الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع
(المجاز المرسل)
المجاز المرسل وعلاقاته "السببية والمسببية
"
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
فنتحدث عن المجاز المرسل بعلاقاته المتعددة من غير المشابهة:
والمجاز المرسل كما ذكر البلاغيون هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة غير المشابهة بين المعنيين، وإنما سمي مرسلًا؛ لأنه أرسل عن دعوى الاتحاد المعتبرة في الاستعارة، إذ ليست العلاقة بين المعنيين المشابهة حتى يدعى اتحادهما، أو لأنه أرسل أي أطلق عن التقيد بعلاقة واحدة.
وعلاقة المجاز المرسل معناها أن يكون هناك تلازم وترابط يجمع بين المعنيين ويسوغ استعمال أحدهما في موضع الآخر، وهذه العلاقات كثيرة أشهرها ما يلي:
علاقة السببية، وهو أن يكون المعنى الموضوع له اللفظ المذكور سببًا في المعنى المراد فيطلق السبب على المسبب، والمجاز بهذه العلاقة كثير في استعمالات العرب، فمن ذلك قولهم: رعينا الغيث، فالغيث مجاز مرسل علاقته السببية؛ لأن المعنى الحقيقي للغيث سبب في المعنى المراد الذي هو النبات، وقرينة المجاز قولهم: رعينا، إذ الغيث لا يرعى، والسر البلاغي في العدول عن الحقيقة إلى المجاز في مثل هذا التعبير هو إبراز أهمية الغيث وفرحهم به، وأثره في نفوسهم حتى كأنه هو المرعي لا النبات.
ومن ذلك قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194) فالاعتداء الأول {فَمَنِ اعْتَدَى} قد استعمل استعمالًا حقيقيًّا والاعتداء الثاني وهو قوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} استعمل استعمالًا مجازيًا؛ لأن المراد به المجازاة والقصاص، فعبر بالسبب وهو الاعتداء عن المسبب وهو الجزاء والقصاص على سبيل المجاز المرسل، وتكمن بلاغة المجاز هنا بإبراز قوة
السببية بين الاعتداء وجزائه، وأن الجزاء يجب أن يعقب الاعتداء فلا يتخلف عنه ويشعر بذلك هذه الفاء في قوله:{فَاعْتَدُوا} وما تقتضيه هذه الفاء من سرعة المجازاة، ولا يقال: إن هذا يتناقض مع الدعوة إلى العفو والحث على الصفح؛ لأن المقام هنا مقام تحد بين المسلمين والكفرة، فهو يقتضي الشدة والقوة وسرعة الردع، والمقام هناك بيان للمعاملة بين المسلمين بعضهم بعضا، وذلك أدعى للعفو والمصافحة، فلكل مقام مقال.
من ذلك قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40) فالمراد بالسيئة الثانية {سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الجزاء والقصاص الذي يتسبب عن السيئة الأولى، فهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب على سبيل المجاز المرسل، والمعنى: وجزاء من فعل سيئة أن يجازى عليها، فأطلق على المجازاة سيئة باعتبار أن السيئة سبب والمجازاة مسببة عنها، فأطلق السبب وأراد المسبب. من ذلك قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلين
فالجهل معناه في اللغة السفاهة والحمق، وقد أراد عمرو بن كلثوم بالجهل المسند إليه الصادر منه جزاء المعتدين وعقوبتهم على جهلهم وسفاهتهم، فهو مجاز مرسل حيث عبر بالسبب وأراد المسبب.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد: 31) فقد عبر عز وجل عن المعرفة والعلم بالاختبار الذي هو سبب المعرفة على طريق المجاز المرسل؛ لأن علم الله عز وجل أزلي فهو عليم بكل شيء، ولا يحتاج في علمه إلى ابتلاء، وعليه فيكون المعنى: ونختبركم حتى نظهر حقيقتكم ونكشفها فيصبح علم الله متعلقًا بالمعلوم الواقع، إذن فهو أطلق
الابتلاء وأراد انكشاف حقيقتهم المسببة عن هذا الابتلاء. من ذلك أيضا قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
…
وأسمعت كلماتي من به صمم
فقد أراد أن يعبر عن شهرة أدبه وذيوع شعره، وبلوغه مبلغا جعل من له علم بالأدب ينظر إليه ويعلمه، ومن لم يسمع شعرًا يسمع كلماته ويدركها، وقد عبر الشاعر بالأعمى والأصم، وأراد من لا معرفة له بالأدب ولا علم عنده بجيده، والعلاقة كما هو معلوم بين المعنيين السببية فإن السمع والبصر من أسباب العلم بالأشياء، وعلى العكس فالعمى والصمم من أسباب الجهل بها والقرينة هي قوله: نظر، وأسمعت كلماتي، فإنه يستحيل أن يسمع الأصم أو يبصر الأعمى شيئا.
