الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إطلاق المشفر على شفة الإنسان وهي في الأصل للبعير، وإطلاق الخرطوم على أنفه وهو في الأصل للفيل كما في قوله تعالى:{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (القلم: 16) حيث أطلق الخرطوم على أنف الوليد بن المغيرة وهو في الأصل للفيل.
فالمجاز على ما أفاده كل من السكاكي وعبد القاهر هنا خالٍ من الفائدة؛ لأنه لا يخرج من استعمال اللفظ في أعم مما وضع له، أو عن استعمال المقيد في مقيد آخر، هذا ما ارتآه كل من السكاكي وعبد القاهر، لكن يمكن أن يصبح مفيدًا لو أفاد معنًى، كأن يفيد الذم مثلًا أو الهجاء، فإنه عند ذلك يصير مفيدًا، ويخرج من دائرة المجاز المرسل إلى دائرة الاستعارة المفيدة، إذ تصبح علاقة المجاز حينئذ المشابهة.
من ذلك قول الفرزدق في الهجاء:
فلو كنت ضِبيًّا عرفت قرابتي
…
ولكن زنجي غليظ المشافر
يريد: ولكنك، لكنه حذف الكاف للضرورة الشعرية، "ولكن زنجي غليظ المشافر"، شبه شفتيه بشفتي البعير في الغلظ ثم استعمل لفظ المشبه به في المشبه على طريق الاستعارة، وهو يرمي بذلك إلى ذمه وتقبيح صورته.
إلى غير ذلك مما لا يدخل معنا في باب المجاز المرسل.
بهذا نكون قد وقفنا على هذا الضرب من فنون القول، وعرفنا أن علاقات المجاز المرسل على تنوعها وتعددها هي لغير المشابهة، وأن هذا هو الذي يفرق بينها وبين الاستعارة التي علاقتها المشابهة.
خصائص وأسرار الاستعارة
وحان لنا أن نشير إلى بعض خصائص المجاز اللغوي بنوعيه الاستعارة والمجاز المرسل، وأن نطلع على نماذج توضح توضح قيمة كل منهما وأهميته وأثره الذي يحدثه في نفس المخاطب أو المتلقي:
ونبدأ بذكر بعض خصائص الاستعارة ومزاياها فنقول:
إن من أهم خصائص الاستعارة تجسيد المعاني، وتشخيص المجردات، وخلع الحياة على من لا حياة فيه، فتصبح المعنويات والأمور المجردة شاخصة أمام الأعين، ويصير فاقد الحياة
بالاستعارة حيا متحركا. ولننظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (التكوير: 17، 18) فقد استعير التنفس لظهور الصبح وانتشار ضوئه، وثمة فرق بين الظهور وانتشار الضوء وبين التنفس، ذلك أن الاستعارة هنا بثَّتْ في الصبح الحياة وأضفت عليه صفات الكائن الحي، وفيها بالإضافة إلى ذلك إيحاء بثقل الليل وكربه وهمومه، وكأن في ظهور ضوء الصبح إزاحةً لهذه الكربات وإزالةً لتلك الهموم، وكأن الصبح يلتقط أنفاسه بزوال ظلمات الليل.
ومن ذلك قول الله تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} (الملك: 6، 7) فقد استعير الشهيق للصوت الفظيع، وقوله عز وجل:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} (الأنبياء: 18) فقد استعير القذف للإيراد والدمغ للإذهاب، ولا يخفَى ما في الاستعارتين من بث الحياة في جهنم ومن تجسيد الحق والباطل، حتى كأن الحق قذيفة أصابت الباطل فقضت عليه ومحقته.
من ذلك أيضا قول الله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} (هود: 74) فهنا جسَّدَ القرآن الروعَ إنسانًا يذهب والبشرى شخصًا يجيء. وبمثل ذلك يقول تعالى في وصف النار: {إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} (المعارج: 14 - 18) فجعل النار داعيةً دعو أصحابها إليها والناس عنها في انصراف.
