الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أوضاع اللغة، وليس فيها معانٍ وراء ذلك، كما ذكرنا في علم المعاني، وعلم البيان، وأنها تبحث عن المعاني الثانوية، أو معنى المعنى في علم البيان؛ بينما يرى فريق آخر أن التشبيه من مباحث علم البيان الرئيسة، ومن مقاصده الأساسي، وحجتهم في ذلك أن التشبيه ليس على درجة واحدة من الوضوح، بل تتفاوت درجاته، وتتعدد أقسامه، وتختلف مراتبه؛ فهناك التشبيه الواضح، وهناك التشبيه الضمني، وهناك التشبيه البليغ محذوف الوجه والأداة، وهناك المؤكد محذوف الأداة، والمرسل الذي ذُكرت فيه الأداة، وهناك التشبيه المفصل الذي ذكر فيه الوجه، وهناك المجمل، كما أن هناك تشبيه الحسي، والعقلي، وهناك المفرد والمركب، إلى غير ذلك.
وهذا التفاوت والاختلاف ظهورًا وخفاء، ووضوحًا ودقة يجعله من المباحث الرئيسة لعلم البيان، وهذا الرأي هو الأولى بالقبول؛ فلا أحد من علماء البيان يختلف في أن للتشبيه اعتباراته الدقيقة، ولطائفه العجيبة، ومحاسنه العديدة، وهذا ما جعله موضع اهتمامهم، ولما لا وباب الاستعارة مبني أساسًا عليه، ومن ثَمَّ فهو أساس في علم البيان لا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال.
أركان التشبيه
نتكلم عن أركان التشبيه، وما يتحتم ذكره منها:
أركان التشبيه خمسة:
أولها: المشبه: وهو -كما قلنا- الأمر الذي يُراد إلحاقه بغيره.
ثانيها: المشبه به: وهو الأمر الذي يُراد إلحاق غيره به، ويُسمى كل من المشبه والمشبه به طرفا التشبيه.
ثالثها: هو وجه الشبه، وهو المعنى الجامع الذي يشترك فيه الطرفان، ويكون في المشبه به أعرف وأشهر منه في المشبه، وغالبًا ما يكون في المشبه به أقوى وأكمل أيضًا من المشبه، ونقول غالبًا؛ لأننا سنرى أن الأمر يكون على عكس ذلك في بعض الأحيان.
الأمر الرابع: أداة التشبيه، وهي اللفظ الذي يربط بين الطرفين، ويدل على التشبيه.
الأمر الخامس: الغرض من التشبيه، وهو الهدف أو الفائدة التي من أجلها يسوق المتكلم التشبيه والغاية التي ينشدها من ورائه، وهو الذي لا ذكر له في الكلام، فالمعتبر ذكره في الكلام إذن من هذه الأركان هي الأربعة الأولى؛ لأن الغرض هذا أمر يُضمره المتكلم في نفسه، ولا يظهر في طيات كلامه.
وهنا سؤال ما الذي يتحتم ذكره من هذه الأركان الأربع، وما الذي يجوز حذفه؟
الأركان الأربعة الأولى قد تذكر جميعها في جملة التشبيه، كما سبق أن ذكرنا في قولنا مثلًا: محمد كالبحر عطاء، وعمرو كالأسد شجاعة، فهنا المشبه، والمشبه به، وجه الشبه، وأداة التشبيه، وقد تُحذف الأداة كما نقول مثلًا: محمد بحر في العطاء، وذلك إذا كان المقام يقتضي المبالغة في المشابهة، وقد يحذف الوجه، فنقول مثلًا: أنت أسد، محمد بحر، ويعرف هذا بالتشبيه البليغ.