إذن فهو أطلق السبب في الإدراك، وهو السمع والبصر وأراد المسبب عنهما وهو ذيوع أدبه وشعره. من ذلك أيضا قول آخر:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة
…
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وهو يدعو على نفسه إن لم يحقق رغبته في الكيد لامرأته بضرة حسناء أن يقتل له قتيل، ويعجز عن الأخذ بثأره فيرضى بأخذ ديته ويأكل من هذه الدية، وقد عبر عن الدية بالدم والدم سبب فيها، وكان هذا طبعا عيبا عند العرب، فهو على أي حال مجاز أطلق فيه السبب وهو الدم على المسبب وهو الدية.
من ذلك أيضا إطلاق اليد على العطاء والنعمة؛ لأن اليد سبب في إيصال النعمة للمحتاجين، كما في قولهم: جلت يده عندي وكثرت أياديه علي وعمت أياديه الورى، يريدون بذلك نعمه وعطاياه، ويشترط في هذا الاستعمال أن يكون في الكلام إشارة إلى صاحب النعمة؛ ليكون كالقرينة، وهذا متمثل في الضمير العائد على الممدوح في الأمثلة المذكورة، ولذا لا يقال: كثرت الأيادي عندي.
ومن إطلاق اليد وإرادة النعمة قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأزواجه: ((أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدًا)) ذلك أنه صلى الله عليه وسلم جعل اليد مجازًا هنا عن العطاء أو الإنعام، ويدل على ذلك أفعل التفضيل إذا كان مشتقًا من الطول بمعنى الفضل، والمعنى عندئذ: أسرعكن لحوقا بي أفضلكن نعمة، والنعمة توصف بالفضل على جهة الحقيقة فلا ترشيح للمجاز عندئذ.
وقد كن -رضوان الله عليهن- يعتقدن حمل اليد على حقيقتها حتى بدا من خلال القرائن حمل اليد على المجاز، وكان على رأس هذه القرائن وفاة زينب رضي الله عنها بعده صلى الله عليه وسلم ومباشرة، وهي لم تكن أطول نساء النبي صلى الله عليه وسلم يدا من ناحية الذات، فدل هذا على إرادة المجاز لعلاقة السببية، أما حملها على ذلك بدون قرينة فلا.
ومن هنا لا يقال في قول الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) أن اليد هنا بمعنى القدرة لخلو الكلام من القرينة، والقول بأن اليد في الآية من باب استعمال اليد في النعمة والقدرة هذا كلام يحتاج إلى نظر؛ فإنه على هذا التأويل لا توجد قرينة واحدة دالة على إخراج اليد عن معناها الحقيقي إلى معنى القدرة، والكلام على غير ذلك لا يصح، وهذا مما عمت به البلوى وراج أمره على أهل العلم قديمًا وحديثًا.
وفي رده على ما ذكر يقول ابن القيم فيما يعد الصواب في تأويل الآية: "لما كانوا -أي الصحابة- يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيديهم ويضرب بيده على أيديهم، وكان رسول الله هو السفير بينه تعالى وبينهم؛ كانت مبايعتهم له مبايعة لله عز وجل، ولما كان سبحانه فوق سمواته على عرشه وفوق الخلائق كلهم كانت يده فوق أيديهم، كما أنه سبحانه فوقهم فهل يصح هذا لمن ليس له يد حقيقية".
ثم إن الأصل في الكلام -وهذا ما يجب الانتباه إليه- أن يحمل على حقيقته، فلا يخرج به عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر الحمل على الحقيقة، كما أن الأصل
في الكلام كذلك حمله على الظاهر فلا يحمل على خلاف الظاهر إلا بقرينة لغوية أو عقلية أو عرفية أو شرعية أو حالية، وابتناء على ذلك فادعاء المجاز في أي لفظ كان يستلزم إقامة القرينة المانعة، والدليل الصارف له عن الحقيقة، إذ القائل بالحقيقة معه الأصل والظاهر ومخالفه مخالف لهما جميعا.