ومثله كذلك قوله في وصف الأرض القاحلة المقفرة: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5) ويقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (فصلت: 39) فالأرض مرة تكون هامدة ومرة تكون خاشعة، فتخلع عليها صفات
الحي؛ تشخيصًا لها وتجسيمًا، وعلى القول بأن ما من شيء إلا يسبح بحمده ليس ما يمنع في هاتين الآيتين -وما جاء على شاكلتهما- أن يُحملَا على الحقيقة.
أيضًا يقول المولى سبحانه وتعالى فيما يدل على أن مجاز الاستعارة فيه ما فيه من التشخيص -تشخيص المعاني وتجسيدها- قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} (الحجر: 22) فقد خلعت الآية على الرياح صفات الحيوانية التي من صفاتها التلقيح والتوالد.
ومنه أيضًا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} (يونس: 108) وقوله: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (الأحزاب: 19) فالحق والخوف من الأمور المعنوية التي لا يتصور منها إتيان أو مجيء، لكنها شُبهت بمن يكون منه الإتيان والحركة؛ تجسيمًا للمعنويات وتشخيصًا لها. ومعلوم أن جوهر الشعر كله بكل لغة هو التأثير الشديد في النفوس، فالشعر لا يلجأ إلى المنطق ولا إلى الحجة كما في النثر ولا يخاطب العقل بل وجهته الروح والقلب والعاطفة، وليكون الشعر مؤثرًا في النفوس وأعلق بالقلوب وأطرب للأفئدة، فيجعل الشاعر طريقة التصور منهجًا، ويتخذ من التمثيل والتصوير سبيلًا لصوغ شعره.
ويروَى أن بشارًا سمع أبا العتاهية ينشد الخليفة المهدي قصيدته التي يقول فيها:
أتته الخلافة منقادة
…
إليه تجرجر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له
…
ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيرُه
…
لزلزلت الأرض زلزالها
هنا عندما سمع بشار هذه الأبيات وكان أعمى، قال لصاحبه: انظر ويحك هل طار الخليفة عن فرشه، وكأن عجب بشار لما في تصوير أبي العتاهية وإبداعه في التمثيل وبلوغه الغاية في التخييل، مما جعل التأثير في السامع قويًّا وشديدًا.
وانظر مثلًا إلى -مع قول أبي العتاهية- قول سامي البارودي عندما يقول:
إذا استل منهم سيد غرب سيفه
…
تفزعت الأفلاك والتفت الدهر
فنجد أن الخِلافة والأفلاك والدهر قد تحولت بالاستعارة إلى كائنات حية؛ تفزع وتتلفت وتمشي في عجب وحياء، وقد صارت للخلافة المنقادة أذيال تجررها.
وتأمل معي قول أبي ذؤيب وقد سبق ذكره:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
…
ألفيت كل تميمة لا تنفع
فهنا نجده قد أبرز المنية في صورة محسوسة مشاهدة، إذ جعلها سَبْعًا يفتك وينشب أظفارًا.
ومن خصائص الاستعارة -إلى جانب ما ذكرنا من تجسيد المعنويات- الإيجاز، فإن الاستعارة تعطي المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة يسيرة. خذ مثلًا قول ابن المعتز:
أثمرت أغصان راحته
…
لجناة الحسن عُنابا
وقد استعيرت الأغصان للأصابع، والعناب للأنامل، والمعنى: أثمرت أصابع يده الشبيهة بالأغصان بنانًا مخضوبةً كالعناب، ولا يخفى عليك ما أحدثته هذه الاستعارة من إيجاز، مع حسن بيان وجمال تصوير.
ومن خصائصها كذلك المبالغة في تأكيد المعنى وتفخيمه؛ لأنها قائمة على تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه صار فردًا من أفراد المشبه به، ولذا كان قولنا: رأيت بدرًا وأضاء محمد الأرض شرقًا وغربًا أبلغ من قولنا: محمد كالبدر، وهو التشبيه الذي بنيت عليه الاستعارة، وذلك أن الاستعارة قد صيرت محمدًا فردًا من أفراد البدور؛ مبالغةً وادَّعاءً.
