الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن ذلك أيضا قوله عز وجل: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (الأعراف: 4) فقد ذكر الإهلاك وأراد إرادته والعزم عليه حيث لم يأت بعد بقرينة أنه رتب بالفاء وإتيان البأس متقدم على الإهلاك، فدل ذلك على أنه أراد بالفعل وهو الإهلاك إرادته والعزم عليه فهو من إطلاق المسبب وإرادة السبب.
من ذلك قوله جل وعلا: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 6) حيث عبر بالإهلاك أيضا في موضع الإرادة، فهو من باب ذكر المسبب وإرادة السبب.
علاقة: الجزئية، الكلية، اعتبار المكان
من هذه العلاقات التي تخص المجاز المرسل علاقة الجزئية، وهو أن يذكر الجزء ويراد الكل، فالقيام المعبر به عن الصلاة في قول الله تعالى:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (المزمل: 2) وفي قوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} (التوبة: 108) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) فالمراد بالقيام في هذه النصوص الصلاة وهي ركن من أركانها، وقد سميت الصلاة به من باب تسمية الكل باسم الجزء.
ومثل ذلك أيضا قوله: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (العلق: 19) وقوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (النجم: 62) وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (الحجر: 98) قد عبر في كل ذلك عن الصلاة بالسجود، وهو ركن من أركانها، وذلك عن طريق المجاز المرسل الذي علاقته الجزئية. كذلك من هذا الضرب قول معن بن أوس في ابن أخته:
أعلمه الرماية كل يوم
…
فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي
…
فلما قال قافية هجاني
فقد ذكر كلمة القوافي والقافية، وأراد بهما القصائد والقصيدة مجازًا مرسلًا علاقته الجزئية، حيث إن القافية تطلق على آخر البيت، لكن هنا مقصود بها القصيدة أو القصائد وقد ذكر بذلك الجزء وأراد الكل.
هذا ويشترط في الجزء الذي يراد به الكل أن يكون مما جرى العرف على استعماله في الكل، أو يكون لهذا الجزء اتصال وثيق بالمعنى المراد.
وقد ورد أن القرآن يسمي الصلاة قياما سجودًا؛ لأنهما ركنان أساسيان من أركانهما كما يسميها ذكرًا أو ركوعًا في قوله: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران: 43) كل هذه أساسيات في الصلاة، ولم نر القرآن يسمي الصلاة مثلا تشهدا أو بسملة أو غير ذلك، وقد عبر عن الإنسان بأجزاء مختلفة في القرآن الكريم، فنرى مثلًا يعبر القرآن بالرقبة وبالعين وبالوجه، وبالكف، وبالقدم، وبالقلب، ولا يصلح جزء من هذه الأجزاء مكان الآخر لاختلاف السياق الذي يقتضي هذا الجزء دون ذاك.
انظر مثلا إلى قول الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد: 12، 13) وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (المجادلة: 3) فقد عبر هنا عن العبد أو المولى في الآيتين بالرقبة؛ لأنها أهم جزء في الإنسان، ولأن معاني السيادة والعبودية تظهر أوضح ظهور في الأعناق.
وقريب من هذا قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) وقولهم: بث الأمير عيونه في المدينة، وعين العدو تجول في البلد، ويريدون بالعين هنا الربيئة أو الجاسوس، فسمى الجاسوس عينا باسم جزئه؛
لأن عينه أبرز عضو فيه يستخدمه في التجسس. ومن هنا ساغ مع ما سبق قول الشاعر:
كم بعثنا الجيش
…
جرارا وأرسلنا العيون
ونقول: فلان تتزاحم حوله الأقدام، أو هو خير من تسعى له قدم، في مقام المدح بالسيادة والكرم، قد عبرنا عن طالب العطاء بالأقدام؛ لأن بها يسعون قاصدين الممدوح في قضاء حوائجهم. ويقول الشاعر:
وكنت إذا كف أتتك عديمة
…
ترجي نوالا من سحابك بلت
قد عبر بالكف عن الإنسان المعدم؛ لأن السياق سياق عطاء وأخذ، والمعدم يمد يده راجيا عطاء وخيرا يلقى بها؛ ولذا عبر عنه بالكف. ومن ذلك قول امرئ القيس:
أغرك مني أن حبك قاتلي
…
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
فقد عبر عن نفسه بالقلب؛ لأن السياق سياق حب، وغرام، وغزل، وهيام. وفي ذلك يقول ابن المعتز:
سالت عليه شعاب الحي حين دعا
…
أنصاره بوجوه كالدنانير
…
كالدنانير
فقد عبر عن رجال معروفين بالشرف والسيادة والنبل بالوجوه، وذلك على طريق المجاز المرسل الذي علاقته الجزئية، فقد آثر التعبير بالوجه؛ لأن المقام مقام شرف وسيادة ونبل ووجاهة، وهكذا يعبر عن الإنسان بأجزاء مختلفة من أجزاء جسده، وفي كل مرة نرى الجزء الذي عبر به عن الكل، وهو الإنسان له اتصال وثيق ومزيد اختصاص بالسياق وبالمعنى، ولا يصلح جزء من أجزاء الإنسان المذكورة مكان الآخر لاختلاف السياق كما أوضحنا.