وقد يلحق المشبه بالوجه والأداة فيحذف معهما، ويبقى المشبه به فقط في سياق الكلام، من ذلك مثلًا ما جاء في قول الله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) تقدير الكلام هم كالصم، هم كالعمي، هم كالبكم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} ففي هذه الآية تمَّ حذف الأداة ووجه الشبه، وكما ذكرنا حُذف أيضًا المشبه، وحذف المشبه هنا في الآية لا يُخرج الكلام عن دائرة التشبيه؛ لأن القاعدة المشهورة تقول: أن المقدر كالمذكور
خلافًا لما في نحو قولنا مثلًا: في الاستعارة رأيت أسدًا، وحدثته، وشاهدت بحرًا في المسجد، لماذا، ما الفرق بين هذا وذاك؟
لأن المرجع في هاتين الأخيرتين مبنيتان على تناسي التشبيه، وبولغ في طيه هو المشبه، وبولغ كذلك في تجاهله، ولذلك نقول: إن هاتان من قبيل الاستعارة، رأيت أسدًا وحدثته، وشاهدت بحرًا في المسجد مثل هذا لا يُعد تشبيهًا، وإنما يعد استعارة.
أما المشبه به فهذا هو الذي يتحتم ذكره، ولا يتأتى حذفه بحال من الأحوال؛ لأن في حذفه تفويتًا للغرض المقصود من التشبيه.
نتكلم عن أقسام التشبيه باعتبار طرفيه، فمباحث الطرفين هما المشبه والمشبه به، نظر البلاغيون إلى هذين الركنين فوجدوا أن لهذين الركنين صفات، وأحوال، وعلى أساس هذه الصفات والأحوال نوعوا التشبيه وقسموه، فالطرف قد يكون حسيًّا، وقد يكون عقليًّا، وقد يكون مفردًا، وقد يكون مقيدًا، وقد يكون أمرًا واحدًا، وقد يكون متعددًا. هذه كله يحتاج إلى تفصيل حتى نعرف مباحث الطرفين، ونذكر هذه الأقسام والأنواع، ونضعها دائمًا في أذهننا، ونحن نطبق هذا على الأمثلة التي تعترضنا.
نبدأ أولًا بأقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية: أولًا معنى حسية الطرف وعقليته: حسية الطرف: أن يكون مدركًا هو أو مادته التي يتركب منها بإحدى الحواس الخمسة الظاهرة، وهي البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس.
وعقلية الطرف: ألا يكون هو ولا مادته مدركًا بالحواس بأن يكون من المعاني التي يُدركها المرء بعقله مثل: العلم، والحياء، والذكاء، والمروءة، ومثل
الكرامة، والإباء، والنجدة، أو أن يكون من المعاني التي يحسها بوجدانه مثل الجوع، والعطش، والشبع، والفرح، والحزن، والطمأنينة، والخوف. فلا مدخل للحواس الخمس في إدراك هذه الأمور على الإطلاق، وإنما مجال إدراكها هو العقل أو الشعور الوجداني، والحس الباطني، يلحق بالعقل الأمور الوهمية التي لا وجود لها ولا لمادتها في الخارج، ولكنها استقرت في وهم الإنسان؛ نتيجة أسطورة مثلًا، كما في قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
…
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فهو يشبه بأنياب الأغوال، وفرق بين الطرف العقلي والطرف الوهمي، فالعقلي له وجود وثبوت وتحقق في الذهن، ولكن لا مدخل للحواس في إدراكه.
أما الوهمي فلا ثبوت، ولا تحقق له عقلًا ولا حسًّا؛ لعدم وجوده أصلًا، كما أن هناك فرقًا بين الطرف الوهمي والطرف الخيالي، الذي هو ملحق بالطرف الحسي؛ فالخيالي هيئته التركيبية لا وجود لها، ولكن أجزاء هذه الهيئة ومادتها موجودة ومدركة بالحواس.
أما الوهمي فلا وجود له ولا لأجزائه البتة حتى تُدرك أو تُشاهد، وسنذكر من الأمثال ما تتضح به هذه الأقسام جميعًا. فعندنا مثلًا التشبيه يتنوع باعتبار حسية طرفيه أو عقليته إلى عدة أقسام، فهناك: تشبيه محسوس بمحسوس، وهناك عقلي بعقلي، هناك عقلي بحسي، وهناك حسي بعقلي، هذا هو ما تقتضيه القسمة العقلية.