وتأمل مثلًا إلى ذلك قول الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11) وقوله عز وجل: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (الحاقة: 6) فقد استعير
الطغيان لزيادة الماء وارتفاعه، واستعير العتو للشدة، والاستعارة فيهما أبلغ؛ لأنها في الطغيان دلالة على الغلبة والقهر والعتو شدة فيها تمرد. وقد يُتبَع المستعار بملاءمات المستعار منه ويبالغ في ذلك، حتى ينزل منزلة الحقيقة على ما مر بنا في الاستعارة المرشحة.
من خصائص الاستعارة كذلك حسن البيان، وتحريك المشاعر، وتنبيه العقول، وتنشيط الأذهان، ولا يخفى عليك إدراك ذلك فيما مر بك من الشواهد، ففي قول الله تعالى:{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مريم: 4) تجد أن التعبير عن ظهور الشيب وانتشاره بالاشتعال قد أبرز الشيب في صورة واضحة بينة تجذب المشاعر، وتنبه العقول إلى أن انتشار الشيب لا يمكن تلافيه ودفعه، كما أن شواظ النار لا يتلافى.
هذا والاستعارة -كما رأينا- مبنية على التشبيه فيشترط لحسنها أن يكون التشبيه حسنًا، وحسن التشبيه -على ما هو قد مر بنا- يحصل بكون وجه الشبه كثير التفصيل، وكون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند حضور المشبه وأن يحقق الغرض منه، فكذلك الاستعارة تحسن إذا كان الجامع بين المستعار له والمستعار منه مفصلًا، كما جاء مثلًا في قول امرئ القيس:
فقلت له لما تمطى بصلبه
…
وأردف أعجازًا ونال بكلكل
فهنا يصف الليل، وقد استحسنه الآمدي وجعله من أجود الاستعارات؛ لأن امرأ القيس وصف أحوال الليل الطويل، فذكر امتداد وسطه وتثاقل صدره وترادف أعجازه، فلما جعل له وسطًا ممتدًّا، وصدرًا ثقيلًا، وأعجازًا مرادفة لوسطه، استعار له اسم الصلب، وجعله متمطيًا من أجل امتداده واسم الكلكل، وجعله نائيًا لتثاقله واسم العجز من أجل نهوضه، هذا التفصيل شفع لامرئ القيس ما كان قد عابه عليه بعضهم من أن بعض استعاراته مبنية على البعض الآخر.
كذلك يتمثل حسن الاستعارة فيما إذا كان المستعار منه نادر الحضور في الذهن عند حضور المستعار له، كاستعارة الطغيان لارتفاع الماء في قول الله تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11) وتحسن كذلك إذا كان الغرض منها محققًا كالاستعارة في قولك مثلًا: أراك تنفخ في رماد وتضرب في حديد بارد، لمن يجهد نفسه في عمل لا فائدة فيه، ومعلوم أن الاستعارة قائمة على تناسي التشبيه كما قلنا وعلى ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، ولذا فهي تحسن عندما لا يذكر في الكلام سوى المشبه به نحو: رأيت قمرًا يتحدث.
أما إذا ذكر في الكلام ما يشتم منه رائحة التشبيه، بأن يذكر المشبه مثلًا بوجه ينبئ عن الاستعارة لا عن التشبيه؛ فإن ذلك يقلل من حسنها، ومثال ذلك قولك مثلًا: محمد أسد، ورأيت رجلًا مثل الأسد، وهذا رجل أسد، فإن هذا يبطل الاستعارة على أرجح الأقوال، ويعود بالكلام إلى التشبيه.
هذا في الاستعارة التصريحية.
أما في المكنية فمن الواضح أن يصرح فيها بلفظ المشبه، ويسند إليه لازم المشبه به، ومما يقلل من حسن الاستعارة أيضًا غموض وجه الشبه الجامع بين المستعار له والمستعار منه؛ لأن الاستعارة -كما قلنا- مبنية على تناسي التشبيه، فإذا أضيف إلى هذا التناسي غموض وجه الشبه تضاعف الخفاء وصارت الاستعارة ألغازًا وتعمية.