والملاحظ أن البلاغيين قد فاتهم ذلك حين قرروا أن اليد في حق الله مجاز عن القدرة، وكذا حين حجروا واسعًا وجعلوا اليد موضوعة وفقط للجارحة، وذلك إبان قولهم على المجاز المرسل: هو ما كانت العلاقة غير المشابهة هي اليد الموضوعة للجارحة المخصوصة إذا استعملت في النعمة، لكونها بمنزلة العلة الفاعلة للنعمة؛ لأن النعمة منها تصدر وتصل إلى المقصود بها، وكاليد في القدرة؛ لأن أكثر ما يظهر سلطان القدرة يكون في اليد، وبها تكون الأفعال الدالة على القدرة من البطش والضرب والقطع والأخذ وغير ذلك، كذا بوضع العلة لاستخدام اليد في النعمة والقدرة موضع القرينة، وبالجزم بما يفيد تواضع العرب في لغتهم، وفي اصطلاح التخاطب على قصر استخدام اليد حقيقة على اليد الجارحة دون سواها، وبما يفيد اعتبار ذلك هو الأصل في الاستعمال، وسحب ذلك من ثم على صفة اليد التي هي ثابتة لله بموجب ما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ذلك أنه من غير الصحيح القول بأن نحو اليد التي تعني الجارحة وضعت في أصل معناها لهذه المعاني الحسية، ولا تطلق على وجه الحقيقة على سواها، وإذا أطلقت على غيرها سواء أكان معلوما أو مجهولا، فإنها قد استعملت في غير معناها، ولا تكون بحال من الأحوال مستعملة في ظواهرها بل تكون مؤولة -هكذا قالوا- بما يعني أن الألفاظ إذا لم تكن مشتركة فلا تستعمل في حقائقها مرتين.
والرد على هذا أن المعروف المنقول بالتواتر -والكلام هنا لابن تيمية رحمه الله استعمال هذه الألفاظ فيما عدوه بها من المعاني، ولا يكون قاصرا على معنى واحد، وإنما أوتي البلاغيون من جهة أنهم رأوا اليد تطلق على النعمة والقدرة في بعض المواضع، فظنوا أن كل تركيب وسياق صالح لذلك حتى وإن قامت القرائن على خلافه، فوهموا بذلك وأوهموا، فهب أن هذا يصلح في قوله: لولا يد لك لم أجزك بها، أفيصلح في قوله جلت قدرته:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (العنكبوت: 48) وفي قول عبد الله بن عمر: "إن الله لم يباشر بيده أو لم يخلق بيده إلا ثلاثا: خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده".
أو يصح في عقل أو نقل أو فطرة أو ملة أو شريعة أو منطق أن يكون معنى الآية: وما كنت تتلو من كتاب ولا تخطه بنعمتك أو بقدرتك، أو أن يصح أن يقال: أن المراد من الأثر لم يخلق بقدرته أو بنعمته إلا ثلاث، وأي مزية إذن لآدم على إبليس في قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75) إن حمل معنى اليد في حق الله على القدرة، وأي خصيصة خص الله بها آدم دون سواه بدت من قول موسى عليه السلام له وقت المحاجة:((أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء)). وكذا في قول أهل الموقف له إذا سألوه الشفاعة.
لو كان الأمر كذلك فهذه أربع خصائص لآدم عليه السلام تضيع الفائدة منها لو وضعت القدرة التي يدعي المؤولة والمعطلة أن التعبير باليد هنا مجاز عنها موضع اليد، فضلا عن عدم صحة وضعها هناك فإنه سبحانه لو قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت بقدرتي أو قال له موسى: أنت أبو البشر الذي خلقك الله
بقدرته، أو قال له أهل الموقف ذلك، لم يحسن ذلك الكلام، ولا ما كان فيه من الفائدة شيء، تعالى الله أن ينسب إليه مثل ذلك. فمثل هذا التخصيص على ما تمليه دقة اللغة ولطافتها إنما خرج مخرج الفضل له عليه السلام على غيره، كما أن ذلك أمر اختص به آدم، ولم يشاركه فيه غيره، فلا يجوز حمل الكلام على ما يبطله.
يقول أبو سليمان الخطابي صاحب (معالم السنن) المتوفى سنة 388: "ليس معنى اليد عندنا الجارحة إنما هي في حق الله صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة".
هذا الكلام ساقه البيهقي في كتابه (الأسماء والصفات) صفحة 479 والكلام في ذلك كثير، وينظر فيه كتابنا في (الرد على السعد التفتازاني في مسألة التجوز في غير صفات المعاني).