سنذكر بعض الأمثلة حتى تتضح هذه الصور، وهذه الأقسام، وليست هذه الأٌقسام -هذا أمر لا بد من التنبيه عليه- مقصودة لذاتها، ولكن فقط للتعليم ولتمرين الإنسان والعقل على كيفية التعرف على هذه الأقسام، وهذه الأنواع، لكن الأصل في البلاغة هو التذوق كما نعلم هذا جيدًا،
فعندنا مثلًا قول الله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (الصافات: 48، 49)، قوله:{وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (الواقعة: 22، 23)، قوله:{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن: 58)، فالمشبه في كل هذه الآيات هو نساء أهل الجنة، والمشبه به هو بيض النعام، واللؤلؤ المكنون، والياقوت، والمرجان، وكما نرى كلها من المبصرات فهي مدركة بحاسة البصر؛ إذن فهي حسية.
ونتأمل الدقة في هذه الآيات لنرى مدى إبراز جمال الحور، والإبداع في تصوير حسنهن، فهن حور وقاصرات الطرف، وعين يعني: مبالغة في الحسن، وحور أي: شديدات سواد العيون وبياضها، وقاصرات الطرف يعني: حابساتها على أزواجهن، وعِين يعني: ضخام الأعين حسان، وكل هذه الألفاظ كما ترى تبرز معاني الجمال، والحسن في هذه النساء التي يتلذذ بها أهل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
من ذلك أيضًا من المسموعات: ما نقوله مثلًا، أو كما يقول ذو الرمة:
كأن أصوات من إيغالهن بنا
…
أواخر الميس أنقاض الفراريج
هذا تشبيه بالصوت، فهو يشبه الصوت المنبعث من احتكاك الرحل بعضه ببعض نتيجة شدة السير واضطراب الرحال، بصوت الفراريج، وهي صغار الدجاج؛ فوجه الشبه هو الاشتراك في هذه النغمة الخاصة، وطرفا التشبيه من المسموعات. من تشبيه الحسي أيضًا بالحسي تشبيه بعض الفاكهة مثلًا بالعسل في الحلاوة، وتشبيه ريق الحبيب بالخمر في الطعم الجميل المذاق، ومنه قول امرئ القيس:
كَأَنَّ المُدامَ وَصَوبَ الغُمامِ
…
وَريحُ الخُزامى وَنَشرُ القُطُر
يُعِلُّ بِهِ بَردُ أَنيابِها
…
إِذا غرّد الطائِرُ المُستَحِر
وضمن المشمومات نشبه مثلًا النكهة بالعنبر الملموسات يقول الشاعر:
لها بشر مثل الحرير ومنطق
…
.........
فهنا يشبه البشرة بالحرير، هذا أمر يدرك باللمس، وكثيرًا ما يلجأ الأديب إلى تأليف واختراع صور خيالية؛ مبديًا براعته الفنية، ومظهرًا المشبه في صورة رائعة، وهذا الطرف الذي يخترعه الأديب ويتخيله يُسمى حسيًّا غير حقيقي، أو يسمى خياليًّا؛ لأن مادته أو أجزاء صورته مدركة بالحس، وإن كان بهيئته التركيبية لا وجود له، من ذلك مثلا قول الصنوبري يصف شقائق النعمان يقول:
وكأن محمرَّ الشقيـ
…
قِ إذا تصوَّبَ أو تَصَعَّدْ
أعلامُ ياقوتٍ نشر
…
ن على رماحٍ من زبرجد
فالمشبه هو شقائق النعمان، والمشبه به الأعلام المركبة من ياقوت منشور على رماح من زبرجد. هذا طبعًا لا وجود له في الواقع، لكن المادة التي تتكون منها هذه الصورة موجودة كالزبرجد، والرماح، والياقوت، والأعلام، كل هذه الأشياء موجودة في الطبيعة، لكن هذه الصورة مركبة إنما هي تخضع للخيال.
فهذه صورة صنعها خيال الشاعر ولا وجود لها في الواقع، ولا تدرك بالحواس الظاهرة، ولكن المواد والأجزاء التي صُنعت منها هذه الأمور ورُكبت منها هي التي تُدرك بالحس، وهي التي تقع تحت دائرة الواقع.