أما التشبيه فيحسن فيه خفاء وجه الشبه -كما مر بنا- لإمكان تقريبه بذكر المشبه أو إزالة الخفاء بذكر الوجه والتصريح به، وعليه فيجوز أن نقول: هذا الرجل كالأسد في نتن الفم مثلًا لزوال الخفاء بذكر وجه الشبه، ولا يجوز أن نقول: رأيت أسدًا ونريد رجلًا أبخر نتن الفم. ونقول: الناس كإبل ماءه لا تجد فيها
راحلة، هذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقول: رأيت إبلًا ماءه لا أجد فيها راحلة، وتريد رجالًا كثيرين ليس بينهم إلا رجل واحد متميز بصفة الكمال، وذلك لخفاء وجه الشبه في الاستعارة، وزوال هذا الخفاء بذكر المشبه في التشبيه.
وإذا قوي وجه الشبه ووضح وضوحًا تامًّا بين المشبه والمشبه به كتشبيه العلم مثلًا بالنور في البياض والإشراق، وتشبيه الشبهة والبدعة بالظلام في السواد، فعندئذ تحسن الاستعارة ولا يحسن التشبيه؛ لأنه يصبح كتشبيه الشيء بنفسه، فيحسن أن تقول: امتلأ قلبي نورًا وتريد علمًا ومعرفةً، وتقول: صار فلان في قلبه ظُلمة، وتريد شبهة وشكًّا، ولا يحسن أن تقول: امتلأ قلبي علمًا وإيمانًا كالنور، وصار في قلب فلان شك وشبهة كالظلمة.
ونلاحظ فيما سبق أن ما عابه النقاد واستقبحوه ليست الاستعارة المكنية في حد ذاتها، وإنما هي الاستعارة التخييلية أي: إثبات لازم المشبه به للمشبه، وكأنهم رأوا في هذا الإثبات خروجًا عن المألوف والمعهود الذي اعتاده العرب، فقد اعتادوا جعل الدهر إنسانًا وصفوه بالوفاء والغدر وجعلوا له ساعدًا، وألفوا جعل المنية سبعًا وتخيلوا لها أظفارًا، ولكنهم لم يجعلوا للدهر أُخدعًا، ولم يجعلوا للمعروف كبدًا، ولا للدجى يافوخًا، ولا للعرض كعبًا، ولا للمال رِجلًا. قد أدرك النقاد كل ذلك، فأرادوا ألا يشتط الأدباء في تصوراتهم وتخييلهم، ويتجاوزوا حدود التصورات المألوفة والمعهودة لدى العرب، كما هو حادث في شعر الحداثة على سبيل المثال.
إذن مما تقدم يتضح لنا أن حسن الاستعارة يتوقف على عدة أمور؛ أهمها حسن التشبيه الذي بنيت عليه، وقرب وجه الشبه ووضوحه، وألا يذكر في الكلام ما يشتم منه رائحة التشبيه، فإن فُقِدَ أمر من هذه الأمور قلل فقدانه من حسن
الاستعارة وروعتها، وقد حاول النقاد وضع ضوابط للاستعارة، بحيث يُعد الخروج عن تلك الضوابط عيبًا وقبحًا.
ومن أهم تلك الضوابط:
1 -
أن تكون هناك مناسبة في العرف والعادة بين المستعار له والمستعار منه.
2 -
أن يكون هناك وجه جامع بين المستعار له والمستعار منه، وكلما قرب هذا الوجه حسنت الاستعارة، وكلما بعد وغمض قلل ذلك من حسنها، فإن اشتد غموض الوجه وبعد جدًّا عد ذلك عيبًا.
الضابط الثالث: مدى قبول النفس والأذواق للاستعارة أو نفورها منها.
