردة الصبح له، واستعان الليل على سرعة الفرار والهرب بإلقاء نعله؛ ليكون ذلك عونًا له على سرعة الفرار والنجاة، وقد أخذ الشاعر من مخلفات المعركة نعل حافر الفرس، فشبه به الهلال وبنى على التشبيه استعارته الغريبة، مثل ذلك أيضًا قول الشريف الرضي يدعو الله أن يرطب قبور أحبابه:
أرسى النسيم بواديكم ولا برحت
…
حوامل المزن في أجداثكم تضع
ولا يزال جنين النبت ترضعه
…
على قبوركم العراضة الهمع
فهنا يشبه المزن بالحوامل، ويشبه النبت بالجنين، وقد وقع المشبه به وهو الحوامل، والجنين مضافًا إلى المشبه، وهو المزن والنبت، والمعنى ما زال السحاب الممتلئ الماء الشبيه بالحوامل الممتلئة بطونها بالأجنة، يسقط على قبورك، ولا يزال النبات الأخضر المورق الشبيه بالأجنة الصغيرة يرويه على قبوركم السحاب الممطر.
أما الوضع والإرضاع فهما إذن ترشيح للتشبيه، كذلك تؤكد جملة التشبيه المبنية على حذف الأداة بأن يقع المشبه والمشبه به مفعولين لفعل من الأفعال التي تنصب مفعولين مثل: علم، ورأى، وحسب، وظن، وخال، ونحوها، فهذه الأفعال تنبئ بالتشبيه، وترشد إليه، وليست أدوات؛ بل الأداة تكون مقدرة كما سبق أن ذكرنا.