النوع الثاني من أقسام التشبيه باعتبار الحسية والعقلية، هو تشبيه المعقول بالمعقول: كتشبيه الجهل مثلًا بالموت، والعلم بالحياة، وتشبيه العشق بالموت، كما يقول الشاعر:
العشق كالموت يأتي لا مرد له
…
ما فيه للعاشق المسكين تدبير
فوجه الشبه بين العشق والموت عدم القدرة على دفعه ورده، نسأل الله العافية، أو يدخل في هذا تشبيه السفر بالعذاب، كما في الحديث ((السفر قطعة من العذاب))، وكذلك تشبيه الضلال عن الحق بالعمى، وتشبيه الاهتداء إلى الحق
بالإبصار، كثير من الآيات جاءت تتحدث عن مثل هذا من ذلك قوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت: 17)، {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام: 50)، {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} (هود: 24)، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: 16)، {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} (الرعد: 19)، وقوله كذلك:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} (فاطر: 19)، وقوله:{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} (النمل: 81)، فكل هذه التشبيهات إنما هي أمور عقلية، وقُصد منها المبالغة، ولم يقصد بها العمل حقيقي؛ فإنما هو أشبه ما يكون بالعمى الذي هو عمى البصيرة.
النوع الثالث من التشبيه: هو تشبيه المعقول بالمحسوس: كتشبيه أخلاق الكرام مثلًا بالأرض الواسعة الممتدة، وبالعطر، الرائحة الطيبة، وتشبيه المنية مثلًا بالسبع؛ فالمشبه وهو أخلاق الكرام، أو المنية من المعقولات، والمشبه به وهو الأرض الواسعة والعطر والسبع كل هذه من الأمور المحسوسة، من ذلك أيضًا تشبيه الرأي بالليل كما جاء في قول الشاعر:
الرأي كالليل مسودٌّ جوانبه
…
والليل لا ينجلي إلا بإصباح
وتشبيه الغيظ بالنار، كما جاء في قول المتنبي:
وغيظ على الأيام كالنار في الحشا
…
ولكنه غيظ الأسير في القيد
وتشبيه الصبر على مضض الحسود بالنار إلى غير ذلك، فتشبيه المعقول بالمحسوس ورد كثيرًا في كلام البشر، كما جاء كثيرًا في أساليب القرآن، ومن ذلك تصوير أعمال الكفار برماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وبسراب بقيعة يحسبه الظمآن
ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وتمثيل اعتقادات المنافقين واضطراباتهم وتخبطهم بالذي استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، إلى غير ذلك مما يعمد إليه القرآن كثيرًا، والسنة؛ حتى يقرب المعنى إلى الأذهان.
الضرب الرابع من ضروب التشبيه باعتبار الحسية والعقلية، تشبيه المحسوس بالمعقول: وهذا القسم على خلاف الأصل؛ لأن الأصل في التشبيه أن يلحق بشيء يحسه الإنسان، ويكون أقوى في وجه الشبه، لكن أن يشبه محسوس بمعقول فهذا جاء على خلاف الأصل؛ لأن المشبه -كما قلنا- شأنه أن يكون أظهر وأوضح من المشبه، فأولى به أن يكون حسيًّا، ولا يكون عقليًّا إلا بعد أن ينزل منزلة المحسوس، ويدعى أنه فاق المحسوس في الوضوح والظهور، كما جاء في قولنا مثلًا، أو في تشبيه الأرض الواسعة بخلق الكريم، كما في قول الشاعر:
وأرض كأخلاق الكرام قطعتها
…
وقد كحَّل الليل السماك فأبصر
فشبه الأرض في السعة والرحابة بأخلاق الكرام، وكان الأصل أن يعكس، فإن يشبه أخلاق الكرام بالأرض، لكنه أراد أن يبالغ، وأن يبين أن الصفة صفة وجه الشبه موجودة في المشبه به أكثر من المشبه، ومن ذلك أيضًا قول الشاعر:
ولقد ذكرتك والظلام كأنه
…
يوم النوى وفؤاد من لم يعشق
فكل هذا هو من قبيل تشبيه المحسوس بالمعقول، من ذلك كذلك تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع كما جاء في قول الشاعر:
وكأن النجوم بين دجاها
…
سنن لاح بينهن ابتداع
