الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} (الصف: 8) والدين حقائق وعقائد وسلوك، ولكنها تهدي المؤمن دائمًا في مسيرة وجوده، كما تهدي المنارات الوهاجة جوانب الطريق للسائر فيه، فإذا انصرفت النفس البشرية عن هذه الحقائق وفقدت هذا النور، توزعت واختلفت عليها الأمر، وصارت إلى ليل الشك والضلال.
خصائص وأسرار المجاز المرسل
فإذا ما انتقلنا إلى الضرب الثاني من ضروب المجاز اللغوي وهو المجاز المرسل، وأردنا أن نطلع على بعض خصائص وأسرار هذا الضرب من الكلام، لوجدنا أنفسنا أمام فن لا يقل تأثيرًا عن سابقه؛ ذلك أن من خصائص هذا الضرب من فنون القول الإيجاز، فأنت عندما تقول: رعينا الغيث، هذا أوجز من قولك: رعينا النبات الذي كان الغيث سببًا في نموه واخضراره، فقد طويت المسبب وذكرت في موضعه السبب، وكذلك في قول الله تعالى:{وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} (غافر: 13) أي: ينزل الماء الذي يتسبب في إيجاد الرزق.
الأمر الثاني من مزايا المجاز المرسل: المبالغة كما تجد ذلك في قول الله تعالى: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} (نوح: 7) فقد ذكرت الأصابع في موضع الأنامل؛ مبالغة في تعطيل أسماعهم لشدة عتوهم ونفورهم وإعراضهم عن الحق.
الأمر الثالث: أن المجاز المرسل يفسح مجال التعبير أمام الأديب أو المتكلم، فعن طريق المجاز يستطيع أن يتخير الألفاظ الملائمة للقافية أو الفاصلة، وأن يتجنب الألفاظ التي تخل بفصاحة الكلام فيترك الحقائق ويستعمل المجازات حتى يسلم تعبيره مما يخل بفصاحته، ومما يصوب من قوافي شعره.
الأمر الرابع: أن المجاز المرسل يعين المتكلم على تحقيق ما يهدف إليه من أغراض كالتعظيم والتحقير والتهويل وغير ذلك. تقول مثلًا: رأيت العالم، تقصد رأيت طالب العلم الذي سيصير عالمًا، فأنت بذلك تعظمه وترفع من شأنه، وتقول أيضًا: انظر إلى الجيفة كيف يطغى ويتكبر؟ وأنت تريد مَن سيموت فيصبح جيفة منتنة باعتبار ما سيكون، فأنت بهذا تحقره وتضع من شأنه. من ذلك أيضًا قوله تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19) فقد أفادت الآية شدة الهول والرعب والخوف الذي انتابهم، والذي من أجله حاولوا إخفاء أسماعهم بأقصى ما يستطيعون.
الأمر الخامس من مزايا المجاز المرسل: أن المجاز المرسل لا يخلو من خيال يعرض للسامع عندما تمر بذهنه المعاني الحقيقية لتلك الألفاظ، التي سرعان ما تتلاشى أمام المعاني المجازية المقصودة، هذا الخيال يحقق الجمال وإمتاع النفس التي ترى النبات والرزق بمختلف صنوفه يتدفق من السماء، وترى أسنِمة الآبالي يسعى بها السحاب، وهذا يأكل دمًا ويمضغه بأسنانه، وذاك يأكل نارًا فتكوى بها أحشاؤه.
هذه الصور تخطر في النفس فور سماع جملها، وهي وإن كانت تزول سريعًا أمام المعنى المراد بنصب القرينة إلا أنه بخطورها يتحقق إمتاع النفس وإثارة الذهن، فتقع المعاني في النفس موقعها، إلى غير ذلك من الأغراض البلاغية والأسرار واللطائف التي تكمن وراء أساليب المجاز المرسل.
وتعال معي لتتأمل ما جاء في قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194) وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أي: جازوه على اعتدائه، ولكنه عبر عن المجازاة بالاعتداء؛ لأنه سببها، وقد سوغت هذه السببية أن تقيم الاعتداء مقامَ ما يترتب عليه وتنيبه عنها في الدلالة، ووراء هذا المجاز إبراز لقوة
السببية بين الاعتداء وجزائه، وأنه -أعني: الجزاء - يجب أن يكون نتيجة ومحصلة لازمة للاعتداء، فهو لا يتخلف عنه، وكأن هذه الفاء أيضًا مشعرة بسرعة المكافحة وضرورة الترتب.
وليس هذا الذي أشير إليه متناقضًا مع الدعوة إلى العفو والحث عليه؛ لأن المقام في الآية الكريمة ليس مقام تسامح؛ لأنه يحدد الموقف بين المسلمين وغير المسلمين، وعندئذ لا عفو ولا تسامح حتى تظهر الشوكة والغلبة.