ومعا نقتطف بعضًا من ثمرات هذا اللون وبخاصة في كلام الله؛ لنرى كيف يكون التدبر لما جاء في كلام الله، ومدى تأثير مجاز الاستعارة في النفس.
في كتابه (التصوير البياني) يذكر الدكتور محمد أبو موسى بعض الآيات كشواهد، نذكر من ذلك ما جاء في قول الله تعالى في شأن بني إسرائيل:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168) وهنا نرى التعبير عن التفرق بالقطع والقطع إنما يكون للأشياء المتماسكة كالشجر أو الخشب أو الثوب وما شابه ذلك، وإنما يقال في الأقوام: تفرقوا، لكن استعير التقطيع للتفريق وهي استعارة قريبة.
قال عبد القاهر: إن القطع إذا أطلق، فهو لإزالة الاتصال من الأجسام التي تلتزق أجزاؤها، وإذا جاء في تفريق الجماعة وإبعاد بعضهم عن بعض كقوله تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} كان شبه الاستعارة، وإن كان المعنى في
الموضعين على إزالة الاجتماع ونفيه. فإن قلتَ: قطع عليه كلامه، أو قلت: نقطع الوقت بكذا كان نوعًا آخر، ثم إن هذه الاستعارة التي تشبه الحقيقة أو التي هي شبه الاستعارة -كما يقول عبد القاهر- قد أَثْرَتْ المعنى بما لا تجده في مثل قولنا: وفرقناهم في الأرض أممًا؛ وذلك لأن التقطيع يشير إلى معنى نفسي دقيق؛ هو هذه الوشائج والعلائق التي تقوم بين الجماعة القائمة في مكان واحد والمجتمعة في أرض واحدة، والتي هي أشبه باللحمة في الثوب. وقوله:{وَقَطَّعْنَاهُمْ} يشير إلى تقطيع هذه الصلات والروابط المتلاحمة والتي تربط الأخ بأخيه والوالد بولده والصاحب بصاحبه، وفي ذلك تصوير لآثار هذا التفريق وفِعله في نفوسهم، وربما لا تجد هذا في كلمة فرقناهم.
وقد جسد القرآن معنى ذهاب روابط النفوس وتواصلها في هذه الكلمة في تصوير حسن، وسياق حافل بمشاعر اللهفة والندم، في قوله:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: 94) فانظر إلى قول الله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} وكيف كان هذا الاستئناف وهذا القطع في بناء الجملة تهيئة لتجسيد هذا المعنى وتركيزه في كلمة: {تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} .
قال الشريف الرضي: لا فصائل هناك على الحقيقة فتوصف بالتقطع وإنما المراد: لقد زال ما بينكم من شبكة المودة وعلاقة الألفة التي تشبه -لاستحكامها- بالحبال المحصدة والقرائن المؤكدة.
ومثل هذا تجده في قول الله تعالى في شأن سبأ الذين كان لهم في مسكنهم آية: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} (سبأ: 15) والذين كانوا يتواصلون ويهنئون في بلدة
طيبة، وكلاءة رب غفور:{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (سبأ: 19) فإنه يقال: مزق الثوب ولا يقال: مزق القوم، وإنما يقال: فرقهم، ولكن لما كان هذا التفريق كأنه نَزْعٌ لكل فرقة من هذه الجماعة، كما تنزع القطعة من الجسم الحي المتواصل عبر عنه بالتمزيق؛ ليشير إلى المعاناة التي عاناها هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بهذا التشتيت وهذا التفريق، وكأن علائق الود وصلات القربَى حِبال ممدودة بين هذه الجماعة، فجاء التفريق كأنه شق وتمزيق وتقطيع لهذه الأوصال، وهذا المعنى تجده ثاويًا وراء كلمة:{وَمَزَّقْنَاهُمْ} ولا تجد شيئًا منه لو قال: فرقناهم.