ومن المجاز المرسل لعلاقة السببية استعمالهم لفظ الإصبع في الأثر الدقيق من حذق بارع أو رسم جميل أو نقش لطيف، إذ الإصبع سبب في إحداث هذا الأثر البديع الرائع، ومنه قولهم: إن لفلان على هذه اللوحة إصبعًا، وإصبع فلان بادية في هذا الخط، ولهذا الصائغ في صناعة هذا السوار إصبع بارعة، وكقول الشاعر في صفة راعي الإبل:
ضعيف العصا بادي العروق ترى له
…
عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا
أي ترى له عليها أثر حذق ومهارة، ويشترط لصحة هذا الاستعمال أن يكون للإصبع تأثير في إحداث الأثر الذي يعبر به عنه، ناهيك عن القرينة التي أشرنا إليها، وقلنا أنها شرط في حمل الكلمة على المجاز.
من هذه العلاقات التي هي خاصة بالمجاز المرسل علاقة السببية، وهو أن يذكر المسبب ويراد السبب، بأن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور مسببا عن المعنى المراد فيطلق اسم المسبب على السبب، من ذلك قولهم: أمطرت السماء نباتا أي: ماء، فذكروا المسبب وهي كلمة نباتا، وأرادوا السبب وهو الماء، فهو مجاز مرسل علاقته المسببية.
فمن ذلك قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} (غافر: 13) والذي ينزل من السماء هو الماء الذي يتسبب عنه الرزق، فذكر المسبب في موضع السبب، وتكمن بلاغة المجاز في الآية الكريمة في قوة السببية بين الماء والرزق، وفي ذلك إيحاء وتنبيه للمؤمن إلى أن الرزق مصدره السماء، فليطمئن وليمض على النهج القويم، فالرزق قد قدره الله وكفله للجميع لكونه منزلًا من السماء ولا حجر على فضل الله. من ذلك قول الشاعر يصف غيثًا:
أقبل في المستن من ربابه
…
أسنمة الآبال في سحابه
أراد أن الغيث انصب عليهم من سحابه الأبيض فسقى الأرض، وأنبت النبات فارتوت الإبل، وشبعت وسمنت ونمت أسنمتها، وقد جعل الشاعر أسنمة الإبل في السحاب، والذي في السحاب هو الماء، وهذا من ذكر المسبب في موضع السبب أيضا.
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (النساء: 10) فالنار لا تؤكل، وإنما المراد يأكلون مالًا حرامًا تتسبب عنه النار التي تكوى بها جنوبهم وظهورهم وجلودهم، فذكر المسبب وهو النار في موضع السبب وهو المال الحرام مال اليتامى، وتكمن بلاغة المجاز في الآية
الكريمة في إبراز هذه السببية، وفي إظهار فظاعة وبشاعة تلك الصورة، صورة من يأكلون أموال اليتامى، فهم يأكلون نارًا تقذف في أفواههم فتندلع في بطونهم فيكون الألم والعذاب.
من ذلك قولهم: كما تدين تدان، أي كما تفعل تجازى، فالمجاز في كلمة تدين حيث عبر عن الفعل بالدين، والدين هو المجازاة والمكافأة وهو مسبب عن الفعل، فهو مجاز مرسل علاقته المسببية إذ أطلق لفظ المسبب وهو المجازاة، وأريد السبب وهو العمل والفعل، أما كلمة تدان فهي على الحقيقة؛ لأن المراد بها المجازاة والمكافأة.
ومن علاقة المسببية التعبير بالفعل عن إرادته، فالإرادة سبب والفعل مسبب عنها، وقد كثر ذلك في القرآن الكريم كما في قول الله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98) والمعنى: إذا هممت أو عزمت أو أردت قراءته فاستعذ بالله، حيث علم من السنة أن الاستعاذة تسبق القراءة، وفي الآية رتبت الاستعاذة بالفاء على القراءة، فكان هذا الترتيب قرينة على أن المراد بالقراءة إرادتها والعزم عليها، فهو إذن مجاز مرسل علاقته المسببية إذ أطلق المسبب وهو الفعل وأريد السبب وهو العزم والإرادة، وفي ذلك إبراز لقوة السببية بين الإرادة والفعل وتنبيه للمؤمن وحث له على أن يقرن بين العزم بالفعل، فلا يكون هنالك مجال للأماني الكاذبة، وأحلام اليقظة والتقاعس وحياة الكسل.
ومنه أيضا قول الله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (هود: 45) إذ أريد بالنداء هنا إرادته والعزم عليه، فهو من ذكر المسبب في موضع السبب والقرينة أنه رتب بالفاء في قوله:{فَقَالَ} قوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} على النداء مع اتحاد زمنهما في الواقع.