فيأتي تفصيل هذا إن شاء الله في الكلام عن وجه الشبه المتخيل، وعلى نحو ما ذكرنا أن المركبات الخيالية تدخل في التشبيهات الحسية، فنقول، ونكرر: إن المركبات الوهمية تدخل في دائرة التشبيهات العقلية، فقول الشاعر وامرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
…
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
هنا شبه السنان بأنياب الأغوال، فالمشبه به في البيت وهو أنياب الأغوال من المعاني الوهمية، التي لا دخل للحس في إدراكها، لكن الشاعر استغلها لتهويل شأن الأسنة التي يحملها، ويدافع بها عن نفسه، وإبرازها كذلك في صورة مرعبة مفزعة، البلاغيون ذكروا أو أدرجوا تحت هذا اللون قول الله تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات: 65)، فرءوس الشياطين من المعاني الوهمية، وقد أبرزت قبح هذا الطلع وفظاعته، لكن في الحقيقة هذا كلام لا يليق بحال من الأحوال. فما جاء في القرآن الكريم لا يجوز لنا أن نسميه بحال من الأحوال أمور وهمية؛ فالآية الكريمة {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات: 65) اعتمدوا البيانيون فيها على بيان حالتها، وعلى ما تتخيله النفوس للشيطان من رأس قبيحة جدًّا، وبالغة في النفرة والكراهية، والشجرة كما نعلم شجرة غريبة لم توجد على أساس القانون الطبيعي؛ لوجود الشجر من تربة فيها حياة وماء، وإنما هي شجرة تخرج في أصل الجحيم، وهي شجرة شاذة وغريبة، فنسبتها هذه الرءوس الغريبة رءوس الشياطين طبعًا، هذا كلام يقوله البيانيون، لكن مؤدَّاه في النهاية إنكار مثل هذا في يوم القيامة؛ لأن هذا غيب.
وما ذكره القرآن الكريم عن جهنم، وما فيها من زقوم، وما فيها من طعام لأهل الجحيم شبهه بأن طلعها، طلع شجرة الزقوم كأنه رءوس الشياطين، كل هذا غيب لا نستطيع إدراكه بحال من الأحوال، ولو أن جعلنا المشبه به وهو رءوس الشياطين من الأمور المتوهمة التي لا حقيقة لها في الواقع؛ إذن فهذا يستلزم أن نجعل النار كذلك، فإذا كان رب العزة قد أخبر عن أن النار هكذا
حالها، وأن زقومها طلعه كأنه رءوس الشياطين. إذن فالأمر كما ذكر القرآن وكما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، طبعًا الزمخشري يربط بين هذه التشبيهات وبين تشبيهات مثل قوله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة: 275)، فيربط بين هذا وبين الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران إلى غير ذلك، ولا يرى بأسًا من أن تكون صورة المشبه به في الأمرين منتزعًا من معتقدات العرب من غير نظر إلى أن ذلك واقع، أو غير واقع، لكن أهل السنة يرون أن هذا مرفوض، ويقررون أن هذه الصورة مستمدة من الواقع، وأن القرآن في بناء تراكيبه وصوره لم يعول على خرافة من خرافات العرب؛ لأن في ميدان الحقائق الصادقة ما يفي بالأغراض، بل ويزيد المعنى عمقًا وتأثيرًا؛ فالشياطين تستهوي، وتخبط، وتمس إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات، والمهم عندنا أنهم يقولون: إن المراد بهذا التصوير، هو تصوير المرابي الذي يتخبطه الشيطان من المس حين يقوم يوم القيامة أنه يتخبط في قيامه؛ لأن الربا يربو في بطونهم حتى يتلفها، وفي هذا إهانة لهم، وتشهير بهم.
وهذا يعني: أن التشبيه لا يصف أحوالًا نفسية، وإنما يصف مشهدًا بمشهد، فهذا كله يدلنا على أن ما جاء في قوله تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات: 65) يقاس على مثل هذا، وأن فيه تصوير لعذاب أهل النار، ومن أنهم يأكلون الزقوم الذي طلع شجرها، كما وصف ربنا في كتابه العزيز، هذا كلام يسوقه الدكتور محمد أبو موسى في كتابه (تصوير البيان) وأنا أرى ترجيح ما يراه، أو ما عليه أهل السنة والجماعة؛ حتى لا نخالف ما جاء في كلام الله سبحانه وتعالى.