كذلك لو تأملنا قول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) فنجد أن هذه الآية من الشواهد المشهورة، وفيها نرى أن المراد بالميت الضال فقد شُبِّه به واستعير له، كما أن المراد بأحييناه هديناه، فالآية إذن تذكر حالين أو مرحلتين من مراحل حياة الإنسان؛ المرحلة الأولى: كان فيها ميتًا وهو في الثانية حي، والواقع أن هذا الإنسان كان حيًّا في الحالين، حياة بمعناها المتعارف، ولكنه لما كان منطفئ الفطرة معطل الإدراك جعل مُيتًا، وكأن غاية الحياة إنما هي في استدامة الفطرة، وسلامة النظر الراشد إلى معرفة الحق والخير. الموت هنا له مفهوم جديد، ربما كان انغماس النفس في ظلمة الحيوانية وبقاء الروح مكفوفة الإدراك، تخبط في الأرض من غير غاية نبيلة تسعى إليها؛ لتسعد بها سعادة أبدية. واضح أن الحياة في هذه المرحلة حياة وموت معًا؛ لأنه يحيا ويتقلب كما يتقلب كل حي، ولكن هنا معنى قلبي ينقصه، فَسُلِب معنى الحياة من هذه الحياة.
والضلال أيضًا له مفهوم جديد في هذه الآية وبهذه الاستعارة؛ لأنه لم يعد ضلالًا وإنما صار موتًا، كما أن الموت له أيضًا مفهوم جديد؛ لأنه ليس إبطالًا
للأحوال الجسمية، وإنما هو إبطال للطاقات الروحية، وكذلك الاستعارة في "أحييناه" ليست الحياة فيها هي الحياة المألوفة وإنما هي الهداية التي صارت بدورها حياة، أو ضربًا من الحياة غير مألوف؛ لأنها تعني خلوص النفس مما يثقل نهوضها السامي، الذي تهتف به فطرتها الطاهرة النازعة نزوعًا دائمًا إلى الحق والمثل الأعلى.
الاستعارة هنا جددت معاني الكلمات وأثرتها، وأفرغت فيها فكرًا جديدًا وحِسًّا جديدًا، صرنا نرى حياة ولكنها ليست حياة بالمعنى المتداول، ونرى هداية ولكنها ليست هداية بالمعنى المتداول أيضًا، وكأننا أمام حقيقة ثالثة ليست المستعار منه ولا المستعار له، أعني: ليست الطرفين اللذين زاوجنا بينهما وإنما هي شيء ثالث ولده هذا التزاوج والتداخل، الذي أدمج المستعار له في المستعار منه، ولكنه لم يشكله تشكيلًا كاملًا في صورة المستعار منه وإنما بقي بين بين.
ولعل السكاكي أحس بهذا حين زعم أن معنى "فردًا" غير متعارف هو الهداية التي صارت حياة أو الحياة التي هي هداية، وكانت هذه الفكرة ترِد في كلام عبد القاهر على درجة بينة من الوضوح في مثل قوله: إننا في الاستعارة نتوهم واحدًا من الأسود قد استبدل بصورة إنسان.
ومن الاستعارات التي بُنيت على التمثيل عند عبد القاهر، أو التي يكون فيها المستعار له أمرًا معقولًا والمستعار منه أمرًا محسوسًا -كما يقول الخطيب- قول الله تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: 91 - 95) فالصدْعُ يكون في الأجسام، ومنه: صدع الزجاجة، وسمي الفجر صديعًا؛ لأنه يصدع الظلمة ويشقها. والمراد -كما يقول
الزمخشري- فاجهر به وأظهره، يقال: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهرًا، كما يقال: صرح بها، فالصدع مستعار للجهر والإبانة، والعلاقة هي أن الصدع تنفصل به الأجزاء وتبين مقاطعها، كذلك الإبانة والجهر تتحدد بهما الحقائق وتنكشف الأغراب، ثم إنك ترى التمييز والتحديد في الصدع بعينك، وترى التحديد والتمييز في القول بفهمك وقلبك، فالذي في المشبه ليس هو الذي في المشبه به، وإنما هو شيء منه بسبيل، وهذا هو معنى التأول عند عبد القاهر.