وانظر إلى الآية التي تشرع القصاص بين المسلمين وتحدد الصورة التي ينبغي أن تكون عليها علاقاتهم في هذا الشأن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 178، 179) تجد الترغيب في العفو والتسامح يشيع في التعبير. انظر إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ومعناه: فمن عفي له عن جنايته. انظر إلى كلمة: {أَخِيهِ} وما تفيض به في هذا السياق، وكيف أشارت إلى أن رابطة الأخوة قائمة بين المسلم والمسلم وإن كانت بينهما تارات وإِحن، وأن القرآن يذكر وَلي الدم بهذه الأخوة التي تربطه بالجاني؛ ليرغبه في العفو، وقوله:{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وصية لولي الدم إذا قبل الديةَ أن يتبع الجاني بالمعروف ولا يعنِّف به في المطالبة.
ثم انظر إلى سياق الآية التي نحن فيها: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى
لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة: 190 - 194) قالوا: إنها أول آية نزلت في القتال، وقد بدأت بالأمر بقتال مَن قاتلهم، والنهي عن الاعتداء والتنفير منه، فإن الله لا يحب المعتدين.
وتظهر في هذا السياق روح القوة والتمكن التي يجب أن تكون عليها هذه الأمة التي تحمل رسالة الله في أرضه، ولكنها قوة لا تتخطى حدود العدل، ولا تجافي روح الإنسانية، وإنما تخضع لها أحسن ما يكون الخضوع، وتلتزم بها أدق ما يكون الالتزام. تأمل قوله:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي: حيث وجدتموهم؛ لأن الثقف وجود على وجه الغلبة والقوة، أي: حيث وجدتموهم قادرين عليهم، متمكنين منهم، وكأن الآية تشير إلى ضرورة أن يكون المسلمون دائمًا في حالة قوة وتمكن وغلبة، فإذا لقوا أعداءَهم كان لقاؤهم ثقفًا أي: وجودًا على وجه التمكن. ثم انظر إلى قوله بعد الأمر بالجزاء: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} وفي الأمر بالتقوى أمر بالتضحية والبسالة والرغبة فيما عند الله عند لقاء العدو، وقوله:{مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي: معهم في جهادهم وكائن في صفوفهم.
ثم تأمل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد: 31) قد أراد سبحانه: ونعرف أخباركم، ولكنه عبر بالابتلاء الذي هو سبب المعرفة؛ لأن الابتلاء يتبعه موقف جديد، إما زيادة تأصيل الإيمان بالله والتمسك الشديد بمبادئ الدين الحنيف، أو الخذلان والتحلل وانهيار الإيمان وضياع العقيدة.
وبعد ظهور هذا الموقف وانكشاف حقيقة المبتلى يصبح علم الله متعلقًا بالمعلوم الواقع، والمولى عز وجل عليم بكل شيء ولا يحتاج في علمه إلى ابتلاء.
كثر في القرآن هذا المجاز المسمى بالمجاز المرسل المبني على علاقة المسببية بصورة أوسع من غيرها، كما في قوله تعالى:{وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} (غافر: 13) قد عبر عن المطر بالرزق، فأشار إلى قوة السببية بين المطر والرزق، وأهمية المطر وأنه مصدر الحياة، وفيه أن الرزق ينزل بقدر الله وفعله سبحانه، فليمضِ المسلم إذن على طريقة الخير التي رسمها له القرآن، وهو موقن أن الرزق مصدره السماء، فلا تتبدد طاقاته في الإلحاح وراء المطامع، وإنما تتركز هذه الطاقات في العمل الصالح، أعني: الذي تصلح به حياة الجماعة المسلمة.
وتجد القرآن يبرز هذه الناحية في كثير من عباراته كما يحتويها في خفاء ودقة في كثير من صياغاته وأحوال تراكيبه؛ ليعمق هذا المعنى في قلب المسلم ويطرد من أفقه مشاعر الأثرة والأنانية.
ومما يذكره البلاغيون في هذه العلاقة -علاقة المسببية- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (النساء: 10) والذين يأكلون أموال اليتامى لا يأكلون نارًا على الحقيقة، وإنما يأكلون أموال اليتامى، ولما كان ذلك مؤديًا إلى النار حتمًا وسببًا في عذابها قطعًا عبر عنه به. وفيه مع إبراز هذه السببية وتقويتها تفظيع وتنفير تراه في هذه الصورة:{يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فالقوم يقذفون النار في أفواههم، فتندلع في بطونهم، ولو قال سبحانه: إنما يأكلون حرامًا، لكان شيئًا آخرَ، مع أن المآل إليه، كما أنه لو قال: إنما يأكلون نارًا، لذهب من الصورة جزء كبير فيه فظاعة وشناعة؛ لأن كلمة البطون مع أنها مفهومة ضرورة من كلمة الأكل، إلا أن في النص عليها مزيد تشخيص وتوضيح. وتجد في كلمة:{إِنَّمَا} ذات الدلالة المعروفة همسًا خافتًا، يقول: إن هذه قضية مسلَّمة وبديهة ظاهرة، لا ينبغي أن يحتفل في عرضها، ولا أن تؤكد في سياقها.
بمثل هذا يكون التدبر، وتجنَى الفائدة والثمرة من وراء مدارسة فنون البلاغة.
أقول قولي هذا، وأستودعكم الله دينكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.