من هذه العلاقات علاقة الكلية، وهو أن يعبر عن الجزء بلفظ الكل أي يطلق اسم الكل ويراد جزؤه كقوله تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19)
وقوله عز وجل: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} (نوح: 7) فقد عبر هنا بالأصابع في الآيتين وأراد الأنامل من باب إطلاق لفظ الكل على الجزء مجازًا مرسلًا علاقته الكلية.
والسر البلاغي في العدول عن الحقيقة إلى المجاز في الآيتين هو رغبة القوم في تعطيل حاسة السمع بأقصى ما يمكن؛ مبالغة فيما يشعرون به من هول الصواعق وفظاعتها في سورة البقرة، ومبالغة في إعراضهم عن الحق في سورة نوح عليه السلام، والقرينة هي استحالة وضع الإصبع كلها في الأذن عادة. ومن ذلك قول السموأل:
تسيل على حد الظباة نفوسنا
…
وليست على غير الظباة تسيل
الظباة جمع ظبة، وهي حد السيف، فهنا يعبر بالنفوس عن الدماء، هو مجاز إذن مرسل علاقته الكلية؛ لأن الدماء جزء من النفوس والقرينة قوله: تسيل؛ لأن السيلان يكون للدماء.
ومنه أيضا قولهم: قطعت السارق يريدون يده، أكلت نبات الأرض، وشربت ماء النيل، وقرأت في البلاغة ما كتب السابقون واللاحقون، والمراد بعض النبات وجزء من الماء، وكثير مما كتبوا، فهو في كل ذلك مجاز مرسل علاقته الكلية، والقرينة استحالة أكل الكل أو شربه واستحالة الإحاطة بكل ما كتب.
من علاقات المجاز المرسل علاقة اعتبار ما كان، وهي أن يعبر عن الشيء باسم ما كان عليه من قبل كما في قول الله تعالى:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} (النساء: 2) فاليتيم من مات أبوه ولم يبلغ سن الرشد، وهو لا يسلم إليه بموجب الشرع أمواله لعجزه عن التصرف فيها في هذه السن، وإنما تدفع إليه بعد أن يتجاوز سن اليتم ويصير رشيدًا، فتسميتهم يتامى عندئذ باعتبار ما كان قبل
ذلك، والقرينة هي الأمر بدفع أموالهم إليهم لاستحقاقهم التصرف فيها، وإيثار التعبير عنهم بلفظ اليتامى مع أن اليتم قد زال يفيد أمرين:
الأمر الأول: الإنباء بسرعة إعطائهم أموالهم بمجرد ذهاب اليتم عنهم، فكأن صفة اليتم لا تزال عالقة بهم وقت دفع المال؛ لأنه يدفع إليهم عقب زوالها مباشرة، وهذا واضح في قوله تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 6).
الأمر الثاني: التذكير بحال هؤلاء اليتامى، وكيف حرموا من عطف وحنان الأبوة، وأنه لا يليق بالمؤمن أن يطمع في مال هذا شأنه.
ومن هذا النسق من المجاز قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (البقرة: 234) فمن المعروف أن الوفاة تنهي الزوجية، فتصبح المرأة بعد قضاء العدة أجنبية يصح لها أن تتزوج بغيره، وإنما عبر بالأزواج باعتبار الوصف الذي كانت عليه قبل الوفاة؛ للإيماء إلى أن ما يقتضيه هذا الوصف من الوفاء الذي يدعوهن إلى الانتظار تلك المدة، حتى لا يظهرن بمظهر من كن يتمنين وفاة أزواجهن والخلاص منهم.
ومن الأمثلة التي يتراءى فيها ذلك النمط من المجاز قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (نوح: 17، 18) ففي إضافة الإنبات إلى ضمير المخاطبين قرينة دالة على أن المراد بهذا اللفظ اعتبار ما كان؛ لأن المخاطبين خلقوا من نطف آبائهم، وإنما خوطبوا بهذه الصورة من المجاز تذكيرًا بالأصل حتى يدركوا قدرة الله عز وجل على البعث، فالذي خلق الإنسان من تراب قادر على بعثه من جديد.