وفي هذه الاستعارة معنى فوق ما تراه من تجسيد هذه الحقيقة الروحية، وهو الكشف المبين عن حقائق ما جاء به عليه السلام وصيرورته في هذه الصورة المحسوسة، وهو الصدع والشق الماثل في الأجسام، هذه الاستعارة فيها فوق ذلك الإشارة إلى وجوب الإعلان الواضح بكلمة الله في كل أمر من الأمور، وإن كان في هذا مصادمة لِمَا تعارف عليه الناس، ولما ألفوه في حياتهم وسلوكهم وعاداتهم. الأمر بالصدع هنا يعني زلزلة هذا المألوف، وشقه ومصادمته مصادمة تصدعه وتهدمه ما دام قائمًا في وجوده على غير منهج الله.
وهكذا فعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد هدم ما ترسخ من عقائدهم وأعرافهم وما ترسخ في قلوبهم وضمائرهم، ثم إن هذه الاستعارة من وجه آخر تُرمَى في وجوه هؤلاء الذين يمالئون في كلمة الله وحدود حلاله وحرامه، بمصانعة الجهلة والطواغيت، وتأييد ضلالاتهم وانحرافاتهم، وإعطائها صبغة قرآنية، وكذلك الذين يصانعون العقائد والمذاهب المعاصرة فيتساهلون في تحديد وجهة نظر القرآن، أو يُلبسون في بعض جوانبها؛ ليُدنوا هذه النظم من القرآن أو يُدنوا القرآن منها، وهذا وغيره يخالف الإبانة الكاشفة التي جسدتها كلمة:{فَاصْدَعْ} .
وانظر إلى قوله: {بِمَا تُؤْمَرُ} وكيف عبر عن الدين وأمر الله بهذه الصيغة التي تبعد عن هذا الأمر عنصر البشرية وذاتية محمد صلى الله عليه وسلم فالذي ينادَى به ويجهر بالدعوة إليه أمر تلقاه وليس غير ذلك، ثم انظر إلى الأمر الذي تلاه:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} ، وكيف حدد موقف الداعي من جبهة العناد والضلال وأنه الإعراض عنهم؛ حتى لا تستهلك طاقة الداعية في لجاجتهم الغوغائية، وفي محيطهم السلبي المعطل.
ويقرب من هذه الاستعارة في بعض دلالتها قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) فالمراد ليس هو الصراط الذي تراه عينك طريقًا واضحًا مستقيمًا، وإنما المراد حقائق الدين ومنهج القرآن، وتجاوبه مع الفطرة الصحيحة، واستقامته في نفوس أهل الحق واليقين، كأنه طريق واضح يصف منهجًا بينا ويحدد المعالم تحديدًا مضيئًا، فالموقن بهذا الدين لا يبحث عن خطة يمضي في حياته عليها، وإنما الطريق بين يديه وهو طريق مستقيم، وما عليه إلا أن يمضي.
وقد تكررت هذه الاستعارة في القرآن؛ لتنفي عن هذا الدين التلبيس والغموض الذي يُثقِل كثيرًا من الديانات، الدين هنا صراط مصروط لا عوج فيه ولا غموض، وتجد هذا الصراط مضافًا في مثل قوله:{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} (الأنعام: 126) وفي هذه الإضافة تأكيد لمعنى أن حقائق هذا الدين لا تَلتبس ولا تُلتبس بغيرها، وأنه سيظل في أصوله نقيًّا خاليًا من الآثار البشرية التي لا يجوز أن تختلط به؛ لأنه ينفيها ويكشفها بوضوح الربانية فيه:{صِرَاطُ رَبِّكَ} فهو خط واضح تحددت حدوده، فلا يلتبس بغيره.
ولأجل تأكيد هذا المعنى -أعني: وضوح حقائق هذا الدين وتحديدها- تجد التعبير عنها بالنور يكثر في هذا الكتاب مثل: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} (الأعراف: 157)